مراجعات

أماني خليل

موسم الأوقات العالية.. تيه المثقف في مدينته

2021.04.01

تصوير آخرون

موسم الأوقات العالية.. تيه المثقف في مدينته

المعادي سردية زمنية واجتماعية

يمكن أن نعتبر مجموعة «موسم الأوقات العالية» للكاتب ياسر عبد اللطيف، الصادرة عن الكتب خان، ٢٠٢١، لوحة موزاييك ممزوجة بذكريات تسعينية لكاتب مثقف عاش بين وسط البلد وحي المعادي الشهير، ذكريات الطفولة، الحب الأول، الدخول إلى عالم الثقافة، العلاقة بمقاهي وسط البلد ومبانيها الحكومية، الجنس الأول، تدخين الحشيش والحبوب المخدرة، الحياة على تخوم عالم الفن والمال، الاشتباك مع عالم العمل الحقوقي في أثناء العمل كمترجم، حالة من البوهيمية والصعلكة التي يعيشها كواحد ضمن مجموعة من شباب التسعينيات من أبناء المعادي.

يسرد البطل الأحداث كراوٍ عليم. يعيش الشباب في مرحلة الثانوي إلى الجامعة في فترة نهاية الثمانينيات إلى التسعينيات بكل زخم تلك الفترة، وفي رحاب الحي الذي يكاد عبد اللطيف أن يحوَّل المجموعة إلى بانوراما زمنية واجتماعية له.

يرسم لنا شوارع حي المعادي؛ «ترعة الخشاب»، والجسور، وجسر تيتي، وعزبة المصري، ودجلة، حيث يحاول هؤلاء الشباب إيجاد صورة للتحقق في قصة «موسم الأوقات العالية» والتي يقصد بها عبد اللطيف موسم الجنون والتورط في المخدرات الذي صاحب هذه المرحلة، الراوي لا يحرك الأحداث، لكنه لا ينفصل عنها، وكأن الراوي وأصدقاءه في رحلة عبثية يقادون إلى أقدارهم. يتعرف الشباب إلى مطرب شاب؛ يوهمونه بأنهم أصحاب شركة دعاية وإعلان، الشاب ذو لكنة ليبية؛ إذ غزا كثير من الملحنين والموزعين والموسيقيين الليبيين القاهرة في التسعينيات.

رصدت رواية «جاتسبي العظيم» للروائي الأمريكي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد (١٨٩٦_١٩٤٠) التي صدرت في عشرينيات القرن الماضي، صورة للمجتمع الأمريكي، وما حدث من تغيرات مرتبطة بقرار تجريم الخمور، ووصل البعض لقمة الثراء السريع، كان جاتسبي يقيم حفلات صاخبة يوميًّا في قصره ليبهر ديزي؛ حبيبته القديمة، التي تزوجت من نيك بوكانان، وتذهب معه إلى حفلات صديقه جاتسبي الصاخبة.

وإذا كانت رواية «جاتسبي العظيم» ترصد التفاصيل الدقيقة لنيويورك وطبقاتها الاجتماعية، وتحولاتها الاقتصادية؛ فإن «موسم الأوقات العالية» ترصد القاهرة، وفي المركز منها حي المعادي، من خلال صورة لشخوص المجموعة «الراوي عاطف، التيج، آيات، وجدي». وترصد أيضًا موسيقاهم، ومخدراتهم، وسيارات الفولكس فاجن التسعينية، ومعلبات البولبيف المملح التي يتناولونها في محاولاتهم للاستشفاء من الإدمان. كما أن محاولات انخراط الراوي في تفاصيل المجتمع الثقافي، ترصد ذلك العصر.

للمعادي صورة ذهنية كحي برجوازي للطبقة المتوسطة العليا، حيث كانت سكن الباشوات في ثمانينيات وتسعينيات القرن. هذه الصورة المخاتلة يرصدها عبد اللطيف في المجموعة. لكنه أيضًا يقدم صورة أخرى مختلفة ومغايرة للحي، صورة للقاع المصري. الحي الذي يموج بشخصيات شاردة هائمة ومنفلتة، حيث توجد أيضًا أطراف الحي؛ عزبة المصري وطرة والبساتين.

في قصة «شهوة ملاك» يوجد الشابان «عاطف» و»يونس»؛ اللذان يبحثان عن مكان آمن لتمضية وقت مع «عتاب»؛ فتاة الليل التي استأجراها. يوجد أيضًا «صلاح» ابن الرابعة والعشرين، كث الشارب، البلطجي الذي اشتهر في طرة وحي المعصرة، وبيته الذي هو غرزة حقيقة لأصدقائه، وصلاح ابن السجان الذي يقتنص منهم الفتاة في النهاية بعد ليلة زاخرة بالشهوة والخطر..

المرأة رتوش، أنماط، سبر الأعماق

تجعل مجموعة عبد اللطيف ظهور الراوي خفيفًا، مراقبًا للحياة أحيانًا، متورطًا حتى عنقه في أحيان أخرى. تمتلئالمجموعة بنماذج نسائية رُسم بعضها كبورتريه، أو كرتوش لشخص عابر مثل شخصية «آيات» في قصة «موسم الأوقات العالية».

آيات شابة تشارك مجموعة من الشبان تدخين الحشيش في حي المعادي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حتى يقع أحدهم في حبها. وظهور آيات ظهور عابر غير لافت، وكأنه ضربة فرشاة وسط لوحة من لون واحد، بينما «امتثال» في قصة «قصص الحب التأثيرية» فتاة من لحم ودم ومشاعر واضطرابات، وشهوة، ونزق، وجموح. امتثال صديقة للراوي الحاضر الغائب، تحبه في أثناء تورطها في حب شاب يدعى محسن، سافر إلى الخليج ليُتم زواجه منها، وترسل امتثال رسالة إلى محسن تخبره بأنها وقعت في حب آخر، فينتقم منها بإرسال رسائلها إلى والدها، ويفسخ الخطبة في موقف درامي، فتدخل في علاقة مع الراوي، كلُ منها يرغب في اكتشاف الآخر دون رغبة في تورط طويل معه. تميل امتثال لأن تكون نموذجًا نزقًا، انفعاليًّا، شهوانيًّا.

يقابل الراوي طالب الجامعة الذي يعمل في مكتب للترجمة في وسط البلد، زميلته امتثال في مكتبه، يكتشف جسد المرأة للمرة الأولى معها، ويكتشفان المدينة معًا، ويؤلفان قصة بعنوان «قصص الحب التأثيرية»: «تلميذان مُفلسان يتوقفان أمام فاترينة ألماس، يتصنعان الفرجة على المصوغات ليراقبان امرأة جميلة. وألّفنا قصةً كتبناها معًا بعنوان «قصص الحب التأثيرية» عن علاقة حب بالنظر بين متسكّع قاهري وامرأة ببياض شمعي تظهر كوجوه مانيه على خلفية سوداء مخملية في فاترينة مجوهرات. قصص الحب التأثيرية؛ يصلح عنوانًا لتلك القصة نفسها بيني وبين امتثال».

في قصة «قمر فوق بحر الرمال العظيم» يرسم الراوي سكتش سريعًا لامرأة عابرة، حين يقابل فتاة فرنسية في أثناء رحلة خلوية إلى سيوة. يسبح الاثنان في مياه ساخنة وسط الصحراء، تحت ضوء القمر، وتدوس الفتاة قدم الراوي خلسةً، بعد أن تبادلا تعارفًا عابرًا كأنهما نجمان يمر أحدهما بجوار الآخر ثم يكمل طريقه في فضاء الحياة الواسع.

وفي قصة «الربيع في شتوتجارت» ينفُذ عبد اللطيف إلى أعماق البطلة؛ فتاة سورية تعيش في ألمانيا بعد قيام الثورة السورية وما تلا ذلك من اضطرابات سياسية وانقسام شعبي. ثم ظهور الفصائل الإسلامية على خط الثورة، تتعرف الفتاة إلى شاب ثائر من خلال الإنترنت، لأنها تعاني الوحدة، ثم تتورط في علاقة جسدية معه ويصورها عبر الفضاء الإلكتروني؛ ويستغلها ويبتزها.. في هذه القصة يعرض عبد اللطيف» لأدق الاختلاجات النفسية والعاطفية لفتاة مغتربة تعيش في الشتات، وتبحث عن الحب والدفء، ثم تتعرض للخديعة وتجد نفسها تواجه الفضيحة والمجهول «كان عليها أن تتنفس الصعداء، وتنتظر إلى ما لا نهاية أن يفي بوعده، فلا يعاود ابتزازها ثانيةً. أيقنت أن مفهوم «خلو البال» قد انتهى بالنسبة لها ولن يعود إلا بنسيان رحيم تسحبها فيه الحياة اليومية بتفاصيلها. بدت الثورة والحرب الدائرة هناك بعيدة في الزمان ككوارث تنتمي لماض غابر. ثمة حرب أخرى تعتمل هنا. لكن لم تكن هذه هي النهاية».

أما في قصة «دراسة في العشق الأوديبي» فالبطل رجل ناضج أربعيني تقريبًا، يعجب بامرأة ذكية على الفيسبوك. ثم تضيء ذكرى قديمة في رأسه لمعت كالبرق، حين كان طفلاً في الثانية عشرة، ودخل في علاقة حميمة مع فتاة في الثامنة عشرة، تكبره بسنوات وتمثل تجربته الأولى. الرجل هو ذلك الطفل، والفتاة كانت «نورا»؛ طالبة جامعية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، سمراء وتشبه الممثلة حياة قنديل. تعرف إليها في المصيف بمرسى مطروح «لم يعد طفلاً من يومها، لم يعد يلهو، وحتى قلاع الرمال على شاطئ «روميل» بمطروح، لم تكن تهدف إلا لاصطيادها. كانت فخًا مُحكمًا من زير نساء لم يبلغ الثانية عشرة، وقد سقطت في الشرك فعلاً وجاءت تشاركه اللهوَ والبناء».

كانت نورا تقطن في مصر الجديدة وهو في الدقي. وانتقلت إلى بيت والديه لترعاه في أثناء سفرهما لأداء العمرة، يكتشف كل منهما الآخر ويبقي في ذاكرته لسنوات حتى تأتي نهاية القصة البديعة «وكان جسدها الأسمر الناحل الجميل أول وثن حسي يعرفه ويلمسه ويتشممه بكامل الوعي الذي يتفتح. أما الآن، فالمسافة بين الخامسة والأربعين والواحدة والخمسين ليست كالمسافة بين الثانية عشرة والثامنة عشرة. والوثن الممدد جانبه في شقة بمدينة الرحاب لم يعد بالحدة والنحول نفسهما. وسيارتها وإن كانت لا تزال فولكس فاجن برتقالية، فهي ليست الخنفساء برازيلية الصنع موديل السبعينيات بل جولف طراز ٢٠١٤. الدكتورة نورا عماد أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة السويسرية في مدينة ستة أكتوبر لم تدخل الخمسين «بكامل مشمشها «كما يقول محمود درويش الذي لن يتبقى منه بعد زوال القضية وقهوة أمه وخبزها، ومعاطف الجبال والمغول وشجر السنديان، سوى هذه الصورة. صار مشمش نورا معتّقًا، ياميشًا، قمر الدين، مربى مشمش من إنتاج كلية الزراعة في السبعينيات. ومن قال إن طفلاً أبديًّا وكهلاً سرمديًّا مثله يقيم وزنًا للطزاجة والنضارة على حساب هذه الحلاوة اللاذعة!».

يقدم عبد اللطيف أكثر من مشهد يرسم فيه صورة مثقفي القاهرة؛ المشهد الأول رصد فيه انزياح أجيال مثقفي القاهرة في الستينيات لصالح أجيال أخرى أقل تأثيرًا، تتمسح في قامات مثل أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله، لتكتسب منها تحققًا وقيمة. كنموذج الرجل الذي لم ينشر كلمة واحدة ويعرف نفسه كصحفي، لمجرد أنه يقيم في بنسيون أمل دنقل. وعن هذه الأجيال يكتب «واحتلت أجيال أخرى تلك المقاعد، تحاول أن تشقَّ لنفسها مكانًا في فضاء يناصبونه العداء مُسبقًا من قبل أن يبادر بلفظهم. سوء الظن من سوء الفِطَن. المدينة التي بلا قلب، غابات الأسمنت، لفّوا بينا وتهنا هنا، وذكريات عن ريف بعيد متجانس وأمومي تهدهدُ تشنجّات الاغتراب. ثم لا يُكافأ هذا العناء بأي تحقق مادي ولا معنوي. يصير المثقف المُحبَط أكثر شراسة من شرطي جائع».

أما المشهد الثاني للصراع بين مثقفي القاهرة فهو الصراع بين البطل في قصة «٢٠٠٥ أجرة القاهرة» الذي يعمل مترجمًا لصالح جمعية للحقوق المدنية التي تعمل في شراكة مع جمعية إيطالية بمشروع الحق في المياه، ويتعرف الراوي على ثلاثة شباب إيطاليين؛ رجلان وفتاة، يعجب البطل بالفتاة، ويخجل من جديتهم في العمل المدني، وتوثيقهم لتدني خدمات تنقية المياه في بعض قرى الجيزة، بينما الجمعية المصرية تكتفي بالأبحاث من خلال الإنترنت والأرقام، بعيدًا عن الدراسات الميدانية الحقيقية.

يخجل من ما يراه الشباب الأجنبي «وكأن عورتي انكشفت وكأني أسير حافيًا في أرض الأحلام». بينما مديره «طارق الصافي» المتربح من العمل المدني وأثري منه ثراءً فاحشًا يسخر منه في وجود «جينا»؛ الباحثة الإيطالية التي يحاول طارق إبهارها واصطيادها. هذه الأجواء المشحونة والمتوترة ينتج عنها هذا الصدام الحتمي «ويقول موجهًا حديثه لي بالإنجليزية كي يشرك چينا في تهكمه:

السيد كافكا عميد الاكتئاب العربي جالس يشرب ويسكي سنجل مولت ويضحك، يا للهول!

رددت عليه بالعربية:

الويسكي السنجل مولت من خيرات السيد المناضل ليون تروتسكي اللي بقى ينشر توصيات البنك الدولي من باب الثورة الدائمة!»..