فنون

رياض حمّادي

ميراث الأكاذيب في فيلم وداعًا لينين

2018.05.01

ميراث الأكاذيب  في فيلم وداعًا لينين

قصة الفيلم

أخرج الفيلم وشارك في كتابته وُلفجانج بيكر، ورشح لجائزتيّ جولدن جلوب وبافتا كأفضل فيلم أجنبي، كما رشح مخرجه لجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي. قصة الفيلم عن أسرة مكونة من أب وأُم وطفلين هما ألكسندر وأريان. يفر الأب إلى القسم الغربي من ألمانيا تاركًا أسرته تعاني مشاق الحياة في ظل حكم استبدادي. بعد سنوات تصاب الأم بإغماءة حين ترى ابنها أليكس يشارك في مظاهرة معارضة للنظام، وتدخل في غيبوبة لمدة ثمان أشهر. خلال هذه المدة سقط جدار برلين ورحل النظام. وخوفًا على قلب الأم من أن تصاب بنوبة أخرى، نصح الطبيب بتجنيبها الأخبار المزعجة. تُنقل الأم إلى غرفتها بعد أن يعاد أثاثها القديم، الذي كان أليكس وأخته قد استبدلا به آخر عصريًّا. طول ملازمتها للفراش يقوم أليكس، بمساعدة صديقه دينيس، بابتكار أخبار وقصص مزيفة توهمها ببقاء الاشتراكية على ما كانت عليه قبل مرضها.

يقرر أليكس وأخته الاعتراف بكذبتهما وإخبارها بسقوط جدار برلين وما تلاه من تداعيات سريعة غيرت وجه الحياة في أثناء غيبوبتها في المستشفى، وقبل أن يفعلا تعترف الأم بكذبة أخفتها عنهما، تدُلهم على مكان الرسائل التي أرسلها والدهم خلال سنوات، وتخبرهم بأنه كان يرغب في أن يأخذهم معه إلى الجانب الغربي وهي من رفض ذلك. يصاب أليكس وأخته بصدمة شديدة، فيتخليا عن فكرة إخبارها بالحقيقة.

عنوان مخاتل

حين ترتبط  كلمة “وداعًا” بلينين سيخطر في البال أن الفيلم يحتفي بكل ما يمثله الرجل، لكن هذا المعنى سيتلاشى وستُكتَشف المراوغة المضمرة في العنوان. الوداع في الظاهر موجه للينين، لكن المحتوى النقدي الموجه للنظام الاشتراكي يدل على ترحيب بزواله، وإن كان النظام الجديد لم يسلم من النقد كليةً. تخفي كلمة الوداع معنيين؛ وداع ظاهر للاشتراكية في ألمانيا الشرقية، ووداع مضمر للأم التي أحبت ذلك العهد. محاولات ابنها أليكس إبقاء ذلك العهد حيًّا في ذهنها، حتى رمقها الأخير، لم يكن حبًا للنظام، بقدر ما هو حب لأمه.

غيبوبتان

فضّلت الأم التضحية بوطنها الصغير-أسرتها- من أجل أسرتها الكبيرة -الوطن. كذبة الأُم فرّقت شمل الأسرة، وكانت بمثابة جدار معنوي شبيه بجدار برلين الذي شطر الأسرة الكبيرة إلى شطرين. هذا الجدار كان هو الآخر نتيجة كذبة أكبر مارسها النظام الاشتراكي طيلة عقود. يقول سيجموند جون، الذي أدى دور رائد فضاء ثم أصبح سائق تاكسي “الاشتراكية لا تعني أن تعيش خلف جدار. الاشتراكية تعني أن تتواصل مع الآخرين وتعيش معهم”. ويقول أليكس “الوطن الذي تركته أمي خلفها هو الوطن الذي آمنتْ به، وطن أبقيناه حيًّا حتى نفسها الأخير، وطن لم يوجد قط على تلك الصورة، وطن سأربطه دومًا، في ذاكرتي، بأمي”. والمفارقة أن كذبة الأم كانت سببًا في تعاستها وتعاسة أبنائها، وكذبة أليكس كانت غايتها إسعاد أمه ولم تضر بأحد، خلافًا للكذبة الكبرى التي اقترفها النظام.

بهذا يتضح الفارق بين وطن الأم ووطن أليكس، الأم فضلت الوطن الكبير، أما أليكس فرأى أمه وطنًا. ولكي يحافظ على وطنه الأم حيًّا كان عليه أن يكذب ليُبقي على وطنها الذي آمنت به حتى آخر لحظات حياتها. وهكذا سينتقل كل إرث ألمانيا الشرقية إلى غرفة نوم الأم. ثمة غيبوبتان إذن؛ غيبوبة ظاهرية أصيبت بها الأم واستمرت لثمان أشهر، وغيبوبة مضمرة أصيبت بها البلدان الاشتراكية وعانى منها الناس لعقود. الأسرة هنا رمز لوطن تعرض لغيبوبة ناتجة عن سيل من الأكاذيب، ولم تكن الإفاقة منها متاحة إلا بصدمة الغرب بعد انهيار سور برلين.

ميراث الأكاذيب

يبلغ التهكم ذروته حين لا يبقى من العهد الاشتراكي سوى المخلل وبُن موكا فليكس الذهبي، باعتبارها أهم منتجات ذلك النظام الذي تتم مقارنته بالنظام الجديد بحضور الهمبرجر والكوكا كولا ومجموعة كبيرة ومتنوعة من المنتجات الغربية التي ملأت رفوف المحلات. المقارنة بين الشرق والغرب تكشف عن نظام أشبه بجبل ثلج استمر لعقود وفضحته شمس الإعلام الحر في أيام، وحوَّله سقوط جدار برلين إلى حطام، وأمكن استيعاب كل منجزاته في غرفة نوم صغيرة وشريط فيديو.

حوَّل النظام الاشتراكي القسم الشرقي من ألمانيا إلى سجن. مثل هذا الوطن يستحق وداعًا له مغزى “وداعًا لينين”، بلسان حال يقول: لم يكن عهدك سيئًا تمامًا، لكن منجزاتك القليلة لا تستحق التحسر عليها، فلم تكن مهمة سوى لمريضة لا تستطيع مبارحة غرفتها، ويمكن لطفلة تخطوا خطواتها الأولى أن تكشف زيفها، وهي تشير إلى منطاد في السماء مكتوب عليه “جرِّب الغرب Test the West”. جهازكَ الإعلامي، الذي أداره جيش من الإعلاميين، يمكن لشخصين هما أليكس ودينيس، وشريط فيديو أن يحلوا محله؛ فهو لا يحوي سوى أخبار الوفيات والمواجهات وأعداد القتلى. بعد أن أعد دينيس واحدًا من تلك الأشرطة، يقول بلغة متهكمة “إنه أفضل إنتاج لي على الإطلاق، لكن يا للحسرة، أمك هي الجمهور الوحيد”. في الشريط المسجل يتم قلب الحقائق، في إشارة إلى ما كان يفعله جهاز الإعلام الاشتراكي، فبدلاً عن تدفق المواطنين من ألمانيا الشرقية باتجاه القسم الغربي كما حدث في الواقع، يقول دينيس إن العكس هو الذي حدث.

في أثناء عرض الشريط على الأم كانت توجه نظراتها إلى أليكس. نظرات مزيج من الرضا والشك: رضا أم عن ابنها وعما يفعله وما يمكن أن يفعله من أجلها. في الوقت الذي تعبر فيه النظرات عن موقف الشعب الراغب في تصديق أكاذيب السلطة؛ الشعب الحالم بجنة الاشتراكية. عندما خرجت الأم من غرفتها إلى الشارع وشاهدت تمثال لينين وهو يُنقل جوًا بطائرة هيلوكوبتر، وشعار كوكاكولا وهو يملأ جدار بناية كاملة، ثم حديث الممرضة لارا معها وهي تخبرها عن سقوط جدار برلين وزوال الحدود، لم تصدق كل ما رأته وسمعته؛ لأنها صدقت حلمًا لم تكن تريد خسارته. ماتت سعيدة قبل أن تعرف الحقيقة، كما قال أليكس، وكأن الحقيقة مرادفة للحزن وخير للمرء أن يموت سعيدًا على أن يعرف الحقيقة المرة.

من المَشاهد الدالة على زيف النظام السابق، مشهد يقف فيه أليكس على سطح المبنى وهو يمزق العملة القديمة؛ لأنه تأخر يومين عن آخر موعد لاستبدالها بالعملة الجديدة. والدلالة أن الثروة التي جمعتها الأم خلال عقود الاشتراكية قضى عليها المارك في يومين ومزقها أليكس في دقائق.

في حياتها لم تعترف الأم بالسجن الذي كانوا يعيشون فيه، لكن وصيتها -بحرق جسدها بعد الموت ونثر رماده لتأخذه الرياح إلى جميع الجهات- تحمل رغبة في التحرر. ولأن تنفيذ الوصية ممنوع في القسمين الشرقي والغربي، كما صرح أليكس، وهو ما يشير إلى سقف الحريات المسموح به في الشطرين، فإن مخالفة أليكس هذا الحظر يدل على أن سقوط الجدار قد خرق ذلك السقف أو رفعه قليلاً.

من الفضاء إلى المجهول    

الحوار التالي، بين أليكس وسيجموند جون، يختزل الحياة في غرب ألمانيا وشرقها والفارق بينهما باستعارة الفضاء رمزًا للغرب والأرض رمزًا للشرق. ينظر أليكس إلى القمر في السماء ويسأل:

كيف هي الأمور هناك؟

يجيب سيجموند:

كانت رائعة هناك، فقط بعيدة جدًا عن هنا

يلمح الحوار الرمزي إلى الفجوة التي تفصل بين الشرق (هنا) والغرب (هناك). يقول أليكس، من موقع الراوي، مستعيرًا لسان رائد فضاء ليوضح الفارق بين زمنين “لقد كنا نطير في عتمة الليل، تمامًا كما في أعماق الكون، على بعد سنوات ضوئية من النظام الشمسي مرورًا بمجرات غريبة فيها أشكال غير معروفة من الحياة ثم هبطنا في مكان مجهول”.

يعرض فيلم (وداعًا لينين) أيضًا بعض السلبيات التي أتى بها الغرب، منها  تحول سيجموند من رائد فضاء إلى سائق تاكسي، وعمل أليكس في شركة لتوزيع أطباق الستالايت متخليًّا عن طموحه في أن يصبح رائد فضاء. لكن ما يجعل من سلبيات الحاضر هامشية في مقابل الإيجابيات التي يحملها المستقبل قول أليكس “المستقبل يكمن بين أيدينا، صحيح أنه مشكوك فيه، لكنه واعد”.