مراجعات

أحمد فضيض

هناك شيء في تلك العيون صراع الطبقات وانهيار الخصوصية في رواية "كينتوكي

2021.04.01

هناك شيء في تلك العيون صراع الطبقات وانهيار الخصوصية في رواية "كينتوكي

"تشترك الحيوانات والدمى والروبوتات في قوة أخلاقية غريبة يمارسونها علينا، إذ إن هناك شيئًا في تلك العيون، وفي الطريقة التي نرى بها عليها انعكاس أنفسنا، الأمر الذي يثير بنا الاضطراب، فالعالم الرقمي مليء كفاية بالغرباء الذين هم أناس حقيقيون بلا وجوه أو أجساد، فهل إذا تمكنا من رؤية تعابير وجوههم وإيماءاتهم، سنظل نتصرف بنفس الطريقة معهم؟ وعلى النقيض فإن حيواناتنا الأليفة تشاهدنا وتراقب معيشتنا وتعلم أننا أشخاص حقيقيون، ونحن من ناحيتنا نحب أن نراها تنظر إلينا، وأن تحبنا، ولكنه يريحنا أيضًا معرفتنا بأن هذا الحيوان الأليف بوسعه النظر، ولكن دون أن يتكلّم، وبوسعه أن يحب، ولكن دون أن يقدّم رأيًا".

بتلك الكلمات أجابت المؤلفة الأرجنتينية، سامانتا شويبلين، على سؤال من أين جاءها الإلهام لابتكار جهاز الكينتوكي في روايتها التي حملت اسمه، وتُرجمت الرواية إلى الإنجليزية تحت عنوان "عيون صغيرة"، ووصلت في العام الماضي إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية، وتُرجمها، هذا العام، إلى العربية محمد الفولي، وصدرت عن دار صفحة سبعة السعودية.

 جاء الكينتوكي في الرواية، مازجًا بين خصائص تطبيقات التواصل الإلكترونية، بكل ما تحمله من المجهولية والرغبة في التلصص والتحكم في حيوات الناس، وبين خصائص عالم الحيوانات الأليفة، بكل ما تحمله الأخيرة بدورها من إلفة واعتياد أصحابها على وجودها الأبكم في بيوتهم والميل إلى التحدث معها كما يتحدثون إلى البشر، وعلى هذا فالكينتوكي ليس فكرة خيالية مستبعدة التحقيق في هذه الأيام، بل إن هذه الرواية لا تدور في المستقبل، بل الحاضر، هذا الحاضر، فإحدى شخصيات الرواية، وبعد أن اشترت جهازها الخاص من المتجر، قالت، في خيبة أمل، إنها كانت تتوقع نمطًا من آخر أجيال التكنولوجيا اليابانية الحديثة وخطوة جديدة نحو الروبوتات المنزلية، قبل أن تكتشف عدم وجود شيء جديد في جهاز الكينتوكي، وأنه "ليس سوى اتصال هاتفي مع دمية تحرك عن بُعد، ومزودة بكاميرا وسماعة صغيرة وبطارية يستمر شحنها يومًا أو اثنين وفقًا للاستخدام"، وهذه الدمية الكينتوكية، في الرواية، تأتي على هيئة أشكال حيوانات أليفة كثيرة، كالأرانب، والتنانين، والباندا، وخُلد الماء، والغربان، وقد يشتري الشخص دمية الكينتوكي، بمبلغ 279 دولارًا، ويصبح "سيّدًا"، بامتلاكه الجهاز وإحضاره إلى بيته، أو قد يدفع 70 دولارًا فحسب ويشتري بطاقة اتصال يشغلها من شاشة حاسوبه في البيت، ويصبح "ساكنًا" في جسد أحد الأجهزة المشتراة من قبل "الأسياد"، ويعود باستطاعته أن يرى "سيّده" من خلال عيني الدمية الإلكترونيتين.

هذه فكرة الرواية الخيالية، وقد جاءت بها ثنائية "الأسياد" و"الساكنين" وفرق المال الملحوظ للانتماء إلى إحداهما، من أجل خلق الصراع اللازم لدفع الأحداث، فهي، بعبارة أخرى، المعادل الموضوعي للنظرية الماركسية عن الصراع الطبقي، حيث "ينقسم المجتمع إلى معسكرين كبيرين متعاديين ومتجابهتين مباشرة، هما البرجوازية والبروليتارية"، كما يوضح ذلك البيان الشيوعي، والذي يؤكد من سطره الأول بأن "تاريخ أي مجتمع ليس سوى تاريخ صراعات طبقية"، وفي الرواية حاولت إحدى الشخصيات بها أن تجمع بين الأمرين، فابتاعت دمية جهاز الكينتوكي، بالمبلغ الأكبر، وابتاعت أيضًا بطاقة اتصال بجهاز عشوائي آخر، بما يساوي ربع ثمن الجهاز، فكانت "سيدة" و"ساكنة"، معًا، غير أن المؤلفة جعلت هذا الفصل الشاذ ينتهي بتدمير الاثنين لبعضهما البعض، في إشارة لاستحالة الجمع بينهما في وفاق.

ولزيادة اللعبة صعوبة، فإن"السيد" لا يملك زرًّا لإطفاء الكينتوكي أو تشغيله حيثما يرغب، فهو في بيته حيثما كان، كما أنه لا يحق له أن يعرف أي معلومات عن "ساكن" الكينتوكي، أو أن يحاول أن يتحدّث معه، فهو حيوان إلكتروني أبكم، ولكن وراء عيونه الصغيرة تلك تكمن روح واعية بشرية، ومن الجهة الثانية فإن "الساكن" في الكينتوكي لا يحق له كذلك أن يتحدّث مع "سيده"، أو أن يحاول الاتصال به خارج اللعبة، وعليه أن يتقبَّل بسلبية كل ما يُعرض على شاشته من عالم "السيد"، ومن ثم تشترك كلا من الدمية وبطاقة الاتصال في أنهما يرتبطان عشوائيًّا ببعضهما بعضًا، فقد يشتري أحد المقيمين في ألمانيا بطاقة اتصال من متجر محلي ليجد نفسه "ساكنًا" في أسلاك جهاز كينتوكي اشتراه صاحبه في أحد متاجر كوبا، وبين هذين القيدين تسير لعبة الكينتوكي.

ولذلك، ولأن الناس مختلفون، فيمكن النظر إلى هذه الرواية على أنها يوتوبية وديستوبية في آن واحد، لا يغلب طرفًا آخر كدائرة اليين واليانج الصينية، فالمؤلفة اختارت أن تروي دون أن تتدخل في سير الأحداث أو تحكم عليها، فاختارت طائفة واسعة ومختلفة الأجناس والأعمار والبلدان والعادات، من "الأسياد"، و"الساكنين"، وتناولت العلاقة بينهم وبين الكينتوكي على مدار فصول قصيرة متصلة، ولذلك قد نجد إحدى الشخصيات تفكر بطوباوية هذا الجهاز الجديد "الأمر يستحق المخاطرة، ففي نهاية المطاف توجد كينتوكات طيبة مثل الموجودة لديها، مخلوقات لها نوايا جيدة، ولا تسعى إلى شيء سوى مشاركة أوقاتها مع أشخاص آخرين"، ويرى القارئ معها أن هذا العالم الذي وهت فيه الصلات بين البشر بفضل الوباء والتكنولوجيا، يحتاج حقًا أن تظهر فيه أجهزة الكينتوكي التي تمزج بين البشرية والآلية لتخفف ما استطاعت من خيوط العزلة القاسية، وتونس حياة المسنين، وتلعب مع الأطفال، وتتصل بالشرطة وقت الخطر لإنقاذ" سيّدها"، أو قد تُثري حياة "ساكنها" المتواضعة وتُطلعه على العوالم البعيدة عنه وتزيد من تجاربه ومشاهداته وتحقق له قدرًا من التواصل الذي يفتقر إليه، بينما قد نجد شخصية أخرى في ذات الرواية تغرق من الشرور المحيطة بها من صنيع هذا الجهاز الشيطاني، وتهتف بحنق "لماذا لا يكون هناك كينتوكي طيب؟"، ونجد أخرى مثلها تتساءل في غضب وهي ترسم صورة سوداوية لأجهزة الكينتوكي التي غزت العالم من أدناه لأقصاه "ما هي فكرتها الغبية بالضبط؟ ما الذي يفعله كل هؤلاء القوم بتجوّلهم فوق أرضيات منازل أشخاص آخرين ومشاهدتهم لنصف البشرية الآخر وهو يفرّش أسنانه؟ لماذا لا تتعلق هذه القصة بشيء آخر؟ لماذا لا يزرع أحدهم شحنة متفجرات في كينتوكي وسط محطة مركزية مزدحمة ويمزّق أجساد الكل؟ لماذا لا يبتز أي "ساكن" كينتوكي مراقبًا جويًّا ويجبره على تفجير خمس طائرات في فرانكفورت لكي يعفو عن حياة ابنته؟ لماذا لا يلتقط مستخدم واحد من بين آلاف المستخدمين الذين يتجوّلون في تلك اللحظة فوق أوراق مهمة ذات ثقل ويُسقط بورصة وول ستريت؟ أو لماذا لا يُقدم على اختراق برمجيات شبكة مهمة ويُسقط مصاعد عشر ناطحات سحاب في وقت واحد؟ لماذا لا يستيقظ العالم ذات صباح بائس على نبأ وفاة مليون شخص نتيجة لسكب عشر لترات فقط من الليثيوم داخل مصنع برازيلي للألبان؟!".

في هذه الرواية لا خير محض، كما أنه لا شر محض، ولم يزد الكينتوكي شرور العالم شرًّا جديدًا لم يكن معروفًا من قبل، ولا أضاف إلى خيراته خيرًا جديدًا، فما كان سوى قناع (كما هو في الصورة الموضوعة على غلاف الرواية في طبعته الإسبانية والعربية) قناع يضعه صاحبه فلا يتلون إلا بلون شخصيته، وكأن الكاتبة أرادت أن تؤكد من خلال روايتها أنّ التكنولوجيا لا تفرض شيئًا جديدًا في حياة الإنسان، لم يكن موجودًا من قبل، وأن الصراع الطبقي سيظل شاهدًا على تاريخ الوجود الإنساني، وأداة لاستمرار حاضره، غير أن القضية الرئيسية التي يعرض لها هذا الكتاب ويدير حولها مضمون فصوله، هي فكرة الخصوصية المهدرة في عصر التكنولوجيا، وانهيار الحواجز الطبيعية بين حياة الإنسان الخاصة والعامة، وقلة الحيطة في الحديث أمام الغرباء ما دموا غرباء، وما دام من المفترض أن يكونوا كذلك، مثلما استغربت شخصية الراوي في رواية الحب في المنفى، لبهاء طاهر، عندما واجهته الفتاة بحقيقة صادمة عن حياتها، في لقائهما الأول، ليقول لها مستنكرًا "لماذا تبوحين لي بهذا السر أو غيره، نحن لم نكد نلتقي، أشكّ حتى أنك تعرفين اسمي"، فتجيبه "ولكن هذا أفضل كما تعرف، الناس لا تبوح بأسرارها للأصدقاء وإنما للغرباء، في القطارات أو في المقاهي العابرة"، ففي فصل الرواية الأخير تكتشف الشخصية أنها كانت طول الوقت تحت رحمة عيون صديقها المقرب في الحياة الواقعية، والذي كان يراقبها من خلف عيون جهاز الكينتوكي الإلكترونية المجهولة، فتأتي الكلمات الأخيرة من رواية الكينتوكي لتقول "تتساءل للمرة الأولى، بخوف يوشك أن يحطمها، إن كانت تقف فوق أرض عالم يُمكنها حقًا أن تفر منه"، وكأنها رسالة أخيرة واضحة، حيث يفقد الإنسان نفسه في عالم اللاخصوصية الحديث، ولا يعود له مهرب آمن من عيون الآخرين وفضولهم.