هوامش

عاطف سعيد

محاولات إنقاذ الديموقراطية ملاحظات أولية حول الانتخابات الأمريكية

2021.01.01

محاولات إنقاذ الديموقراطية ملاحظات أولية حول الانتخابات الأمريكية

ما آخر أخبار نيفادا؟ هل من المعقول استغراق كل هذا الوقت لفرز الأصوات في دولة رأسمالية متقدمة مثل الولايات المتحدة؟ ليس معقولاً! لقد تحولت بنسلفانيا إلى الأزرق! من رابع المستحيلات أن تتحول جورجيا إلى الأزرق! نعم، لقد تحولت جورجيا بالفعل!

كانت هذه بعض تعليقات مواطنين مصريين وعرب ومتابعين بالآلاف حول العالم على وسائل التواصل الاجتماعي، وليس مواطنين أمريكيين. وهي تعليقات إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الانتخابات الأمريكية الرئاسية لعام 2020 كانت حدثًا دوليًّا بكل المقاييس. حبست أنفاس الملايين طوال عدة أيام منذ بدء فرز الأصوات بعد 3 نوفمبر الماضي. وتابع أغلب المصريين والعرب والأوروبيين وغيرهم في أنحاء العالم النتائج أولاً بأول، وقارنوا بين نتائج وسائل الإعلام المختلفة الأمريكية والدولية، وكأنها انتخابات تحدث في دولهم. وبالطبع لا يوجد أي سبب سوى التخوف من دونالد ترامب، ومن فكرة ولاية ثانية له. ففكرة ولاية ثانية لترامب معناها الرعب، واستمرار كوارث متنوعة في جميع أنحاء العالم، لا في الولايات المتحدة فقط.. والنتيجة حصول بايدن على 306 صوتًا انتخابيًّا في مقابل 232 لترامب. وحصل بايدن على ما يفوق عن 79 مليون صوت شعبي، بينما حصل ترامب على ما يتجاوز73مليون صوت شعبي. وبهذه النتيجة تأكد فوز بايدن بالأغلبية في كل من المجمعات الانتخابية، وكذلك الأصوات الشعبية. والطريف أن نتائج المجمع الانتخابي هذا العام تقترب من نتائج ترامب عام 2016. لكن الأصوات الشعبية لبايدن هذا العام تفوق بكثير أي أرقام حصل عليها رئيس أمريكي من قبل. بل وتتجاوز الأصوات التي حصل عليها باراك أوباما عامي 2008 و2012. وبنتيجة 2020 نجح بايدن في قلب نتائج ولايات ميشجان، وبنسلفانيا، وويسكونسن، بل وأريزونا، وجورجيا، لصالحه ولصالح الديموقراطيين، وهي جميعها ولايات صوَّتت لصالح ترامب عام 2016.

ليس محل هذه السطور كتابة تحليل تفصيلي عن الانتخابات، لذلك سأكتفي بتقديم ملاحظتين عامتين فيما يلي:

لا شك أن الانتخابات الأمريكية أجريت في سياق أزمة مركبة وعضوية في المجتمع الأمريكي والرأسمالية الأمريكية. والقول بأنها أزمة عضوية مركبة يظهر في صورة تداخل أزمات كثيرة مع بعضها بعضًا، كل واحدة منها يمكن أن تؤدي إلى انفجار، إن لم تكن قد أدت الى بعض الانفجارات المؤقتة بالفعل. أهم هذه الأزمات هي الأزمة الصحية الخاصة التي خلفها ظهور وباء الكورونا، الذي وصل عدد ضحاياه في الولايات المتحدة إلى ربع مليون متوفى حتى الآن. هذا بالإضافة إلى أزمة العنصرية التي وصلت الى ذروتها بانتفاضة حركة «حياة السود مهمة» في نهاية مايو الماضي واستمرت لبعض الوقت. وسبب الانتفاضة هو استفحال حوادث القتل المنهجي للسود والملونين من قِبل الشرطة الأمريكية. هذا عدا عن الأزمة الاقتصادية السابقة على كورونا، والتي تكثفت بظهور الوباء واتشاره. وقد تغيرت أرقام البطالة من شهر لشهر؛ ففي شهر فبراير الماضي كان إجمالي من فقدوا وظائفهم نحو 6.2 مليون الى 20.5 مليون في مايو الماضي؛ وهو رقم يصل إلى ما لا يقل عن 13٪ من إجمالي قوة العمل الأمريكية. ووفقًا لتقارير اقتصادية متخصصة عديدة، فإن هذه الأرقام والنسب تتجاوز بكثير النسب المناظرة لها في الأزمة الاقتصادية التي حدثت عام 2008. تضافرت مع هذه الأمور مشكلات أخرى متنوعة استفحلت بوصول ترامب للحكم وإدارته السياسية داخليًّا وخارجيًّا (يكفي النظر إلى عدم استقرار إدارته وفضائح أعوانه وتغيير كل المناصب المهمة؛ على سبيل المثال المدعي العام، ووزيري الخارجية، والدفاع ومستشاريه للأمن القومي لمعرفة حجم عدم الاستقرار). من أهم هذه المشكلات والأزمات خروج الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية (في ظل وباء عالمي)، وخروجها من منظمة «اليونسكو»، كذلك خروجها من معاهدة طوكيو للاحتباس الحراري، بالإضافة إلى عناد ترامب وسماحه باستخراج الغاز من مناطق خاصة بالسكان الأصليين، وسماحه بصيد حيوانات على وشك الإنقراض.. إلخ.

 في هذا السياق اعتمد ترامب على سياسة شعبوية عنصرية وديماجوحية؛ إذ لعبت حملته على المزيج من الخطاب العنصري، ومغازلة اليمين الديني المتطرف.. إلخ، وقد جعل تداخل كل هذه الأمور السابقة الانتخابات قضية حياة أو موت لكثيرين. ولكن بسبب تداخل هذه الأسباب وتعقدها فإن نتيجة الانتخابات بفوز بايدن لن يتضح حلّاً منظورًا لها قريبًا. والقول بأنها أزمة عضوية ليس مجرد رطان لغوي، بل هي حقيقة واقعة؛ إذ أن معظم هذه المشكلات ذات تاريخ طويل، ولم تستفحل الأمور إلا بظهور ترامب. حتى فكرة التهديد بالخروج من المعاهدات أو المنظمات الدولية أو تجاهلها، كلها أمور لها سوابق تاريخية متكررة في الولايات المتحدة. ولنتذكر على سبيل المثال إصرار جورج بوش، وحلفائه من بعده على الحرب على العراق عام 2003 على الرغم من عدم موافقة الأمم المتحدة. الفارق الكبير فقط بعد ظهور ترامب هو تأجيج وإظهار حدود نظرة أمريكا - البراجماتية والإمبريالية المأزومة ــ لنفسها وللعالم، هذا التأجيج جعل المسألة هي التخلص من ترامب بأي شكل، واعتبار التخلص منه تحجيمًا ووقفًا للخسائر وإنقاذًا لسمعة الولايات المتحدة. لكن التخلص من ترامب شيء، والقضاء من الأسباب الهيكلية لهذه الأزمات المتضافرة شيء آخر. وبسبب هذا التعقيد والتداخل نفسه فإن إدارة بايدن لن تكون سوى إدارة انتقالية لعلاج آثار مرحلة ترامب داخليًّا وخارجيًّا. لذلك يمكن القول ببساطة إنه وبسبب كونها أزمة عضوية ومركبة، فلا يمكن حلها بالانتخابات أو نتيجتها، حتى ولو بدت النتيجة مطمئنة للملايين في الولايات المتحدة والعالم كله.

وعلى الرغم من تحولها شبه الكامل إلى النيوليبرالية السلطوية، فلا تزال الديموقراطية الأمريكية بها بعض الحياة.. فهزيمة ترامب تعتبر هزيمة للفاشية، وفي هذا السياق تحدث الكثير من الديموقراطيين عن انتصار الديموقراطية أو إنقاذها من دورة ثانية لترامب وفاشيته. وفي مقابل كلام الديموقراطيين عن انتصار الديموقراطية الأمريكية أو ما تبقى منها، يتحدث ترامب وأنصاره عن أن ما يفعلونه هو إنقاذ الديموقراطية من مؤامرات «الشيوعيين الفوضيين الديموقراطيين والدولة العميقة الأمريكية». فأين الحقيقة؟ وهل يبالغ الطرفان؟ 

في الحقيقة يمكن القول إن الطرفين يبالغان في موقفهما. ودون اختزال مخل يمكن القول أيضًا إن الديموقراطية الأمريكية تحولت كما ديموقراطيات برجوازية كثيرة في العالم في عصر النيوليبرالية وترسخها إلى مسخ من الديموقراطية الإجرائية إن لم تكن سلطوية نيوليبرالية. والمقصود بالسلطوية النيوليبرالية الحكم الوحشي والمتطرف للسوق، وأن المؤسسات الحاكمة كلها أصبحت نفسها محكومة بالشركات الرأسمالية الكبرى، معظمهم من الممولين للحملات الانتخابية، وأصبح دور المؤسسات الحاكمة يتلخص في مزيج من القمع والبروباجاندا لمصلحة السوق وهذه الشركات الكبرى.

حتى رئاسة أوباما نفسها كانت أحد نماذج هذا الحكم (النيوليبرالية السلطوية). ففي الفترة الأولى لأوباما؛ بخاصة بعد كساد2008 ، توسع الديموقراطيون في منح سلطات لأنفسهم ولأوباما، في الوقت الذي كان الديموقراطيون يتحكمون في كل مؤسسات الدولة. هذا السياق ساعد الجمهوريين في استكمال المسيرة عندما تولى ترامب الإدارة عام 2016. فقد توسع ترامب في استخدام القرارات الرئاسية التنفيذية بقانون (مثل قوانين تحجيم الهجرة، وبخاصة من بعض الدول الإسلامية من بين قوانين أخرى، وقرارات منع تدريس العنصرية من وجهة نظر نقدية، ومنع تمويل الدولة لأية جهة تعليمية تدرس تلك المناهج، من بين أمور أخرى). وقد عيَّن ترامب على سبيل المثال في ولايته المنقضية ثلاثة قضاة من المتشددين في المحكمة الدستورية، وعيَّن ما لا يقل عن 194 قاضيًا في المحاكم المختلفة، ويمثِّل هؤلاء نسبة لا تقل عن 24 ٪ من القضاة الجالسين. ومع ذلك لم يساعده هذا الأمر في قضاياه الهشة التي قام فيها بادعاء وجود تزوير شاسع في الانتخابات.

والكثير من المحللين يتحدثون عن المشكلات الهيكلية في الديموقراطية الأمريكية؛ مثل وجود فكرة المجمع الانتخابي التي ظهرت لإرضاء ولايات الجنوب بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، باعتبارها انتهاكًا لفكرة أساسية هي المساواة بين أصوات المواطنين، إذ من الممكن أن يفوز رئيس بالانتخابات بنتيجة المجمع الانتخابي ولو خسر الأصوات الشعبية، مثلما حدث مع ترامب عام 2016. وبالإضافة إلى هذا يجمع الكثير من الباحثين على تأثير الأموال الضخمة على الانتخابات، ناهيك بالتشكيك في ماكينات التصويت، ووجود عراقيل كبيرة، بل ومنع للملايين من المواطنين من حقهم في التصويت إذا سجنوا، في سياق تنتشر فيه القضايا الظالمة والحبس المنظم للفقراء السود والملونين بفداحة. كل هذا بالإضافة إلى العمل المنهجي الذي قام به الجمهوريون في العقد الأخير لتعديل دوائر الانتخابات بطريقة تقسم الأصوات لضمان حصولهم عليها، واستمرار ممارسات منهجية وخصوصًا في الجنوب؛ وفي الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون، بوضع عراقيل لتصويت السود والملونين مثل إثبات شخصيتهم، وتسجيلهم في وقت مناسب قبل الانتخابات، وتوفير صناديق وأماكن للانتخابات. كل هذا بالإضافة إلى تحول الدعاية لماكينة رهيبة من الكذب والتدليس والتحريض ضد المنافسين، وارتباطها بالشركات المالكة لوسائل التواصل الاجتماعي، لاستهداف ناخبين ومناطق بعينها للتأثير في اختياراتهم من بين أمور أخرى. كل هذه الأمور تشير إلى أن الديموقراطية بالفعل أصبحت عملية إجرائية للانتخابات تتحكم فيها الأموال والتكنولوجيا والعصبية السياسية أكثر من أي شيء.

يمكن للنظر إلى الأموال التي أنفقت على الانتخابات وحده أن يعطينا فكرة عن العملية الانتخابية. ووفقًا لتقرير أصدرته إذاعة وموقع الإن بي آر بتاريخ ٢٢ أكتوبر الماضي، فإن مجموع المبالغ التي جمعت لجوزيف بايدن وصل إلى 51.1 مليار دولار، بينما وصلت المبالغ التي جمعها ترامب الى 1.57 مليار دولار. وفي تقرير تفصيلي متميز نشره موقع بلومبرج حول تصنيف المتبرعين للحملتين، صدر بتاريخ 2 نوفمبر الماضي، أشار إلى أن الكثير من الشركات الرأسمالية الكبرى تقاسمت تمويل الحملتين، وهذا ما يشير إلى انقسام حقيقي في الطبقة الحاكمة الأمريكية. وأشار التقرير المتميز إلى الخريطة الاجتماعية للمتبرعين الصغار أيضًا؛ إذ مال المتعلمون للتبرع لبايدن، ومال الفقراء البيض وأصحاب الأعمال الصغيرة للتبرع لترامب. وبينما مال الموظفون ببعض الوزارات للتبرع لحملة بايدن، فإن العاملين بأجهزة الشرطة تبرعوا لترامب، كما تبرعت قطاعات من وزارة الدفاع لحملة ترامب، بينما تبرعت قطاعات من وزارة البحرية لبايدن. ومن أهم قطاعات الشرطة التي تبرعت لترامب كان العاملون بشرطة نيويورك، وهو جهاز الشرطة الأكبر في الولايات المتحدة وأكثرها وحشية.

وليس من قبيل التجاوز القول بأن ادعاءات ترامب بتزوير الانتخابات، ورفضه الاعتراف بالهزيمة حتى كتابة هذه السطور، هي أكبر خسارة لسمعة ومصداقية الديموقراطية الانتخابية الأمريكية؛ فلا يوجد سبب مباشر يمكن استنتاجه عن أسباب رفضه. يرى محللون إن هناك أسبابًا عديدة لذلك، مثل الانتقام من التشكيك في انتخاباته عام ٢٠١٦، وبخاصة قصة التدخل الروسي، وبهذا يرد ترامب على الديموقراطيين وإحراجهم له، والتشكيك في معركته عام 2016. كما يذهب البعض إلى أن السبب الأساسي هو مساعدة حملته ماليًّا، إذ تهدف هذه الدعوات إلى جمع الأموال للمساعدة في تكلفة الدعاوى. وقد أكد أكثر من صحفي استقصائي أن معظم أموال التبرع للدعاوى التي أقامها ترامب للتشكيك في الانتخابات ذهبت لحملته وله شخصيًّا وللحزب الجمهوري لا للدعاوى نفسها، والهدف هو جلب أموال لحل مشكلة المديونية الكبيرة لحملته. وأن الهدف آخر من الدعاوى هو الخروج بطريقة مشرفة -أمام أنصاره- بوصفه بطلاً خسر بسبب التزوير، وذلك للتمهيد لترشحه مرة أخرى، هو أو أحد أولاده في انتخابات 2024. إن الخوف من شعبية ترامب هو أحد الأسباب التي تمنع الحزب الجمهوري من التعامل بأي مبدئية في قضية ادعاء تزوير الانتخابات.

يُجمع الكثير من الباحثين المدققين على أن فكرة إنقاذ الديموقراطية مبالغ فيها، أو على الأقل يبدون تخوفهم الحقيقي من الخسائر الكبيرة التي تأكدت بوصول ترامب وسياساته إلى السلطة خلال الأربعة أعوام الماضية. والسؤال المهم الذين يطرحه كثيرون هو كيف سمحت الديموقراطية الأمريكية لديماجوجي وفاشي وعنصري؛ ناهيك بأنه رجل أعمال فاسد لا يدفع الضرائب ـ في بلد قامت شرعيتها وجمهوريتها على فكرة أنه لا يوجد ضرائب دون تمثيل- بالوصول إلى قمة السلطة؟ وماذا يمنع من أن يتكرر هذا مرة أخرى؟ وهي مخاوف حقيقة طبعًا، وفي الحقيقة يكاد يؤكد كثيرون أنه ما دامت الأموال والعنصرية والشعبوية هي العوامل الكبرى التي تسيطر على العملية الانتخابية، فلن يمنع من وصول ترامب نفسه، أو ترامب آخر إلى السلطة في المستقبل القريب. وأهم الدلائل عن مدى جدية هذا التخوف هي موقف قيادت الحزب الجمهوري من ترامب. فمعظم من سموا بالعقلاء والوسطيين في الحزب هُمشوا أو بدأوا في التسليم له. وقد صوَّت على سبيل المثال ميت رومني، المصنف من الوسطيين العقلاء بالحزب في صالح تعيين القاضية اليمنية المتشددة إيمي باريت في المحكمة العليا، وحدث هذا قبل ٨ أيام من الانتخابات، وبهذا خالف الحزب الجمهوري عرفًا أمريكيًّا راسخًا بألا يعيِّن الرئيس المنتهية ولايته أي قاض في المحكمة العليا في عام انتخابي.

وقد تحدثت بعض قيادات الحزب الجمهوري بأن الحزب قوي ولا يخضع لتأثير ترامب، وأنه قد حدث ومرَّ بتجارب سابقة من سيطرة تيارات بعينها، مثل المحافظين الجدد في بداية الألفية، وصعود تيار حزب الشاي (وهي حركة اجتماعية شبه دينية تستلهم فكرة مقاطعة البضائع البريطانية والشاي إبان حرب الاستقلال)، ولكنهم يعودون للقول بأن الحزب تعافى منها. وفي الحقيقة فإن مستوى اشتباك الحزب وقياداته مع ترامب وتورطهم معه وخوفهم من شعبيته وديماجوجيته؛ يصعِّب عليهم الابتعاد عنه، والتخلص من المرحلة الترامبية في حياة الحزب إذا جاز التعبير. فقد تحوَّل الحزب بالفعل في العقود الأخيرة إلى حزب القومية البيضاء واليمين الديني المتطرف، ويحوم حوله شركات السلاح ونقابات البوليس من بين شبكات رأسمالية أخرى كبرى.

كما ساعد وجود انقسام حقيقي بين القضاة في منع فرصة قضايا ترامب الهزلية للتشكيك في النجاح. وقصة تدخل شركات مثل تويتر وفيسبوك في حظر تويتات لترامب أو التعليق عليها بأن هذه الأمور لم تحسم بعد تكراره إعلان انتصاره أو تأكيده على تزوير واسع، أمور ذات دلالة تؤكد تداخل التكنولوجيا ورأس المال والدعاية في الانتخابات الأمريكية. ولكن كل هذا لا ينفي وجود ممارسات ديموقراطية باهرة في الانتخابات الأخيرة؛ من أهمها على سبيل المثال حرص أكثر من ١٢٠ مليون مواطن أمريكي على التصويت المبكر بالبريد، ناهيك بملايين أخرى ذهبت للتصويت الشخصي المبكر، كل هذا في سياق وباء ومخاطر صحية. هذه التفاصيل هي ما يدعوني للقول إن الديموقراطية الأمريكية (ولو تحولت إلى ديموقراطية إجرائية بحتة، أو حالة عامة من النيوليبرالية السلطوية) لا تزال بها بعض الحياة والتنافسية.

والخلاصة، أنه على الرغم من هذه العوامل المتشابكة، بالغ قطاع كبير في تصوير أن الانتخابات معركة حاسمة بين الفاشية والعقلانية، أو أن العلم انتصر على الجهل وهكذا.. لكن القول بأن العقلانية والعلم والأخلاق انتصرت على الفاشية والغطرسة هو كلام مرسل، ليس له أي مضمون اجتماعي واقتصادي. وفي الحقيقة فإن كل هذه الأمور مسيسة، وكل هذه الأمور تتحكم بها مصالح كبرى. حتى الكلام عن احترام العلم (باعتبار أن ترامب قلل من أهمية الجهاز المركزي للتحكم في الأوبئة والعدوى وإصراره وإصرار أنصاره على أن الاحتباس الحراري خطاب مصنوع ومبالغ فيه للحد من قدرة الاقتصاد الأمريكي) لا يعكس انقسام حول المضمون، بل حول درجة خضوع هذه الأمور لمعايير المحاسبة والديموقراطية وبعدها عن سيطرة شركات الرأس مال الكبرى؛ فالديموقراطيون أنفسهم منقسمون حول الموضوع، ويعارض معظم الديموقراطيين اقتراح النائبة الديموقراطية اليسارية ألكساندرا أوكاسيو كورتيز بشأن عمل خطة عامة للحفاظ على البيئة والكوكب، حتى اضطرت أوكاسيو أكثر من مرة إلى أن تنضم للمحتجين من أجل إنقاذ الكوكب خارج اجتماعات الحزب الديموقراطي، وهذا دليل بسيط على صعوبة فض ارتباط الحزب وقياداته بشركات رأسمالية كبرى تدمر الكوكب. حتى كتابة هذه السطور يستمر ترامب في فصل قيادات من وزارات حساسة مثل وزارة الدفاع، ويستمر في منح شركات كبرى الحق في الصيد أو استخراج الغاز من أماكن مأهولة بالسكان الأصليين، كما لا تزال جامعات كبرى تطبق بحرفية قرارته بمنع تدريس فصول نقدية عن العنصرية في الولايات المتحدة. ويعطل ترامب عمل الفريق الانتقالي لبايدن، بما في ذلك فريقه المخصص لمتابعة أزمة عودة الأرقام الهائلة للإصابة بكورونا، وهي مسألة حياة أو موت. ويصر مجلس الشيوخ على التوافق مع الديموقراطيين في صرف منح عاجلة للمتضررين من الوباء، ويقرر نهاية فصل مجلس الشيوخ في ظل انتشار الوباء. أما فيما يتعلق بالسياق الانتقالي فقد أكد بايدن أنه ملتزم بالتوافق وعمل فريق تعددي يشمل كل الأمريكيين، بل وصرَح أنه سوف يضم جمهوريين في إدارته. وكان لافتًا للنظر أنه، في كلمته بعد إعلان نجاحه، طمأن أنصار ترامب؛ معلنًا أنه سيعيد احترام العالم للولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة سوف تمثل «قوة المثال» لا «مثال القوة» في العالم؛ في إشارة إلى رغبته في عودة دبلوماسية ما قبل ترامب. لكن في الوقت نفسه تضمنت الأسماء المقترحة لقيادة وزارة الدفاع أسماء محافظة ومعروفة بتأييدها للحرب. كل هذه الأمور تجعل الأزمة معلقة، في الولايات المتحدة وفي العالم، ولو مثل انتصار بايدن راحة ورسالة اطمئنان رسمي لقطاع كبير في العالم.