مراجعات

رياض حمّادي

مناورة الملكة.. الشطرنج منقذًا

2021.03.01

مناورة الملكة..  الشطرنج منقذًا

هل كان يتبادر في ذهن مخترع الشطرنج أن لعبته التي اخترعها لتسلية ملك، حسب الرواية الشائعة، ستصبح لعبة عالمية تقام لها المباريات الدولية، وتَمنح لاعبيها ألقابًا وتصنيفات، وتُستعمل فيها مصطلحات عديدة واستراتيجيات وتكتيكات، وتؤلف فيها عشرات الكتب، وتتحول إلى مزيج من الفن والعلم، وإلى وسيلة للتنافس والهيمنة في حقبة الحرب الباردة؟!

أبطال وبطلات

بنظرة سريعة إلى جدول أبطال العالم في الشطرنج ستعرف أن جميعهم من الذكور، لكن ثمة استثناءات نسائية أبرزها لاعبة الشطرنج المجرية جوديت بولجار، التي تُعتبر أفضل لاعبة شطرنج حتى اليوم. تمكنت بولجار وهي في الخامسة عشرة من انتزاع أرفع لقب في لعبة الشطرنج- أستاذ شطرنج دولي- من بطل العالم بوبي فيشر. وأنت تشاهد مسلسل "The Queen's Gambit"، الذي عُرض على منصة نتفليكس في نوفمبر 2020، قد يتبادر إلى ذهنك أن المسلسل يستلهم سيرة هذه العبقرية، لكن هذه مجرد مصادفة؛ فالمسلسل من ابتكار سكوت فرانك وألان سكوت، من رواية تحمل الاسم نفسه للأمريكي والتر تيفيس، منشورة في عام 1983م؛ أي قبل فوز جوديت بأول بطولة لها؛ بطولة نيويورك المفتوحة 1986، وهي في التاسعة من عمرها.

أدرج تيفيس اسم ابنته وعمته- التي أهدته أول شطرنج- بين النساء اللواتي ألهمن الشخصية. وقال لصحيفة التايمز إنه ابتكر شخصية بيث "لتكريم النساء الذكيات.. أنا أحب بيث لشجاعتها وذكائها. في الماضي، كان على العديد من النساء إخفاء عقولهن، لكن ليس اليوم".

من جوديت بولجار إلى بيث هارمون

ما تزال بولجار المرأة الوحيدة ضمن تصنيف أفضل عشرة لاعبين في العالم. حين بلغت الحادية عشر مُنحت لقب أستاذ دولي، وبهذا الإنجاز تكون قد حازت اللقب في عمر أصغر من كاسباروف وفيشر. وحين بلغت الثانية عشرة مُنحت لقب "جراند ماستر/أستاذ كبير". ثم توالت إنجازاتها؛ وأبرزها الفوز على أبطال العالم في اللعبة: بوريس سباسكي وفيسواناثان أناند، وجاري كاسباروف، الذي أكد في وقت سابق أن "النساء ينبغي ألا يشاركن في منافسات الشطرنج". وتتقاطع سيرة جوديت الواقعية مع المسيرة المتخيلة لبيث هارمون (آنيا تايلر جوي) في عدة مواضع. من ذلك أن بولجار أرادت أن تنافس أقوى اللاعبين، ولذلك "قررت منذ البداية عدم المشاركة في بطولات شطرنج نسائية"، وهذا ما فعلته هارمون في المسلسل. جوديت وبيث نشأتا في بيئة أُسرية مشجعة للفتيات؛ جوديت واحدة من ثلاث أخوات كلهن لاعبات شطرنج وحصلن على ألقاب عالمية، ويعود الفضل في هذا لوالدهن. بينما يعود الفضل في تدريب بيث لحارس في المدرسة يدعى السيد شيبيل، أما الفضل في تنمية شخصيتها المستقلة والشجاعة فيعود لأمها التي علمتها ذلك "ستصادفين رجالاً يريدون تعليمك أشياء.. لكن ذلك لا يجعلهم أذكى منك، ليسوا أذكى على أغلب الأصعدة، لكن سيمنحهم تعليمك الشعور بالسيطرة، دعيهم يثرثرون وافعلي أنت ما يحلو لك.. المرأة القوية هي التي يمكنها أن تعيش بمفردها في عالم يرضى فيه الناس بأي شيء".

بالنسبة لجوديت كان والدها قد علمها أن التمييز ضد المرأة لا يمكن أن يعيقها عن إحراز أرفع الألقاب في عالم الشطرنج. تقول جوديت إن والديها علَّماها أن الفتيات بوسعهن تحقيق النتائج نفسها التي يحققها أي صبي موهوب. وهذا المضمون صرَّح به بطل العالم السابق فيسواناثان أناند حين كانت جوديت العشرين من عمرها، فعندما سُئل عن رأيه في بولجار، أثنى عليها "هي مجرد منافِسة كسائر المنافسين، هي واحدة منّا". الأمر نفسه ينطبق على أختيها الكبريان اللتان خاضتا منافسات الشطرنج، كما ينطبق على بطلة العالم اللاعبة الصينية "هاو بيفان"، فقد حظت البطلتان بدعم ورعاية أسرتيهما منذ الصغر، ما جعلهما تؤكدان على أهمية دور الآباء في دعم وتشجيع أطفالهم. وتقول بولجار إن أبويها "عقدا العزم منذ ولادتها على أن تصبح بطلة شطرنج".

عامل آخر يكمن في ممارسة اللعبة كمتعة والفوز من أجل هذا الهدف لا من أجل الغرور أو الكبرياء الشخصي أو الوطني. هذا العامل نجده في رواية "لاعب الشطرنج" حيث يعرض ستيفان زفايج نموذجين من اللاعبين: المُقلد، المغرور- الذي يحفظ ما يراه عن ظهر قلب، فيَصل بغروره للفوز ببطولة العالم- والعبقري المبتكر، المتواضع، الذي اكتشف اللعبة بالمصادفة ولعبها لمرة واحدة في حياته. بين لاعب يلعب من أجل الفوز والمال، ولاعب يلعب من أجل المتعة. 

ثمة أوجه تشابه بين بيث هارمون، وبطل رواية ستيفان زفايج "لاعب الشطرنج" ميركو كزنتوفيك، وبين لاعب الشطرنج الهندي سلطان خان (1905- 1966)، الثلاثة يتمتعون بموهبة فطرية، تعلموا الشطرنج بالمشاهدة وتفوقوا على أبطال العالم. أما نهاية حياة السيد (ب)، في الرواية فتشبه نهاية حياة سلطان خان. لعب السيد (ب) الشطرنج مرتين، وفاز على ميركو في الأولى، لكنه ترك الشطرنج بعدها نهائيًّا. وهكذا فعل سلطان خان في الواقع. جاء سلطان خان إلى لندن مرافقا لسيده الكولونيل "سير عمر حياة". لم يكن سلطان يعرف الشطرنج، لكنه تعلمه في أسابيع من خلال المشاهدة. وفاز بعدها ببطولة بريطانيا العظمى ثلاث مرات خلال أربع مشاركات. وتغلب على بطل العالم كابابلانكا، بسبعين نقلة، وفي مرحلة نهاية الدور التي يجيدها كابابلانكا. ثم مثَّل بريطانيا في أولمبياد هامبورج 1930، وخرج بنتيجة باهرة. وعندما عاد إلى موطنه، الهند، مرة أخيرة ترك الشطرنج ولم يسمع عنه أحد بعد ذلك. وتوفي في 1966، دون أن يحصل على لقب دولي أو حتى تقييم. وقال عنه مؤرخ الشطرنج ديفيد هوبر "سلطان ربما يكون أعظم ظاهرة في تاريخ الشطرنج". وقال عنه كابابلانكا "سلطان خان بطل الهند في الشطرنج تعلم النقلات من مراقبته لنا، لكنه أصبح بطلاً، إنه ظاهرة خطيرة لكن للأسف قصيرة".

نساء على رقعة الشطرنج

مقابل العوامل سالفة الذكر ثمة أسباب عديدة ومتنوعة تُفسر ضعف مشاركة النساء في لعبة الشطرنج، منها على حد قول بولجار "توقعات المجتمع من الفتيات، والأدوار التي يخصصها لهن"، والحل الذي تقترحه بولجار وهاو يكمن "في زيادة الفرص أمام اللاعبات المحترفات للمشاركة في المنافسات، وتشجيع الفتيات على خوض المنافسات المختلطة".

والتنشئة التي حظيت بها جوديت تصلح لتكون نموذجًا يحتذى به من قبل الآباء، فوالدها لازلو بولجار، عالم نفس مجري، كان قد ألَّف، قبل زواجه بأمها، كتابًا بعنوان "Bring Up Genius"، تنشئة العبقري، عن كيفية تنشئة العباقرة، وبعد زواجه اتفق مع زوجته على تنشئة أولادهما ضمن هذه القواعد، فكانت النتيجة مجموعة من الأطفال العباقرة، ليثبت للعالم أن العبقرية والموهبة الفكرية قابلة للخلق بالتربية وليست مسألة وراثية فحسب.

والتنشئة في المحيط الأسري لها نظير في المحيط الاجتماعي. فبالنظر إلى جدول أبطال العالم في الشطرنج ستجد أغلبهم من روسيا، وستجد أن تراجع اللعبة في هذه الدولة تزامن مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وفي هذا دلالة على الدور السياسي الفاعل في مجال الرياضة وغيرها من المجالات الفنية والثقافية. الأمر نفسه حدث مع بطولة العالم للنساء؛ ستجد أن لاعبات الاتحاد السوفيتي سيطَرن على اللعبة منذ 1950 حتى 1991. لتكسر بعدها الصين احتكار الاتحاد السوفيتي عن طريق اللاعبة الصينية زي جون، ولتستمر بعدها المنافسة بين الصين وهنغاريا وبلغاريا، وتعود روسيا في عام 2008 حتى 2010 عن طريق اللاعبة ألكسندرا كوستنيوك، ثم أوكرانيا عن طريق اللاعبتين آنا يوشينينا وماريا موزيجوك.

حماية الملكة

المسلسل مكون من سبع حلقات قصيرة، بزمن إجمالي قدره ست ساعات ونصف الساعة. وتعتمد تقنية السرد على الاسترجاع، "فلاش باك"، وبهذه التقنية تلتحم الحلقة الأولى بالأخيرة. مع أداء مدهش لآنيا تايلر جوي وبقية الممثلين، إضافة إلى كادرات بديعة وموسيقى تصويرية مدهشة؛ ما جعل المسلسل يحظى بتقدير نقدي وجماهيري مرتفع.

تتلخص قصة المسلسل- بعد ترتيبها وفقًا لزمن القصة - في الطفلة بيث هارمون، ذات التسعة أعوام، والتي فقدت أمها نتيجة اصطدام سيارتها بشاحنة. يبدو الحادث نوعًا من الانتحار، بعد أن يئست الأم من استعادة علاقتها بزوجها. لكن بيث تنجو بأعجوبة وتقضي خمس سنوات في ملجأ، حيث تتعلم الشطرنج بالمصادفة على يد السيد شيبل. يتفاجأ السيد شيبل بموهبتها في الشطرنج فيُرتب لها لقاءً مع أستاذ شطرنج يدعوها للعب ضد مجموعة من الطلاب أكبر منها عمرًا فتفوز عليهم بسهولة. وبعد تبنيها من قبل أسرة، ونتيجة للضيق المالي، تشترك بيث في مسابقة من أجل الفوز بمبلغ الجائزة، لكن هذا الدافع لن يكون هو حافزها فيما بعد. ثم تنطلق رحلتها في عالم الشطرنج بين الصعود والهبوط، إلى أن تجد من يدعمها من أجل الاستمرار والتغلب على أزمتها النفسية.

حال بيث في علاقتها بالمحيطين بها يشبه إلى حد ما لعبة الشطرنج. ففي الشطرنج، عندما يصل إلى البيدق إلى الصف الأخير يمكن استبداله بأي قطعة، حتى لو كانت موجودة على الرقعة. ثمة مباراة اشتهرت باسم: الحريم، "Harem"، أو حريم إليخين، كان فيها خمس ملكات (وزراء) على الرقعة في نفس الوقت، ثلاث لأليخين واثنتان لمنافسه. فإذا شبَّهنا شخصيات القصة بقطع الشطرنج فإن بيث هي الملكة، وبقية الشخصيات، القطع، إما أنها تحميها أو تنافسها. بدأت لعبة بيث بقطعتين (أمها وأبيها)، بيضاء وسوداء، إن جاز التعبير، ثم تختفي القطعتان ليظهر في حياتها السيد شيبل وبيني واتس وهاري بيلتيك وصديقتها جولين. وجميع هذه القطع تحميها حتى وهي تنافسها. والقطع التي تنزل من على الرقعة تعود للظهور، تمامًا كلعبة الشطرنج، لكن هذا الظهور والاختفاء ليس مجرد تقنية، ولكنه مبرر دراميًا، وليس في إعادة الظهور هذا- كما حدث مع جولين- ما يخالف مسار الواقع الحقيقي، فضلاً عن أن الشخصيات في العمل الفني أدوات يمكن استعمالها عند الحاجة إليها.

تعود جولين وقد هدأت طباعها الحادة، وليس هذا التبدل بمستغرب في الواقع، ولا في الواقع السردي الخاص بالمسلسل. لا نعلم إرهاصات هذا التبدل، لكن ما قالته جولين لبيث فيه ما يكفي بأنها قد تغيرت للأحسن. ظهرت جولين في وقت كانت بيث بحاجة إلى من يقف إلى جانبها، والأفضل من اختراع شخصية جديدة هو إعادة صديقتها الوحيدة إلى رقعة الشطرنج، لكن صديقتها لن تكون هي نفسها القديمة؛ فالدور المطلوب منها في هذه المرحلة أن تدعم بيث للتغلب على كبوتها.

كواليس المسلسل

في الشطرنج ناحيتين للدراسة: الاستراتيجية والتكتيك. الاستراتيجية تهتم بمواقع القِطع والسيطرة على المربعات، وصلابة الموقف الدفاعي، أما التكتيك فشببه بالألعاب البهلوانية، حافل بالتضحيات والأفخاخ. لذلك يوصف اللاعب بأنه لاعب استراتيجي، مثل أناتولي كاربوف وكابابلانكا وبتروسيان، أو أنه لاعب تكتيكي، مثل مورفي وإيفانشوك ورشيد نجم الدينوف وسلطان خان. اللاعبون الذين يتمتعون بموهبة فطرية يكونون غالبًا لاعبين تكتيكيين، لكن ما يميز سلطان خان هو أن لديه استراتيجية مذهلة في الوقت نفسه. وهكذا بدأت بيث هارمون مسيرتها في الشطرنج، في قصة المسلسل، ومن أجل تعزيز الاستراتيجية في لعبها يُلح أصدقائها على تدريبها لتكتسب الفكر الاستراتيجي الهادئ.

اسم بيث هو تصغير لاسم إليزابيث، وهو مع لقب "الملكة" ومضامين القصة، يغوي بالإحالة إلى ملكة انجلترا. سُمي المسلسل بـ "مناورة الملكة" نسبة إلى مناورة في الشطرنج يتم فيها التضحية ببيدق فيل أو أسقف الملكة، أو الوزير في تسمية ثانية. أي التضحية أو المناورة بالبيدق الذي أمام فيل الوزير/الملكة، مقابل تحكم أفضل في المركز. ويطلق عليها "جامبيت الملكة"؛ لأنها تبدأ ببيدق الملكة (على عكس مناورة/جامبيت الملك التي تبدأ بـ 1.e4).

وبحكم موضوع المسلسل ستجد العديد من التكتيكات والخطط الشهيرة في عالم الشطرنج، ما يدل على الجهد المبذول من قبل صناع المسلسل، فضلاً عن التجارب الخاصة لكاتب الرواية الأصلية تيفيس كلاعب شطرنج في بعض التفاصيل الفنية للقصة. يوجه المسلسل تحياته إلى لعبة الشطرنج ولاعبيها، فمباريات المسلسل مُختارة بعناية من قبل لاعبين شطرنج محترفين. وأغلب المباريات بُنيت على مباريات حقيقية مشهورة. المباراة الأخيرة، بين بيث وبورجوف، على سبيل المثال، تمت في الواقع في سويسرا، 1993، بين اللاعب الأمريكي باتريك وولف واللاعب الأوكراني فاسيلي إيفانتشوك، الملقب بمجنون الشطرنج لتصرفاته الغريبة في أثناء اللعب. انتهت المباراة بالتعادل، أما في المسلسل فقد عُدِّلت اللعبة لتفوز بيث على فاسيلي بورجوف. وفي المسلسل حوَّلت بيث سقف الغرفة إلى رقعة شطرنج، وهذه الحركة هي تحية موجهة للاعب إيفانتشوك الذي لم يكن ينظر إلى رقعة الشطرنج، عندما يمر بموقف صعب، وإنما كان يتأمل السقف؛ ليحسب التفريعات في خياله. لكن المسلسل مع كل ما سبق "ليس عن الشطرنج تمامًا، ولكنه عن ثمن العبقرية". كما عبَّرت آنيا تايلر جوي، في إجابتها على سؤال صانع المسلسل فرانك سكوت.

المنافسة بروح رياضية

خلافًا للشطرنج تتحد القطع البيضاء والسوداء حول بيث لحمايتها؛ فالمواجهة هذه المرة بين أمريكا وروسيا، وبعد فوز بيث على اللاعب الروسي فاسيلي بورجوف، يتقبل هذا فوزها بروح رياضية، وتتغلب في هذا المشهد، ثم في آخر مشهد، الروح الرياضية على الجميع، فيتحدون حول اللعبة بصفتها منافسة بين لاعبِين لا صراعًا بين دولتين. ولأن اللعب فوز وخسارة، فقد سبق لبيث أن خسرت أمام بورجوف، وأشارت أحداث القصة إلى سبب خسارتها؛ إفراطها في الشراب وتناول المهدئات وعدم تركيزها في اللعبة ولا إخلاصها لها كليًّا. وعندما فازت على بورجوف فإن فوزها مبرر دراميًّا، لعبت بالأسلوب نفسه الذي يفضله بورجوف، الافتتاحية بطريقة "الدفاع الصقلي"، وبالطريقة نفسها التي يلعب بها الروس، اللعب الجماعي. وهكذا رأينا أمهر أصدقائها اللاعبين يساعدونها عبر الهاتف من أمريكا بالتخطيط لكل نقلة محتملة، وينجح هذا التخطيط لحين، وهو ما يُبهر بورجوف والمحيطين، لكن بورجوف يقوم بنقلة لم تدخل في حسبان الفريق الأمريكي بقيادة بيث، نقلة تربك بيث لكنها تستعيد توازنها وتكسب في الأخير. ودلالة هذه النقلة غير المتوقعة تفيد بأن لكل لعبة ظروفها الخاصة، وعلى أن احتمالات الشطرنج لانهائية، فلا يمكن الإحاطة بها مهما كان ذكاء وخبرة اللاعبين. أما فوز بيث فيؤكد على دور التخطيط الجماعي والمهارة الفردية التي تقوم على الحدس. وهذه مهارة أكدت على قيمتها أحداث المسلسل.

يفرض الهدف من العمل طبيعة البناء السردي، وانتهاء المسلسل بخاتمة مغايرة سيصب في صالح اللعب كصراع، لا كمنافسة شريفة غايتها الروح الرياضية، وهذه النهاية ستناقض الهدف المرجو من الرياضة بشكل عام ومن هدف المسلسل بشكل خاص، كما سيناقض شخصية بيث التي لا تلعب من أجل المال، وإلا لقبلت منحة الكنيسة المالية التي أغرتها باللعب لصالح أهدافها التبشيرية، لكن بيث رفضتها وأعادت ما كانوا قد أنفقوه فعلاً. وبيث بهذا التصرف تكشف عن معدنها وروحها. فهي لا تلعب من أجل المال ولا الفخر، وهي من هذه الناحية تشبه ستينج "Sting" في أغنيته "شكل قلبي" عن اللاعب الذي "يوزع أوراق اللعب كنوع من التأمل، وهؤلاء الذين يلاعبهم لا يرتابون مطلقًا أنه لا يلعب من أجل المال الذي يربحه، ولا من أجل نيل الاحترام، ولكنه يوزع الورق ليعثر على الجواب، على هندسة الحظ المقدسة، على القانون الخفي للنتيجة المحتملة، والأرقام التي تتصدر الرقصة".

الشطرنج والسياسة

البطل في الشطرنج ليس الذي يربح حركة، بل من يخطط ويرصد عدة حركات إلى الأمام. فكل ما يدور على رقعة الشطرنج يدور في الرأس أولاً، مع ذلك لا يعرف الخصم ما يدور في رأسك إلا وأنت تحاصره بعبارة: "كش ملك". في الشطرنج يوجد منتصر، ولا يوجد مهزوم، الكل يربح المتعة. لتكن الحياة لعبة شطرنج. هذا ما تدعونا إليه بيث في ندائها الأخير. وفي الشطرنج كل المربعات خطرة، وكلها آمنة، لكنها لن تكون كذلك بدون خطة. ثمة طرق كثيرة لإسقاط الملك، وما يجعل اللعبة مستمرة هو وجود طرق أخرى لم تُكتشف بعد، بهذا فقط يتغلب الإنسان على الكمبيوتر.

التنافس السياسي بين أمريكا والاتحاد السوفيتي حظر على هامش التنافس الرياضي في المسلسل. لكن بيث هارمون تتمرد في النهاية على وصاية الاستخبارات الأمريكية وتعليماتها وذلك بنزولها إلى الشارع واللعب مع أفراد من الشعب الروسي، في دلالة تشير إلى التحام الناس والشعوب بغض النظر عن الجنسية والصراع السياسي. وتنهي بيث الحلقة السابعة والأخيرة بكلمة واحدة، باللغة الروسية: "لنلعب"، توجهها في الظاهر لرجل روسي، كان يلعب ضمن عشرات آخرين في الشارع. تقولها بيث وهي تنظر إلى الكاميرا لتوجه الدعوة للمشاهد؛ للتنافس على رقعة الشطرنج لا على ميادين الصراع السياسي. وكانت أحداث القصة قد أكدت على الدور الإيجابي للعب الجماعي وتحالف عقل المرأة مع عقل الرجل، من أجل الفوز، ما يفيد في الأخير أن الشطرنج ميدان لا يخضع لتقييم النوع الذكوري أو الأنثوي النسوي، وإنما للذكاء والموهبة والثقة إلى آخر العوامل التي ذكرتُها آنفًا.

في فيلم السيرة الذاتية "Queen of Katwe" 2016، للمخرجة الهندية ميرا ناير، ينقذ الشطرنج فيونا وأسرتها من الفقر. يروي الفيلم قصة حياة لاعبة الشطرنج الأوغندية فيونا موتسي، وموهبتها منذ أن كانت طفلة، إلى أن مثلت أوغندا في ألعاب شطرنج للسيدات، وهي واحدة من أوائل لاعبات الشطرنج اللائي حصلن على لقب في أوغندا. وفي رواية "لاعب الشطرنج" تُنقذ اللعبة السيد (ب) من جحيم المعتقل، وفي قصة المسلسل تنقذ اللعبة بيث من روتين الحياة في المدرسة الداخلية، ذات الطابع الديني، كما تصرف عقلها عن الحزن والتفكير في موت أمها، ثم ينقذها الشطرنج مرة أخرى من إدمان المهدئات والمسكرات. وينتهي المسلسل بدعوة للعب تتضمن رسالة لإنقاذ العالم. مثل هذه الرسالة نجدها في فيلم "حارس المرمى The Keeper" 2018، المأخوذ من سيرة حارس المرمى "بيرت تروتمان". يوجهنا هذا الفيلم إلى معركة أخرى لتصفية حساباتنا. ثمة قبيلة أخرى كبيرة يمكن أن ننتمي إليها وحزب آخر أُممي يمكن أن نلعب فيه السياسة. إنها كرة القدم. هنا يمكن للناس أن تغفر لعدوها، الجندي الذي أصبح حارسًا للمرمى فصدَّ من الكرات أكثر مما أطلق من الرصاص، وكرة القدم التي كانت خلاصًا لتروتمان يمكنها أن تكون خلاصًا للشعوب جميعًا. يمكن للحب أن يتغلب على التحامل وللتسامح أن يتغلب على ذاكرة الحرب والسياسة.