هموم
سها السباعيميزان لا يميل!
2021.01.01
ميزان لا يميل!
بدأت تجربتي مع الترجمة بالتعلم على يدي أستاذيْن عظيميْن، لكل منهما أسلوبه، وإليهما أنسب فضل ما أنا عليه الآن. انقضت ثمان سنوات من العمل؛ تنوَّع فيها إنتاجي بين الكتب والروايات والمقالات والأبحاث. وددتُ أن أقول إنني أترجم فقط ما أحب، وأنتقي ما يُعرض عليَّ، بل وأقترح على دور النشر ما أشاء من أعمال، لكن جميعنا يعلم أن الدنيا ليست وردية بهذا القدر. لذلك أفضل أن أتحدث من أرض الواقع وأصنف الأعمال المترجمة بشكل آخر باعتبار الترجمة مهنة: العمل مع الأفراد، ومع دور النشر الخاصة وأخيرًا مع المؤسسات الحكومية.
يتصف العمل مع الأفراد ودور النشر الخاصة بالقيود من ناحية طبيعة الأعمال المطروحة للترجمة، وكذلك بالخطورة من الناحية المالية. الفرد يترجم فقط ما يحتاج إليه، مثل بحث أو مقال أو أوراق حكومية، وهذه مواد ذات طبيعة مملة نوعًا بالنسبة لي كمترجمة مستقلة أطمح لوضع اسمي على أعمالي، ولا أعتبرها استثمارًا جيدًا للوقت والجهد، وأطلق عليها أحد أساتذتي «ترجمات أكل العيش». كما أنه ليس مضمونًا أن تحصل على أتعاب الترجمة؛ إذ ليس هناك عقد أو أي شيء ملزم إلا اتفاق شفهي، أو رسالة على الأكثر. الحل الوحيد فرض دفعة مقدمة، وعدم تسليم الترجمة الكاملة في صورتها النهائية ولا يقبل كثير من الأفراد بذلك، مع الوقت، وبالتجربة والخطأ سيكون لديك دائرة موثوقة من العملاء. أما التعامل مع دور النشر الخاصة فهو تجربة مختلفة. العمل هنا يأخذ صيغة قانونية متمثلة في عقود موقعة، لكن دور النشر لا تتشابه، فمنها الملتزم بالعقد والوقت وإخراج الترجمة في أفضل صورة، ومنها ما دون ذلك. وباعتبار دور النشر الخاصة مؤسسات هادفة للربح فهي تحرص على اختيار الأعمال وتسويقها بما يحقق لها هدفها، وهذا أمر مفهوم. التعامل مع المؤسسات الحكومية تجربة مختلفة تمامًا، فهي غالبًا لا تهدف للربح ولذلك تختلف طريقة اختيار الأعمال. من الناحية المالية، كما يُقال «اللي عند الحكومة ما بيضيعش»، لكنه كثيرًا ما يأتي بعد وقت طويل قد تنسى معه أنك ترجمت لهذه الجهة أو تلك، وكذلك تطول فترة انتظار نشر العمل نفسه لاعتبارات كثيرة، فقد ينشر بعد أعوام، وربما لا يُنشر أبدًا، ممَّا يجعل عملك لشهور يتحول إلى جهد ضائع.
أشد ما يسبب لي الغيظ والحنق في مجال الترجمة؛ الإعلانات الفجة عن الاستعداد للترجمة بأقل الأسعار، والمترجمون الذين ينقلون عن المواقع الإلكترونية دون حتى محاولة لإعادة النظر فيما ينسخونه منها؛ بتعديل الأسلوب أو مراجعة الكلمات التي تطل صارخة من النص لعدم اتفاقها مع السياق والمعنى.
الترجمة بالنسبة لي نقل ثقافة مختلفة إلى الآخر بشكل يحمل طيفًا تفسيريًّا، ويجب أن يكون ذلك على ميزان لا يميل. لا أضيف رأيي أو فهمي للنص كما فعل إتيان دوليه، ولا أغيِّر ملامح النص ليتفق مع ذوق وثقافة القارئ كما فعل طانيوس عبده، ولا أنقل «روح» النص دون «حرفه»؛ كما فعل الأدباء المترجمون منذ عقود، ولكن لا أقتنع بالترجمة الحرفية التي تجعل القارئ يبحث عن مراجع خارجية لفهم الترجمة.
أطمح إلى أمر حالم لا أعتقد أنه في الإمكان، أن تكون الأعمال المترجمة رسولاً للتقريب بيننا وبين الآخر، فعلاً لا مجازًا، ليس بطريقة «اعرف عدوك»، أن أفهم الآخر، وأتفهم محددات ثقافته بشكل يزيل العداء والخوف من المختلف والعواقب المترتبة على ذلك العداء وذلك الخوف، والتي قد تتصاعد إلى مرتبة الجرائم. أطمح ألاَّ تتدخل السياسة في مجال العمل بالترجمة، وأن تبقى لحروفنا العابرة للغات قدسيتها وسموها على أي خلافات أو مصالح.
أشد ما يسبب لي الغيظ والحنق، الإعلانات الفجة عن الاستعداد للترجمة بأقل الأسعار، والمترجمون الذين ينقلون عن المواقع الإلكترونية دون حتى محاولة لإعادة النظر فيما ينسخونه منها