قضايا
أحمد حسننبيل الهلالي.. الماركسي ابن الباشا عدو طبقته
2021.12.01
نبيل الهلالي.. الماركسي ابن الباشا عدو طبقته
الاسم: أحمد نبيل الهلالي، الميلاد: 7 أغسطس 1922، التعليم: حاصل على ليسانس الحقوق عام 1949. المهنة: محامي. أصله الاجتماعي: ابن لأحد كبار باشوات مصر في العهد الملكي (نجيب باشا الهلالي) الذي حمل عدة حقائب وزارية كان بينها وزارة المعارف، ثم تولى منصب رئيس وزراء مصر قبل الإطاحة بالملكية مباشرة، وكان والده أيضًا محاميًا وقانونيًّا شهيرًا. وتعلم نبيل في مدارس أجنبية حتى تولى والده وزارة المعارف، الذي نقله إلى مدارس حكومية حتى أتم تعليمه الجامعي بكلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة لاحقًا)، وهناك بدأ الارتباط بالتنظيمات الماركسية التي كانت تموج بها الجامعة، وانضم إلى منظمة أيسكرا التي أصبحت أحد مكونات لاحقًا منظمة حدتو، وانضم بعد ذلك إلى منظمة الراية التي أصبحت أحد مكونات الحزب الشيوعي المصري لاحقًا.
بدأ الوعي الاجتماعي لنبيل يتفتح منذ صغره وهو يشاهد الفارق بين حياة البذخ والرفاهية التي تعيشها أسرته وحياة الفقراء والبسطاء من حولهم، وقد أشار إلى أحد تلك الملاحظات التي حركت وجدانه واستفزته ضد طبقته الاجتماعية في إحدى كتاباته "في طفولتي رأيت أطفال شوارع يلحسون اللوح الزجاجي لمحل حلويات.. فقفز لذهني سؤال: لماذا يعاني هؤلاء وأسرتي غارقة في النعيم؟"، وتوج هذا الحس الإنساني بتعرفه على الماركسية التي رأى فيها إجابة على تساؤلاته.
أخفي نبيل عن أبيه انتماءه السياسي ونشاطه كشيوعي، وكان يعمل في مكتب والده لعدة سنوات ثم تركه، لأنه كما ذكر (كان والدي وكيلاً للعديد من الشركات الأجنبية وكان أحد العمال قد أقام دعوى قضائية ضد شركته يطالب فيها بحقوقه، فكان عليَّ أن أذهب للمحكمة للوقوف ضده، فرفضت ذلك تمامًا، مما دفعني لترك مكتب الوالد نهائيًا وترك المنزل كذلك بعد افتضاح نشاطي الشيوعي).
أحب نبيل الرفيقة فاطمة زكي، الطالبة بكلية العلوم، التي كانت مسؤولته في التنظيم، واقترن بها عام 1958. وقبل مرور 6 أشهر على اقترانهما قُبض على نبيل ضمن حملة شنتها حكومة ناصر في يناير 1959 على الشيوعيين المصريين، واعتقلت زوجته بعده بثلاثة شهور. وحكم عليه بسبعة سنوات سجن وخرج في 1964 ليفتح مكتبه الشهير في باب اللوق الذي استمر به حتى وفاته. وفي العام التالي مباشرة قبض عليه وقضي 4 سنوات في السجن. وعلى خلفية انتفاضة الطلبة في 1972 قبض عليه مجددًا مع قيادات الطلبة الشيوعيين وصحفيين وكتاب وقيادات عمالية. وحدث في معتقل القلعة وقتذاك أن القيادات الطلابية كانت تذكر من داخل زنازينها كل متهم اسمه واسم محاميه الذي صادف أنه "نبيل الهلالي" عنهم جميعا، حتى جاء الدور على زنزانته ليفاجأوا أن محاميهم "الهلالي" بداخلها محبوس معهم.
سُجن نبيل الهلالي للمرة الأخيرة حين القبض عليه وعلى آخرين بتهمة الانضمام إلى "الحزب الشيوعي المصري" وترافع فيها مرافعة شهيرة نشرت في كتاب تحت عنوان (دفاعًا عن حرية الفكر والعقيدة) لم ينكر فيها شيوعيته، وجمع في مرافعته بين الدفاع السياسي عن الحزب والدفاع القانوني عن المتهمين في القضية ساخرًا من التهم المعلبة الجاهزة التي يستخدمها النظام مثل الخيانة والعمالة معتبرًا إياها (نعوتًا سياسية جوفاء). وانتخب الهلالي عضوًا في مجلس نقابة المحامين في الدورات المتتالية منذ عام ١٩٦٨ حتى ١٩٩٢، وكان ضمن كتيبة من المحامين المناضلين في لجنة الحريات بالنقابة حتى اعتبر تنظيم الإخوان أن إسقاط الهلالي في انتخابات مجلس النقابة مهمته الرئيسية في لحظة كان نجم التيار الإسلامي والإخوان في قمة قوته وصعوده.
عمل مكتب 5 شارع صدقي باب اللوق كأهم منظمة حقوقية قبل انتشار المنظمات الحقوقية دون كلل أو ملل وبالاعتماد على العوائد القليلة التي يحققها أحيانًا من قضايا التعويضات التي يكسبها. واختار اتساقًا مع عقيدته السياسية التخصص في القضاء العمالي، وعلى مدى نصف قرن استطاع مكتبه الحصول على مئات الأحكام التي أعادت إلى العمال البسطاء حقوقهم، وقد أرسى العديد من المبادئ القانونية في هذا المجال، ولعل أهم مكسب استطاع الحصول عليه للطبقة العاملة المصرية هو انتزاعه لحق العمال في الإضراب، هذا الحق الذي كان مجرمًا بنص المادة 124/أ عقوبات، في القضية المعروفة إعلاميًّا بإضراب سائقي السكة الحديد، إذ أعلنت "رابطة سائقي السكك الحديدية" الإضراب العام عن العمل في جميع خطوط القطارات فربضت عربات القطارات فوق القضبان عاجزة عن الحركة، وشلت حركة النقل والمواصلات في البلاد، وكان لها دوي هائل فقبضت الأجهزة الأمنية على منظمي الإضراب وقادته وقدمتهم إلى المحاكمة، وترافع الهلالي عنهم مستندًا إلى اتفاقيات دولية صدقت عليها مصر تقر حق العمال في الإضراب، واعتبرها نسخًا ضمنيًّا لمواد التجريم في قانون العقوبات، وهو ما شكَّل الأساس الذي استندت إليه المحكمة في تبرئة جمع المتهمين وصاغت حكما تاريخيًّا أقرت فيه بمشروعية الإضراب والحق فيه. غير أن النضال الحقوقي للهلالي لم يقتصر على القضايا العمالية، بل كان مكتبه ملاذًا عاما للطلاب والمهنيين والفلاحين وغيرهم الذين يقعون تحت سيف السلطة بسبب مواقفهم المعارضة وآرائهم.
حقوقيًّا ثمة موقف إشكالي في نضال الهلالي لا يزال مثيرًا للجدل حتى الآن، وهو ترافعه عن المتهمين من جماعات الإسلام السياسي، مبررًا ذلك بأن العمل الحقوقي لا يعرف التمييز بين متهم وآخر، وأن سيف القمع مسلط على جميع الرقاب، وأنه يجب الدفاع عن الإنسان "المجرد" وليس الإنسان "المصنف"، وهو ما يعني أنه على المحامي خلع المتهم من انتمائه وأيديولوجيته عند توليه الدفاع عنه. وهو موقف يختلف معه فيه عدد من المحامين المستقلين والاتجاهات السياسية. ومن بين تلك القضايا قضية اغتيال الدكتور رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب المصري آنذاك، في مايو 1993 والتي اتهم فيها عدد كبير من أعضاء تنظيم الجهاد الإسلامي. كان الهلالي هو المترافع الرئيسي عن المتهمين، واستمرت مرافعته ثلاثة أيام متتالية، واستطاع انتزاع البراءة لعدد كبير منهم، إذ استطاع تشكيك المحكمة في صحة الاتهام، وإثبات أن هناك من القرائن والأسباب ما يجعل اغتيال المحجوب من الممكن أن يكون مؤامرة دبرتها أجهزة الأمن نفسها. كما ترافع عن الدكتور عمر عبد الرحمن مؤسس تنظيم الجماعة الإسلامية وقائدها الروحي.
في اللحظة التي احتشد فيها كثيرون من اليسار خلف النظام في مواجهة الإرهاب الديني الممثل في الجامعات الإسلامية المسلحة، كان الهلالي موقف متفردًا ويغرد خارج السرب اليساري التقليدي، فعندما بدأت ظاهرة العنف المسلح من جانب بعض جماعات الإسلام السياسي في مصر رأى الآخرون أن التناقض مع السلطة قد أصبح ثانويًّا، بل ينبغي من أجل مواجهة الإرهاب التحالف مع النظام القائم بشتى الصور، وقد تصدى لهم الهلالي كاشفًا أن للإرهاب جذورًا وبذورًا اقتصادية وسياسية تتمثل في الأساس في سياسات الدولة البوليسية وقمع الحريات وكذلك في ازدياد الفوارق الطبقية وشيوع الفساد الاقتصادي، وأنه ينهض لمواجهة تلك الظاهرة بالبحث عن أسبابها الحقيقية ومواجهتها ورفض أي تحالف سياسي مع نظام الحكم المسؤول بسياساته عن نمو وازدياد ظاهرة العنف في المجتمع، مستخلصًا أنه يوجد جناحان للإرهاب بسبب سياسات النظام، إرهاب السلطة الذي بدوره يولد إرهاب الجماعات، وأن كل منهما يغذي الآخر. وبغض النظر عن تلك النقطة، كان الهلالي يعادل كتيبة كاملة من الباحثين القانونيين والمحامين المترافعين في قضايا العمال وفي قضايا الحريات السياسية.
اتسم أسلوب الهلالي في المرافعات بسمات ميزته عن كل محامين جيله، فأمام منصة القضاء كان الهلالي يؤدي عدة أدوار؛ فهو الممثل البارع والكوميدي الساخر والخطيب المفوه، والمفارقة أنه لم يكن يرتجل مرافعاته، بل كان يكتبها ويؤديها بطريقة ساحرة لا تشعر أبدًا أنها تُقرأ من نص مكتوب، وهو الباحث الذي يتقصى المواد القانونية في نشأتها متتبعا نقاشات البرلمان حولها ومجمل الظروف الاجتماعية والتشريعية التي أحاطت بها منذ نشأتها، بما في ذلك تطور سياسات المشرع والتزامات الدولة التي تنص عليها الاتفاقيات الدولية وتغير السياسات العامة للسلطة.
وهو آخر المترافعين دائمًا؛ تاركًا المساحة مفتوحة تمامًا لكل المحامين الزملاء والشباب ليترافعوا قبله. ومع ذلك تشعر أن جعبة الهلالي ليس فقط لا تفرغ، بل تحتوي على كل ما فات، أو ما لم يخطر على بال المحامين الآخرين، وكأنه يترك كل نقاط الدفاع الظاهرة أو التي يمكن استخلاصها ببساطة من ظاهر الأوراق ليفاجئ الجميع، بما ذلك قضاة المنصة، بنقاط لم يبحثها أو يتنبه إليها أحد.
اتسم الهلالي ببساطة العظماء فعلاً، دون استعراض أو تباه، سواء في تعامله مع العمال البسطاء الذين يلجؤون لمكتبه طلبًا للعون القانوني، أو مع المحامين الصغار أو موظفو المحاكم، ولم يترفع عن الأعمال المكتبية الصغيرة قط، بما في ذلك - وهو الذي تخطى سن السبعين - مشقة الذهاب إلى المحاكم لتقديم أوراق أو سحب أوراق وكأنه محام صغير تحت التدريب. وبموت الهلالي فقدت الطبقة العاملة والحركة السياسية كتيبة كاملة مزودة بأقوى العتاد، حتى أطلق عليه (قديس اليسار) لشدة إخلاصه وتجرده ونزاهته وتواضعه. وقد توفي الأستاذ أحمد نبيل الهلالي إثر عملية في القلب في 18 يونيو 2006.