هموم

عصام زكريا

مصادر وموضوعات التاريخ السينمائي الفيلم وثيقة.. والعالم أفلام!

2021.03.01

مصادر وموضوعات التاريخ السينمائي الفيلم وثيقة..  والعالم أفلام!

دهشتي أن أحدًا لم يقم وقتها بتفنيد أو تأكيد الادعاءات الغريبة التي يمتلىء بها هذا المقال الخيالي، وهي دهشة لم تزل تصيبني إلى الآن، كلما رأيت مثل هذا النوع من المعلومات "التاريخية" التي يلقيها أصحابها دون دليل ودون مصدر، وتلك الحكايات التي تشيع بين العامة والخاصة على أنها حقائق مسلم بها، مثل أن راقية إبراهيم جاسوسة قتلت عالمة الذرة المصرية سميرة موسى، ومثل أن كاميليا التي سقطت بها طائرة قتلت بفعل فاعل، ومثل أن الممثل محمد شوقي هو شقيق الممثل فريد شوقي!

أكبر مشكلة يمكن أن تواجهك إذا أردت أن تعرف أو تتحقق من معلومة تتعلق بتاريخ السينما في مصر، هي ندرة المصادر الموثقة التي يمكن الاعتماد عليها. ففي حالة المثل الذي ذكرته عن حسن عزت وأنطوني كوين، كان الأمر يحتاج، وقتها، إلى رحلة قد تستغرق شهورًا بين الوثائق والصحف القديمة للبحث عن صورة لحسن عزت، أو إلى سؤال السفارات ووزرات الخارجية المكسيكية والأمريكية عن نسب أنطوني كوين، أو إلى البحث عن شهود عيان ربما كانوا لا يزالون أحياء من الذين عاصروا فيلم "لاشين" وصناعه، وقبل ذلك كله البحث عن الفيلم نفسه والتأكد مما إذا كان موجودًا ويمكن مشاهدته أم لا.

لكن يشاء السميع العليم أنه بعد عدة سنوات يتم العثور، بالمصادفة، على نسخة من فيلم "لاشين"، رممتها وزارة الثقافة وعرضتها في افتتاح إحدى دورات المهرجان القومي للسينما. ومع انطفاء أنوار القاعة ودوران الفيلم بدا وكأن عصى موسى ظهرت لتلتهم أفاعي الأكاذيب والمعلومات الخاطئة أو غير الدقيقة التي تتعلق بالفيلم، والتي تتناثر بين بعض الكتب والصحف على أنها حقائق مسلم بها.

بالطبع لم يكن لحسن عزت أي علاقة قرابة أو شبه من قريب أو بعيد بأنطوني كوين، صاحب الملامح العربية، بل على العكس يبدو حسن عزت أوروبيًّا أو أمريكيًّا ببشرة بيضاء وعينين زرقاوين وقامة فارعة!

يمكن تطبيق واقعة فيلم "لاشين" على تاريخ السينما المصرية كله، فلوقت طويل جدًا كان الاعتقاد السائد أن أول فيلم من صنع فنان مصري هو "ليلى" من إنتاج وبطولة عزيزة أمير، ١٩٢٧، وكان هناك اسم فنان يدعى محمد بيومي يذكر بشكل عابر في بعض الكتابات عن تاريخ السينما، وبالمصادفة أيضًا اكتشف المخرج الراحل محمد كامل القليوبي أن زوجة بيومي حية، وأن بحوزتها ليس فقط كل الأفلام التي صنعها محمد بيومي بل الكثير جدًا من أدواته وكتاباته وصوره ووثائق تسجل حياته ومأساته، من بينها على سبيل المثال أن المعدات التي كان يملكها هي النواة الأساسية التي بدأت بها شركة ستوديو مصر التي أسسها طلعت حرب. وكان بيومي قد صنع فيلمه الروائي (القصير) الأول بعنوان "برسوم يبحث عن وظيفة" في ١٩٢٣.

وفي بحثه عن جذور تاريخ السينما في مصر منذ ظهور هذا الاختراع في الغرب، اكتشف الباحث الراحل أحمد الحضري العديد من المعلومات الجديدة، وصحح كثيرًا من المعلومات الخاطئة المتداولة حول تاريخ أول عرض سينمائي في مصر، وأول دار عرض أقيمت في مصر، وأول فيلم وثائقي، وأول فيلم روائي طويل صنع في مصر ناطق بالعربية وشارك فيه فنانون مصريون، وهو "في بلاد توت عنخ أمون" (إخراج فيكتور روسو، ١٩٢٣).

على الرغم من حداثة فن السينما في العالم، والسهولة النسبية لكتابة تاريخها مقارنة بمجالات أخرى، فإن الكلمة الأخيرة لم تكتب بعد في هذا التاريخ، لا في مصر، ولا في أي بلد آخر، ولا يمر عام تقريبًا دون أن نسمع عن اكتشاف فيلم كان مفقودًا، أو وثيقة مهمة تكشف حقائق جديدة أو تدحض معلومات قديمة، أو عن ترميم فيلم كان في حكم الميت، وإعادة بثه إلى الحياة مرة أخرى. وفي معظم بلاد العالم الآن أصبح هناك مؤسسات حكومية وخاصة تعمل بمجال تاريخ السينما وأرشفته وحفظه من الضياع.

مصادر التاريخ الأربعة

هذه المؤسسات، أو الأفراد، المعنيين بالبحث في تاريخ السينما يعتمدون بالأساس على أربع فئات أساسية من المصادر تختلف في أهميتها ونوعيتها وهي: الأفلام، الوثائق الرسمية وشبه الرسمية، الشهادات والمذكرات، الصحافة السينمائية وغير الفنية.

أولا: الأفلام

بعد سنوات من ظهور اختراع السينما أعلن المخرج الأمريكي الرائد وارك إدوارد جريفيث في حماس أنه الآن، وللمرة الاولى في التاريخ أصبح بإمكان البشر أن يسجلوا تاريخهم بطريقة موثوق بها، لا تحتمل التشكيك، عن طريق الكاميرا. وعلى الرغم من شكنا في مقولة جريفيث نفسها، وضرورة الحذر من قدرة الكاميرا على التلاعب وتحريف الحقيقة، مثلها مثل القلم، إلا أن مقولة جريفيث لها وجاهتها بلا شك، ويمكن فهم ما يقصده لو تخيلنا للحظة أن الكاميرات كانت موجودة في عهد الفراعنة أو الإغريق أو زمن الحملة الفرنسية على مصر، فمن المؤكد أن معلوماتنا و"إدراكنا" الشعوري لهذه الأزمنة كان ليختلف تمامًا. فالصورة، والصور المتحركة تحديدًا، لها قوة واقعية لا يمكن أن تملكها الكلمات. الفيلم، كما يشير جريفيث، هو أهم وثيقة تاريخية اخترعها الإنسان حتى الآن!

ودون وجود الأفلام نفسها لا يمكن أن يوجد تاريخ للسينما. الفيلم نفسه هو دليل وجوده، والدليل على صحة أي معلومة تتعلق به، وبالعاملين فيه.

من خلال الفيلم يمكن استخلاص عشرات أو مئات التفاصيل التاريخية، بداية من المواد الخام التي استخدمت في صنعه ونهاية بالمكان والبيئة والمجتمع الذي صنع الفيلم وسطه، مرورًا بتقنيات صنعه وحكايته وأسلوبه الفني وأسماء المشاركين فيه.. بجانب الكثير من التفاصيل الأخرى الكامنة في كل ثانية وكل إطار من شريط عرضه.

للأسف يفتقد الكثير من الأفلام المصرية للمعلومات التفصيلية بخصوص العاملين في الفيلم؛ فغالبًا لا يوجد حصر بممثلي الأدوار الثانوية ولا بالتقنيين، ولا بالعاملين ببعض المهن السينمائية الصغيرة، وحتى الأغاني التي لا يخلو منها معظم الأفلام أحيانًا ما تذكر عنها معلومات غير دقيقة بشكل كاف، كأن يكتب على سبيل المثال "الأغاني تلحين فلان وفلان "، أو "تأليف فلان وفلان" دون تحديد لكاتب وملحن كل أغنية على حدة. ومثل ما يحدث في كثير من الكتب، لا يوجد على معظم الأفلام تاريخ صدور الفيلم.

مع ذلك تظل الأفلام نفسها أدق برهان على وجودها وعلى صحة المعلومات الواردة داخل أي فيلم أو عنه. لذلك تبقى مهمة البحث عن الأفلام المفقودة وترميمها ورقمنتها وأرشفتها هي أساس عمل أي "سينماتيك" أو "متحف" للسينما، وأساس أي عمل يعني بتوثيق تاريخ السينما وحفظه من الضياع. وقد بح صوت الكثير من السينمائيين والمثقفين على مدار الثلاثين، وربما الأربعين، عاما الماضية مطالبين بضرورة إنشاء "سينماتيك" في مصر، وللأسف لم تهتم الدولة ولا الكيانات السينمائية المعنية، مثل غرفة صناعة السينما أو نقابة السينمائيين، وخلال هذه العقود لا بد أن هناك عشرات، أو مئات، من الأفلام فقدت أو تحللت أو أصبحت في حالة سيئة بسبب الإهمال ومرور الزمن وانتهاء عمرها الافتراضي.

وبجانب الأفلام يوجد أيضًا شرائط المواد التي لم تظهر في الفيلم، التي حذفتها الرقابة من الفيلم، التي تصور العاملين بالفيلم في أثناء عملهم بالفيلم.. إلخ.

ثانيًا: الوثائق الورقية وغير الورقية

تنقسم الوثائق الخاصة بالسينما إلى عدة فئات منها:

التشريعات القانونية الخاصة بالسينما، سواء الخاصة بالصناعة أو بالرقابة أو بالضرائب.. إلخ.

الدعاوى القضائية والأوراق القانونية الخاصة بأفلام أو سينمائيين بعينهم أو تقارير الرقابة، العقود القانونية الخاصة بتأسيس الشركات، أو التعاقدات بين شركات الإنتاج والعاملين بالفيلم، تقارير الحسابات الرسمية القانونية الخاصة بالإنتاج والإيرادات.. إلخ

ميزانيات الإنتاج المبدئية والنهائية، نصوص السيناريو، "ستوري بورد" (الرسومات) الخاصة بالفيلم لتوجيه مدير التصوير والممثلين، الأوراق التي تحمل ملاحظات المخرج والممثلين وبقية فريق عمل الفيلم، المكاتبات بين فريق عمل الفيلم الخاصة بتكليفات العمل، صور فوتوغرافيا الفيلم، أفيشات الفيلم، المواد الصحفية وكتيبات الدعاية الخاصة بالفيلم، نصوص الأغاني، والنوتات الخاصة بموسيقى الفيلم.. إلخ، كما يندرج تحت هذه الفئة خطابات المعجبين وخطابات الرد على المعجبين من قبل النجوم، التي يحتفظ بها الهواة أو توجد في الجمعيات الخاصة بهم.

أما الوثائق غير الورقية فتتعلق بكاميرات وآلات ومعدات وديكورات وأكسسوارات الفيلم وملابس الممثلين.. إلخ، التي تستحق الحفظ لقيمتها التاريخية والأثرية.

ثالثًا: الشهادات والمذكرات

تمثل شهادات ومذكرات العاملين في صناعة الأفلام مصدرًا مهمًا لمعرفة الكثير عن العمل من الداخل، وتعتبر في حد ذاتها تاريخًا مشوقًا غالبًا لزمن صناعة الفيلم وظروف عمله وأفكار العاملين فيه عند صنعه. وكثيرًا ما يحتاج المؤرخون والباحثون إلى العودة لصناع العمل لتسجيل شهاداتهم حول أعمالهم. ويحدث في بعض الأعمال أن توجد يوميات يكتبها المخرج أو أحد العاملين أو أحد المراقبين من الخارج لسير العمل يومًا بيوم.

رابعًا: الصحافة السينمائية

تشكل الصحافة السينمائية، الصحافة التي تتناول أخبار وموضوعات عن السينما بشكل عام، سواء في صحف متخصصة أو عامة، المصدر الأكثر ثراءً وتنوعًا لكتابة تاريخ السينما، بداية من أولى الأخبار التي تنشر عن مشروع الفيلم، وصولاً إلى المراجعات النقدية التي تكتب عنه، وأخبار الإيرادات التي يحققها، وردود الأفعال على الفيلم، مرورًا بتاريخ عرض الفيلم وأخبار العاملين فيه والحوارات التي تجرى معهم.. إلخ

ومع أن الصحافة السينمائية تشكل مصدرًا لا غنى عنه لكل من يحاول أن يكتب تاريخ الأفلام وصناعها، فإنها المصدر الأقل مصداقية من بين المصادر المذكورة سابقًا؛ إذ ليس لها قوة ودقة الوثيقة الرسمية وشبه الرسمية التي تتمتع بها هذه المصادر، وعادة ما يستزم الأمر من الباحث تأكيد المعلومة التي تنشرها الصحف بمصادر أخرى من المصادر السابقة أو بصحف أخرى تؤكد المعلومة.

موضوعات تاريخ السينما

قل تاريخ مصر السينمائي، ولا تقل تاريخ السينما المصرية، فتاريخ السينما يشمل معظم، إن لم يكن كل، الموضوعات التاريخية. وتقريبًا لا يوجد مجال من مجالات الحياة لا يتقاطع مع تاريخ السينما وأفلامها والعاملين فيها والمصادر التي تعتمد عليها والجمهور الذي يستقبلها.

هناك تاريخ الأفلام نفسها، الذي تصنع عنه موسوعات شاملة وأحيانا كتب عن فيلم واحد، وتاريخ صناع الأفلام من مخرجين وممثلين ومؤلفين. وهناك التاريخ الصناعي والتقني للأفلام، وتاريخ الحركات والجماعات والمذاهب والأنواع والظواهرالفنية، وهناك تاريخ الرقابة على الأفلام، وتاريخ الصحافة السينمائية، وتاريخ جمهور السينما وعلاقته بالأفلام وتأثير الأفلام عليه. وهناك تاريخ العلاقة بين الأفلام والعلوم المختلفة، مثل علوم الفضاء أو الروبوتات، أو علم النفس أو الفلسفة أو الأنثروبولوجي.. إلخ. وهناك تاريخ العلاقة بين السينما والأدب والمسرح والموسيقى والغناء والرقص والفن التشكيلي، وبين السينما والطب أو السينما والصحافة، أو السينما والموضة، أو السينما واللغة.. إلخ.

ويصعب أن نحصر المجالات التي يتقاطع فيها تاريخ السينما مع مظاهر الحياة المختلفة. أحيانًا ما ينطلق المؤرخ من السينما لرصد ظواهر أخرى، وأحيانًا ينطلق من مجالات أخرى ليرى كيف عبرت عنها، أو أثرت عليها، السينما. لقد تغلغل فن السينما داخل أجيال من البشرخلال ما يزيد عن قرن من الزمان، تأثر خلالها بكل مجالات الحياة، ثم أثر فيها، وأصبح جزءًا من الكيان العضوي للإنسان! ومن ثم يكتسب البحث في تاريخ السينما بأنواع أهمية هائلة في المجتمعات التي تهتم برصد وتسجيل تاريخها بشكل عام، ويوجد سنويا عدد يصعب حصره من الكتب التي تتعلق بتاريخ السينما بدرجة أو أخرى بمعظم اللغات.

وكثيرًا ما يحتاج البحث في تاريخ السينما إلى مصادر غير سينمائية، بسبب هذا التلاحم العضوي بين فن السينما كنشاط "فلكلوري" وثقافي عام وبين مجالات الحياة المختلفة. لو تناولنا صورة شخصية عامة كما قدمتها السينما، مثلا، أو حدث سياسي مهم، أو ظاهرة اجتماعية تناولتها السينما بكثافة في فترة ما، فإن الرجوع إلى مصادر تاريخية عن هذه الأسماء والحوادث يصبح ضرورة لا غنى عنها.

في الوقت نفسه تشكل الأفلام مادة تاريخية خصبة للمؤرخين من مختلف التخصصات، فعلى سبيل المثال يمكن تتبع تاريخ اللغة العامية على مدار القرن الماضي من خلال الأفلام، أو تاريخ الملابس والموضة، أو العادات والتقاليد، أو التحولات الطبقية، أو شكل الشوارع.. إلخ.

عودة إلى المصادر

كل ما سبق من موضوعات تتناول تاريخ السينما بحد ذاته، أو موضوعات تاريخية أخرى في علاقتها بالسينما، يحتاج أولاً إلى توفر المصادر، من أفلام ووثائق وشهادات ومذكرات وصحافة سينمائية، وللأسف مرة أخرى يصعب الحصول على هذه المصادر في مصر بشكل منهجي منظم، ويعتمد الأمر غالبًا على جهود فردية تشوبها بالضرورة أوجه نقص عديدة. ودون وجود مؤسسات تهتم بجمع وأرشفة هذه المصادر وتوفيرها للباحثين والمواطنين بشكل عام، وإذا وضعنا في اعتبارنا أن كلمة "فيلم" تنطبق على أي شريط مصور، سيمتد هذا الكلام إلى كل ما نملكه من شرائط تاريخية أنتجها التليفزيون وهيئة الاستعلامات وشركات خاصة، فإن تاريخ الأفلام وتاريخ مصر كله يتسرب كالرمل أو المياه بين أيدينا، ونحن نراه يوميًّا يلقى على الأرصفة ويباع شرقًا وغربًا. ويصعب على القارىء أن يتخيل حجم المواد التي تم نهبها وتهريبها من مصر منذ الثمانينيات وإلى الآن!

فهل آن الآوان بعد لننقذ ما يمكن إنقاذه ونعلن عن إنشاء سينماتيك حقيقي يقوم بجمع وحفظ وكتابة تاريخ الأفلام المصرية وتاريخ مصر من خلال الأفلام؟!