مراجعات

أمينة عبد العليم

واحة الغروب الأنا والآخر في زمن الهزيمة

2018.11.01

واحة الغروب الأنا والآخر في زمن الهزيمة

تعيد رواية “واحة الغروب” طرح الأزمة الروحية للمثقف الذي تؤرقه القضايا الوطنية والهم العام في زمن الهزيمة وفي مواجهة الغزو الأجنبي والاستعمار. إن الهزيمة حاضرة في الرواية من خلال زمن الحكي وهو أواخر القرن التاسع عشر وقت اندحار جيش عرابي أمام الإنجليز وبداية الاستعمار البريطاني لمصر، ومن خلال زمن الكتابة الذي يمتد بين عامي 2003 و2006، وهي فترة الغزو الأمريكي للعراق. وتترك الهزيمة أثرها الواضح في وعي “محمود”، الشخصية الرئيسية، وسلوكه، وطريقة فهمه للتاريخ وللحظة الآنية. لا تقف الهزيمة عند حدود الحدث التاريخي المحدد الذي تتم فيه هزيمة جيش أمام جيش وإنما تمتد إلى روح الإنسان نفسه وتحاصرها وتسممها بحيث يتساوى في نفسه الحياة والموت.

تتعدد الأصوات السردية في الرواية، فتتناوب الشخصيات الرئيسية في الحكي عن طريق المونولوج الداخلي. تعطينا هذه التقنية فرصة للوقوف على الفضاءات الاجتماعية والثقافية والتاريخية المتشابكة في عالم واحة سيوة. كما أنها نقلت ما يدور داخل وعي الشخصيات، وكيف يؤثر الماضي فيهم، ومدى الاختلاف في الرؤى بينها وبين سائر الشخصيات في الرواية. هذه التقنية تضع شخصية “محمود” في مقابل شخصية “كاثرين”. ويواجه القارئ هذا التقابل في الجزء الذي يوظف فيه الكاتب الصحراء كفضاء مكاني للسرد؛ الصحراء هنا كمسرح للأحداث أدت دورًا مهمًا؛ إذ إن صمتها وانبساطها يترك مساحة للمونولوج الداخلي في إبراز وعي الشخصية بنفسها وفهمها لأزمتها وإجابتها عن التساؤلات الوجودية التي تؤرقها. ومن ناحية أخرى، يكثف وصف الصحراء اللغة تكثيفًا يجعلها أقرب إلى اللغة الشعرية في بعض المقاطع وإن تم ذلك بصورة تتسق مع صوت الشخصية. كما يسهم تنقل السرد بين “محمود” و”كاثرين” وهما يجتازان الصحراء في إظهار مساحات اللقاء ومساحات عدم الفهم. فالصحراء تسحر “كاثرين” (اعتقدت أني لن أكتشف جديدًا ولن يدهشني شيء. درست كل المكتوب عن الطريق وعن الآبار والكثبان والعواصف، لكن الكتب لم تحدثني عن الصحراء الحقيقية. لم أعرف منها كيف تتغير الألوان فوق بحر الرمال عبر ساعات النهار، ولا وجدت فيها كلمة عن تحرك الظلال وهي ترسم سقفًا رماديًّا نحيلاً على قمة تل أصفر أو تفتح بوابة داكنة في وسطه، ولم تعلمني كيف تنعكس السحب العالية الصغيرة فوق الكثبان أسرابًا مسرعة من طيور رمادية، ولم تتحدث عن الفجر، بالذات الفجر، وهو يتحول من خيط رقيق أبيض في الأفق إلى شفق أحمر يزيح الظلمة ببطء إلى أن يتوهج الرمل بحرًا ذهبيًّا مع أول شعاع للشمس وساعتها تنفذ إلى أنفي رائحة لم أعرفها في حياتي قط من اختلاط ندى الفجر بالشمس بالرمل، رائحة شهوانية لا تنفذ إلى أنفي وحدها بل تتفتح لها مسام جسمي كله فأكاد لولا الخجل، لولا أصوات رجال القافلة الذين استيقظوا خارج الخيمة، أن أمسك بيد محمود وأقول تعال هنا بسرعة! فوق هذا الرمل المبتل).

ولكن محمود يتفاعل مع الصحراء بصورة مختلفة، يقول:

(- ولكن الصحراء تغيرنا بشكل مختلف.

- فكيف تغيرك أنت؟

- أنا تمتد صحراء أخرى داخل نفسي، لا شيء فيها من سكون الصحراء التي نعبرها. صحراء مليئة بالأصوات والناس والصور.

- هذا جميل أيضًا.

- يكون جميلاً لولا أن تلك الصور عقيمة أيضًا كالصحراء. كلها ترتد إلى ماض ميت، لكنها تطاردني طوال الوقت).

ويقول أيضًا عن الصحراء: (ها هو بستان الروح كما قال سعيد! ربما روحه هو، لا روحي أنا. لا يحرك شيئًا في نفسي هذا البستان الأصفر). سعيد هو صديقه الصوفي وزميله في النظارة في رتبة مفتش النظارة. تجعل الصحراء محمود في مواجهة مع ذاته، وتعيد إلى وعيه إحساسه الدائم بالهزيمة وتذكره بالخيانة. (أسأل نفسي طول الوقت عن الخيانة .. لماذا خان الباشوات والكبار الذين يملكون كل شيء؟ ولماذا يدفع الصغار دائمًا الثمن؟ يموتون في الحرب ويُسجنون في الهزيمة بينما يظل الكبار أحرارًا وكبارًا؟ وسألت نفسي: ولماذا يخون الصغار أيضًا؟ لماذا خان الضابط يوسف خنفس جيش بلده في التل الكبير .. كيف كان يفكر وهو يرى مدافع الإنجليز تحصد إخوانه ورفاق سلاحه الذين كان يأكل معهم وينام معهم ويضحك معهم؟ ... يقول الدليل إن الصحراء تغدر لمجرد عاصفة أتت في غير أوانها، تعال أحدثك أنا كيف يكون الغدر). وهكذا نفهم أن «محمود» يعيش مأزومًا بين ماض وحاضر عنوانهما الخيانة. فهزمته الدنيا بسلسلة من الخيانات أولها عندما فقد والده ثروته فتبدلت حاله، ثم عندما فقد حبيبته «نعمة»، والأهم عندما تحطم حلمه وحلم المصريين في الاستقلال بخيانة الباشوات لعرابي. كما عانى خيانة صديقه في التحقيقات لينجو بنفسه. وهو نفسه خان عرابي والثوار عندما قال عنهم في التحقيقات إنهم من البغاة كيلا تزج السلطات به في السجن وليحتفظ بوظيفته. ليعيش محمود من بعدها في سجن آخر داخل نفسه محاصرًا بماضيه ومؤرقًا من ضميره. ويقول عن عمله: (لعل الدنيا كلها سجن)، «(في قسم الشرطة هذا صنعت كل حياتي فضاعت كل حياتي). حتى زواجه من كاثرين لا يجلب الراحة لنفسه كما تصور (ها هي أسرة وبيت وزوجة ذكية وشجاعة فلماذا لم يأت ذلك الاستقرار أبدًا؟ لماذا هو مراوغ وبعيد؟). فلا مهرب له من سجن نفسه، ومن مواضعات وظيفته التي يكرهها، ومن جلسات المحاكمة التي يعقدها لنفسه ويجلد فيها ذاته مهما حاول أن يبدأ من جديد.

إن الصحراء والواحة مرتبطان بالغرب والغروب، وهي معان ترتبط بالنهايات وبالموت. فالعبور إلى الأفق الغربي في التراث الفرعوني يعني العبور إلى العالم الآخر. وقد تكرر توظيف الكاتب للصحراء في قصة سابقة كتبها بهاء طاهر، وهي «أنا الملك جئت». إن هذا التناص الداخلي بين هذين العملين شديد الأهمية في فهم طريقة تشكيل الكاتب لفضائه المكاني وتوظيفه لفهمه للتراث الفرعوني وتوظيفه لدلالات الغرب والأهرام والمعابد في صنع عالمه. كانت رحلة «فريد» في هذه القصة للصحراء الغربية شبيهة إلى حد كبير برحلة «محمود»، حيث أفسحت الصحراء بأشكالها المختلفة المجال لأن يخرج لنا «فريد» مكنونات صدره ويبث لنا آلامه بعد أن دخلت حبيبته المصحة العقلية، كما أن الصحراء تركت في «واحة الغروب» العنان لماضي محمود أن يطارده ويحاكمه، فأصبح في مواجهة مع نفسه. كما تكرر في الروايتين استخدام الغرب بمعنى الرحيل إلى العالم الآخر كما صاغها وفهمها العالَم الفرعوني. وتقف الواحة نفسها في روايتنا هذه في موازاة مع المعبد الفرعوني الذي عثر عليه «فريد» في الصحراء الغربية في «أنا الملك جئت». فعلى حين يرى محمود الواحة على هيئة (هرم مدرج لم يفكر أحد من الأسلاف أن يبني مثله) ثم يتساءل (وفيم كان أسلافنا يستخدمون الأهرام؟)، يصف «فريد» المعبد بأنه سهم يشير إلى الغرب، أو مسلة نائمة تشير إلى الغرب (والمسلة هي رمز للعلاقة بين الإنسان وخالقه في التراث الفرعوني). فدلالة المعبد في «أنا الملك جئت» لا تختلف كثيرًا عن دلالة الواحة في روايتنا هذه حيث إن الذي يمضي إلى داخل المعبد يصبح أسيرًا فيه في مواجهة عجزه ويودي به إلى الانتحار تمامًا كما تصبح  الواحة بالنسبة لمحمود. ففي سيوة تضاف أزمة أخرى إلى أزماته التي يعيش أسيرًا لحصارها، فإنه -هو الكاره للاستعمار- يتحول إلى مُستعمر أو أداة للاستعمار يجبي من أهلها الضرائب الباهظة رغم أنه يتعاطف معهم ويود لو تم تخفيض الضرائب لهم ولكنه، عندما يلزم الأمر، يخمد تمردهم. وأهالي الواحة يتربصون به فيها؛ وقد قتلوا بالفعل المأمور السابق عليه. وهكذا تصبح الواحة بمثابة منفى لمحمود يقوده حتمًا إلى الموت.

محمود وكاثرين 

         تمثل الإرجاعات الزمنية المرتبطة بـ «محمود» في مجملها مكاشفة للنفس بتناقضاتها ونواقصها. فمن خلال هذه الإرجاعات نعرف أن حياة محمود تمثل حياة كثير من أبناء الطبقة الوسطى من المتعلمين الذين عاشوا هذه المرحلة التي انفتحت فيها مصر على حداثة وافدة تعايشت جنبًا إلى جنب مع التراث الروحي والتقاليد الشرقية، فعاشوا تناقضات الفترة وأصبحت جزءًا من تكوينهم. وهكذا نجد أنه ينغمس في حياة والده الروحانية فيحضر الصلاة معه في سيدنا الحسين، وفي حلقات الذكر التي يقيمها والده في بيتهم يرتل مع المرتلين ويتطوح مع الذاكرين، وفي نفس الوقت يشرب الخمر ويعاشر النساء. ولا يلج عالم السياسة أو يرتبط بحزب سياسي، ولكنه ينفعل بخطب جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومقالات الصحف التي تندد بالحكام الذين أغرقوا مصر في الديون وقادوها إلى الإفلاس. ولعل هذا التناقض يجد أوضح تجل له في انضمامه إلى محفل ماسوني لأنه سمع أن جمال الدين الأفغاني ومريديه يعتنقون الماسونية، ولأنه عرف أن أتباعها ينتنمون لديانات مختلفة ويجمع بينهم الإيمان بالحرية والتآخي بين الناس من كل جنس، ولاقت هذه الأفكار تجاوبًا في نفسه. ولكن إيمانه بهذا التآخي لا يمنعه من أن يرفض أن تربطه علاقة زواج بجاريته «نعمة» السوداء التي (أحبها كما لم يحب سواها) بل إنه رفض الاعتراف لها بحبه عندما سألته، (زجرتها: ما هذا الكلام الفارغ يا بنت؟ لو عدت إلى هذا الكلام سأرميك في الشارع! فضحكت وهي تقول معك حق يا سيدي. كلام فارغ وأخفت رأسها في صدري وهي تكرر وسط ضحكاتها: أما كلام فارغ! لكنها بعد ذلك خرجت بنفسها إلى الشارع واختفت). ويتساءل: (هل كنت سأجد الجرأة مثلاً على أن أتزوجها لو عثرت عليها أو لو رجعت هي إلي؟ الضابط المحترم يتزوج جارية مجهولة النسب أي عار؟).

ويقول لنفسه: (المشكلة هي أنت بالضبط! لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن، نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن ونصف عاشق. دائمًا في منتصف شيء ما).

تتجلى إنسانية محمود العذبة في ماضيه وحاضره في انشغاله وقت الحرب بنقل الجرحى إلى المستشفى وتصديه بشجاعة لغارة البدو على أحياء الإسكندرية بتخطيط من الباشوات لإلصاق التهمة بالثوار. ورفضه نصيحة مستر هارفي للإيقاع بين أهل سيوة من الشرقيين والغربيين عملًا بنصيحة «فرق تسد». بل إنه حرص ألا يقتل منهم أحدًا أو يؤذي بالجلد حتى في وقت التمرد.

الشيء الجوهري الذي قرب محمود من كاثرين هو كرهها -كأيرلندية- للاستعمار الانجليزي. ولكن الإقامة في الواحة تقضي تدريجيًّا على علاقتهما. فتباين ردود فعل محمود وكاثرين إزاء الحادثة التي تهشمت فيها ساق «إبراهيم» قد باعد بينهما. ففي حين يصل شعور محمود بالذنب والتعاطف مع إبراهيم إلى درجة أن ساقه يؤلمه ويعرج في مشيه، نجد أن كاثرين (تواصل قراءة كتبها ومراجعة رسومها وكأن شيئًا لم يحدث) حتى إنها تتعجب من إصرار محمود على ملازمة إبراهيم طول الوقت. والشيء نفسه يتكرر بعد حادثة «مليكة» وبعد تدهور حال «فيونا». حتى إن بحثها عن الإسكندر يطاردها وينفذ إلى لا وعيها عن طريق الحلم. وهي تقنية ينجح الكاتب في توظيفها لتجسيد انبهار «كاثرين» بالإسكندر حيث تراه في أحد الأحلام في صورة مهيبة، محلقًا في الفضاء وهو يمتطي حصانًا أسود بجناحين أبيضين ومشهرًا سيفًا لم تر مثل طوله.

ويأتيها في المنام بوجه مليكة ربما لأنه الوجه الوحيد الذي ابتسم لها في الواحة، فنما الأمل داخلها أن يكون هذا الوجه طريقها لاكتشاف قبر الإسكندر. ولكن ضفائره الصفراء أخذت تتلوى وتتحول إلى حيات تلتف حولها وهو ما يعكس شعورها بالخطر المحدق بها إذا استمرت في هذه المهمة مع عدم تعاطف أهل الواحة. فيبدو لـ«محمود» أن «الإسكندر» يحتل مساحة ذهنية ووجدانية ضخمة من وعي «كاثرين» بحيث إنها تنكفئ على ذاتها وعملها لتحقيق مجدها الشخصي.

وهكذا يقول محمود عن علاقته بكاثرين (منذ جئنا إلى هذه الواحة انكسر شيء لا أعرف ما هو. انتهى هنا نهار علاقتنا إلى غروب في هذه المحطة الأخيرة إلى الأفق الغربي، كما وصفت كاثرين هذا المكان. تفتت زواجنا مثل الرمال ثم بددته كله عاصفة مليكة)

الشرق والغرب ميراث من عدم الفهم

يمكن أن يفهم لقاء كاثرين بمليكة باعتباره مجازًا للصدام بين العالمين، ولاستغلاق التواصل بينهما في أعلى أشكاله حده في الرواية. وهو يمثل كذلك نقطة مركزية في السرد وفي شرح العلاقة بين الشرق والغرب وفي تحول العلاقة بين كاثرين ومحمود. ومليكة هي أحدى صبايا الواحة وجاءت لعرض صداقتها على كاثرين، وربما مساعدتها في التعرف على أماكن الآثار، ولأن كلتيهما تجهل لغة الأخرى، فقد صنعت مليكة تمثالين يشبهانهما تمامًا وقربتهما من بعضهما البعض لتظهر لكاثرين نواياها الطيبة. وحاولت معانقة كاثرين لتعبر لها عن مشاعر الصداقة، ولكن كاثرين ظنت أنها تتحرش بها جسديًّا، وانتهى بها الأمر بضربها بجريدة النخيل وجرحها. ودخل محمود في هذه اللحظة فهاله ما رأى وظن أن هذه المرأة الغريبة تؤذي زوجته فزج بها خارج بيته، وكانت قد دخلته متنكرة في زي رجولي وبخروجها عرفت الواحة أن مليكة، وهي أرملة، خرجت من بيتها قبل أن تكمل فترة حبستها، وخروج الأرملة بعد موت زوجها يعني في أعراف الواحة الشؤم والهلاك للجميع فانتهى الأمر بانتحارها. يمثل هذا اللقاء الميراث الحضاري للعلاقة بين الشرق والغرب المثقل بسوء الفهم والذي خرج منه الشرق في كثير من الأحيان مثخنًا بالجراح. إن هذا الميراث من الاستعلاء يعبر عنه موقف والد «كاثرين» من الآخر خير تعبير، فهي تدرك أن والدها ما كان ليوافق أبدًا على زواجها من محمود وهو الكاثوليكي الغيور، تقول عنه (مع أنه أول من علمني أن أحب الشرق وأعشق آثاره. نعم، أثار فضولي بالذات إلى ما تركه اليونان والرومان من آثار مجهولة، ولكن بالطبع بشرط أن أبقى بعيدة عن ناس الشرق الأحياء. هم فقط مستودع للتاريخ).

العلاقة بين الشرق والغرب من الموضوعات التي شغلت بهاء طاهر طويلاً، فعالجها في أكثر من عمل؛ في «بالأمس حلمت بك» و«أنا الملك جئت» و«الحب في المنفى» وفي روايتنا هذه «واحة الغروب». وهناك أنماط تتكرر في أعمال «بهاء طاهر» في معالجته لهذا الموضوع، ويمكن تلخيصها في أن هناك أزمة تعصف بأفراد العالمين يتفاوت ثقل وطأتها على نفوسهم، وفي الوقت نفسه هناك مساحات كبرى من عدم الفهم بين الشرق والغرب، فكاثرين لا تدرك مدى تمكن أزمة محمود منه. وقد رأينا كيف وضعت الصحراء كل من كاثرين ومحمود في مواجهة مع فكرة الموت بعد عاصفة مفاجئة كادت أن تودي بحياة القافلة. فيفاجئنا محمود بأنه تمنى الموت في اللحظات التي عجز فيها عن التنفس، والتي أطبق فيها ضيق هائل على صدره. وعلى الجانب الآخر عندما تنتقل كاثرين إلى دور السارد في الصحراء نفهم أنها أكثر عملية وعقلانية فيما يتعلق بالموت (هذه الحياة يجب أن نحياها فلنحاول إذن أن نجعل لها معنى). وقبلها قالت (لا أفهم أي معنى للموت، لكن مادام محتّمًا، فلنفعل شيئًا يبرر حياتنا. فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها).

ولا تفهم كاثرين لماذا يقول محمود إن الصحراء تنتشر في داخله وتعترف بعجزها عن فهم ما يهتم به.  ولا تفهم لماذا ينبهر بخاطر الموت في العاصفة بدلاً عن أن يتشبث بالحياة. (ما الذي يجعلك تنبهر إلى هذا الحد بخاطر الموت في العاصفة بدل أن يدفعك للتشبث بالحياة مثل إبراهيم ومثل كل الناس؟ وهل غيرت رأيك فجأة لكي ترضيني أم أن هذا جزء من تقلباتك التي لا أفهمها؟ وفي وسط هذه التقلبات أين أجد محمود الحقيقي؟). وتصرّح في أجزاء تالية أنها لا تفهم لماذا يحزن بهذا القدر على «إبراهيم» الذي هشم حجر سقط من سقف المعبد ساقه، ولماذا يحمل نفسه ويحملها مسؤولية مقتل مليكة. فكاثرين تمثل جانب من الغرب يمثل العقلانية عندما تكون نسقًا فكريًا يعمل كحاجز يحول دون فهم «الآخر» الذي لا يمضي وفقا لشروط العقلانية. وكاثرين على جانب آخر باحثة عن مجدها الشخصي، تحاول أن تكتشف قبر الاسكندر، ولا يعنيها الجوانب الإنسانية فهي تستمر في بحثها رغم رفض أهل الواحة لتجولها في أراضيهم وإصابة «إبراهيم» إصابة بالغة جراء محاولتها التنقيب عن القبر.   

وعلى الجانب المقابل من «كاثرين» تمثل أختها «فيونا» القدرة الفردية على الخروج من المفاهيم المسبقة عن الآخر، والانفتاح عليه وفهمه، والتعامل معه بتسامح وحب.  فهي تتفاهم مع أهل الواحة دون لغة، وتدخل قلوبهم بصفائها وجمال روحها، وهي تفهم قضاياهم فتدافع عن «عرابي» وتعتبره بطلاً كأبطال بلدها الأيرلنديين الذين يحاولون التخلص من الاستعمار. ولكن فيونا تذوي سريعًا وتتدهور حالها بسبب مرضها. وهكذا لا يقع الكاتب في أحابيل الفكرة الجامدة عن الغرب فهناك إمكانية للقاء الإنساني بين الشرق والغرب عبر الوعي الإنساني والهموم المشتركة ولكنها إمكانية مجهضة ومبتسرة.

الإسكندر إله في «قلب الظلام»

كانت إضافة رواية الإسكندر لحياته مهمة في شرح هدم «محمود» للمعبد الذي نُصّب فيه «الإسكندر» ابنًا لآمون. ولا شك أن لجوء الكاتب إلى هذه الحيلة السردية هو بمثابة «رد على الاستعمار» كما تصفه دراسات خطاب ما بعد الكولونيالية. وحضور الإسكندر كشخصية من الشخصيات يجعل الاستعمار متجسدًا ليس في الحاضر فقط وإنما جاثمًا على التاريخ والفضاء المكاني في الواحة. وقد يستدعي تنصيب الإسكندر ابنًا لآمون إلى الأذهان رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد وهي رواية تحوي رحلة كذلك إلى الجنوب الإفريقي حيث نجد أن أهل المنطقة من الأفارقة قد صاروا يؤلهون المستعمر الأبيض وكان هذا أسوأ ما يفعله الاستعمار في أهله: أن يسرق روحهم. إن كلمة الظلام هنا darkness لا تعني لون الإفريقي وإنما هو ظلام الاستبداد والقهر. وهذا اللقاء بين الروايتين -إن ثبت- قد يمنح دلالة أخرى لعنوان الرواية “واحة الغروب” حيث يحيلنا الغروب إلى الظلام، يقول الإسكندر (أرواحنا بعد الموت تجوس في الظلمة. وأنا الآن مثل سمكة عمياء لا تدرك من المحيط الواسع سوى أنها تسبح وسط ماء أسود يليه ماء مثله. هكذا أتخبط في ظلمة من بعدها ظلمة. فهل هذا هو جحيم (هاديس) الذي جعله اليونان مستقرًا للأشرار، بينما تسبح الأرواح الطيبة في النور مع الأرباب، أم هو فناء العدم للخاطئين كما وصفه كهنة المصريين؟)

ويشرح الإسكندر ماذا تعلم من المصريين. فعندما يعلن الكاهن الأكبر في سيوة أن الآلهة اختارت الإسكندر فرعونًا لمصر وأن الإله حورس قد حل فيه حتى يهلل المصريون ويلحون في حماس هاتفين باسم الفرعون الجديد (لكن فيلوتاس المحارب الشجاع وصديقي الحميم سألني بما يشبه التأنيب: إذن فأنت إله؟ وحين لم يسمع مني رداً غمغم وهو يتطلع حوله في أسف: كنا سعداء بأن بطلاً فحسب هو الذي يقودنا إلى النصر). إنه يتعلم أن يزدري حرية الغرب وينتصر لاستبداد الفراعنة وطيغانهم (سألت نفسي لحظتها عما فعله اليونان بحريتهم التي يفخرون بها، لم يتوقفوا عن الانقسام والاقتتال حتى كانت مدنهم تبيد بعضها بعضًا، هاهم المصريون دامت دولتهم آلاف السنين مستقرة بسطوة الأرباب والفراعنة والكهنة، بفضل الطغيان الذي يكرهه هؤلاء اليونان، فلماذا لا أتعلم من مصر دروسي؟)

ويمضي سرد “الإسكندر” لحياته الداخلية وأزمته الشخصية في موازاة لسرد محمود عن أزمته مما يبرز سريان الأزمة الوجودية عبر التاريخ. ويقف سرد الإسكندر في الوقت نفسه في مواجهة النظرة التقليدية للتاريخ التي تعاني من المركزية الأوروبية Euro-centrism، هذه النظرة إلى تمجد أعمال الإسكندر وترفعها إلى درجة البطولات الخارقة وتبرر بحور الدماء التي أراقها بحلمه اليوتوبي في (أن يخلق عالمًا لا يكون فيه فرق بين أشقر وأسمر ولا فرق فيه بين من يعبد زيوس أو نار الفرس أو آلهة الهند) ، في حين يقدمه السرد مستبدًا طاغيًا يقتل أقرب المقربين إليه، وينعم بتأليه من يستعمرهم، ويعيش بعدها حياة بلا سعادة يؤرقه الندم. (جرّبت كل شيء. النصر والمجد اللذين لم يواتيا أحدًا قبلي، ولذة الحكم والسلطان، أعفو كإله وأقتل كإله، وجربت نشوة الشعر والموسيقى ومتعة النساء والخمر، فلماذا لم أصبح سعيدًا؟) وبعد موت أقرب أصدقائه هيفايستون يشعر أن السلام يغادره فيحاول الانتحار (تيقنت مع موته أن الإسكندر الإنسان قد رحل وأن الشظايا الأخرى التي تزدحم داخلي، ويرعبني وجودها تنتظر دورها. وقررت ألا أعيش مع هذه الكائنات المشوهة بعد أن أخذ هيفايستون معه السلام الذي كان يعديني به فتتوحد تلك الأشلاء بشرًا سويًّا. حاولت أن يكون الأمر بيدي فأردت إغراق نفسي في النهر، لكن روكسانا الوفية أنقذتني).

تعيش جميع شخصيات الرواية باستثناء الإسكندر في ظل الاستعمار، ويقدم لنا السرد كيف يهزمها الاستعمار ويكسر روحها، كلًا بطريقته. وتقديم شخصية الإسكندر هو استقصاء لموضوع الاستعمار من جوانبه كافة. فنفهم دوافع المستعمر ونفهم تناقضه بين ما يعلنه من أهداف إنسانية للاستعمار وما يهرقه من دماء. هذا التناقض الذي يجعله يفقد روحه ويعيش مؤرقًا.

تفجير المعبد : التحرر من الاستعمار ومن سجن الواقع المأزوم

يسخر محمود من المعابد ومن التاريخ الذي يكتبه المنتصرون. تهكم من بناء المصريين للمعابد قبيل الغزو الفارسي فيقول هازئًا لزميله وصفي في سيوة (فبينما كان الفرس يستعدون لغزو مصر كنا نحن نستعد لهم ببناء المعابد؟ عظيم! رأى الملك أن بناء المعبد أفيد للبلد من بناء جيش وهو يعرف أن الفرس قادمون. لم لا؟).

وعلى الرغم أنه لم يكن مهتمًا بتاريخ مصر القديم فقد فهم من أحاديث دارت بين زوجته كاثرين وزميله «وصفي» أن المصريين قد توجوا الإسكندر فرعونًا وابنًا لآمون في أحد المعابد في الواحة. وفي لحظة إحباط وجنون يقرر تفجير المعبد بالديناميت؛ وهذه اللحظة شبيهة باللوثة التي أصابت إسماعيل في قنديل أم هاشم عندما حطم القنديل رمز العادات والمعتقدات البالية.

(عدت إلى المعبد ووقفت لحظة أتأمله والجرابان على كتفي. هذا إذن هو المجد الذي يكتشفه لنا الإنجليز لنعرف أننا كنا عظماء وأننا الآن صغارًا! الأجداد لا بأس! أما الأحفاد فلا يصلحون إلا للاحتلال؟ يجب ألا يبقى للمعبد أثر. يجب أن ننتهي من كل قصص الأجداد ليفيق الأحفاد من أوهام العظمة والعزاء الكاذب سيشكرونني ذات اليوم لا بد أن يشكروني!).

صار محمود سجينًا لخيانته، ويشعر أن الحياة نفسها خيانة مستمرة له؛ فوصفي يتآمر مع رئيس النظارة والشيخ صابر للتخلص منه وها هو يوشك على أن يفقد فيونا الطيبة التي تذكره بحكايتها وألفتها وطيبتها بنعمة.

وبعد تفجير المعبد يختار محمود أن يموت تحت ركامه. (لم يكن هناك ألم.. وتوهج فجأة نور بداخلي، نعم، الآن يمكن أن أرى كل شيء! أن أفهم كل ما فاتني في الدنيا وأن أعرفه).

ويمكننا أن نفهم هذا النور في داخل محمود الذي يمكن أن يقابل ظلمة السديم الذي يسبح فيه الإسكندر الأكبر. ووفقًا لهذه النهاية، يكتسب عنوان الرواية «واحة الغروب» دلالة أخرى؛ حيث يصير الغروب إشارة إلى الموت أو العالم الآخر وتصبح الواحة هو المكان الذي تستريح فيه النفس من عناء رحلة طويلة في قلب الصحراء. والواحة، بمياهها التي تعكس صفحتها شموسًا وهّاجة تقترن بدلالات الحياة والإشراق في حين يضفي عليها موقعها الغربي وتاريخها دلالات الأفول والموت. فتصبح الواحة نفسها عنوانًا للضوء والظلام والتحرر والأسر، فينفتح الحكي على تعدد التفسيرات. ويفرض الضوء الذي توهج داخل «محمود» قراءة أكثر إشراقًا من النهاية المأساوية حيث إنه يتحرر من سجن نفسه ومن عذابات خيانات الحياة المتوالية ومن مواضعات وظيفته التي تجعله مستعمِرًا. ولا يبقى إلا أن نستعيد قصة فيونا عن الحب الذي يبقى بعد الموت والنبات المتسلق الذي ينبت من قبري الحبيبين مانحًا الأمل في استمرارية التواصل بعد الغياب.