رؤى
أسامة ديابمن رأسمالية السوق إلى رأسمالية المعرفة
2017.11.01
تصوير آخرون
من رأسمالية السوق إلى رأسمالية المعرفة
أدى ظهور وتطور وتوسّع ما يسميه الصحفي الإنجليزي بول ماسون برأسمالية المعلومات (info-capitalism) ورأسمالية المعرفة (cognitivecapitalism) إلى اتساع الأنشطة الاقتصادية التي تحدث خارج السوق (ما يمكن أن نسميه معاملات وأنشطة اللاسوق). ومن أوضح الأمثلة على تلك الأنشطة: النشر والبحث والإنتاج الرقمي، وهي كلها مجالات تعمل بشكل متزايد خارج أطر السوق التقليدية، ولهذه الظاهرة بعض الخصائص من أهمها:
أولًا فك الارتباط ما بين العرض والطلب، وهي الفكرة الاقتصادية القديمة التي تعد من أهم أركان اقتصاديات السوق،والتي قامت عليها العديد من النظريات الاقتصادية. فزيادة الطلب على منتج معرفي رقمي لا يؤدي إلى زيادة المعروض منه. يكفي وجود نسخة واحدة من كتاب أو أغنية أو مقالة على الإنترنت ليستهلكها أي عدد من البشر بدون زيادة المعروض منها. التكلفة الحدية في هذه الحالة تساوي صفر، أي أن إنتاج وحدة جديدة من المنتج وإتاحتها للاستهلاك لا يكلف أي شئ.
ثانيًا فك الارتباط بين الطلب والسعر، فحتى المحتوى المغلق غير المجاني لا يتأثر سعره بالطلب عليه. فالمعرفة الرقمية لا تعاني من الندرة بحيث تؤدي زيادة الطلب عليها إلىزيادة في سعرها حتى نحصل على توازن السوق.أنصار اقتصاد السوق يعتمدون في ترويجهم لفكرة كفاءة الأسواق على فكرة التوازن التي لا يستطيع تحقيقها بشكل تلقائي وسريع غير آليات السوق، لأن الدولة عادة ما تكون بطيئة وغير كفؤة في توزيع الموارد وفي الاستجابة للمتغيرات في العرض والطلب. من هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو ما مستقبل اقتصاد السوق في ظل فك هذا الارتباط بين العرض والطلب، وبين الطلب والسعر؟
ثالثًا فك الارتباط بين عناصر الإنتاج (العمل ورأس المال والأرض) من ناحية وعملية الإنتاج من ناحية ثانية.فالإنتاج الرقمي المعرفي حاجته إلىالأرض ورأس المال والعمل مأجور قليلة وفي بعض الأحيان منعدمة. فبالنظر إلى مشروع مثل موسوعة ويكيبيديا نجد أنه يعتمد في أغلبه على العمل التطوعي ولا يحتاج إلى الكثير من رأس المال أو الأرض. لكن لو قرر أصحاب ويكيبيديا بيع هذا المشروع العملاق سيقدر ثمنه بـ2.6 مليار دولار، في حين أن من يعملون فيه بأجر 280 شخصًا فقط (وفقًا لبول ماسون). لك أن تتخيل مشروع لتأسيس موسوعة بهذا الحجم في عصر ما قبل الإنتاج الرقمي، كم كان سيحتاج من عمالة ورأس مال وأرض؟ غالبًا كان من المستحيل إنتاج موسوعة بهذا الحجم وبهذا الكم من اللغات وفقًا لمعايير وقدرات إنتاج العصور السابقة.
رابعًااقتصاد المعرفة هو اقتصاد الوفرة. فحتى الآن مجال الاقتصاد التقليدي يتعامل مع السوق كآلية يعتبرها كفؤة لتوزيع الموارد المحدودة وكآلية أيضا لتلقي الإشارات بشكل مستمر وتلقائي بحيث يتم تعديل الأسعار والإنتاج وفقًا للإشارات القادمة من السوق. لكن كيف ينطبق هذا على منتجات تكاد لا تكلف شيئًا وليس هناك حدود للمعروض منها؟
ماذا يعني كل ذلك؟
من الأفكار المؤسسة في مجال الاقتصاد أن الإنتاج عملية لها عناصر تحتاج إليها: رأس المال والعمالة والموارد الطبيعية. وبالتالي فالمنتج التي تقدمه هذه العملية له قيمة. وتحديد تلك القيمة يقوم إما على نظرية المنفعة الحدية وآلية العرض والطلب في نظريات الاقتصاد الكلاسيكي، أو على نظرية قيمة العمل وفائض القيمة في الفكر الماركسي. لكن هذه النظريات لا تنطبق على الاقتصاد الرقمي المبني على المعرفة، حيث عرض المنتجات غير محدود ومكون العمل منخفض ومحدود. فعمل بضعة أشخاص لبضعة أيام قادر على تقديم منتج يستهلكه مليارات البشر لأي عدد من السنين، وهو أمر كان من المستحيل تخيله في عصر ما قبل ثورة المعلومات.
مثلما أدت اقتصاديات السوق إلى تسليع وتسعير الكثير والكثير من الأنشطة والمجالات الحياتية التي لم تكن سابقًا جزءًا من السوق، كرعاية الأطفال والمهام المنزلية، يستطيع اقتصاد المعرفة الرقمية، وفقا لفرضية ما بعد الرأسمالية الذي يتبناها كتّاب مثل بول ماسون وجيريمي ريفكين، الدفع بالكثير من الأنشطة إلى خارج السوق أو إلى اللاسوق، بحيث يصبح الحصول عليها متاحًا للجميع بدون تكلفة لعدم قدرة السوق على التحكم في المعروض منها وبالتالي تسليعها وتسعيرها كمنتجات.
مثلما تحولنا في الماضي من مجتمعات متجولة تعتمد على الصيد وجمع الثمار، إلى مجتمعات زراعية مستقرة تطورت إلى اقتصاد إقطاعي، ثم إلى اقتصاد صناعي رأسمالي، ثم خدمي رأسمالي، فوفقا لكتّاب مثل بول ماسون وجيريمي ريفكن، يتم التحول الآن إلى الاقتصاد المعلوماتي التشاركي (أو ما بعد الرأسمالي).
من البديهي القول إن هذا التطور المذكور أعلاه ينطبق فقط على المنتج المعرفي الرقمي، لكن بالنسبة للمنتجات المادية الملموسة فالوضع كما هو لن يتغير. لكن وفقًا لريفكين فمن المتوقع أن تؤديشبكات المعلومات والتواصل والمعرفة الرقمية إلى تكلفة حدية تقترب من الصفر ووفرة غير مسبوقة حتى في المنتجات المادية، وذلك بسبب زيادة المكون المعلوماتي بها على حساب مكونات العمل ورأس المال والموارد الطبيعية. ومن ثم فإنه من المتوقع أن يحل في ظل هذا النمط الجديد من الإنتاجالولوج (access) محل الملكيةكمحدد رئيسي لرفاه الانسان. فالقدرة على الوصول للمنتجات وليس تملكها ستكون هي أساس ميكانيزم النمط الاقتصادي والاجتماعي في عصر ما بعد الرأسمالية. ينطبق هذا على منتجات مثل السيارةوالمعرفةوالمنزل، وكلها كانت تعتبر ملكيات خاصة في ظل الأنظمة الرأسمالية التقليدية.
دعونا نلقي نظرة على ما تم تحقيقه بالفعل من قبل اقتصاد المعلومات فيما يتعلق بالبضائع الملموسة.
ماذا أحدث التنظيم الشبكي؟
بالنسبة للأطعمة على سبيل المثال توجد حركة اجتماعية متنامية تطلق على نفسها freeganism، وهي تهدف إلى استخدام العديد من التطبيقات البرمجية والمواقع والخرائط الإلكترونية للحصول على الطعام بشكل مجاني بهدف الحد من مخلفات الطعام ولمحاولة العيش خارج ديناميكيات السوق والأموال. فالكثير من منتجي الطعام يهدرون آلاف الأطنان من الطعام للتحايل على اقتصاديات الوفرة التي تتيحها التكنولوجيا ومن أجل خلق حالة مصطنعة من الندرة. فالمحل التجاري يعلم إنه إن لم يلق بالمخبوزات التي لم تبع في نهاية يوم العمل، فسيؤثر ذلك على المبيعات وهامش الربح في صباح اليوم التالي. ذلك أن عددًا متزايدًا من الزبائن سيذهب للحصول على مكونات إفطارهم مجانًا ليلة قبلها وبالتالي سينخفض الطلب على المنتجات الطازجة في الصباح. والحل؟ إحداث حالة من الندرة المصطنعة عن طريق الإهدار المتعمد أو الحد المتعمد من الإنتاج مما سيؤدي إلى استخدام غير كفء للموارد المحدودة.
الحركات الاجتماعية الجديدة التي سمحت الخرائط والتطبيقات الإلكترونية الجديدة لها بالظهور تسعى للحد من تلك الظاهرة عن طريق إنشاء خرائط إلكترونية عن طريق التعاون الشبكي لتحديد المناطق التي يمكن الحصول فيها على طعام مجاني.هناك العديد من الجمعيات والمنظمات التي تجمع ذلك الإنتاج الزائد وتوفره مجانًا باستخدام التكنولوجيا. وهناك العديد من التطبيقات الشبيهة المعنية بإعادة تدوير المنتجات وتوفيرها مجانًا، وهناك تطبيقات خاصة بمشاركة المنازل والسيارات مجانًا أو مقابل رسوم بسيطة. تتحول هذه الأنماط تدريجيًا إلى حركة اجتماعية أتاحها التطور التكنولوجي الشبكي الهائل الذي شهده عالمنا في العقدين الماضيين.
التبرع والفعل الخيري موجود بالطبع منذ قديم الأزل. لكنه كان معتمدًا على إرادة الأغنياء وعلى الهرمية الهيراركية. لكن التطور التكنولوجي يبشر بانتزاع ذلك الإنتاج الزائد من السوق في حالة لاسوقية عن طريق التعاون الشبكي. صحيح أن المثال الذي سقناه لتونا هو لمنتجات أنتجت داخل السوق، فالأطعمة تم إنتاجها وفقا لمبادئ السوق، ومن ثم يمكن النظر للحركة الاجتماعية الشبكية التي تستخلصه على أنها تتحرك على هامش السوق وتعد امتدادًا ونتيجة له وليست بديلًا له أو مستقلة عنه(فإذا اختفى السوق اختفت تلك المبادرات)، هذا صحيح؛ لكن حتى هذا يتغير بشكل تدريجي أيضًا.
الإنتاج المنزلي والمحلي، وفلسفة توزيعية جديدة
صحيح أنه حتى تستطيع بعض الأنشطة والمعاملات الاقتصادية تجاوز السوق بشكل كلي يتعين على المنتِج أن ينتج بهدف الاستهلاك مجانًا، إذ لا يكفي أن يكونالاستهلاكهو لفائض زائد عن حاجة السوق أو كنتيجة لفعل خيري، فهذه كلها نماذج حتى وإن تم تيسيرها تكنولوجيًا إلا أنها تعتمدعلى السوق. لكن تكنولوجيا المعلومات بدأت تسمح بالإنتاج المنزلي والمحلي على نطاق صغير وبتكلفة حدية شديدة الانخفاض.
فزراعة المنازل والأسطح والطابعات ثلاثية الأبعاد التي تطبع كل شيء، بداية من ألعاب الأطفال الصغيرة مرورًا بالملابس وحتى السيارات والمنازل وتعد بمثابة مصنع صغير متعدد الأغراض، ستخفّض من تكلفة الإنتاج الحدية بشكل درامي، وستتيح تملك أدوات الإنتاج لقطاعات أوسع من السكان.
الماركسية تقول إنالرأسمالية تعتمدعلى انتزاع وسائل الإنتاج من العمال، لكن مروجي نظرية "ما بعد الرأسمالية" يعتقدون بأن أدوات الإنتاج ستعود مرة أخرى للمنزل والورشة بعيدًا عن المصنع كمسرح للإنتاج الرأسمالي، مما سيعطي الأفراد والمجتمعات المحلية الصغيرة اكتفاءً ذاتيًا ومرونة كبيرة واستقلالية عن السوق وآلياته.
وفي أغلب الظن ستكون البرمجيات المشغلة لأدوات الإنتاج تلك مفتوحة المصدر ومجانية. نحن بالفعل نعيش ثورة في البرمجيات المفتوحة المجانية المعتمدة على التعاون الشبكي. من هنا يذهب مبشرو ما بعد الرأسمالية إلى أن أدوات الإنتاج تلك ستؤدي إلى بروز تعاونيات غير رسمية ومتناهية الصغر على مستوى الأبنية والشوارع والمنازل. حتى الطاقة اللازمة لتشغيل أدوات الإنتاج متناهية الصغر تلك من الممكن أن تُنتج على هذا النطاق متناهي الصغر عن طريق خلق محطات توليد من مصادر متجددة على مستوى الأبنية والشوارع والقرى بشكل مستقل عن شبكات الكهرباء القومية. يوجد حاليًا بالفعل العديد من المشاريع التي تهدف إلى جلب الطاقة الشمسية إلى القرى النائية في الهند وغيرها من البلدان التي لا تصلها كهرباء الشبكة القومية عن طريق ما يسمى بالـmicrogrids أو شبكات الكهرباء متناهية الصغر.
البرمجيات الحديثة قادرة أيضًا على تطوير العملية التوزيعية لفوائض الإنتاج الوفير. من الممكن أن نحلّق بخيالنا بعيدًا إلى تصور نموذج لتطبيق يحاكي تطبيق خرائط جوجل لكن للاحتياجات الأساسية. لكن دعنا بداية نرى كيف تعمل خرائط جوجل وكيف تقدم لنا تصورًا دقيقًا عن توزيع الحركة المرورية لمساعدتنا على تحديد الطرق الأنسب والأسرع بشكل آني أو شبه آني. تعمل خرائط جوجل عن طريق جمع معلومات آنية من أجهزة التليفون المحمولة وسرعة حركتها على الطريق، فإذا في جزء ما من طريق ما تم تسجيل حركات بطيئة لحركة الهواتف، يظهر هذا الطريق باللون الأحمر وإذا كانت حركة الهواتف متوسطة يظهر باللون البرتقالي وإذا كانت الحركة سريعة يظهر باللون الأخضر، فبالنظر إلى الخريطة تستطيع قائدة المركبة تحديد أماكن حدوث الازدحام المروري وتفاديها إن أمكن والذهاب إلى الطرق الخضراء التي تتمتع بالسيولة المرورية. يسمح هذا التطبيق بإعادة توزيع الحركة المرورية لتقليل تكدس المركبات في مناطق محددة عن طريق تحويلها بشكل شبكي إلى الأماكن الأقل تكدسًا.
تطوير خرائط شبيهة لإعادة توزيع الطاقة والموارد والفوائض بشكل آني يسمح للمجتمعات والجمعيات والدولة وحتى الشركات بإعادة توزيع وتحويل الموارد بشكل شديد الكفاءة. الحجة الأهم للاقتصاديين المواليين للسوق هو أن السوق أكثر كفاءة من الدولة في تلقي الإشارات والاستجابة السريعة لتلك الإشارات المرتبطة بالنقص أو الفوائض، وذلك عن طريق آلية الأسعار التي تضمن توزيعًا أمثل للموارد ورأس المال. فالأفراد والدولة، وفقًا لأنصار السوق، ليست لديهم القدرة على المعرفة الكاملة التي تمكنهم من اتخاذ القرار السريع والصحيح؛ الأسواق فقط هي التي لديها تلك القدرة. لكن مع التطور التكنولوجي والتدفق الهائل للمعلومات الآنية لن يكون لفكرة السوق ميزة إضافية وسيمكن الاستغناء عنها.حيث أن التكنولوجيا الجديدة تسمح بتلك المعرفة، وستسمح بالتالي بالاستجابة السريعة واتخاذ القرار الصحيح.
على سبيل المثال، سيكون لما يسمى شبكات الطاقة الذكية القدرة على إدارة فترات الذروة عن طريق إطفاء الأجهزة كثيفة استهلاك الطاقة بالتناوب بشكل أوتوماتيكي لا يتطلب تدخل بشري بحيث لا يكون هناك حاجة لتشغيل مولدات احتياطية وقت الذروة لدعم شبكة الكهرباء القومية كما يحدث الآن. الشبكات الذكية أيضًا لا تأتي فقط بالكهرباء إلى المنازل، ولكن لها القدرة على الحصول على فوائض الكهرباء من المنازل، خاصة من محطات منزلية صغيرة لتوليد الكهرباء عن طريق الطاقة الشمسية. هذه الفكرة بدأت بالفعل في العديد من الدول منها مصر، لكن سيتم تعميقها أوتعميمها وستصبح شبكات الكهرباء في المستقبل أكثر تطورًا وتعقيدًا وتشابكًا وستوفر كهرباء ذات تكلفة حدية تقترب من الصفر للمنازل والأعمال والشوارع فيما يسمى، وفقًا لريفكين، بإنترنت الطاقة InternetofEnergy.
مهددات هذا التوقع
يذهب أنصار تلك الرؤية إلى أن التحول من المجتمع الرأسمالي إلى مجتمع المساواة والفوائض والوفرة سيتم بشكل سلمي سلس بدون ثورة عمالية تؤدي لاستحواذ العمال على وسائل الإنتاج، لكن لهذا السيناريو الكثير من المهددات التي غالبًا ما ستحول دون حدوثه.
فعندما تنهار ربحية سلعة ما نتيجة لزيادة الإنتاجية ولتوافرها بأسعار منخفضة جدًا، يميل رأس المال إلى تسليع مجالات لم تكن مسلعة من قبل. مثال لذلك هو التحول الكبير من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد الخدمي والظهور المستمر لخدمات جديدة لم تكن مسلعة من قبل، مثل شركات تقديم خدمات رعاية وتربية الأطفال، ومثل تسليع استخدام الطرق العامة، أو خصخصة خدمات كانت تقدمها الدولة بعيدًا عن اقتصاد السوق، مثل الخدمات الصحية والأمنية والمرافق العامة.
لكن مع الميكنة الزائدة في هذه الخدمات في نمط مشابه لميكنة عمليات الإنتاج، فالاتجاه القائم الآن هو استخراج القيمة من العمل الإلكتروني ذاته عن طريق ما يسمى بتعدين العملات الإلكترونية مثل العملة الرقمية الشهيرة البيتكوين. فهنا استخراج القيمة لا ينتج عن العمل البشري بل عن العمل الحاسوبي الشاق الذي يكون مجالًا جديدًا للاستثمار وخلق القيمة. من الممكن أن نتجه في المستقبل إلى وضع يذهب فيه جزء كبير من العمل غير المستغل بسبب الميكنة إلى صنع النقود مباشرة، وهو أمر أصبح ميسرًا تكنولوجيًا ويحدث بالفعل، إذ أصبح سوق العملات الرقمية يتجاوز الـ80 مليار دولار.
وفقًا للنظرية الماركسية، العمل هو مصدر كل قيمة، وأرباح النظام الرأسمالي ما هي إلا فائض للقيمة التي خلقها العمل. في هذا السياق يرى ماركس الاتجاه إلى الميكنة على إنه تناقض داخل النظام الرأسمالي سيؤدي بهذا الأخير إلى الانهيار عاجلًا أو آجلًا بسبب انخفاض معدلات فائض القيمة. لكن ماذا إذا وجد رأس المال وسيلة لانتزاع القيمة من عمل الماكينات نفسها؟ ماذا إذا تم اختراع خوارزميات تجعل من عمل الآلة نموذج محاكي لعمل الإنسان من حيث خلق القيمة؟ فالزيادة المطردة في حجم الأموال والزيادة المطردة في حجم ما يقابل تلك الأموال من إنتاج، لا يحتاج إلا لزيادة مطردة في أحجام استهلاك السلع الحالية ودخول مجالات جديدة حيز الاستهلاك والتسليع، وهذه مهمة طالما تفوقت فيها الرأسمالية ولها سجل حافل من النجاحات في هذا المجال.
للاقتصاد والقيمة وعمليات التبادل التجاري والنقود بعد اصطناعي تصوري وهمي عادة ما يتم إهماله في النظرية الماركسية بتركيزها على الجوانب المادية. إذ يبدو أن النمط الرأسمالي له قدرة-لا تبدو متناهية حتى الآن- على خلق قيمة جراء الأوهام والأساطير التي تسمح مثلًا ببيع قطعة ملابس بعشرات الملايين من الدولارات فقط لأنها كانت ملك فنان أو فنانة مشهورة، أو وصول سعر بعض وجبات الطعام في بعض المطاعم إلى 20 ألف دولار. تستطيع الرأسمالية الصمود طالما نجحت في الاستمرار في خلق قيم وهمية اصطناعية لمنتجات لا يحتاج إليها أحد احتياج مادي حقيقي، وكذلك إذا نجحت في خلق قيم لثروات ورؤوس أموال افتراضية في معظمها، وهي أيضًا لها سجل حافل من النجاحات على هذا الصعيد.
باختصار، زيادة الإنتاجية عادة ما يصاحبها توسع هائل في الاستهلاك يعوض أي خسارة في هامش الربح عن طريق إنتاج وبيع المزيد من الوحدات للحفاظ على معدلات ربح عالية. وهكذا وصلنا حاليًا لعالم أصبح يمجد الاستهلاك ويشجع عليه عن طريقة آلة دعائية جبارة، وهو مفهوم جديد نسبيًا في التاريخ البشري ويخلق بشكل مستمر حاجات جديدة. إذ يرى ريفكين أن الفرد المنتمي إلى الطبقة الوسطى أصبح يملك من وسائل الرفاهية ما كان يملكه فقط ملوك القرون الوسطى.
يجب أيضًا ألا نتفاءل كثيرًا بزيادة الكفاءة في استخدام الطاقة، لأنه لم يحدث في التاريخ أنتم ترشيد استهلاكنا للطاقة، بل كان الحال أن كل وصول إلى معدلات كفاءة أعلى يشجعنا على استهلاك المزيد، مما يقلل من فرص الاستفادة من تلك الوفورات، على الأقل على المستوى البيئي. فعندما كانت الطاقة شحيحة ولا تتميز بالكفاءة كانت أغلب الكهرباء تستخدم أساسًا للإنارة المتواضعة وكان التنقل قليل جدًا، ومع زيادة كفاءة الطاقة زاد اعتمادنا عليها في كل منحى من مناحي حياتنا، بل أضفنا عددًا كبيرًا من المناحي الجديدة التي أصبحت هي الأخرى أساسيات.
لا يوجد أي دليل لدينا على أن هذه الاتجاهات والأنماط التاريخية في طريقها للانحسار، بل كل الأدلة تشير إلى العكس. فبالرغم من كثرة الأزمات، كان نموذج الإنتاج الرأسمالي قادرًا على تطويع التكنولوجيا لزيادة الإنتاجية، مما أدى إلى خفض التكلفة والمزيد من الوفرة وانهيار قيمة الكثير من السلع والبضائع. لكن في المقابل طالما تحايل النظام الرأسمالي على هذا الوضع المأزوم عن طريق تشجيع زيادة الاستهلاك، بحيث يصبح استهلاك عدد متزايد من الوحدات أداة لتعويض انخفاض هامش ربح الوحدة. صناعة الموسيقى على سبيل المثال بدأت اتجاه صعودي يعوض الانخفاض الحاد في مبيعات الألبومات عن طريق الزيادة المطردة في أرباح مشاهدة الموسيقى على الإنترنت عن طريق الـstreaming. ففي عام 2016 وحده زادت أرباح صناعة الموسيقى بنسبة 6% مدعومة بزيادة كبيرة في أرباح الموسيقى الرقمية. صحيح تكلفة سماع وشراء الموسيقى على الإنترنت أقل كثيرا من سابقتها على الأسطوانات وشرائط الكاسيت، لكن هذا يتم تعويضه بسهولة عن طريق الزيادة المطردة في استهلاك الموسيقى بعدما أصبحت أكثر إتاحة وأقل تكلفة.
قد يدفع التطور التكنولوجي الهائل هامش الربح إلى الانخفاض الحاد، لكن رأس المال غالبًا سيكون قادرًا على تعويض هذا الانخفاض عن طريق التوسع في الإنتاج والاستهلاك، وبالتالي التأثير على العمالة قد يكون محدود. فنسب البطالة ظلت مستقرة نسبيًا برغم الزيادة المستمرة في الإنتاجية. ما يحدث هو انخفاض حصة الأجور كنسبة من الدخل القومي تحت التهديد المستمر لميكنة عمليات الإنتاج، وهكذاأصبحت الوظائف منخفضة الأجر هي الأكثر انتشارًا بسبب غياب الدافع الاقتصادي القوي لاستبدالها بالماكينات والحواسيب والروبوتات، لكن كل هذا لم يؤد إلى زيادة نسيبة البطالة تقريبًا في السنوات الأخيرة. وحتى إن زادت نسب البطالة، فإن الرأسمالية ستكون قادرة على توجيه طاقتها إلى "تعدين" النقود الرقمية لخلق الثروة بشكل اصطناعي يوازي الزيادة المطردة في الإنتاجية مما سيؤدي إلى مستويات غير مسبوقة من الاستهلاك.
هذا التحول قد يدفع قطاعات واسعة من البشر إلى امتلاك المزيد من السلع وحتى الأصول، وإلى التمتع بالمزيد من استهلاك الطاقة. من الممكن أن يساعد هذا على الحد من انتشار الفقر المدقع والمطلق، لكن من المستبعد أن يكون له أي تأثير محمود على الفقر النسبي أو سد الفجوات الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، وبالطبع تأثيرات هذا السيناريو البيئية ستكون كارثية والموارد المحدودة بالتعريف ستقف عائقًآ في طريق هذا المستقبل، ولذلك أدركت قطاعات من رأس المال هذا التحدي وأصبحت في مقدمة الداعين إلى زيادة كفاءة استخدام الموارد عن طريق إعادة تدويرها وإنتاج الطاقة المتجددة.