مراجعات
ماجد وهيبمن القرآن إلى الحديث جورج طرابيشي يرصد التحولات في الإسلام
2021.08.01
من القرآن إلى الحديث جورج طرابيشي يرصد التحولات في الإسلام
في ثورة الخامس والعشرين من يناير رُفعت لافتات كثيرة في ميدان التحرير وميادين أخرى مكتوب عليها "الإسلام هو الحل"، وقتها تساءل كثيرون من المثقفين والمفكرين والكتاب: أي إسلام المقصود؟ هل هو الإسلام الوسطي أم الإسلام السلفي الجهادي؟ إسلام حسن البنا أم الإسلام الصوفي؟ إن مثل هذا التساؤل يخبر عن وجود أكثر من صورة للإسلام. وفي كتابه" من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" يضيف جورج طرابيشي، بما يوحي به العنوان، صورتين آخرتين وهما صورة الإسلام القائم على القرآن وصورة لإسلام قائم على الحديث. وإذا كان لكل كتاب مفتاحه الذي ندخل به إلى أطروحته، فمن الممكن أن نعتبر سؤالاً مثل "هل تتطور الأديان؟" والإجابة عليه بنعم، هما معًا المفتاح لما يريد أن يطرحه علينا المفكر الكبير جورج طرابيشي في كتابه" من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، وهو الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى في عام 2010 عن دار الساقي بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب. وإذا كان الدين، أي دين، هو بمثابة كل، أو مركب بلغة أهل الكيمياء، أو كائن بلغة علم الأحياء، فإن تطور الكل لا بد أن يتم بالضرورة عن تطور للبعض الذي يتكون منه الكل، تتطور العناصر فيتطور المركب، تتطور الخلايا فيتطور الكائن، وعلى ضوء ذلك يستعرض طرابيشي في فصول كتابه عمليات التطور المستقلة في خلايا الدين، أو عناصره، التي أدت في النهاية إلى تطوره ككل، وهكذا يكون هذا الكتاب هو كتاب رصد لتحولات عديدة في الدين الإسلامي.
في الفصل الأول، الذي جاء تحت عنوان «الله والرسول: الشارع والمشرع له»، يبدأ طرابيشي بالتأكيد على أن الله في النص القرآني هو "القائل دومًا والرسول هو المأمور بالقول"، ويذكر تمييز القرآن بين النبي والرسول، وبقدر ما يجعل نصاب الأول المعجزة ونصاب الثاني الرسالة، فإنه يسمي محمدًا في عشرات الآيات رسول الله ولا يسميه في آية واحدة نبي الله، وهذا التمييز حاسم الدلالة في تحديد العلاقة التشريعية بين الله ورسوله، فالله هو الشارع والرسول هو المشرع له. ويستشهد طرابيشي بآيات كثيرة من النص القرآني تقصر وظيفة الرسول على تبليغ الرسالة مثل الآية 67 من سورة المائدة" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته". والآية 114 من سورة طه يوردها طرابيشي دلالة على تحذير النص القرآني للرسول من استباق القرآن أو استعجال الوحي "ولا تعجل القرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علمًا"، كما يورد آيات كثيرة تشترك جميعها في صيغة "ويسألونك.. قل"، وهو يورد مثل هذه الآيات ليخرج إلى نتيجة تؤكد ما بدأ طرحه وهو أن" مثل هذه الصيغة لا تدع مجالاً للشك في أن الرسول لم يكن قائلاً بل مأمورًا بالقول، أو بألا يقول إلا أن يقال له، ولا يجيب عن سؤال إلا أن يجاب عنه.. وهي آيات صريحة تكف يد الرسول عن التشريع حتى في أبسط الأمور. وانطلاقًا من ذلك يفسر طرابيشي لماذا كان الرسول لا يعطي أراء في أمور كثيرة قبل أن يأتيه الوحي، ولعل أشهر هذه الحوادث حادثة الإفك. يتمهل طرابيشي في عرض أدلته، وهي آيات القرآن الكريم، ما لغرض إلا ليصل إلى سؤال ينهي به الفصل الأول وهو كيف حولوا البشر الرسول من مرسل إليه إلى مرسِل ومن مسنون له إلى سان. إنه هنا يضع يده على تغير أول عنصر في المركب، وهو تغير فهم البشر لدور الرسول نفسه من شخص تقتصر مهمته على تبليغ رسالة ومن ثَم فهو مسنون له وليس له أن يكون مشرعًا، إلى مشرِّع وسانّ.
في الفصل الثاني والذي جاء تحت عنوان "من النبي الأمي إلى النبي الأممي"، يناقش طرابيشي تطورًا آخر، وهو يخص تحول الإسلام من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات، ولم يجر هذا إلا لتحول آخر وهو التحول في فهم كلمة أمي ومدلولها، من أمي بمعنى نبي الأميين من العرب، أي الذين ليس لهم كتاب، إلى أمي بمعنى أممي أي إلى الأرض كافة، ويرى طرابيشي أن هذا التحول في فهم المقصودين بالرسالة المحمدية من أم القرى وما جوارها، العرب الناطقين باللغة التي أنزل بها القرآن، إلى العالم كافة بمختلف الألسنة واللغات، إنما حدث اعتمادا على تفسير كلمة الناس في الآية الثامنة والعشرين من سورة سبأ" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون". ففي تأويل هذا الآية يقول الطبري "يقول تعالى جل ذكره: وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة، ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيرًا من أطاعك ونذيرًا من كذبك". إن هذا التحول هو الذي أدى إلى عصر الفتوحات، فالرسالة المبعوثة إلى البشر أجمعين لا بد أن تجد من يحملها، والتحول هذا، التحول من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات، سوف يجعل أصدقاء اليوم أعداء غدًا، ويأخذ طرابيشي مثالاً على ذلك التحول في علاقة المسلمين العرب بالروم، فبعد أن كانوا ـ يستعير هنا تفسير الطبري لسورة الروم وأسباب نزولها ـ إخوانًا وشق على المسلمين هزيمة الروم من الفرس يوم تقاتلوا حتى فرح كفار مكة وشمتوا ولقوا أصحاب الرسول وقالوا لهم: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم، سوف تتغير الأحوال ويصبح الروم هم أنفسهم أعداء مع التحول من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات.
وجرى أيضًا تحول كبير في تعاطي الأئمة الكبار مع النص القرآني أو مع نصوص الأحاديث، ويستكشف طرابيشي هذا التحول بادئًا بمالك بن أنس، والذي خصص له الفصل الثالث وأعطاه عنوان "هامش من الحرية"، ويقول عنه إنه" خلافًا لمن سيأتي بعده ممن سيسعى بأي ثمن وبوساطة العقلنة إلى إغلاق الدوائر، لم يستبعد احتمال وجود تناقض في النصوص سواء كانت أحاديث نبوية أم آثار صحابية.. وطبيعي أن إبقاء باب التناقض في النصوص مفتوحًا يمثل بحد ذاته هامشًا من الحرية في التعاطي معها، ولئن كان مالك يكتفي في غالب الأحيان، وكلما لاحظ تناقضًا في النصوص، بالتوقف وتعليق الحكم، فلنا أن نلاحظ أن موقفه هذا يفتح بدوره هامشًا إضافيًا من الحرية". وإذا وضعنا عنوان الفصل الثالث" هامش من الحرية" جنبًا إلى جنب مع عنوان الفصل الرابع "تكريس السنة"، والذي جاء مخصصًا للإمام الشافعي، سوف نلاحظ الفارق الكبير بين العنوانين وما يوحي به من اختلاف بين الإمامين نفسيهما، فإذا كان مالك قد فتح هامشًا من الحرية، فإن تكريس الشافعي للسنة ووضعه لها موضع الوحي لم يبق أي هامشًا من الحرية عكس ما فعل مالك، ويذكر طرابيشي إنه" بديهي أن الشافعي، المتأخر زمانه نسبيًا، لم يكن أول من عمد السنة وحيًا فلقد سبقه إلى ذلك أهل الحديث.. ولكن رغم وجود متقدمين على الشافعي من أهل العلم سبقوه إلى القول بوحي السنة فإني أقوالهم كانت ستبقى مجرد أقوال متناثرة هنا وهناك لولا أن الشافعي أسسها في جسم نظري متماسك"، ولأن الكتاب" من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، هو كتاب راصد للتحولات في المقام الأول، فهو يرصد ضمنيًّا تحولاً في فهم الثقافة العربية الحديثة للإمام الشافعي ومذهبه، ويتساءل ما بين السطور: من أين راجت في الثقافة العربية صورة عن الشافعي تكرسه مشرعًا للعقل في الإسلام وتضعه موضع من حاول التوفيق بين أهل الحديث وأهل الرأي في حين أنه، من حسب وجهة نظر طرابيشي، قد همش العقل تمامًا؟ واستكمالا لمنهجه في الكتاب يورد طرابيشي آراء من روجوا هذه الصورة عن الإمام الشافعي، صورة الوسطي، مثل أحمد أمين ونصر حامد أبو زيد وغيرهما، يجيب طرابيشي بأن الشافعي وهو الذي" لم يترك للعقل من وظيفة أخرى غير أن يكون قيَّاسًا في الفروع حصرًا على أصول متعالية عليه فإن عدمت الأصول، وليس لها أن تعدم، لم يبق على العقل غير أن يصمت، ومن جهة ثانية يعزز الشافعي مرجعية الأصول وإلزاميتها تعزيزًا غير مسبوق إليه إذ جعل السنة عديلة للقرآن في صدورها مثله عن وحي إلهي"، لا يمكن أبدًا أن يكون وسطيًا أو توفيقيًا بين أهل الرأي وأهل الحديث.
الفصل الخامس أيضًا يوحي، عنوانًا ومضمونًا، برصد تحول يخص مذهب الإمام أبي حنيفة، وهو ليس تحولاً في شخصيته أو في فكره، بل هو تحول في التعاطي مع مذهبه، تحول يرصد كيف حُرّف مذهبه من مذهب لإمام يحسب بقوة على أهل الرأي إلى أمام من أئمة أهل الحديث، من هنا جاء العنوان "أبو حنيفة: من الرأي إلى الحديث"، يرى طرابيشي أن" صفة الرأيية ستظل لاصقة بأبي حنيفة وأصحابه كالوصمة، وسيبقى المتمذهبون بمذهبهم يدفعونها عنهم إلى قرون عدة تالية" ويذكر طرابيشي أقولاً عدة كانت تهاجم أبا حنيفة ومذهبه، نذكر منها على سبيل المثال قول مالك فيه" ما ولد في الإسلام مولود أضر على الإسلام من أبي حنيفة"، وقول الإمام أحمد بن حنبل" ما قول أبي حنيفة والبعر عندي إلا سواء" أمام هذه الهجمات كان طبيعيًا ومنطقيًا أن يحاول أصحاب أبي حنيفة، أنصاره وتلاميذه الذين هم من المفترض أنهم أنصار أهل الرأي، أن يدفعوا مثل هذه التهمة عن أستاذهم، وفي حين كانت النية هي" الدفاع عن صراطية صاحب المذهب"، إلا أن ما جرى هو أن هذه المحاولات كرست بصورة أكبر لأهل الحديث، ومع الوقت جعلت أبا حنيفة من أهل الحديث قبل أن يكون من أهل الرأي.
عن ابن حزم، وتحت عنوان" وثنية النص"، خُصص الفصل السادس من الكتاب، وهنا أيضًا ثمة رصد لتحول، ولكن ليس لتعاطي جمهور مع فكر، وإنما هو رصد لتحول في الفكر نفسه، فحسبما يرى طرابيشي فإن ابن حزم لم يسبقه أحد في تسيد العقل وكذلك أيضًا لم يسبقه أحد في إقالة العقل، وهو هنا يحكم عليه بالازدواجية، حيث بدأ من نقطة وانتهى إلى نقيضها، والنقطة التي منها انطلق هي أوائل العقل، أي أولويته، حسبما يسميها ابن حزم نفسه، ومنها سيصل إلى إقالة العقل، ويرى طرابيشي أن القراءة الغالطة لابن حزم هي التي تزج به في عداد مدرسة عقلانية برهانية، وسبب كونها قراءة غالطة إنها" تقف عند محطة انطلاق ابن حزم في مشروعه الانقلابي: البدء من نقطة الصفر، ولا تتابعه إلى محطة وصوله"، ويخبرنا طرابيشي ضمنيا بتحول آخر في فكر ابن حزم، تحول جعله يبدأ تلميذًا للشافعي وينتهي منقلبًا عليه، وفي ذلك يقول طرابيشي:" وإذا كان الشافعي قد ترك للعقل، من خلال مبدأ القياس، فرجة يتسلل منها إلى النص، فلن يكون لابن حزم من هم يبلغ حد الوسواس سوى سد تلك الفرجة وإعلان بطلان القياس وكف يد العقل إزاء سلطة النص التي لا يجوز أن تعلو عليها سلطة أخرى".
وتحت عنوان" العقل التخريجي" يرصد الفصل السابع تحولاً آخر، لكنه ليس تحولاً محددًا لشخص ما في فكره أو لتعاطي جمهور ما مع فكر بعينه، بل هو تحول في قراءة النصوص نفسها، أية نصوص، تحول ينتج عن قراءة تخريجية، وفي تفسيره لكلمة تخريج يقول طرابيشي" التخريج بتعريف ابن قتيبة، وكما يوحي الاشتقاق اللفظي للكلمة، هي طلب المخرج، وطلب المخرج ضرب من التحايل على اللفظ ليخرج عن معناه الظاهر إلى المعنى الباطني المقصود"، إن مثل هذا التعريف يوحي بقدرة هذه القراءة على تحويل أي نص، ومن هنا جاء القول بأن هذا الفصل يرصد تحولاً آخر، أو بمعنى أدي يرصد الكيفية التي من الممكن بواسطتها أن يتحول النص، ومثل هذه القراءة التخريجية هي القادرة على تطوير أي نص، ومن ثَم فربما تكون هي الكيفية القادرة أكثر من غيرها على تطوير الدين ككل، والأمر هنا لا يخص الإسلام فقط، وإنما يخص الأديان كلها، لأن مثل هذه القراءة التخريجية قادرة على الوجود في أي دين، ومن ثَم قادرة على تطوير النص المقروء ومن ثم الدين ككل. يستفيض طرابيشي في هذا الفصل فينتقل من ابن قتيبة إلى ابن سلامة الطحاوي ثم ابن شاهين ثم ابن موسى الحازمي ويختم الفصل بعبد الوهاب الشعراني.
وإذا كان عنوان الكتاب" من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" فلا بد أن تنتهي رحلته التي تستعرض التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، برصد مرحلة الانتصار للحديث، وهكذا جاء الفصل الثامن والأخير من الكتاب بعنوان "انتصار أهل الحديث" نحن هنا لسنا فقط أمام تحول ديني فقط، لكننا في المقام الأول أمام تحول سياسي، وهو ما يخبرنا به المؤلف ضمنيًّا بذكره لبروز دور العامة، خاصة عامة بغداد الذين استطاعوا للمرة الأولى في التاريخ أن يخلعوا حاكما ويبايعوا آخر، وأما المخلوع فكان المأمون والمبايع هو إبراهيم بن المهدي. من هنا، وبعد تولي المتوكل، كُتب النصر الحقيقي لأهل الحديث. كُتب بداية بتودد المتوكل للعامة وإدراكه لمدى قوتهم، والذي بدوره أدى إلى تودده لأهل الحديث ورد الاعتبار لهم، وهنا يكون التحول سياسي وديني أو لاهوتي في آن واحد، ويمكن ملاحظة تحول آخر في عهد المتوكل وهو التحول إلى صرف الاهتمام في المقام الأول للملك والانشغال عن أمور الدين أو تركها لرجال الدين والفقهاء. ويستشهد طرابيشي بما أورده المسعودي عن المتوكل وبلاطه "لم يكن أحد ممن سلف من خلفاء بني العباس تظهر في مجلسه اللعب والمضاحك والهزل عما قد استفاض في الناس تركه إلا المتوكل، فإنه السابق إلى ذلك.." وبعد المتوكل ينتقل المؤلف إلى ابن حنبل، وهنا يرصد تحولاً آخر وهو التحول إلى فكرة التطويب في الإسلام، وهذا التحول حتم عليه عقد مقارنه بين المسيحية والإسلام، فالمسيحية تعترف بالتطويب وهو إشهار القداسة للقديس، وليس في الإسلام ما يرادف ذلك، وإنما من الممكن فقط أن نجد أولياء وأصفياء وأصحاب الكرامات، والكرامات هي المعيار هنا، وكان التحول المقصود هنا هو في نسب كرامات ومعجزات إلى ابن حنبل. ويقول طرابيشي في ذلك "وتطويب ابن حنبل لم يأت بقرار فوقي وملزم لما دونه بل جاء من خلال الآثار التي تقوم في الإسلام مقام قرارات المجامع الكنسية والتي تنبث انبثاثًا أفقيًّا في مدونات المأثور الديني جميعها وتؤتي مفعولها الإقناعي من خلال التراكم والتواتر"، وهكذا يكون قد جرى تحولاً سمح بدخول التطويب. ولا يتوقف المؤلف عند ابن حنبل فقط، بل يستمر في تتبع من كتبوا انتصار الحديث من النيسابوري إلى الخطيب البغدادي انتهاء بابن الجوزي.
وبعد كل هذا يذكر طرابيشي في الصفحات الأخيرة "أن تغييب القرآن وتغييب التعددية في الإيديولوجيا الحديثية المنتصرة هو المسؤول الأول عن أفول العقلانية العربية الإسلامية وما لم يعد تفتيح ما أغلقته الأيديولوجيا الحديثة من مسام العقل وفي المقدمة منه العقل الديني، فسيبقى الأمل فيما كنا أسميناه رهان تجديد النهضة معدومًا". وإذا كان طرابيشي هنا يطالب بفتح مسام العقل، ويرى ذلك ممكنا وإلا ما طالب به، فإنه في فقرة سابقة وهي الفقرة التي ختم بها الفصل الخامس" العقل لم يحظ قط، وما كان له أن يحظى أصلاً، بنصاب المشرع عند أبي حنيفة ولا عند أي أمام آخر من أئمة الفقه والحديث في الإسلام، بل لعله ما كان ليحظى بهذا النصاب حتى لدى المعتزلة أو الفلاسفة الذين مثلوا السقف الأعلى للعقل في الإسلام، بل ما كان له أن يحظى بمثل ذلك النصاب في أي ثقافة متمحورة حول نص مقدس ونظام معرفي ذا طبيعة دينية" إذا كان هذا هو رأي المؤلف فلا أجد غير سؤال أطرحه في ختام هذه المراجعة لهذا الكتاب المهم، وهو كيف يمكن، وكيف يطالب المؤلف، معترفًا ضمنيًا بإمكانيه حدوث ما يطالب به، وهو فتح مسام العقل؟ إذا كان قالها قاطعًا بأنه لا يمكن للعقل أن يحظى بنصاب في ثقافة تتمحور حول نص مقدس، فكيف سُيفتح مسام العقل؟