دراسات
مصطفى عبد الظاهرمنظور اسلامي مختلف عن الحداثة
2017.09.12
منظور اسلامي مختلف عن الحداثة
لطالما ارتبطت فكرة التحرر بالحداثة الغربية2. فعادة ما يساوي الدارسون بينها وبين العلمنة، والديمقراطية الليبرالية، ورأسمالية السوق الحر– أي بينها وبين الخصائص الأساسية للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات الغربية المعاصرة، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا:
«ترتكز الحداثة بشكل أساسي على فكرة الحرية والاستقلالية...إذ يحتل خطاب التحرر مكانةً مركزيًة في جذر نشأة العصور الحديثة. وترجع أصول هذا الخطاب إلى المساعي من أجل استقلالية النشاط العلمي أثناء ما أُطلق عليه «الثورة العلمية»، وإلى المطالبة بحق تقرير المصير في الثورات السياسية التي مثلتها بشكل نموذجي الثورتان الفرنسية والأمريكية، وكذلك إلى المطالبة بتحرير النشاط الاقتصادي من رقابة الدولة الاستبدادية. اعتُبرت الحرية في كل تلك الحالات السابقة حقًا إنسانيًّا «بديهيًّا» أو «غير قابل للتصرف». ولكن الحرية كذلك دوفع عنها من خلال ما حققته عملية تحرير العقول من نتائج جمعية، وهذا ما ظهر بالتحديد في تعزيز السعي من أجل الحقيقة، وكذلك في بناء نظام حكم يسهم في تأسيسه الجميع، ومن ثَم يتوقف العنف فيه عن أن يصبح وسيلة مشروعة للفعل أو لزيادة «ثروة الأمم».»3
ومن بين كل الظواهر المرتبطة بفكرة التحرر، كانت الحرية السياسية هي الأكثر عرضة للتوظيف. والحرية السياسية تُعرَّف عادة بأنها «تأسيس منظومة حكم ديمقراطية»4. وبينما أضحت «المقرطة/اللبرلة» معيارًا مستقرًا للحياة الحديثة في الفكر السياسي الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر، أصبح من الشائع أيضًا أن ينظر للمجتمعات غير الغربية، لاسيما المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، على أنها غير قادرة على تطوير أساليب مماثلة من الفكر والممارسة السياسية، دون إعادة هيكلة نفسها بمحاكاة النماذج الغربية5.
هذه الرؤية، المستمدة من التقليد الفكري القائم على المركزية الأوروبية في كثير من فروع العلوم الاجتماعية، كان لها تأثير كبير في تشكيل العديد من الخطابات الأكثر ذيوعًا حول العلاقة بين الإسلام والحداثة. وقد تجسدت هذه الرؤية في أطروحتين شائعتين، أولاهما هي «أطروحة العلمنة» والثانية، الأحدث، هي «أطروحة الكالفنية الإسلامية»6.
أحاول في هذه المقالة أن أقدم فهمًا نقديًّا لهاتين الأطروحتين، وأن أقارنهما بمنظور بديل يشار إليه باسم «الحداثات المتعددة»، أزعم أنه أكثر فاعلية في فهم أشكال النزعة الإسلامية التي تظهر في تركيا المعاصرة.
السؤال الرئيسي المطروح هنا هو ما إذا كان المفكرون الإسلاميون قادرين على تطوير مفهومهم الخاص حول الحداثة المؤسسة على التحرر، المستمد من قراءاتهم لأفكار غربية مثل التحررية والاشتراكية، جنبًا إلى جنب مع المصادر الإسلامية مثل القرآن الكريم. وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أي مدى تتلاقى هذه النماذج من الحداثات البديلة مع الحداثة الغربية المعاصرة التي ارتبطت إلى حد كبير بخصائص الرأسمالية والعلمانية والديمقراطية الليبرالية، أو تحيد عنها؟
في هذا السياق، تفحص هذه المقالة الفكر السياسي للعالم الإسلامي إحسان إلياتشيك الذي أثَّرت أفكاره تأثيرًا بالغًا في حركة «مسلمون ضد الرأسمالية» في تركيا7. أحاول هنا إعادة تقييم مزايا مختلف الخطابات حول علاقة الإسلام بالحداثة، وأقدم فكر إلياتشيك كمثال في هذا الصدد. وعلى هذا النحو، أجادل بأن منظور الحداثات المتعددة إطار أكثر ملائمة من حيث مراعاته للفروق الدقيقة بين النزعات الإسلامية المعاصرة، التي لا يمكن أن تُدرس بعد الآن بمعزل عن التفاعل الفكري المتزايد بين المنظرين الإسلاميين والحداثة الغربية، الذي يُبدِّل وجهات النظر الإسلامية للعالم. والمصادر الرئيسية للتحليل في هذا المقال هي مجموع أعمال وخطابات إحسان إلياتشيك.
لسنوات طوال، درس إلياتشيك أفكار الثورة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ودافع عن أن تحرير المجتمعات الإسلامية يكمن في الثورة ضد الحداثة الرأسمالية/الاستهلاكية واستبداد حكوماتها. وقد شاركت حركة «مسلمون ضد الرأسمالية» في مظاهرات جيزي بارك في عام 2013 متأثرة برؤية إلياتشيك للعالم وما أسماه «الإسلام الثوري التحرري». وقد اقتفت شعبية الحركة، وإلياتشيك، أثر مظاهرات جيزي بارك، من ناحية الصعود الطفري السريع في صيف 2013، والتراجع التدريجي منذ ذلك الحين وحتى الآن. ومع ذلك، ورغم تراجع تأثير الحركة، فإن دراسة أفكار هذا المفكر الإسلامي يمكن أن تمثل إضافة للأدبيات في هذا الحقل، بما قدمه إلياتشيك من فهم غير تقليدي للنزعة الإسلامية وللحداثة؛ فهم يسلط الضوء على تنوع الأنماط التي يمكن أن تتخذها النزعة الإسلامية في عصرنا هذا.
لم يسفر الاهتمام الإعلامي الذي لقيه إلياتشيك خلال مظاهرات جيزي بارك عن دراسات مفصلة لفكره في سياق النظرية الاجتماعية، باستثناء عدد محدود من المقالات الصحفية8 التي تركز على خطابه السياسي. ويتيح لنا تحليل فكر إلياتشيك في الدراسة هذه فرصة لإجراء تقييم مقارن لأفكاره التي تتناقض جذريًّا مع مجموعات إسلامية أخرى في تركيا، خصوصًا حزب العدالة والتنمية الذي تبنى رأسمالية السوق الحر وأصبح أشد المدافعين عنها ضراوة منذ صعوده إلى السلطة في عام 2002. وبينما وصف حزب العدالة والتنمية وأتباعه المحافظون تظاهرات جيزي بارك بأنها «حركة عشوائية تهدف إلى زعزعة استقرار تركيا عبر خلق حالة من الفوضى»، بالإضافة إلى «إحياء النزعة الكمالية العلمانية العدوانية» التي سادت في نهاية تسعينات القرن العشرين، اعتبر إلياتشيك مظاهرات جيزي بارك فرصة لعرض نهجه التحرري الذي يختلف عن جميع الكيانات الإسلامية الأخرى في تركيا، وصدَّر نفسه بحماس واحدًا من طليعة تلك الاحتجاجات في الشوارع9.
وباعتباره واحدًا من المفكرين الإسلاميين القلائل الذين شاركوا في احتجاجات جيزي بارك والذين فسروها من خلال خطاب التحرر الذي تشكّل عبر أفكار غربية، فإن رؤية إلياتشيك للعالم تُعد ظاهرة ناشئة في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة مثل المجتمع التركي. فعولمة الفكر السياسي الغربي ومعجمه المهيمن، التي تعبر عن نفسها من خلال مفاهيم مثل التحرر والعدالة الاجتماعية وإرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان، قد نجحت في التأثير على العالم غير الغربي. إلا أن هذا التأثير، في حالة العالم الإسلامي، اختلط بالقيم الإسلامية وبدأ بإنتاج هجائن من الحداثات المختلفة التي تحيد عن النمط النموذجي الرأسمالي الغربي. ويحاول المقال في القسم التالي أن يلخص فرضيات ثلاثة خطابات متنافسة حول علاقة الإسلام بالعلمانية، ثم يقيمها في ضوء النموذج الإسلامي الذي وضعه إلياتشيك.
خطابات حول الإسلام والتحرر والحداثة
حتى أواخر تسعينات القرن العشرين وبداية الألفية، كان الخطاب المهيمن في الأدبيات العلمية حول الإسلام والحداثة هو أطروحتي العلمنة والكالفنية الإسلامية10. لكن الإطار المفهومي الذي قدمته فكرة الحداثات/النزعات الإسلامية المتعددة نافسهما خلال السنوات الأخيرة وأنتج عددًا متزايدًا من وجهات النظر البديلة11.
يعد ماكس فيبر12 أكثر العلماء تأثيرًا في كل من الأطروحتين السابق ذكرهما، سواء أطروحة العلمنة أو فكرة الكالفنية الإسلامية. وفقًا لفيبر، فإن التبني واسع النطاق لـ«العقلانية» كأساس للحياة العامة سيؤدي تدريجيًا إلى تأسيس مجتمع حديث. لقد شهدت العديد من الدول الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا أثناء القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي يطلق عليها الآن عصر التنوير، صعود طريقة تفكير تُعلي من شأن «العقل البشري» كمصدر رئيسي للتنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وبناء عليه يطرح فيبر أن النقد المستمر الذي قدمه مفكرو التنوير للتقاليد الاجتماعية والقيم الدينية كان شرطًا أساس في مسار عملية تحديث أوروبا والإنسانية جمعاء. ويعد صعود العقلانية، في مفهوم ماكس فيبر، موازيًا بشكل كبير للعلمنة التي تُعرِّفها الطريقة الوضعية/الكونتية13 بأنها «هزيمة المعتقدات الدينية أمام الأساليب العلمية الحديثة التي لا تعترف إلا بالأدلة التي يمكن ملاحظتها». وتقدم وجهة النظر هذه العقلانية على أنها الخطوة الأولى في مسيرة ولادة وعي جمعي بالتحرر14.
يفترض التيار الرئيسي من الفكر الفيبري أن الدين والتقاليد والروحانية في المجتمعات التي تُسمى بالمجتمعات التقليدية سيتلاشون تدريجيًّا لصالح العقلانية ما أن تتبنى الدول برامج علمنة15. ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن فيبر لا ينظر لكل الاعتقادات الدينية في أرجاء العالم على أنها متطابقة، أو باعتبارها مجرد خرافات عبثية من عصر سحيق. في الواقع، إحدى أطروحات فيبر شديدة الانتشار هي اعتبار البروتستانتية «نظامًا دينيًّا نافعًا» يساهم في تسريع وتيرة التصنيع في مجتمع تحديثي متقبل للرأسمالية.
ويقسّم أنصار أطروحة العلمانية أديان العالم، متأثرين بفيبر، إلى صنفين: الأول هو الصنف النافع بالنسبة للتحديث، مثل البروتستانتية الأوروبية والكونفوشيوسية الصينية والشنتو اليابانية، والصنف الثاني هو الأديان التي يفترض أنها لا يمكن أن تتوافق مع قيم الحداثة مثل العقلانية وحقوق الإنسان والتحرر. وقد ذهب العديد من منظري العلمنة البارزين مثل دانيال ليرنر (Daniel Lerner) ونيازي بيركس (Niyazi Berkes) وديفيد أبتر (David Apter) وبرنارد لويس (Bernard Lewis) إلى أن الإسلام ينتمي إلى الصنف الثاني من الأديان. في هذا السياق كان إرنست رينان صاحب تأثير كبير في تشكيل فرضية أطروحة العلمانية، بزعمه أن طبيعة الإسلام، سواء كعقيدة دينية أو فلسفة سياسية، مختلفة عن الأديان الأخرى «الأكثر دنيوية» مثل البروتستانتية والشنتو اللتان يفترض أنهما تتوافقان بشكل أكبر مع العقلانية16.
يُعرِّف أنصار أطروحة العلمنة مفهوم التحرر، عند دراستهم لدور الإسلام في تحديث المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، على أنه «تحرر المجتمعات المسلمة عبر العلمنة والمقرطة»17. هنا تصف أطروحة العلمنة، التي رسمت معالم الخطاب الغربي، المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، والإسلام بشكل خاص، بأنها مجتمعات «جامدة» لا يمكنها أن تبدأ عملية تغيير عميق من الداخل تشبه التجربة التاريخية التي مرت بها المجتمعات الغربية عبر التنوير والثورات الأمريكية والفرنسية والصناعية:
«ركزت الأحداث الدرامية أنظار الرأي العام على التوترات المحتملة بين العالم الإسلامي والغرب الحديث. هل ستحدث هذه التوترات بسبب اختلافات حقيقية أم بسبب تشوه تصورات كل منهما عن الآخر؟ وبمقارنة الإسلام ببقية أديان العالم يبدو الإسلام أكثر مقاومة للتطور الداخلي، وأقل قبولاً لاحتمالية التغيير، على الرغم من كل محاولات الإصلاح، فهو لا ينتمي بشكل أصيل إلا لحقبة ما قبل الحداثة. ولطالما زُعِم إن الإسلام لم يتعرض قط لإصلاحات كبرى كالتي مرت بها المسيحية ولا مر به طائف من تنوير في يوم ما.»18
ووفقًا لأطروحة العلمنة، يمنع النفوذ الفكري للقيم الإسلامية –ومنها قيمة الطاعة المطلقة لسلطة عليا– المجتمع من بلورة وعي بالفردية الشخصية والتحرر السياسي19. ويدعي العديد من المراقبين أن الإسلام هو نظام اعتقاد «سلطوي» يُعلي من شأن قيمة «الأمة» على حساب الرغبات الفردية والاختلافات الشخصية20. ولذلك يقال إنه من غير الممكن أن يحدث التحرر السياسي في شكله الديمقراطي في السياق الإسلامي. وتخلص أطروحة العلمنة إلى أنه لا يمكن للمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة أن تشق طريقها نحو بناء نظام سياسي ديمقراطي ليبرالي يتيح لها إمكانية التحرر، إلا عن طريق خضوع الحياة الاجتماعية فيها لتحول شامل عبر برنامج علمنة مكثف.
وعلى الرغم من أن الفهم الذي تقدمه أطروحة العلمنة لعلاقة الإسلام بالتحرر قد هيمن على الخطاب العام والعلمي لفترة طويلة، إلا أنه قد تعرض لنقد وتمحيص كبيرين في العقود الثلاثة الماضية من قبل العديد من الدارسين21. وأصبح من الواضح أن هذا الفهم الاختزالي للإسلام والفكر السياسي الإسلامي لم يعد يلقى ترحابًا كما كان الأمر في سابق عهده، على الأقل في الأوساط الأكاديمية. إلا أنه لا يمكن التسليم بأن أطروحة العلمنة قد تراجعت تمامًا، خصوصًا وأن أنصارها لم يفقدوا قدرتهم على التأثير في الرأي العام. ففي الواقع، يمكن أن نقول إن الأفكار السائدة في الإعلام الغربي مستمدة في مجملها من تحيزات عرقية، وأحيانًا من أسس استشراقية صريحة22. كما أدى صعود جماعة «داعش» وعملياتها الإرهابية في عدة مدن أوروبية، مثل باريس وبروكسل وهامبرج ولندن، إلى تكثيف رهاب الإسلام في العالم الغربي، مما أنتج العديد من التعليقات التي تشير إلى أن الإسلام لا يمكن أن يعتبر «حديثًا» لأنه «دين عنيف»23. إذن، من الواضح أن هيمنة أطروحة العلمنة على وسائل الإعلام والحكومات الغربية مازالت مستمرة. ومن ثم، تظل الحاجة إلى تفكيك بنيتها، المبنية على المركزية الأوروبية، ضرورة ملحة في الوقت الراهن.
أما الكالفنية الإسلامية، فقد كانت منذ عام 1980 الخصم الرئيسي لمنظور فهم علاقة الإسلام بالحداثة المبني على أطروحة العلمنة24. يتشابه أنصار أطروحة الكالفنية الإسلامية مع منافسيهم الفكريين أنصار أطروحة العلمنة25 في اعتمادهم أيضًا بشكل كبير على كتابات ماكس فيبر. إلا أنه في حين يضع منظرو العلمنة الإسلام في الفئة التي سماها فيبر بـ«المعتقدات المضادة للتحديث»، يذهب منظرو الكالفنية الإسلامية إلى أن خصائص الإسلام تتشابه مع ما دعاه فيبر بـ«المعتقدات المتقبلة للتحديث» مثل البروتستانتية والكونفشيوسية26. وبالتالي يحاول منظرو الكالفنية الإسلامية أن يقلبوا أطروحة العلمنة رأسًا على عقب مدّعين أن الإسلام في الواقع دين يُعزز قيم الحداثة الرأسمالية المعاصرة مثل النزعة التجارية.
وبناءً على ذلك، لا يُعد القرآن معاديًا للتحديث أو سلطويًا أو مناهضًا للرأسمالية كما تدعي أطروحة العلمنة، بل هو في جوهره كتاب مقدس يُعلي من قيمة الخدمة العامة التي يؤديها التجار، مثل النبي نفسه27. فلا يجب أن يكتفي للتجار والرأسماليون بأن يكونوا مؤمنين صالحين فقط، بل إن نشاطهم التجاري أمر ضروري لبناء مجتمع إسلامي مزدهر28. ومن ثم، يعيد منظرو الكالفنية الإسلامية وصف الإسلام بأنه «دين داعم ومتقبل للرأسمالية». إذ تتناسب قيمه بشكل كبير مع التحديث السريع للعالم الإسلامي عبر تحوله إلى التصنيع. ويخلص خطاب الكالفنية الإسلامية إلى أنه بمجرد أن يتطور المجتمع الإسلامي اقتصاديًا وتبرز ما تسمى بالطبقات الرأسمالية الإسلامية المحافظة، فإن هذا المجتمع سيكون جاهزًا للتحرر، أي جاهزًا لأن يصبح مجتمعًا ديمقراطيًا يكتسب المزيد من الحرية السياسية. ويُفهم التحرر، في هذا السياق، على أنه نتاج تأسيس رأسمالية مبنية على السوق الحرة داخل المجتمع المسلم.
وعلى العكس من أطروحة العلمنة، يذهب خطاب الكالفنية الإسلامية إلى أنه من الممكن للمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة أن تؤسس أشكال حداثتها الخاصة دون أن تتبع بالضرورة تجربة العلمنة الغربية خطوة بخطوة29. ومن وجهة النظر هذه تحل فكرة أخرى محل ضرورة العلمنة وهي حتمية النمو الرأسمالي. لقد اصطبغت كلتا الأطروحتين بالنزعة المركزية الغربية، إذ تقبل كل منهما فكرة «الانتشارية» بلا مُساءلة؛ وهي الاعتقاد بأن الحياة الحديثة قد انبثقت تاريخيًا من الغرب الأوروبي، وأن هذا التنظيم السياسي والاقتصادي الاجتماعي سيتوسع تدريجيًّا للخارج إلى ما يُسمى «بالأطراف الأقل تقدمًا» وهي بقية أجزاء العالم. وفي نهاية المطاف، فمن المفترض أن انتشار القيم الغربية سيخلق حضارة عالمية موحدة تحذو حذو المثال الأوروبي الغربي والأمريكي الشمالي.
وبينما تتوقع أطروحة العلمنة أن يصبح العالم الإسلامي حديثًا من خلال برامج علمنة مكثفة مثل برنامج التحديث الأتاتوركي في تركيا في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين؛ تصف الكالفنية الإسلامية أية حركة اجتماعية أو نظام اقتصاد سياسي غير متقبل للرأسمالية بأنه «مضاد للتحديث» أو «رجعي». وتتوقع أطروحة الكالفنية الإسلامية من المجتمعات الإسلامية أن تظهر ولائها للقيم الرأسمالية، لإثبات تقاربها مع أفكار التحرر والحداثة.
أما اليوم، فيواجه فهم النزعات الإسلامية عبر الخطابين المهيمنين تحٍد كبير من نموذج الحداثات المتعددة. هذا المفهوم يرى أنه لا العلمانية ولا الرأسمالية شرطان أساسيان للحداثة30. ويرفض نموذج الحداثات المتعددة فهم أفكار الحداثة والتحديث فقط في ضوء التجربة التاريخية الغربية. فربما تُظهر مكونات الحداثة تشابهًا من حيث مؤسساتها السياسية ومستويات تطورها الاقتصادي عبر أرجاء العالم. إلا أنه من المعتاد، أو من الطبيعي، بالأحرى، أن تختلف الحداثة وفقًا لاختلاف القيم الثقافية والدينية عبر المجتمعات31. فبينما تشهد المجتمعات تغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة في رحلتها نحو الحداثة، أي خلال برامج التحديث، تطور سمات متباينة وطرق مختلفة لفهم الحداثة. ويلاحظ شمويل آيزنشتات32 أنه من أجل فهم طبيعة الحداثة في العالم المعاصر ينبغي للمرء أن يعتبرها ضربًا من «الإصلاح المستمر» وأن يراها «تفاعلاً مستمرًا بين مجموعة متباينة من البرامج الثقافية».
فإن كان هناك «حداثات» مختلفة كما أن هناك ثقافات وديانات متعددة كما يؤكد نموذج «الحداثات المتعددة»، فلابد أن هناك طرقًا مختلفة لفهم النزعة الإسلامية داخل العالم الإسلامي وخارجه. وهكذا، يشير هذا النموذج إلى أن السياق السياسي والاقتصادي الاجتماعي لكل بلد مسلم، فضلاً عن التفسيرات المختلفة للمصادر الإسلامية مثل القرآن الكريم تُعد الأسباب الرئيسية لظهور مدارس فكرية إسلامية متنافسة وحركات سياسية واجتماعية ذات نزعة إسلامية33. ولهذا يقترح نموذج الحداثات المتعددة أنه بالرغم من أن هناك «إسلام» واحد، توجد «نزعات إسلامية متعددة»، تُعرف ببساطة على أنها طرق مختلفة لفهم الإسلام34.
وتخطيء أطروحات العلمنة والكالفنية بدراسة النظم العقائدية والقيم الاجتماعية/السياسية في مجتمعات مختلفة ذات أغلبية مسلمة وكأنها تمثل «عالمًا إسلاميًّا متحدًا ومتجانسًا». وتتجاهل كذلك، بشكل سيء، الفروق الدقيقة بين التأويلات الإسلامية داخل كل مجتمع وخارجه. في الواقع، انقسمت الأمة، سواء تاريخيًا أو في عصرنا الحاضر، إلى طوائف عدة، مثل: السنة والشيعة، وإلى تعاليم وروابط وأخويات ومدارس فكرية متباينة من حيث الطرق المستخدمة لفهم وتأويل وممارسة النصوص الإسلامية.
وفي هذا السياق، فإن أحد الإسهامات المهمة لمنظور الحداثات المتعددة هو أنه رأى أن الإسلام لا يمكن اختزاله بالقوة في المفاهيم الفيبرية التبسيطية القائمة على تقسيم نظم الاعتقاد ما بين نصير ومعادٍ للحداثة. تمثل معاني المصادر الإسلامية كالقرآن الكريم أهمية كبرى للفهم الحقيقي لطبيعة الإسلام كدين. ومع ذلك، فمن الواضح أيضًا أنه لا يمكن فهم عقلية حركة إسلامية أو جماعة من العلماء إلا عن طريق الدراسة المفصلة لتأويلاتها الخاصة دون الوقوع في افتراض مختزل حول خصائص معينة ترتبط بعموم الإسلام.
كما ذكرت أعلاه، لم تتمكن الأطروحتان المهيمنتان، لفهم علاقة الإسلام بالحداثة، من تجاوز النزعة المركزية الأوروبية والاختزال. ولذلك فهناك ضرورة ملحة للوصول لأطروحة تتفادى المركزية الأوروبية لدراسة الحداثة والتحرر في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة35. ويُمكننا تفكيك الأطروحتين سابقتي الذكر واستبدالهما بنموذج الحداثات المتعددة من استخدام إطار أكثر دقة لفهم تجربة التحديث في المجتمعات غير الغربية بشكل عام، ودور الإسلام في تركيا المعاصرة بشكل خاص. وتقدم الأقسام التالية من المقال موجزًا حول حركة «مسلمون ضد الرأسمالية»، ثم تدرس أعمال إلياتشيك بالتفصيل لتوضيح رؤيته للعالم. وبعد ذلك، تقدم تقييمًا مقارنًا للقوة التفسيرية للخطابات الثلاثة المذكورة آنفًا حول الإسلام والتحرير والتحديث في ضوء فكر إلياتشيك.
منظور إحسان إلياتشيك الإسلامي
حركة «مسلمون ضد الرأسمالية» التي تتكون فقط من بضع مئات من النشطاء المنتظمين وبضع آلاف من المتعاطفين الذين ينضمون إليهم أحيانًا في تظاهراتهم؛ حركة اجتماعية هامشية في تركيا، إلا أن تأثيرها على الخطاب العام أكبر من حجمها بسبب مشاركتها في احتجاجات جيزي بارك في 201336. وغالبية أعضاء الحركة ومتحدثيها الرسميين هم من طلبة الجامعة الشباب الذين يدرسون في الغالب في إسطنبول أو في المراكز الحضرية التركية الكبرى مثل كوجالي وأنقرة واسكي شهير. وعلى الرغم من ذلك، من المهم أن نلاحظ أن الحركة قد أسست العديد من الفروع المحلية في مختلف أرجاء البلاد بعد احتجاجات جيزي بارك في 201337.
لقد تأسست المجموعة في 2011، وشاركت بفاعلية في تظاهرات عيد العمال في الأول من مايو، ونظمت إفطارًا جماعيًّا في شهر رمضان، ولكن يبقى الحدث الأبرز هو مشاركتها في احتجاجات جيزي بارك 2013. وبالنسبة لحركة «مسلمون ضد الرأسمالية»، ولإلياتشيك أيضًا، يعتبر نمط الحياة الذي يسترشد بقيم الإسلام نقيضًا للرأسمالية ولعناصرها الرئيسية مثل اكتناز الثروات والملكية الخاصة والجشع والاستهلاك بلا حد وعدم المساواة في الدخل38. ومن ثم، كان من الطبيعي أن تشارك الحركة في احتجاجات جيزي بارك ضد إدارة حزب العدالة والتنمية التي تمثل بالنسبة لهم حامل لواء الرأسمالية النيوليبرالية في تركيا:
«لقد استخدم حزب العدالة والتنمية الإسلام لإضفاء الشرعية على الرأسمالية، ولا يملك أية رؤية اقتصادية بديلة. وعلى الجانب السياسي؛ لم يغيِّر من ردود فعل الدولة الأساسية، لقد أضاف بعض التغييرات في تفاصيلها فقط. هو كذلك لديه تفسير محافظ ورجعي للإسلام؛ فيتحدث عن الإجهاض وعن شرب الخمر؛ ولكن ليس هناك أي داع للتعامل مع مثل تلك الموضوعات. لا يطلب الإسلام منك التعامل مع مثل هذه الأمور، بل يطلب منك أن تسد الفجوة بين الأغنياء والفقراء.»39
وقبل كل شيء، تسعى الحركة، وإلياتشيك أيضًا، إلى تحدي الحداثة الرأسمالية في العصر الحاضر واستبدالها بنظام جديد يدعونه «دولة العدالة الاجتماعية» التي ستضمن حقوق الإنسان والحرية السياسية والتعددية واحترام حقوق المؤمن وغير المؤمن. ووفقًا لهم، يحتوي الإسلام بالفعل، ومصدره الرئيسي القرآن الكريم، على تلك القيم العالمية الإنسانية، ولا حاجة للحضارة الإسلامية أن تتعلم الإنسانية من المجتمعات الغربية. وعلى الرغم من ذلك، قد يتحالف المسلمون المناهضون للرأسمالية مع مناهضين للرأسمالية من غير المسلمين من أرجاء العالم كافة لتدشين ثورة عالمية ضد «طغيان الحداثة الرأسمالية».40 ويضمن تأسيس نظام اجتماعي اقتصادي وسياسي مبني بحق على قيم القرآن الكريم لقيم دولة العدالة الاجتماعية أن تطبق عالميًّا على المسلمين وغير المسلمين، لأن الحقوق الدنيوية لغير المسلمين قد ضمنها الله أيضًا لهم كما هو مذكور في القرآن الكريم. وبالتالي، فإن الهدف الأسمى للمجموعة ولإلياتشيك لا يقتصر على الإطاحة بالنظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي الموجود في تركيا والعالم الإسلامي فقط، بل يمتد إلى تغيير العالم بأسره.
لقد قاد التركيز الشديد على مفاهيم الخلاص والعدالة الاجتماعية واعتقادهم بأهمية إحداث تغيير اجتماعي عبر الثورة السياسية، العديد من المتابعين إلى وصف الحركة وإليتاشيك بأنهم «مسلمون اشتراكيون»41. لقد تأثرت رؤية الحركة الاجتماعية والسياسية تأثرًا كبيرًا بالفعل بالمفاهيم الاشتراكية، مما أعطى مصداقية للزعم بأن الحركة وإلياتشيك يمثلون مُعادلاً إسلاميًّا تركيًّا لحركة عالمية مناهضة للرأسمالية42. وسأقوم في القسم التالي بمناقشة أوجه التشابه والاختلاف بين حركة «مسلمون ضد الرأسمالية» وبين الحركات ذات الطابع الغربي الاشتراكية/المناهضة للرأسمالية.
وكما يُلاحظ أحد أهم المعلقين؛ يمكن اعتبار حركة «مسلمون ضد الرأسمالية» من بنات أفكار المفكر الإسلامي إحسان إلياتشيك الذي نشر عددًا كبيرًا من المؤلفات على مدار العقدين الماضيين يقدم فيها رؤيته للإسلام43. لكن من المهم أن نضع في الحسبان أن هناك خلافًا متصاعدًا بين إلياتشيك والحركة. لذلك سيكون من سوء الفهم أن نعتبر إلياتشيك زعيمًا أو متحدثًا رسميًّا باسم الحركة. وعلى الرغم من ذلك، تتفق أيديولوجيا الحركة تمامًا، كما توضحها في بيانها التأسيسي وفي عدة مواضع أخرى، مع النموذج الإسلامي المُسمى «الإسلام الثوري التحرري» الذي روَّج له إلياتشيك. وعلى الرغم من الخلاف، يقر أعضاء الحركة في مواضع كثيرة بالدور التأسيسي الذي لعبه إلياتشيك في تشكيل رؤيتهم للعالم44. ويبدو أن الخلاف بين الحركة ومفكرها نابع من المعارضة القوية من أعضاء مؤثرين بالحركة لوجود «قائد كاريزمي رمزي»، ولاختلاف الرؤى حول الطرق المستخدمة لنشر رسالة الإسلام التحرري الثوري. وتصاعدت مؤخرًا تلك الخلافات لتصل إلى درجة أن الحركة قد أصدرت بيانًا عبر موقعها الرسمي على الإنترنت تتهم فيه بوضوح إلياتشيك باستغلال القيم الإسلامية لمصلحته الشخصية45. إلا أن التوافق الأيديولوجي بين الحركة والمفكر يعني أنه برغم الخلاف الدائر ما يزال يمكن اعتبار إلياتشيك هو منشئ هذا النموذج الإسلامي الأصيل في تركيا.
ويتسم منظور إلياتشيك بموقف إصلاحي يدعو لإعادة تفسير القرآن الكريم في ضوء معطيات «العصر الحديث»، بالتحديد احتياجات وظروف الأزمنة المعاصرة46. ويُعرِّف إلياتشيك التحرر على أنه التخلص من قيد الاستغلال الرأسمالي، وأنه نظام اجتماعي اقتصادي عادل مبني على توزيع متساوٍ للدخل وتعددية سياسية مبنية على قبول الآخر والتسامح والاحترام المتبادل47. ويطرح إلياتشيك نموذج الإسلام الثوري التحرري مغلفًا بعناصر من الرؤية التالية: الإسلام، في جوهره، نظام اجتماعي وثوري ديمقراطي مناهض للرأسمالية. وتشير ثورية الإسلام إلى طريقة إحداث تغيير منهجي، وتشير اجتماعية الإسلام إلى سياسة اجتماعية تعاونية تستهدف الرفاهية والرعاية الاجتماعية، وتشير مناهضة الإسلام للرأسمالية إلى أنه نموذج من الاقتصاد السياسي، وتعني ديمقراطية الإسلام سعيه إلى حياة سياسية تعددية.
ويستند الإسلام التحرري والثوري إلى ثلاثة مصادر إسلامية أصيلة حسب إلياتشيك:
1- القرآن الكريم، وخاصة سور الشورى والنجم والإسراء
2- خطبة الوداع
3- وثيقة المدينة (622 م)48
والسمة المشتركة لتلك المصادر هي تكريسها الراسخ للعدالة الاجتماعية والحقوق الأساسية للإنسان، مثل الحق في الحياة والمساواة (الجندرية والعرقية والدينية) ولمبدأ المصلحة العامة. ومن أجل أن يشرح إلياتشيك طبيعة نموذجه الإسلامي يخصص جزءًا كبيرًا من أعماله لتفسير تلك المصادر المفتاحية مع تركيز خاص على ميثاق المدينة لتوضيح فكرة النظام السياسي التحرري. ويمكن اعتبار ميثاق المدينة «دستورًا» للدولة الإسلامية الأولى يهدف في الأساس للحفاظ على السلم وتعزيز التعاون بين جميع الطوائف الدينية والإثنية في المدينة ليشكلوا وحدة سياسية متماسكة. وينص ميثاق المدينة نظريًّا على نظام اجتماعي سياسي تعددي يكفل حرية الاعتقاد والممارسة الدينية لجميع مواطني الدولة الإسلامية، ويؤكد على ضرورة تواجد ممثلين عن كافة الطوائف عند التشاور لحل المشكلات القضائية والسياسية والتفاوض مع الدول الأجنبية49.
ويرى إلياتشيك أن النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي الأمثل يجب أن يؤسس على قيم عالمية، والتي قد وردت في الآيات المذكورة أعلاه من القرآن الكريم، بدلاً عن الاعتماد على القواعد التي تخص المسلمين المؤمنين وحدهم50. ويرى أن الإسلام قد طور طرقًا للتعايش بين المسلمين وغير المسلمين عبر إطار حكم عالمي قابل للتطبيق مما يوفر حقوقًا متساوية للجميع. ويرى كذلك، حسب تفسيره للقرآن، أن هناك أربعة ذنوب فقط تستوجب العقوبة في الدنيا لا الآخرة. هذه الذنوب أو الجرائم هي فقط ما يجب على الدولة أن تعاقب مرتكبها، وهي القتل والسرقة والاتهامات الباطلة والزنا51. ولا ينبغي للدولة أن تنفذ عقوبات على المواطنين في جرائم أخرى، لأن الذنوب الأخرى لا يمكن أن ترقى لمستوى «الجرائم» ويجب أن تبقى بين الإنسان وخالقه. وبالتالي شرب الخمر ورفض الصيام في رمضان أو رفض الحجاب للمرأة أو عدم الالتزام بالصلوات الخمس لا تمثل جرائم لأنها ملزمة فقط بالنسبة للمؤمنين. أما الذنوب الأربعة، على الجانب الآخر، فيمكن تطبيقها عالميًّا على المجتمعات البشرية كافة بغض النظر عن تفضيلاتها الدينية. إن تركيز إلياتشيك على استخدام مفهوم العالمية لتأسيس وتبرير نظام قانوني مثالي أمر جدير بالتأمل، لأنه يكشف عمق ومدى تأثره بالفهم الغربي غير الديني للقانون.
وهناك موضوع آخر جدير بالاهتمام يقدمه إلياتشيك في أعماله الحديثة حول مسألة التحديث/المقرطة في العالم الإسلام ولقائه مع الحداثة الغربية. فهو يرى أن مشكلات المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة لم تظهر فجأة عندما تصادمت تاريخيًّا مع الحداثة الغربية52. لقد كانت الكيانات السياسية الإسلامية، العثمانية والإيرانية والمغولية ضعيفة بالفعل، ومن داخلها، لسببين رئيسيين، هما «عقيدة السلطنة» و«سوء تفسير وتشويه الإسلام». لقد أدى استغلال الإمبريالية الغربية للموارد الاقتصادية والبشرية الإسلامية إلى الإسراع بالانهيار السياسي والاجتماعي والاقتصادي للعالم الإسلامي. ولا يجب أن يكون الرد الإسلامي على تغلغل الحداثة الغربية في المجتمعات الإسلامية هو التبني الكامل للثقافة وللعقلية الغربية، ولا برفضها تمامًا أيضًا ومحاولة الحفاظ على وجود مناهض للتكنولوجيا مثل ما فعلت طائفة «الأميش»5354. بل يجب أن تواجه الحداثة الغربية على أنها «دعوة لليقظة» أو «نعمة إلهية خفية» لإعادة اكتشاف الإسلام الحقيقي وتفسيره الأصلي، الذي هو بالتأكيد نموذج الإسلام التحرري والثوري حسب إلياتشيك55.
ويقدم إلياتشيك نقدًا صارمًا للفهم الشمولي المتحجر للإسلام، أو ما يدعوه بسوء تفسير الإسلام الذي أنتج طالبان والقاعدة وداعش والعديد من الحركات السلفية والنظام الحاكم في المملكة العربية السعودية أيضًا. هي تمثل مجتمعة –في رأيه- طرق فهم غاية في التشوه للإسلام وتقيد الحريات الفردية، وتستغل العمال، وتنتهك العديد من الحقوق الإنسانية الأساسية56. وبناءً على ذلك، فإن ضلال المسلمين بتمسكهم «بعقيدة السلطنة» هو سبب انتهاكهم «للطبيعة الحقيقية للإسلام»:
«لا يرى المسلمون السلطنة، الحكم المطلق لفرد واحد، على أنها فاحشة، لكنهم يرون الديمقراطية كذلك. في الحقيقة إن الفاحشة بعينها هي أن يحكم إنسان آخر بلا رقيب كأنه يحل محل الله سبحانه وتعالى. إن الديمقراطية تثير حساسية البعض لأنها من نتاج الحضارة الغربية التي غزت العالم الإسلامي، لكن السلطنة كانت غربية أيضًا، لأن الخليفة معاوية قد حاكى نظام الإمبراطورية البيزنطية في الحكم ليؤسس لأول سلطنة في الدولة الإسلامية الأولى. ومن ثم، فإن التفسيرات المعاصرة للإسلام هي نتاج لنظام سياسي مشوه استمر لعدة قرون وليست نتاجًا طبيعيًا للإسلام ذاته.. إن الديمقراطية متسقة تمامًا مع طبيعة الإسلام غير المشوهة التي تنبني على خمسة أسس قرآنية: العدل والرقابة والأهلية والشورى والمصلحة العامة.»57
وتُحيل تلك المبادئ الخمسة إلى الأسس التالية في نموذج إلياتشيك الإسلامي؛ لابد من توفر شرط العدل في الحكَّام، ويجب عليهم أن يمارسوا مهامهم تحت رقابة الشعب، وأن يكونوا مؤهلين لأداء مهامهم، ولا تُتخذ القرارات السياسية إلا بالتشاور مع من ستؤثر تلك القرارات على حياتهم في النهاية، ويجب أن تضمن القرارات السياسية الصالح العام. في الواقع، تصف تلك المبادئ نظامًا سياسيًّا يُشبه إلى حد بعيد خصائص الديمقراطيات الليبرالية الغربية. ويخلص إلياتشك إلى أن الحضارة الإسلامية قد أنتجت رؤية سياسية تحررية تسبق ظهور تلك المفاهيم في المجتمعات الغربية بأمد بعيد58. إلا أن سوء فهم القرآن الكريم والمصادر الإسلامية الأخرى مثل ميثاق المدينة قد أدى لعدم إمكانية تحقق النموذج التحرري الثوري الإسلامي على أرض الواقع.
الإسلام الثوري التحرري: حالة هجينة من حداثات متعددة
لا يُمكن تقييم أهمية النموذج الإسلامي لإلياتشيك بالنظر فقط لتأثيره الأيديولوجي على تشكل وصعود حركة «مسلمون ضد الرأسمالية». فيُظهر هذا النموذج الإسلامي، بعيدًا عن عالم السياسة التركية، أنه ليس على المرء أن يعتمد فقط على التبني المباشر للحداثة الغربية ليحصل على منظور إصلاحي للإسلام وفهمه التحرري لنظام دنيوي يستهدف الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. يثبت الإسلام الثوري التحرري أن النزعة الإسلامية متعددة الأبعاد حقًا، حتى داخل مجتمع واحد يغلب عليه الطابع الإسلامي، لأن طريقته في الفهم تتناقض تمامًا مع النزعة المحافظة التي تدعم الرأسمالية التي تحملها جماعات سياسية تركية أخرى مثل حزب العدالة والتنمية. وعلى هذا النحو، تُشكل حالة إلياتشيك تحدٍ للتصورات المصمتة للإسلام التي تتبناها النظريات المتأثرة بالنزعة المركزية الأوروبية.
لقد استندت السرديات الرئيسية التي هيمنت لفترات طويلة على الخطاب العام حول علاقة الإسلام بالحداثة والتحرر على ثنائية: «المسلم الصالح (المقبول)» مقابل «المسلم السيئ (المرفوض)». ويرتبط الأول بالصفات التي يُتصور أنها جزء من الحداثة الغربية مثل مسلم تقدمي وعلماني و/أو متقبل للرأسمالية، بينما يُصَّور الأخير على أنه رجعي، وتقليدي وراديكالي ومتطرف وأصولي ومتعصب59. وبينما ترى أطروحة العلمنة أن الإسلام لا يمكنه أن يبني نماذج تحررية خاصة به بناءً على مصادر إسلامية أصيلة، تقر أطروحة الكالفنية الإسلامية بقابلية الإسلام للتغيير الاجتماعي والتحرر؛ فقط بعد نمو رأسمالي يؤدي إلى ظهور طبقة رأسمالية إسلامية. ومع ذلك، فإن الأساس الفلسفي لأطروحة إلياتشيك والمسلمين المناهضين للرأسمالية مستمد من قراءات في المصادر الإسلامية الأصيلة بدلاً عن المصادر العلمانية. وبالإضافة إلى ذلك، يهدف هذا النموذج إلى الإطاحة بالرأسمالية نفسها بدلاً عن تمثيل المجموعات الرأسمالية أو التعبير عن رؤاها السياسية. وبما أن الأطروحتين الرئيسيتين سابقتي الذكر تفشلان في فهم طبيعة نموذج الإسلام التحرري الثوري فمن الواضح أننا في حاجة مُلحة لوضع مفاهيم جديدة حول معنى الحداثة وعلاقتها بالتحرر وبالإسلام.
يمكن أن يعتبر نموذج إلياتشيك نموذجًا حديثًا بالمعنى غير المتأثر بالنزعة المركزية الأوروبية الذي استخدمه أنتوني جيدنز60. فهو يقدم، أولاً، رؤية تقدمية للمجتمع وللاقتصاد والسياسة تسعى إلى تعزيز الصالح العام بدلاً عن رعاية مصالح جماعة دينية محددة أو طبقة اجتماعية أو أمة. ثانيًا، يشتبك مع الحداثة الغربية المعولمة من أجل أن يقيّم خصائصها نقديًّا ويطمح إلى تطوير نظام دنيوي يزعم أنه يستند إلى قيم إنسانية عالمية. لقد ارتبطت تلك المبادئ، أي التقدمية والعالمية، بالحداثة الغربية حصرًا حتى ظهور نموذج الحداثات المتعددة. وكانت المقاربات الأولى تتجاهل الإمكانات المحتملة في المجتمعات غير الغربية التي قد تمكنها من تطوير نماذجها السياسية والاقتصادية الخاصة. أما هذا التعريف البديل للحداثة فيتوافق مع بنية نموذج الحداثات المتعددة الذي سعى إلى وضعه علماء مثل بيتر فاجنر61 الذي طالما حاول أن يفصل مفهوم الحداثة عن قيم الحضارة الغربية وأن يعترف بإمكانية ظهور حداثات غير غربية تتجاوز المسار الغربي التقليدي الذي تشكل حول السوق الرأسمالي المفتوح والعلمانية والديمقراطية الليبرالية.
ومع طموحها العالمي، ورغبتها في الارتباط بالوعي الجمعي العالمي، والحركات المناهضة للرأسمالية عبر أرجاء العالم، ورؤيتها الداعمة للديمقراطية ولكن المناهضة للرأسمالية، تبقى أيديولوجية حركة «مسلمون ضد الرأسمالية» ونموذج الإسلام الثوري التحرري مثالاً على تلك الحداثة غير الغربية المشار إليها. ومع ذلك، فإن اختلاف تلك الحداثة غير الغربية عن نظام السوق المفتوح الرأسمالي المتصل بالنموذج الغربي وأصالتها لا يعنيان أن الإسلام الثوري التحرري لم يستلهم أية أفكار ناتجة من الحداثة الغربية. في الواقع، يلاحظ إلياتشيك التقارب بين الديمقراطية الليبرالية الغربية (حرية التعبير وحقوق الأقليات والحريات السياسية مثالاً) وبين مبادئ نموذجه الإسلامي62. وفقًا لإلياتشيك، لا يدل هذا التشابه على أن نموذجه يعتبر مُنتجًا من منتجات تأثر تركيا بالغرب، بل يدل على أن المصادر الإسلامية الأصيلة والخطاب الغربي التحرري يتشاركان بعض القيم المستحسنة عالميًا وإنسانيًّا63. وعلى الرغم من أن إلياتشيك يعتمد في تطوير رؤيته للعالم على مصادر إسلامية مُبكرة، إلا أنه يقر أن أفكار الحضارة الغربية ربما تكون قد ساعدت مسلمين مثله على إعادة اكتشاف «الحقيقة الكونية» التي كانت موجودة بالفعل في القرآن قبل اللقاء مع الحداثة الغربية64.
يقدم إلياتشيك مجموعة من الانتقادات الصارمة ضد من يسميهم «الإسلاميين الزائفين المنحرفين» مثل حزب العدالة والتنمية الرأسمالي، وكذلك الحركات السياسية الاشتراكية التركية65. ويتهم الاشتراكيين بعدم احترام قيم المجتمع التركي الراسخة (الإسلام) بتركيزهم على العلمانية أو رفض الدين. ويرفض إلياتشيك ومعه أعضاء حركة «مسلمون ضد الرأسمالية» التحليل الذي يقول إن أصولهم الفكرية تعود إلى كارل ماركس أو مفكرين ماركسيين بارزين آخرين66. وبدلاً عن ذلك يؤكد إلياتشيك مرارًا أنه استوحى أفكاره من مفكرين إسلاميين مثل علي شريعتي ومحمود الطالقاني67. ويمكن أن نرى ذلك على أنه محاولة برجماتية من إلياتشيك يود من خلالها أن يقدم نفسه للمجتمع التركي على أنه «إسلامي حقيقي» يعتمد فقط على مصادر وأفكار إسلامية ترجع لمفكرين مسلمين مثل الطالقاني، لأنه يرى أن التبني غير النقدي للأفكار الغربية أمر إشكالي إلى حد بعيد عند الحركات الاشتراكية/العلمانية التركية.
هناك اختلافات رئيسية بين نموذج الإسلام التحرري الثوري وبين الاشتراكية على النمط الغربي على المستوى النظري. فالأول يستند في تأسيسه على مصادر إسلامية بحتة بدلاً عن عمل كارل ماركس الرئيسي رأس المال أو أعمال مفكرين ماركسيين بارزين آخرين مثل أنطونيو جرامشي وروزا لوكسمبورج ولويس ألتوسير. وعلى الرغم من ذلك، فهناك العديد من أوجه التشابه أيضًا. لقد تم إدماج العديد من فروع التيار الإسلامي التركي الرئيسية في الاقتصاد النيوليبرالي العالمي مثل حركة «مللي جوروش» وفروعها مثل حزب العدالة والتنمية، وأصبحت رأسمالية تمامًا مع الوقت68. وعلاوة على ذلك، فمع تطور «التركيبة الإسلامية التركية» منذ سبعينات القرن العشرين فصاعدًا، وضعت الحركات الإسلامية نفسها على يمين الحياة السياسية التركية اعتمادًا على تبنيها للقومية التركية مخلوطة بالاتجاه الاجتماعي التقليدي المحافظ69. وعلى العكس من حزب العدالة والتنمية والحركات الإسلامية المحافظة الأخرى يتبنى إلياتشيك خطابًا وعظيًّا يتسم بالعالمية وأيديولوجيا التعدد الثقافي ويسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية للإنسانية جمعاء، بمن فيها غير المسلمين بدلاً عن الاقتصار على السياق التركي وحده. على الأقل على مستوى الخطاب، يبدو إلياتشيك متقبلاً للمطالب السياسية للأقليات الإثنية والدينية في تركيا مثل العلويين والأكراد وهو ما يميز فكره عن النزعة الإسلامية القومية. كما يحاول أن يؤسس لأرضية مشتركة مع الحركات اليسارية التركية والكردية في البلاد مثل حزب الشعب الديمقراطي70.
ويشبه موقف إلياتشيك النظرة العالمية التي يحملها النقد الاشتراكي للنظام الرأسمالي العالمي الذي تجلى في السنوات الأخيرة في حركات مثل «احتلوا وول ستريت» في الولايات المتحدة عام 2011، وانتفاضات إسبانيا عام 2011 ضد التقشف والتي وقعت في ميدان بويرتا ديل سول، وحركة يونيو في البرازيل في 2013 71. واجتذبت الحركات المناهضة للرأسمالية الاهتمام الإعلامي العالمي عبر احتجاج جماهيري نظمته ضد الشركات الكبرى والمنظمة العالمية التي يرونها على أنها الممثل الرسمي للشركات الكبرى (منظمة التجارة العالمية) فيما سُمِّي «بمعركة سياتل» في مدينة سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 199972. وعلى غرار تظاهرات سياتل، يدين إلياتشيك دور الشركات في النظام الاقتصادي السياسي المعاصر متهمًا إياها باستغلال الفقراء على نطاق عالمي واحتكارها للثروة في جميع أنحاء العالم73. وفي أثناء تظاهرات جيزي بارك حمل أعضاء حركة «مسلمون ضد الرأسمالية» وإلياتشيك نفسه لافتات تقول «تسقط الشركات»، و»الملكية لله لا لرجال الأعمال». وفي ذلك الصدد يمكن القول إن إلياتشيك والحركة يسيرون على نفس نهج مفكرين ماركسيين بارزين مناهضين للرأسمالية من أمثال ناعومي كلاين74.
«لتحقيق الفردوس الأرضي» سيتم جمع كافة الممتلكات وإعادة توزيعها وفقًا للنظام السياسي الذي يروج له إلياتشيك. إن الطريقة المعتمدة للثورة في الإسلام الثوري التحرري ولتحقيق الأهداف النهائية مثل العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة وخلق مجتمعات لا طبقية متساوية تتشابه مع الطريقة المعتمدة في الحركات الماركسية المعاصرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا، وبصرف النظر عن الاختلافات التي ترجع إلى مصادر الفكرين؛ هناك حالة من الاتساق الوثيق بين رؤى العالم عند الماركسيين المناهضين للرأسمالية وعند نموذج الإسلام الثوري التحرري. يتضح هذا جليًا من خلال الممارسة، حتى وإن كان إلياتشيك قد طور فهمه للنزعة الإسلامية والثورة كليًّا عبر مفكرين إسلاميين مثل شريعتي والطالقاني دون أن يستلهم القراءات الغربية للماركسية؛ فمن المعروف أن هؤلاء المفكرين الإسلاميين خصوصًا قد تأثروا بالمفاهيم الماركسية75.
لقد رفض الطالقاني وشريعتي، تمامًا مثل إلياتشيك، أن يُعرف أنهما قد تشكلا عبر الماركسية، وقدما نماذجهما على أنها نماذج حكم إسلامية أصيلة. لكن من الواضح أن مثل تلك الادعاءات لا تخرج عن كونها براجماتية بحتة، لما للماركسية من سمعة سلبية بين الجمهور المسلم، ولأن فهم النزعة الإسلامية عند المفكرين الإسلاميين أنفسهم متأثر أيضًا بالمفاهيم الغربية حول السياسة والمجتمع والاقتصاد. لذلك، فإن الرؤية التي يقدمها إلياتشيك والحركة ليست «أصيلة» تمامًا، إلا أنها لا تتبنى الحداثة الغربية على نطاق واسع. في الحقيقة، هذه الرؤية هي رؤية هجينة من حداثات متعددة ظهرت من المقابلة الفكرية بين الغربي واللاغربي76.
وبصرف النظر عن التأثير الأيديولوجي وأوجه التشابه، يُمكن أن يُنظر إلى ما يسمى بالإسلام الثوري (devrimci) والتحرري (özgürlükçü) كما هو باللغة التركية على أنه دليل على التفاعل بين نموذج إلياتشك وبين المعجم اللغوي الماركسي. ويرجع ذلك إلى أن استخدام هذين المصطلحين كان مألوفًا منذ فترة طويلة بين مختلف الجماعات الاشتراكية العلمانية في تركيا، بينما لم تستخدم أية حركة إسلامية تركية، ما عدا حركة «مسلمون ضد الرأسمالية»، هذين المصطلحين، إذ تميل الحركات الإسلامية في تركيا لاستخدام الكلمات ذات الأصل العربي. فالمصطلح الأول «devrimci» استخدمه الحزب الشيوعي الثوري في تركيا وحزب العمال الثوري حصرًا، أما الثاني «özgürlükçü» فعادة ما يُستخدم في البيانات التأسيسية للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية مثل حزب الشعب الديمقراطي وحزب الحرية والتضامن. وهكذا، فإن المفاهيم التي يستخدمها إلياتشيك في نموذجه الإسلامي تشير إلى محاولة تقاربه مع حركات اليسار «العالمي» بدلًا عن الاقتصار على الأجندة الإسلامية القومية المحلية.
إن استخدام تسميات علمانية/اشتراكية لوسم رؤية إسلامية معتمدة على نصوص الإسلام الرئيسية لتأسيس برنامج تحرري عالمي يخاطب الإنسانية قد يبدو أمرًا متناقضًا. إلا إن ذلك التعقد وتلك التناقضات الداخلية تقدم مثالاً وافيًا للباحثين عن أشكال هجينة من الحداثات غير الغربية التي تتأثر بشكل واضح بأفكار الحداثة الغربية العالمية، إلا أنها ما تزال تمتلك نموذجًا مختلفًا ينأى بها عن كونها مجرد انعكاس للغرب في مرآة عالم غير غربي.
خلاصة
إن نموذج إحسان إلياتشيك يتحدى الخطابات السائدة حول الإسلام والحداثة كافة. لقد تغيرت المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة عبر السنين وشهدت تغييرات عميقة في كل مناحي الحياة من اقتصاد واجتماع وسياسة، حتى من حيث طرقها في تأويل الدين. وحدثت عملية التغير هذه كنتيجة للتفاعل مع الحداثة الغربية، وأيضًا، كرد فعل على مُثُلها ومعجمها اللغوي. واليوم، لم تكن نتيجة هذا التغير ظهور أنماط غربية تمامًا من الوجود في العالم الإسلامي، بل كانت إعادة تشكيل إصلاحية مبتكرة للمعايير والنصوص الإسلامية مثل الإسلام التحرري الثوري.
اختصارًا، تجسد هذه الحالة إمكانية اعتناق أشكال مركبة من النزعة الإسلامية في عصرنا لمزيج انتقائي من مناهضة الرأسمالية والنظرة الاقتصادية الاشتراكية، والفهم الاجتماعي الليبرالي للسياسة، والتأكيد على العدالة الاجتماعية والاستفادة من العناصر العالمية في القيم الإسلامية الراسخة لاجتذاب ليس فقط المسلمين بل وغير المسلمين أيضًا. لقد كانت النظرة العالمية الهجينة التي كرسها إلياتشيك نتيجة للعولمة وللتفاعل مع الحداثة الغربية، بينما يُمكن أن تُرى أيضًا، وفي الوقت نفسه، على أنها نتيجة لتجربة التحديث التاريخية والقيم الإسلامية التي تخص مجتمع بأغلبية مسلمة مثل المجتمع التركي.
هوامش
______
1 نُشر أصل هذه الدراسة في:
AkademikSosyalAraştırmalarDergisi,Yıl: 5,Sayı: 48,Haziran 2017,s. 144-162.
2 HakanYavuz,TowardsanIslamicEnlightenment: TheGülenMovement (NewYork:
OxfordUniversityPress, 2013),andS. Sayyid,RecallingtheCaliphate: DecolonizationandWorldOrder(London: HurstandCompany,2014);M. KhalidMasud,ArmandoSalvatoreandMartinvanBruinessen,IslamandModernity: KeyIssuesandDebates(Cairo: TheAmericanUniversityinCairoPress, 2009);YıldızAtasoy,Islam’sMarriagewithNeoliberalism: StateTransformationinTurkey(London: PalgraveMacmillan, 2009).
3 PeterWagner,ASociologyofModernity: LibertyandDiscipline (LondonandNewYork: Routledge, 1994) p.5.
4 PeterWagner,ASociologyofModernity: LibertyandDiscipline,p.5.
5 لدراسة مفصلة حول النزعة المركزية لدى الحكومات والمؤسسات الغربية، انظر:
StefanBorg,TheArabUprisings,theLiberalCivilizingNarrativeandtheProblemofOrientalism,2016,MiddleEastCritique,vol.25,no.3;JeremySalt,ContainingtheArabSpring,Interface,vol.4,no.1,2012;GovandAzeez,WesternNotionsofMiddleEasternRevolutions: CounterRevolutionaryDiscoursefromMahditotheArabSpring,inB. Clark,A. GhafarandJ.Mortiz (eds.) TheContemporaryMiddleEast: RevolutionorReform(Melbourne: MelbourneUniversityPress,Hollis, 2012),pp.64-86.
للاطلاع على دراسة مفصلة للمركزيةالأوروبيةلوسائل الإعلام الغربية الرئيسية السائدة مثل الإيكونوميست وفورين أفيرز والجارديان أنظر:
StevenSalaita,CorporateAmericanMediaCoverageofArabRevolutions: TheContradictoryMessageofModernity,Interface,vol.4,no.1;MagidShihade,CristinaFlesherFominayaandLaurenceCox,TheSeasonofRevolution: TheArabSpringandEuropeanMobilizations,Interface,Vol.4,no.1;KarimMalak,andSaraSalem,Re-OrientalizingtheMiddleEast: ThePowerAgendaSettingPost-ArabUprisings,MiddleEast–Topics&Arguments (META),vol.4.
6 حول أطروحة العلمنة يُراجع على سبيل المثال:
NiyaziBerkes,TheDevelopmentofSecularisminTurkey (Montreal: McGillUniversityPress;Apter (1965);DanielLerner,ThePassingofTraditionalSociety: ModernizingtheMiddleEast (Glencoe: FreePress, 1958)
وحول أطروحة الكالفنية الإسلامية، انظر:
Atasoy”Islam’sMarriagewithNeoliberalism”;NilüferGöle,MelezDesenler: İslamveModernlikÜzerine(Istanbul: MetisYayınları, 2000);Yavuz “TowardsanIslamicEnlightenment”.
7 من الجدير بالذكر أن هناك نزاعًا مستمرًا بين إلياتشيك وحركة «مسلمون ضد الرأسمالية»، فالحركة تتهم إلياتشيك علانية «بالتعاون مع الطبقة الرأسمالية من أجل مصالحه الخاصة» ولكي «يصبح هو أيضًا رأسماليًّا». ومن ناحية أخرى، يدين إلياتشيك الحركة لما اعتبره «خيانة لقيم الإسلام المناهض للرأسمالية». لذلك لا يجب أن ننظر إلى إلياتشيك على أنه زعيم الحركة، ولكنه مجرد جذر فكري لها. لمزيد من التفاصيل:
TimeTurk (2013).
8 باستثناء واحد وهو دراسة:
Damar,Erdem (2014). “ComplexitiesoftheSecular/IslamicDivideandMultipleSecularismsinTurkey: TheAnti-CapitalistMuslimsinthe‘GeziPark’Protests”,StudiaSociologiaVI,no.1.
الذي يستخدم طريقة نظرية شديدة الأصالة. انظر أيضًا:
TahirAbbas,andIsmailHakkiYigit“ScenesfromGeziPark: Localisation,NationalismandGlobalisationinTurkey”,City,vol.19,no.1;AhmetÖncü,“TurkishCapitalistModernityandtheGeziRevolt”,JournalofHistoricalSociology,vol. 2,no.4, 2013.
9 BarçınYinanç,“Anti-CapitalistMuslimLeaderSaysGeziYouthWantNewApproachtoIslam”,HurriyetDailyNews, 22 July. http://www.hurriyetdailynews.com/anticapitalist-muslim-leader-says-gezi-youth-want-new-approach-toislam.aspx?PageID=238&NID=51138&NewsCatID=338 (Accessed: 23 April 2017).
10 OğuzhanGöksel,“InSearchofaNon-EurocentricUnderstandingofModernization:TurkeyasaCaseofMultipleModernities”,MediterraneanPolitics,vol.21,no.2,2016.
هذا القسم الذي يناقش الخطابات المتنافسة حول الإسلام والحداثة مبني في جزء منه على:
OğuzhanGöksel,AssessingtheTurkishModel: TheModernisationTrajectoryofTurkeythroughtheLensoftheMultipleModernitiesParadigm,DurhamThesesSeries (Durham,UK: DurhamUniversity, 2015).
11 PeterWagner,Modernity: UnderstandingthePresent (Cambridge: PolityPress, 2012);Wagner,ASociologyofModernity;ShmuelN. Eiesenstadt,MultipleModernities,Daedalus,vol.129,no.1;Eliaçık,R. İhsan (2015);Sosyalİslam: DininDireğiPaylaşımdır (Istanbul: TekinYayıncılık, 2000);Göle,MelezDesenler;AlevÇınar,Modernity,Islam,andSecularisminTurkey: Bodies,Places,andTime(Minneapolis: UniversityofMinnesotaPress, 2005);EsraÖzyürek,NostalgiafortheModern: StateSecularismandEverydayPoliticsinTurkey (Durham: DukeUniversityPress, 2006).
12 MaxWeber,TheProtestantEthicandtheSpiritofCapitalism(London: AllenandUnwin, 1930).
13 - نسبة إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الوضعي أوجست كومت. [المترجم]
14 Sayyid,RecallingtheCaliphate,pp. 4-10.
15 FredericVolpi,PoliticalIslamObserved (London: HurstandCompany, 2010) pp. 69-75.
16 Masudetal,IslamandModernity,p. 4.
17 ElieKedourie,DemocracyandArabPoliticalCulture (Washington: WashingtonInstituteforNearEastPolicy,1992).
18 Masudetal,IslamandModernity,p. VI.
19 BernardLewis,WhatWentWrong?WesternImpactandMiddleEasternResponse(London: Phoenix, 2002);JavaidSaeed,IslamandModernization: AComparativeAnalysisofPakistan,EgyptandTurkey (Westport: PraegerPublishers, 1994).
20 Lewis,WhatWentWrong;SamuelP. Huntington,WillMoreCountriesBecomeDemocratic,PoliticalScienceQuarterly,vol. 99,no.2.
21 AykutKansu,1908 Devrimi (Istanbul: İletişimYayınları,1995);İbrahimKaya,SocialTheoryandLaterModernities: TheTurkishExperience (Liverpool: LiverpoolUniversityPress,2004);Çınar,Modernity,Islam,andSecularisminTurkey;Özyürek,NostalgiafortheModern;JennyWhite,MuslimNationalismandtheNewTurks(Princeton: PrincetonUniversityPress, 2013);Yavuz,TowardsanIslamicEnlightenment.
22 Salaita,CorporateAmericanMediaCoverageofArabRevolutions;Shihadeetal,TheSeasonofRevolution;MalakandSalem,Re-OrientalizingtheMiddleEast.
23 TheEconomist,TerrorandIslam: AftertheAtrocities (2015, 17 January)
24 DaleF. Eickelman,andJamesPiscatori,MuslimPolitics (Princeton: PrincetonUniversityPress, 1996);ValiNasr,TheRiseofIslamicCapitalism (NewYork: FreePress, 2010);White,MuslimNationalismandtheNewTurks;Yavuz,TowardsanIslamicEnlightenment;AlperÇakmak,SecularismLost,SecularismRegained: SecularizationinthePracticeofCulturalIslam,ASOSJournal: TheJournalofAcademicSocialScience,vol. 2,no.1, 2003.
25 من أجل مناقشة لخطاب الكالفنية الإسلامية في سياق التغييرات الاقتصادية السياسية في تركيا في السنوات الأخيرة انظر:
Çakmak,SecularismLost,SecularismRegained.
وعلى غرار أطروحة الكالفنية الإسلامية يُشير تشاكماك إلى أن التطور الرأسمالي في تركيا بعد 1980 قد «رَوَّض» الميول الثورية عند الإسلاميين وصبغ قيم الحداثة العلمانية العالمية بصبغة محلية»Çakmak (pp. 101-105).
26 Yavuz,TowardsanIslamicEnlightenment;BryanS. Turner,CapitalismandClassintheMiddleEast: TheoriesofSocialChangeandEconomicDevelopment (London: HeinemannEducationalBooks, 1984);NiklasLuhmann,ReligiousDogmaticsandtheEvolutionofSocieties(NewYork: Mellen, 1984).
27 SabriF.Ülgener,DarlıkBuhranlarıveİslâmİktisatSiyaseti(Ankara: MayaşYayınları, 1984);ErolGüngör,İslam’ınBugünküMeseleleri (Istanbul: ÖtükenYayınlar,1991).
28 Yavuz,TowardsanIslamicEnlightenment;Güngör,İslam’ınBugünküMeseleleri;
29 Göksel,InSearchofaNon-EurocentricUnderstandingofModernization.
30 Wagner,Modernity.
31 Eiesenstadt,MultipleModernities.
32 Eiesenstadt,MultipleModernities.
33 Wagner,Modernity;Kaya,SocialTheoryandLaterModernities.
34 Göksel,InSearchofaNon-EurocentricUnderstandingofModernization.
35 ولتفصيل حول تزايد الاحتياج إلى مقاربة تتفادى النزعة المركزية الأوروبية لدراسة القضايا الخلافية مثل علاقة الإسلام بالحداثة، انظر:
KamranMatin,RecastingIranianModernity: InternationalRelationsandSocialChange (London: Routledge, 2013);KaterinaDalacoura,Islam,LiberalismandHumanRights (London: I. B. Tauris, 2007)
36 MustafaAkyol,WhyTurkeyHas‘Anti-CapitalistMuslims,Al-Monitor, 18 July(2013).
http://www.al-monitor.com/pulse/tr/originals/2013/07/turkey-anti-capitalist-muslimsgezi-social-justice-activism.html# (Accessed: 23 April 2017).
37 AlpkanBirelma,AntikapitalistMüslümanlarGrubuÜyeleriyleSöyleşi,Birikim,vol. 293(September. 2013),pp. 61-76.
38 AntikapitalistMüslümanlar (2012);“Manifesto”,http://www.antikapitalistmuslumanlar.org/;R. İhsanEliaçık,İslamveDevrimTeorisi (Istanbul: DoğuKitabevi, 2013);R. İhsanEliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam (Istanbul: TekinYayıncılık, 2014).
39 Yinanç,Anti-CapitalistMuslimLeaderSaysGeziYouthWantNewApproachtoIslam.
40 AntikapitalistMüslümanlar,Manifesto.
بالطبع، ليس إلياتشيك هو المفكر الإسلامي الوحيد الذي ناقش العلاقة بين القيم الإسلامية والرأسمالية وقضية «استغلال العمال»، للاطلاع على دراسة موجزة حول المقاربات الإسلامية للرأسمالية ومفهوم العمل، انظر:Sırım (2016).
41 Akyol,WhyTurkeyHas‘Anti-CapitalistMuslims
42 CihanTuğal,ResistanceEverywhere: TheGeziRevoltinGlobalPerspective,NewPerspectivesonTurkey,2013,vol. 49.
43 CihanTuğal,ResistanceEverywhere: TheGeziRevoltinGlobalPerspective,NewPerspectivesonTurkey,2013,vol. 49.
44 Birelma,AntikapitalistMüslümanlarGrubuÜyeleriyleSöyleşi
45 AntikapitalistMüslümanlar (2015);“DindenParaKazananlarÜzerineCumaHutbesi”. 20 June
20. http://antikapitalistmuslumanlar.com/cuma-hutbeleri/20-haziran-2014-cumahutbesi/ (Accessed: 23 April 2017).
46 Eliaçık,İslamveDevrimTeorisi;Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam;
47 Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam,p.12.
48 وقد صاغ النبي وثيقة المدينة في عام 622 م، وتتألف الوثيقة من اتفاق بين مختلف الفرق التي عاشت في المدينة المنورة من مسلمين ومسيحيين ويهود، وتعتبرهم جميعًا جزء من «الأمة» وتؤسس لدولة إسلامية تعددية تتخذ من المدينة مركزًا لها. [ويُشار إلى تلك الوثيقة في المصادر الإسلامية المبكرة بالصحيفة أو الكتاب، ويُشار إليها في المصادر الإسلامية الحديثة بدستور المدنية – المترجم]
49 Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam,p.12.
50 Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam;Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam.
51 Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam,p.13.
52 Eliaçık,İslamveDevrimTeorisi
53 Eliaçık,İslamveDevrimTeorisi,pp. 199-221.
54 طائفة مسيحية ترفض الانخراط في طرق العيش الحديثة وتؤمن بالانعزال. المترجم.
55 Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam,pp.63-65.
56 Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam,pp.179-199.
57 Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam,pp.15-16.
58 Yinanç,Anti-CapitalistMuslimLeaderSaysGeziYouthWantNewApproachtoIslam.
59 Sayyid,RecallingtheCaliphate,pp.4-5.
60 AnthonyGiddens,TheConsequencesofModernity (Cambridge: PolityPress, 1990).
61 Wagner,Modernity.
62 Yinanç,Anti-CapitalistMuslimLeaderSaysGeziYouthWantNewApproachtoIslam.
63 Eliaçık,Sosyalİslam.
64 Eliaçık,DemokratikÖzgürlükçüİslam,pp. 24-42.
65 Yinanç,Anti-CapitalistMuslimLeaderSaysGeziYouthWantNewApproachtoIslam.
66 Birelma,AntikapitalistMüslümanlarGrubuÜyeleriyleSöyleşi;Eliaçık,Sosyalİslam.
67 Eliaçık,Sosyalİslam,p.10.
68 CihanTuğal,IslamisminTurkey: BeyondInstrumentandMeaning,Economyand
Society,vol. 31,no.1,2002.
69 TanılBora,TürkSağınınÜçHali: Milliyetçilik,Muhafazakarlık,İslamcılık( Istanbul:
BirikimYayınları, 2002)
70 Eliaçık,Sosyalİslam.
71 SinemKutlu,NeoliberalizmveSonrası: MakroİktisattaDeğişenParadigmalar,ASOSJournal: TheJournalofAcademicSocialScience,vol. 5,no.46,2017.
للاطلاع على دراسة شاملة حول العولمة المناهضة للرأسمالية ومعاداة العولمة والحركات الماركسية المعاصرة يُراجع: Alexander (2010);McNally (2002);Burbach (2001).
72 Harman,Anti-Capitalism.
73 Eliaçık,Sosyalİslam.
74 NaomiKlein,NoLogo (London: HarperCollins, 2000)
75 MehmetÇiftçi,LiberationTheology: AComparativeStudyofChristianandIslamicApproaches,NewBlackfriars,vol. 96,no. 1064,2015;SerdarŞengül,AblutedCapitalism: AliShariati’sCritiqueofCapitalisminHisReadingofIslamicEconomy,StudiesinChristianEthics,vol. 28,no.4,2015.
76 ShmuelN.Eisenstadt,ComparativeCivilizationsandMultipleModernitiesPartIandPartII (LeidenandBoston: Brill,2003).