عدد 18-عن الفقد والافتقاد
يحيى وجديوارفةٌ شجرتُكِ يا دينا
2020.11.01
وارفةٌ شجرتُكِ يا دينا
التقيتُ دينا جميل للمرة الأولى عام 2000 تقريبًا.. ذهبت مع الصديق محمد البعلي إلى مقر نقابة الصحفيين المؤقت بالأزبكية لزيارة عدد من الصحفيين كانوا قد أعلنوا الإضراب عن العمل والاعتصام بالنقابة بمؤسسة «العالم اليوم» احتجاجًا على ما لا أذكره الآن، وفي الطابق الثاني في طرقة صغيرة بها عدد محدود من المقاعد كان يوجد وائل جمال، وحازم شريف، وأيمن مكرم، وإبراهيم الصحاري، ومحمد بركة، ودينا، وكنت آنذاك طالبًا في الجامعة لا أزال، وأخطو خطواتي الأولى في الصحافة بصحيفة «أخبار الأدب». قابلتني دينا جميل ببشاشة مُحببة، وجرَّت كرسيًّا متهالكًا لأجلس عليه، ربما كان كرسيها أصلاً. في هذا الوقت كنا؛ دينا وأنا، في تيار سياسي واحد لكن في مجموعتين مختلفتين، لا هي تعرف ذلك ولا أنا، راحت ترحب بي بوُد بالغ، وتسألني إن كنت أحب أن أشرب شيئًا من البوفيه، وأظن أن المعتصمين كانوا قد أضربوا عن الطعام أيضًا، فخجلتُ أن أطلب شيئًا، وكانت دينا تقطع حديثها الباسم معي حول دراستي وعملي بالصحافة ونحافتي الشديدة معتذرة لتذهب إلى إبراهيم الصحاري لتستفهم منه عن شيء، أو لتلبي نداء حازم شريف ليسألها هو عن شيء، وتعود إليَّ لتواصل الترحيب والحديث.
ذلك ما كنت أذكره عن دينا جميل كلما ذكر اسمها أمامي بعد ذلك.. ابتسامة ودودة، وحركة دائبة خفيفة في مساحة لا تتجاوز ممرًا بعرض متر في خمسة أمتار بانتباه يقظٍ حساس..
كنا نضحك أنا وهي على مدار عشرين عامًا تالية كلما تذكرنا لقاءنا الأول، ونسخر من أنفسنا حينها؛ إذ لم نكن نعرف أننا بعد اللقاء بعشرة أعوام سنصير أخوة برابط أقوى من رابط الدم، ولم أكن أنا أتخيل أبدًا أن أكون من يبلغ شقيقها الأصغر بخبر وفاتها، وأن أخبر الدنيا كلها بالنبأ الأسوأ الذي لم أعمل حسابه قط.
***
هذا هو المقال الأول الذي أكتبه لـ»مرايا» في غياب دينا جميل، مقال لم تطلبه مني، ولم تتصل بي أكثر من مرة بخلاف اتصالاتنا اليومية، لتذكَّرني بمواعيد التسليم وضرورة ألا أتأخر في التسليم.. هذا مقال لم أحب أبدًا أن أكتبه..
سألتني ابنتي ذات العشرة أعوام التي حملتها دينا في عيد ميلادها الأول، وأمسكت يدها الصغيرة ورقصت بها ومعها، وحملتها بعدها في قلبها طول سنواتها التالية، وسمحت لها بأن تزورها في العزل المنزلي الصارم الذي ضربته دينا على نفسها طول فترة «الكارنتينا».. سألتني ليلى: قلت لي أنك تعمل، وأنت تتصل بالناس ليكتبوا في المجلة عن دينا. أهذا هو العمل؟ أنتم تكتبون عن دينا، فأين العمل؟
سألتني أيضًا: هل كانت دينا مشهورة لتكتبوا عنها؟ قلت لها مرتبكًا: كانت مشهورة جدًا.. صحفية ورئيسة تحرير شاطرة، ومترجمة معروفة، ومناضلة كبيرة.. فتقول ليلى: ولماذا لم تكتبوا هذا عنها وهي حية؟ وزاد ارتباكي أكثر.
هذا مقال لم أحب أبدًا أن أكتبه، أو كنت أود أن أكتبه ودينا بيننا، لتقرأه وتخجل متواضعة كعادتها.
***
بعد لقائنا الأول في المقر المؤقت لنقابة الصحفيين، جمعتنا نقابة الصحفيين في مقرها الدائم كثيرًا، وفي أنشطة متعددة، تضامنًا مع القضايا القومية أو في قضايا المهنة، ودينا جميل كانت من أنشط الصحفيات في صفوف الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، تجمع توقيعات لأجل القضية الفلسطينية، أو تشارك في اعتصام ضد حرب العراق، أو تدير ندوة تضامنا مع عمال معتقلين أو فلاحين طردوا من أرضهم، أو في مؤتمر جماهيري للأحزاب اليسارية وغيرها.
ودينا جميل مع كل ذلك النشاط لم تكن متفرغة كـ»نقابية» تقضي جُلَّ وقتها في المبنى المعروف بشارع عبد الخالق ثروت، فهي صحفية محترفة، تقدِّس العمل، وملتزمة التزامًا حديديًّا بواجباتها الوظيفية ومبدعة أيضًا في كل المناصب التي تولتها والمؤسسات التي عملت بها؛ العالم اليوم، والأهرام ويكلي، وقناة BBC، وقناة الساعة، وصحيفة الشروق، وموقع أصوات مصرية، وأخيرًا مجلة «مرايا». وفي كل موقع وظيفي كانت دينا بشهادة من عملوا معها، قيادية وليست مديرة.. يدها تسبق أيادي زملائها ومرؤوسيها، وحملت انحيازاتها النقابية من مبنى عبد الخالق ثروت إلى مكتبها في العمل، فراحت تدافع عن مساحة أوسع للصحفيات الشابات، وتطلب تعيين زملائها، وزيادة الأجور وعدالتها، وتنظيم ساعات العمل لتناسب الجميع، وتتحمل الأعباء الأكبر في العمل. كانت دينا مهما سهرنا هي الأولى على مكتبها في الصباح، وكنت أتساءل دائمًا متى تنام وكيف تحتمل هذه الساعات الطويلة في الشُغل دون راحة، وقيمة العمل والالتزام به مهما كان مرهقًا كان أبرز ما تعلمته منها منذ أن أصبحت مرشدتي الروحية منذ سبع سنوات تقريبًا.
***
نعم، أعتبر دينا جميل مرشدتي الروحية منذ عام 2013، أثق في رجاحة عقلها، وأومن بنفاذ بصيرتها في التعامل مع كل المواقف على صعوبتها، كانت دينا متجردة كما لم أرَ في شخص من قبل في حياتي، رأيت هذا التجرد في رؤاها السياسية والتي ثبت صحتها لما اختلفت معها، ورأيته في تعاملاتها مع المختلفين معها فكريًّا، بل ورأيته تجاه من أساءوا إليها شخصيًّا، ودينا ليست طيبة حد السذاجة، لكنها دائمًا كانت ترى جوهر الإنسان لا دوافعه وتصرفاته، تراه في سياقه الاجتماعي والثقافي والنفسي، ولا تحكم أبدًا من موقع أخلاقي أو مادي، وكان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمته منها، ولم أعمل به على طول الخط!
لن أنسى أبدًا كيف كانت مشغولة في أثناء تظاهرات 30 يونيو عن تحقيق هدف التظاهرات، بخشيتها من التنكيل بأنصار السلطة آنذاك. أذكر جيدًا ضيقها من بعض الهتافات المتوعدة أو الشامتة حتى، وكانت محقة!
في كل موقف أو قضية شخصية أو عامة كنت ألجأ إلى دينا جميل لأستمع إلى رأيها، وكانت دائمًا ما تقول رأيها بكل إخلاص وبوضوح ودون محاباة، بمحبة نادرة، وفي الحقيقة إن كل ما فعلته دينا في حياتها كان بالحب والإخلاص.. العمل، العلاقات، النضال، حتى الاستمتاع في السهر أو السفر، لا أذكر أنها تعاملت بغلظة أو «قلة ذوق» حتى مع ألد خصومها، ومع ذلك كانت حاسمة في إيصال رسالتها دون جرح أو إهانة..
***
مرت علاقتي بدينا جميل بمحطات مختلفة، كل محطة كنا نتقارب أكثر من المحطة التي سبقتها، وخلال عشرين عامًا عرفتها فيها بمستوى متباين في العلاقة، لم أرَ دينا في أسعد حالاتها مثلما رأيتها إبان ثورة يناير، كانت لتلامس السماء ونجومها مدفوعة بطاقة أسطورية زادت جمال روحها جمالاً.
أتفهم جيدًا اندهاش ابنتي ليلى من أن تكون دينا «شُغل»؛ فمنذ عام 2015 أصبحت دينا، حينما انتقلت من مصر الجديدة لتجاورنا في المقطم، فردًا من عائلتنا الصغيرة.. زوجتي رحاب الشاذلي وابنتنا ليلى ودينا وأنا، كنا أسرة واحدة، ضمن عائلة أكبر تضم أصدقاء كثر ومتنوعين جدًا داخل وخارج مصر حتى.. عائلة كانت دينا جميل شجرتها الوارفة التي تظلل بمحبتها وإخلاصها علينا جميعًا.
في معاجم اللغة العربية، الوَرَف هو الظل إذا اتسع وطال وامتد، ووَرَف النبت والشجر أي تنعم واهتز ورأيت لخضرته بهجة من ريّه ونعمته، وأنت كنتِ شجرتنا الوارفة يا دينا.