عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919
دينا حشمتمسرحية المسامير لسعد الدين وهبة.. ثورة 1919 من منظور مغاير
2019.05.01
مسرحية "المسامير" لسعد الدين وهبة.. ثورة 1919 من منظور مغاير
في الثاني عشر من يونية سنة 1967م بعد الهزيمة مباشرة، وغداة المظاهرات التي طالبت الرئيس “جمال عبد الناصر” بعدم التنحي عن منصبه جلس الكاتب المسرحي “سعد الدين وهبة” على مكتبه؛ ليكتب روايته “المسامير” عُرضت المسرحية، التي تستعيد بعض المشاهد القاتمة لثورة 1919م في الريف، على المسرح القومي في موسم 1967 - 1968م، بإخراج “سعد أردش”، وتمثيل “سميحة أيوب، وعبد الله غيث”.
العرض كان ناجحًا، إذ تكرر 52 مرة، وشاهده 12512 متفرج. وحسب بعض الشهادات، حضر عبد الناصر العرض عدة مرات، وكان الجمهور يصفّق بهستيريا – خاصة – في نهاية الفصل الأول، عندما تخاطب سميحة أيوب البطل: “أصلب طولك يا عبد الله، الناس بتناديك يا عبد الله” (ص). كان للمسرحية طابع تطهيري، كما قال الناقد “محمود أمين العالم” في مقدمته لها: “مسرحية “المسامير” تطهيرٌ بالمعنى الأرسططالي الخاص، تطهيرٌ لنا جميعًا، ففيها نبضُ الفجيعة التي تفجّر في النَفْس كل الانفعالات الحادة” (ط).
كانت “المسامير” – في آنٍ واحد – مرآة لإحباط الحاضر ، وأداة لمواجهة هذا الإحباط؛ إذ يستخدم وهبة ثورة 1919م ليعلّق على السياق المعاصر على طريقة المسرح الدعائي التحريضي، يستعيد أصوات الماضي؛ ليسمح للجمهور بتجربة تطهُّرِيّة، وفي الوقت ذاته يحثّ الناس على المقاومة، وعدم اليأس.
شكَّلت حرب 1967م صدمة مؤلمة بعد احتلال سيناء، وغزة، والضفة الغربية، والجولان، كشفت الهزيمة هشاشة النظام الناصري، وأكاذيبه عن قواته العسكرية غير القابلة للتدمير، كما “ترتبت عليها آثار متناقضة على علاقة المثقفين بالدولة؛ فمن جهة “تعزّز” الكارثة تمسّكَهم بأهداف ثورة 1952م، لكنها – من الجهة الأخرى – تضعف شرعية النظام، وتدفع المثقفين إلى المطالبة بحق مراقبة إدارته للأزمة” .
يُعتبر “سعد الدين وهبة” من وجوه مسرح الستينيات المهمة، وهو –أيضًا – كاتب سيناريو مشهور؛ كان مقرَّبا من النظام الناصري –بحكم عمله كضابط شرطة – (تخرَّج عام 1949م)، ثم بعد استقالته سنة 1956م، ودراسته الفلسفة في كلية الآداب؛ بحكم منصبه كمدير تحرير لجريدة الجمهورية في الفترة ما بين 1961 و1964م، ثم مناصبه المتتالية في وزارة الثقافة. قبل “المسامير”، كتب عددًا من المسرحيات يُمكن أن تفسَّر على أنها كانت سعيًا منه للمشاركة في النقاشات السياسية، والإيديولوجية الدائرة أثناء الفترة الناصرية: “كفر البطيخ” (1962م) ، والسبنسة (1962م) واحدة من مسرحياته الأشهر، “سكة السلامة” (1965م) اعتبرت “ناقوس خطر” تنبأت بالنكسة.
رغم قرب “وهبة” من النظام إلا أن الرقابة لم تستسغ العرض، إذ يروي وهبة في مقدمة للمسرحية في أعماله الكاملة (1997م) أن الرقيب “مصطفى درويش”، رأى في “المسامير” هجومًا على الرئيس، وعلى السلطة، ولكن وزير الثقافة آنذاك “ثروت عكاشة”، لم يُعر اهتمامًا لرفض الرقابة، وأصدر أوامر للمسرح القومي بأن يبدأ العرض، وقبل رفع الستار عن “المسامير” بيوم نشرت جريدة “أخبار اليوم” مقالاً تشير فيه إلى أن الرقيب أعلن أنه سيطلب من قسم الشرطة التدخل من أجل منع “المسامير”، رغم هذه التهديدات، ورغم أنه يقدم قراءة غير مألوفة لثورة 1919م استمر العرض لمدة عدة شهور، وكان ناجحًا كما رأينا.
يعيد وهبة قراءة تاريخ 1919م على منوال يختلف تمامًا عن سردية الوحدة الوطنية المنتصرة. أولًا، يروي الأحداث من منظور سكان قرية صغيرة واجهت قمعًا عنيفًا من قِبَل قوات الاستعمار، وهو ما يسمح له بوصف ثورة 1919 م بأنّها هزيمة. ثانيا، يؤكد أن أهمَّ فاعلي ثورة 1919م فقراء الفلاحين، ويعيد النظر في دور “البكوات، والأفندية” في قيادة الحركة الوطنية من خلال تصوير “بك القرية” كعميل للسلطة البريطانية، و”الأفندي علي” أنه التحق بالكفاح متأخرًا. ورغم أن القرية تنهزم في محاولتها مقاومة الجنود البريطانيين إلا أنّ الفلاحين لا يفقدون الإيمان.
هذه المقالة جزء من كتاب عن صورة ثورة 1919م في الأدب والسينما يقوم على فرضِيَّة تطور ذاكرة ثورة 1919 بشكل مستمر، إذ شكّلتها طوال القرن الماضي، وخلال السنوات الماضية من هذا القرن صراعاتٌ اجتماعية، وثقافية، وسياسية.
كما أتبنى فيه فرضية أن “أحداث الماضي (...) تُقدَّم في صيغة حكاية”، كما يقول المؤرخ الأمريكي “هيدن وايت” وأن هذه الحكاية بدورها وليدة زمنها، الزمن الذي كُتبت فيه، ووليدة صراعات طبقية وجندرية (إن صح التعبير)، إضافة إلى تأثير موقع مؤلف العمل في الحقل الأدبي فيها حسب المفهوم الذي طوّره “بيير بورديو”. القراءة التي أقدّمها إذن قراءة تضع الأعمال الأدبية، والفنية في سياقها التاريخي، قراءة معتمدة على أطروحة “والتر بنيامين” التي مفادها أن “كل حاضر يخلق ماضيه الخاص”؛ ذهب بنيامين إلى أن “صور الماضي التي تبقى هي تلك التي يستطيع الحاضر التعرّف عليها كواحدة تعنيه بشكل خاص” ‘as one of its own concern’.
يستهل نصُّ “المسامير” جزءان من كتاب “عبد الرحمن الرافعي” المنشور سنة 1946، “ثورة 1919”. من خلال هذا الاقتباس، يؤكد “وهبة” أولًا: أنّ ما يكتبه ليس مجرد تخيل، وأن له قيمة مرجعية واقعية يستحق أن يكون له “مكانا في الخطاب عما حدث بالفعل في مصر” على حسب تعبير الدكتورة “نهى رضوان” في مقالة عن روايات تناولت زيارة “نكسون” في مصر سنة 1974م . ثانيًا: يقول لنا إنّ ما هو بصدد وضعه في قلب سرديته المسرحية هو بالضبط ما اعتُبر تفصيلة هُمّشت في السردية المهيمنة عن ثورة 1919، فما يهمّه ليس ما حدث في العاصمة أثناء مظاهرات خُلّدت ذِكراها، ومُجّد زعمائُها، ولكن ما حدث في قريتين صغيريتين من قرى الدلتا لأناس لم يذكر التاريخ أسمائهم.
يروي الجزء الأول المقتبس من كتاب الرافعي ما يلي :”لما تفاقمت الحالة في كفر الشيخ، وقرى المركز.. أوفدت السلطة العسكرية إليها فصيلة من الجنود البريطانيين لقمع الثورة.. فجاءوها في صَبيحة يوم 26 مارس سنة 1919م، وكان عددهم نحو أربعِمائة، واتخذوا مركز البوليس مقرًّا لقيادتهم، وعسكرت الفصيلة في المدرسة الابتدائية، وجعلتها وجعلت دور العلم مَربطًا لخيولها.. ونَهَب الجندُ دكاكين الأهالي ، وفرضوا على كل بلدة من بلاد المركز عددًا من الأهالي؛ لجلدهم يوميًّا، ففرضوا على كفر الشيخ 75” (ص3). أما الجزء الثاني المقتبس من ذات الكتاب فيروي كيف قبض الجنود على 3 رجال من قرية “نَزْلَة الشُّوبَك” وفيه: “ودفنوهم في الأرض حتى أنصاف أجسادهم –بدعوى التحقيق معهم – ثم قتلوهم رميًا بالرصاص، وهم على هذه الحالة.” (3).
تدور أحداث مسرحية “المسامير” في قرية صغيرة لا اسم لها سوى “الكَفْر”، قرْبَ “إيتاى البارود”، في مارس وأبريل 1919. الكثير من مَشاهِد المسرحية عبارة عن نقاش بين الشخصيات حول استراتيجيات مواجهة القوات البريطانية التي تعسكر على جزء من هذه الأرض. الشخصية الرئيسية التي يصوِّرها النصُّ على طريقة أبطال الملاحم الشعبية هو “عبد الله الفلاح” الذي يدافع عن أهمية المقاومة، ويحاول تنظيم الأهالي لمواجهة الإنجليز. في الجزء الأول من المسرحية عبد الله معزول لا تدعمه إلا زوجتُه فاطمة التي تشجّعه على البقاء قويا (25)، وعمّها سالم الذي تعتبره أبًا لها، و”الشيخ عبد الصمد”. يصوّر المشهد الأول “المدرّس رمزي أفندي”، وهو يسعى إلى مهادنة المستعمِر، ويدافع عن أهمية التفكير بعقلٍ، ووضْعِ العواطف جانبًا (30)، كما يقدَّم “بك القرية زيدان”، على أنه عميل لسلطات الاستعمار، وهو دور يقوم به طوال المسرحية بدعم من “الناظر رشوان”، ولكن عندما يعلن المدرس رمزي أن 25 رجلًا من القرية سيتعرضون للجَلْد كل يوم (34)، يتغير ميزان القوى. يجبر “جورج الحكمدار البريطاني” رشوان، وزيدان على الالتحاق بطابور الرجال الذين ينتظرهم الكرباج. في الجزء الثاني، الذي يدور في حوش المركز، ينقذ جورج زيدان، ولكن ليس رشوان الذي يتعرّض للكرباج مثل الرجال الآخرين، بما فيهم الشيخ الأعمى، وسالم، فيوقظ الكرباج ضمير رشوان الوطني.
يهاجم الفلاحون الإنجليز في نهاية الفصل الثاني. وفي الفصل الثالث، الذي تدور أحداثه بعد فشل الهجوم، تظهر الخلافات داخل مجموعة الفلاحين، ويحمّل البعض عبد الله مسؤولية الهزيمة. يرد عبد الله بأن هذا ليس وقتا مناسبًا للحساب، ولكنه مستعد لأن يتركهم و “يروح في حاله” . يتم القبض على علوان، ومنصور، وسالم من قبل القوات البريطانية، ويُجبرون على حفر حفرة يُدفنون فيها حتى الصدر، ثم يعدمون رميًا بالرصاص. تنتهي المسرحية بمشهد الفلاحين، وهم ينظرون عاجزين إلى أحبابهم، وهم يقتلون بهذه الطريقة البشعة.
أحداث هذه المسرحية مرويَّة من منظور مجموعة فلاحية صغيرة. من هذا المنظور تظهر الشخصيَّات المُنتمِية إلى الطبقات المتوسطة، والعليا على أنها تفتقد إلى الحس الوطني. تقدّم المسرحية البك على أنه خائن للوطن، فهو عميل لسلطات الاستعمار، مما يجعله مهمَّشا، وهو ما يَرمُز إليه جلوسُه بعيدًا عن باقي الفلاحين، وهم ينتظرون الجَلْد، مع أنه سيشاركهم مصيرهم. أمّا من ينتمون إلى الطبقة المتوسطة فلا يصحو فيهم الضمير الوطني، إلا بعد تعرّضهم بشكل شخصي للعنف الاستعماري. في الفصل الأول يمدح “رمزي أفندي” الحضارة البريطانية، وينادي بحلٍّ سلمِيٍّ مع الجنود المحتلين، ولا يحتج إلا عندما يستخدم الجنود المدرسة إسطبلاً لأحصنتهم (75)، ثم يُقبض عليه فيحوّله اعتقاله إلى شخصية وطنية (90). يكتسب الجلد قيمة تحويلية مماثلة بالنسبة إلى رشوان، إذ يعترف بعده: “رجعلي عقلي (...) مع أول كرباج نزل على جتتي” (103). الجَلْد هنا يكتسب قيمة تطهّرية، إذ يحرّر الرجال من أوهامهم، وضعْفِهم، وانعدام ضميرهم الوطني.
والمفارقة هي أنّ المسرحية ليست –رغم نهايتها المؤلمة– سردية هزيمة فحسب؛ إذ يتمسّك الفلاحون بخيار المقاومة، بل وينجح عبد الله في ضمِّ من كانوا متردّدين، أو معارِضِين لهذا الخيار لصفِّه، ورغم أنّ بعض أبطال “المسامير” يستشهدون في نهاية المسرحية، فإن المجموعة الفلاحية اكتسبت بهذه التجربة ما يسميه جريماس Greimas “أيديولوجيتها الحقيقية”، وينطبق هذا –بشكل أساسي– على علوان، ومنصور اللذَيْن كانا في البداية يعارضان البطل عبد الله بعنف، ويؤكدان – بشكل مستمر– رفضهما خيار المقاومة، ويقع تحوّلهما في لحظة دفنهما حتى الصدر في انتظار الموت، ويعبّر علوان عنه –بشكل واضح – عندما يعترف لسالم بأنه “كان غلطان” (158).
يلعب تكرار أغنية “يا عزيز يا عزيز كُبّة تاخذ الانجليز” دورًا هامًّا في بنية النصِّ الدعائية التحريضية يغنيها في أول، وثاني مرة سبعاوي، الذي يقدّمه النص على أنه “عبيط القرية”، ثم يغنيها كل الفلاحين الذين أتوا؛ لتوديع أحبابهم، وهم يُساقون إلى الجَلْد، وفي نهاية المشهد الأول من الفصل الثاني يغنيها مرَّة أخرى جميع الفلاحين، وهم يُغادِرون المُعسْكَر بعد حضورهم هذه العقوبة (95)، ثم تعود الأغنية في نهاية المسرحية؛ إذ يغنيها الفلاحون بصوت عالٍ بعد قتْلِ “سالم، ومنصور، وعلوان” في لحظة كالحة كئيبة تشبه تلك التي يمرّ بها المتفرجون، لحظة يبدو فيها الأفق مسدودًا تمامًا، تكتسب الأغنية أبعادًا تحريضية، إذ يدعو الممثلون الجمهورَ إلى ألا يفقد إيمانَه بأهمية، وإمكانيةَ المقاومة.
في مونولوجه الطويل الأول يستخدم البطل الرئيسي عبد الله استعارة المسامير؛ ليصف الوضع في القرية: “زرعوا الأرض مسامير.. أرضنا اتزرعت مسامير يا رجالة. مسامير إذا مشينا بنمشي ع المسامير، وإذا كَلْنَا بنَاكل مسامير، وإذا خدنا نفسنا المسامير واقفة في حلق كل واحد مننا تخنقه وتموته”. في نهاية هذا المنولوج يدعو أصدقاءه الفلاحين إلى أن يبقوا موحَّدين (24)، وعندما تتحقق هذه الوحدة في نهاية المسرحية، تختفي المسامير: لقد ذابت في الأرض، وفي الختام، تقف فاطمة – وحدها– على المسرح، وهي تبكي عمَّها، تخاطبه كما لو كان لا زال على قيد الحياة في مشهد يشكل أوْج بناء المسرحية التطهري. تسمع صوت الرّصاص، وتتساءل عن مكان عبد الله، فتقول: “أيوه عرفت.. أنت هناك.. بتاخذ بتارنا.. أنت، والرجالة.. أنا شايفاك.. أنا شايفاهم.. كلهم هناك رافعين راسهم في السما.. ما حدش حاطط راسه في الأرض.. الأرض شايلاهم وفرحانة.. ما فيهاش شوك ما فيهاش مسامير.. (...) بتسددوا الدّين اللي في رقبتنا.. دين الكرابيج.. والبنادق.. والمدافع.. المسامير اللي في الأرض ساحت.. سيحها الدم اللي نزل فوقها.. دم الغلابة اللي عايزين يعيشوا” (176-177).
تنتهي المسرحية بكلمات فاطمة، وهي تحث “سالم، ومنصور” على الضرب: “اضرب يا سالم، اضرب يا منصور، اضرب يا علوان، اضربوا كلكم! الأرض حرير، ما فيهاش مسامير.. والسما حمياكم ما فيهاش غربان..، وأيديكوا حديد، وقلوبكوا حديد اضربوا الدنيا كلها بتتفرج عليكم.” (178). وبعد أن تطهرت الأرض من مساميرها، أصبحت المقاومة ممكنة، بل الخيار الوحيد الممكن. لكن بقدر ما تحث المسرحية على المقاومة، وعدم التخلّي عن الإيمان تحث على دعم الرئيس “جمال عبد الناصر”، وعدم التخلي عنه، معبّرة عن فورة التعاطف الشعبي معه التي تجلّت في مظاهرات التاسع، والعاشر من يونيو 1967م المطالبة بعدم التنحي.
لا يظهر هذا التمحور حول شخصية الزعيم في نصوص أدبية، وسينمائية أخرى عن 1919م أنتجت بعد 1967م، وإن شاركت “المسامير” في اهتمامها بتغيير المنظور الذي رُوِيت منه الثورة، فالمفارقة أن الهزيمة، التي أنهت عهد الحلم الناصري سمحت بإعادة النظر في خطاب الوحدة الوطنية المنتصرة، وفتحت –بالتالي– الباب لإعادة تأريخ لثورة 1919م. فكما ألهم حاضر الهزيمة المؤلم وهبة؛ لينظر إلى ما كان يعتبر تفصيله في سردية الثورة، فتح هذا الحاضر الباب لمبدعين آخرين؛ ليستجيبوا مع آثار 1919م بشكل يعطي للهامش منظوره الخاص.