رؤى

شادي لويس

وردة ماركس ورقصتها: الأمل بين بلوخ ولوفيت

2018.01.01

وردة ماركس ورقصتها: الأمل بين بلوخ ولوفيت

يكتب ماركس هنا، واحدًا من أكثر تصوراته ملحمية وشعرية عن الثورة البروليتارية. ولا عجب أن تكون الصيحة الاحتفالية التي ختمت بها تلك الفقرة مصدرًا لإلهام متجاوز السياسي بمعناه الضيق، لا تستثنى العربية منه، بدءًا بالمجموعة القصصية "هنا الوردة..

هيا نرقص" (1973) للبحريني أمين صالح، وصولاً إلى رواية "هنا الوردة" للأردني أمجد ناصر (2016). لكن العبارة، التي وضعها هيجل في مقدمة كتابه "فلسفة الحق" واستعارها من بعده ماركس، ليست إلا نموذجًا فريدًا لطبقات من أخطاء الترجمة، وتعمدها، أو بالأحرى دهائها.

فليس هناك ورود ولا رقص في الأصل اللاتيني للعبارة، التي تعني "هنا رودس، فلتقفز هنا". ولا يفسر هيجل ولا ماركس من بعده كيف تحولت "ردوس" إلى "الوردة" ولا "لتقفز" إلى " لترقص" حين وضعا النص اللاتيني جنبًا إلى جنب مع الترجمة الألمانية. لكن تلك الحكمة الساخرة ليست لاتينية الأصل. فالعبارة اللاتينية ترجمة بقليل من التحريف للأصل اليوناني لها. ففي واحدة من "خرافات أيسوب"، بعنوان "الرياضي المتباهي"، يتفاخر أحد الرياضيين بأنه قفز مسافة غير مسبوقة في إحدى المنافسات الرياضية في جزيرة رودس، ويدلل على ذلك بأن لديه شهودًا يمكنهم الحضور للتأكيد على صدق روايته. لكن أحد المستمعين يقاطعه "هنا رودس، وهنا المكان لتقفز". فبما أنهم في رودس نفسها، فلا داعي للشهود، فالميّه تكدِّب الغطاس، كما يذهب المثل العامي.

لا يبدو أن هيجل كان غير ملم بالمعنى الأصلي لاقتباسه من اليونانية، وهو: أن علينا تقييم المرء طبقًا لأفعاله لا أقواله. فربما ما عناه أن "فلسلفة الحق" يجب أن تكون معنية بالعالم في حقيقته، لا بالنظريات التي تخلقها المجتمعات عن نفسها، ولا بمثاليات سابقة على الظروف القائمة. فمهمة الفلسفة، عند هيجل، أن تفهم ما هو قائم بالفعل، لا تعليم العالم ما يجب أن يكون عليه

لكن استبدال رودس بالوردة، لم يكن اعتباطًا. فهيجل هنا في الأغلب يشير إلى "أخوية الصليب الوردي" السرية التي شاعت منذ القرن السابع عشر أساطير حول امتلاك أفرادها معارف روحانية وعرفانية قادرة على تغيير العالم. لكن تلك المعارف والمعجزات لن تخرج إلى العلن حتى يكون المجتمع مستعدًا لاستقبالها. فشعار الجماعة، الذي يحوي صليبًا بداخله أكليل من الورود أو العكس، يوجز تلك الصورة عن شرط تحقق الخلاص باتحاد الروحي مع المادة، والوعد الإلهي مع العالم المحسوس. هكذا يضع هيجل المجتمع، موضوعًا للفلسفة. فها هنا الوردة، فلا داعي لانتظار وعود نبوية عن اليوتوبيا المستقبلية. فمعطيات فهم المجتمع وتغييره، كامنة في المجتمع نفسه، ولا تأتي من خارجه، ولا من نظريات تتجاوزه

لا يتفق ماركس مع هيجل في الكثير، فهو كان قد حمّل نفسه مسؤولية إعادة وضع العالم على قدميه بعد أن قلبه هيجل على رأسه. يقتبس ماركس عبارة سابقه ويوظفها في سياق يدل على تفهمه لمعانيها الأصلية، سواء في اللاتينية، أو كما عناها هيجل بعد تحريفه لها عمدًا. إلا أن توظيف ماركس يبدو غامضًا، بل وربما فيه تكثيف لكل الغموض والحيرة وسوء الفهم الذين يتنازعوا أي قراءة تتصدى لفحص مجمل أعماله. فإن كانت الوردة هي علامة اكتمال الظرف الموضوعي للثورة البروليتارية، فهل الوضع الجديد الذي تبشر به هو نتاج نكوصات الثورة وكبواتها مرة بعد أخرى؟ أم أن الثورة ووردتها حتمية سنصل إليها بأي حال؟ أي هل علينا أن نرى الوردة تتفتح لنبدأ بالرقص؟ أم أن علينا الرقص الآن لأن الوردة حاضرة دائمًا؟ والأولى: هل الرقص واجب أخلاقي أم حتمية سيفرضها التاريخ علينا؟

تلخص تلك الأسئلة الانقسام بين مفسري ماركس. فعلى خلاف المانفيستو الذي يؤكد بوضوح لا يخالجه شك أن المهمة هي "تطوير الاشتراكية من يوتوبيا إلى علم"، فإن ذلك اليقين بانهيار الرأسمالية بفضل تناقضاتها الداخلية، والذي يحمل بذرة طوباوية داخله، يتركنا في حيرة بشأن الفارق الضئيل بين الضرورة "كواجب أخلاقي" وبين الضرورة بوصفها "حتمية مادية". ففي تلك المساحات التي تتقاطع فيها ادعاءات القدرة على التكهن العلمي بالمستقبل مع ثقل المهمة التاريخية تجاهه، وتتراكب فيها الحتمية مع اليوتوبيا، يبزغ السؤال الأوسع حول شرعية الأمل. فبالعودة إلى اقتباس من أحد خطابات ماركس «الأوضاع الميؤوس منها في المجتمع الذي أعيش فيه تملؤني بالأمل»، يحق لنا أن نتساءل إن كان ما يقدمه لنا ماركس في كتاباته هو علم خالص أم أمل في وسط حلكة الواقع تغلفه مسحة علمية؟

***

«إن كان لا يوجد شيء كالثورة يتطلب الأمل ويلهم الأمل كما يخيب الأمل في نفس الوقت، فما الحكمة إذًا في الانخراط في ثورات ربما تنتهي بنا إلى اليأس؟»

يطرح آصف بيات هذا السؤال المر في كتابه في نقد ثورات الربيع العربي «ثورات بلا ثوار»، ليتقاطع مع الأسئلة التي تطرحها تصورات ماركس عن وردته والرقص حولها، داعيًا إيانا للتساؤل عن جدوى الثورة، وبالأولى الأمل فيها. فبعد الهزائم المتتالية للثورات العربية، وانقلاب حراكها إلى ديكتاتورية أشد قسوة، أو حروب أهلية شديدة الدموية، يبدو سؤال الأمل واليأس جوهريًّا أكثر من أي وقت مضى. وعلى المستوى العالمي، فإن الأمور ليست أفضل حالاً. فمع الردة اليمينية التي تجتاح العالم، يذهب سلافوي جيجيك في كتابه الأخير «شجاعة اليأس» بأنه في لحظتنا التاريخية الآنية «الحلم البديل هو علامة جبن نظري»، لذلك «فإن الشجاعة الحقيقية هي ألا نتصور بديلاً... والاعتراف بأن الضوء في نهاية النفق غالبًا هو «قطار مقبل من الجهة الأخرى»».

ما يعنينا هنا ليس التفاؤل والتشاؤم. فكما يقول الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين في معرض رده على سؤال إن كانت أعماله تحمل منظورًا تشاؤميًّا: «مفهوميّ التفاؤل والتشاؤم لا علاقة لهما بالفكر... فبالنسبة إلى الفكر هو شجاعة اليأس. أليس هذا أقصى درجات التفاؤل؟» فالأمل ليس مرادفًا للتفاؤل، بل وأن نقيضه، أي اليأس، من الممكن أن يكون أسطع صورة للتفاؤل. ولذا فإن مقولة جرامشي «تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة» لا تعنينا هنا أيضًا، بقدر ما يعنينا الأمل بوصفه موقف فلسفي من العالم. الأمل كحافز للفعل السياسي أو مضلل له، ومؤسس على طيف واسع من التنظيرات المتعارضة عن حركة التاريخ ودور الإرادة في الاشتباك معها. فبين الأمل كموقف أخلاقي تجاه العالم، يرفض الوضع القائم ويسعى لتغييره عبر الإرادة، وبين الأمل كإقرار بحتميه حركة التاريخ إلى الأمام، يقف تياران رئيسيان في قراءة ماركس، وموقفان متعارضان من الأمل موضوعًا للفلسفة.

وبالنظر إلى كل من فلسفتي إرنست بلوخ وكارل لوفيت وقراءتهما لماركس، فإن ما نسعى إليه هنا ليس مراجعة الأفكار الماركسية أو نقد أعمال ماركس أو الدفاع عنها، بل توظيف الماركسية مدخلاً لفحص الأمل. فأي فلسفة يمكن لها أن تكون أكثر مناسبة لتلك المهمة غيرها، وهي واحدة من أعمق الأيديولوجيات السياسية تأثيرًا على الإطلاق، والنظرية الفلسفية الأكثر إلهامًا للأمل وتخييبًا له في الوقت نفسه؟

ينطلق كل من بلوخ ولوفيت من نبذ مفهوم العلمية عن ماركس. فهو بالنسبة لكليهما يقدم «هرمنيوطيقا للأمل»، لكنهما يستخلصان موقفين متعارضين تمام التعارض في النهاية. فمع أن الأمل هو الجوهر الأكثر صلابة للماركسية بالنسبة لكليهما، فإن بلوخ يراه هو موضع قوتها بينما يراه لوفيت «كعب أخيل» الماركسية.

فباعتبار الأمل هو قاطرة الفعل البشري على مر التاريخ، ينظر بلوخ إلى الماركسية بوصفها الفلسفة الأكثر سموًا، كونها الوحيدة الموجهة بإجمالها نحو المستقبل، محوّلة الأمل إلى مبدأها، لا فيما يتعلق بالتنظير فقط بل وفيما يتعلق بالتطبيق أيضًا: «فالواقع ذاته، في جوهره الأكثر حميمية، ليس إلا الأمل». وفي المقابل فإن لوفيت يرفض قبول الأمل في نطاق الفلسفة بالأساس، فهو بالنسبة له متعلق بالإيمان، لا العقلانية. ولذا فإنه يطرح تنظيرًا لعالم منزوع السحر، وحياة خالية من السراب، وفعل سياسي محوره الحاضر.

***

"لقد تعلمنا أن ننتظر بدون أمل، لأن الأمل كان دائمًا أملاً في الشيء الخطأ" (كارل لوفيت)

تركت التجربة التاريخية شديدة الوحشية للنازية، التي طاردت لوفيت في المنافي، أثرًا عميقًا في فلسفته. فهو قد سعى إلى صرف الفلسفة عن المواضيع الإبستمولوجية وتحويلها إلى العملي. ولاحقًا، توصل إلي أن فلسفته تلك ليس لها أن تكتمل سوى بحس بالمسؤولية تجاه النتائج. فلو كان للفلسفة أن تستمر في الوجود، فعليها أن تتجنب أي أحكام تتعلق بتوجيه الفعل في العالم، حاصرة نفسها في النقد الراديكالي للواقع، دون تورط فيما يتعلق بالتطبيقات العملية.

لكن لوفيت كان مدركًا أن تلك الحدود التي فرضها على الفلسفة لا يمكن احترامها. فبتبني الفلسفة لموضوعات التاريخ والزمن والسياسة، فهي تتجاوز نفسها مرارًا ، مبررة ما كانت تهدف لمعارضته بالأساس: أي العنف والتعسف والاستبداد. فكون الفلسفة شديدة الهشاشة بنيويًّا، لا تقدر على إخضاع الواقع أو تشكيله، فإنها تؤول في النهاية للخضوع للسلطة السياسية، وتتحول إلى محض أيديولوجيا لتبريرها.

ينخرط لوفيت في مشروع ضخم للتنقيب في جينيالوجيا العملية التي قادت إلى تحول الفلسفة لخيار التاريخ والسياسة، ناسبًا أصولها للفكر اللاهوتي. فكل فلسفة للتاريخ، بإضفائها معني على حركته، وبما أنها تنظر إليه كتوتر تجاه هدف نهائي، ترتكن إلى تلك الافتراضات اللاهوتية المسبقة التي تسربت من المسيحية إلى الفكر العلماني. فمفهوم القديس أوغسطين عن التاريخ بوصفه حركة خطية نحو الخلاص النهائي للعالم والملكوت الأبدي، تم نزع مسحته الآخروية واستبداله بقشرة علمانية تتجلي في مفهوم "التطور" أو الحركة تجاه مستقبل أفضل. وهكذا يرفض لوفيت الماركسية برمتها، كونها نسخة معلمنة للمسيانية. فالطبقة العاملة هي المسيح في مجيئه الثاني، والثورة البروليتارية هي خلاصها، والمجتمع اللا طبقي ليس إلا ملكوت السماوات.

كذلك، إن كان الوجود والوعي بالتاريخ، بالعموم، يحكمهما التاريخ نفسه، فإننا سقطنا في دائرة مفرغة، وبالأخص لكون الوعي بالتاريخ في هذا السياق يحكمه مستقبل لا يمكن تقييمه عقلانيًّا سوى بعد أن يكتمل. هكذا تحملنا فلسفة التاريخ بالضرورة إلى فراغ لا يمكن أن يملأه سوى الأمل والإيمان. ويعود لوفيت ليخبرنا أنه "لا علم للأمل أو الإيمان" مستعينًا بسبينوزا "فالأمل هو ضعف في المعرفة ونقص في قوة العقل". لكن لا عقلانية الأمل، ليست عيبه الوحيد، فهو بوصفه مرتكزًا على المستقبل، يقودنا إلي حالة من الاغتراب الكلي تجاه الحاضر.

يطرح لوفيت بديلاً عن مفهوم التاريخ اليهودي-المسيحي بالرجوع إلى التصور اليوناني عن معضلة الزمن. فالزمن اليوناني دائرة متكررة، أبدية العودة، ومتطابقة دائمًا مع نفسها، ولا مكان فيها للأمل أو التقدم. فالفلاسفة اليونانيون، كما يذهب لوفيت، "كانوا أكثر اتضاعًا منا"، حيث تركوا التاريخ للمؤرخين، كونه محكوم بإرادة لا تقهر لأفراد بطوليين، أو بضربات القدر شديدة التقلب. لكن التاريخ اليوناني لم يكن يمكن تفهمه بنسبته للأفعال العقلانية لإرادة الفرد الذي يباغت مسرح التاريخ فجأة. فالتاريخ بصيغته اليونانية ينتمي لحالة من الفوضى الكاملة غير الخاضعة للمنطق. ولو كان له منطق، فلن يتعدى ما خلص إليه هيرودوت، الذي اعتبر التاريخ حركة دائرية يحكمها توازن هش بين الغرور البشري والانتقام الإلهي.

عندما يُفتح صندوق باندورا تخرج شرور البشر جميعها وتصيبهم، إلا شر واحد يبقى داخله - الأمل. يستعين لوفيت بالأسطورة اليونانية ليؤكد لنا أن التاريخ حالة من الفشل الدائم وخيبة أمل لا تنتهي. فلا يوجد مستقبل إلا ويصبح سببًا للإحباط عندما يضحى حاضرًا. ومع هذا فإن البشر يتمسكون به. فالأمل سراب يمكننا من التعايش مع أوضاع يائسة بدفعنا للنظر بعيدًا، إلى المستقبل، ويجعل الحاضر محتملاً باعتباره محض وضع مؤقت له أن يتغير في يوم ما.

من السهل القفز إلى اتهام لوفيت بالعدمية. فإذا كان التاريخ محكومًا بفوضى عصية على الإدراك وتتجاوز المنطق، فما جدوى الفلسفة بالعموم إذًا؟ وما قيمة الفعل والإرادة؟ إلا أن لوفيت يتمسك بأن أطروحته ليست نوستالجيا تجاه زمن كان فيه التاريخ ميتًا ومتحررًا من أثقال الأمل. فما يسعى إليه هو أن يعيد الفلسفة إلى الحاضر، الذي ينحصر معنى وجودنا بكامله فيه، وأن يدفع الإنسانية إلي التحديق في وجه واقعها الآني دون مداعبة أو أمل. يعيد لوفيت إطلاق صرخة المقاتل الروماني التي يتضمنها شعار الحرب اللاتيني: "بلا أمل، وبلا خوف". هكذا لنا أن نواجه العالم؛ فلا خلاص أبدي ولا مصالحة للإنسان مع الوجود في النهاية، بل صراع دائم ومواجهة متجددة، حيزها الوحيد هو هنا والآن

***

"حاولت جاهدًا في هذا الكتاب أن استحضر الفلسفة إلى الأمل، كما لو أنه مكان في العالم، عامر مثل أكثر البلاد حضارة، وفي  الوقت نفسه غير مستكشف مثل أنتاركتيكا" (إرنست بلوخ)

على العكس من لوفيت، فإن بلوخ لا يقدم الأمل بوصفه حالة عقلية متجذرة في لحظة تاريخية بعينها، ولكن بوصفه "شرط الانتظار" الذي يختبره الإنسان في كل لحظة في حياته. يفترض بلوخ مسبقًا أن الواقع الحاضر غير مشبع بالضرورة. لكن تلك الفرضية بدلاً عن أن تقود لعدمية حداثية، تتحول إلى "انفتاح نحو المستقبل".

يقر بلوخ بحالة الاغتراب تجاه الحاضر. لكن ذلك الاغتراب ليس عرضًا جانبيًّا للأمل كما ظن لوفيت، بل معطى وجوديًّا متعلقًا بالشرط الإنساني. يدفعنا الاغتراب إلى ما وراء حدود الحاضر، أي إلى المستقبل الذي يسكننا دائمًا. وهكذا فإن الأمل لا يعطّل الحاضر، بل يواجه حاضرًا ميتًا وكاذبًا باستمرار. فـ"العالم غير حقيقي، ولكنه يريد العودة إلى بيته". فكل لحظة حاضرة نواجهها يمكنها فقط أن تكشف لوعينا حقيقة أنه من الممكن لنا أن نكون أكثر سعادة لو انفتحنا أمام نطاقات جديدة غير مستكشفة.

يلخص بلوخ هذا الموقف من العالم بقوله: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، خصوصًا إن لم يكن لديه أي خبز".  الأمل، الذي بدونه تضحى الحياة غير ممكنة، لم يجد مكانًا له في الفلسفة قبل ماركس. فمن أفلاطون إلى هيجل، ظلت الحقيقة كمحاولة للتذكر أو عكس صورة الواقع بدون بصيص من النور تجاه المستقبل. لكن إغراق الفلسفة في الماضي والحاضر، لا يعمينا عن المستقبل فحسب، بل يدفعنا ضمنًا للقبول الخانع بالوضع القائم، بكل جوانبه، والاستسلام لها.

"أي خريطة للعالم، لا تتضمن بلد "اليوتوبيا"، غير جديرة بالنظر إليها"، يستشهد بلوخ هنا بأوسكار وايلد ليمرر لنا قناعته بأن "الإنسان حيوان يوتوبي". تلك القناعة ليست بالضرورة مؤسسة على مثالية إنسانية، بل على مفهوم بلوخ عن الزمن. ففي اللحظة الآنية لا يمكننا أن نرى شيئًا على الإطلاق. فمفهوم "عماء اللحظة المعاشة" لا يقبل بالوعي باللحظة سوى في انتظارها أو تذكرها، أي قبل حدوثها أو بعده. هكذا يرفض بلوخ التعاطي مع الوجود من اللحظة الآنية، والحاضر، بالكامل. وبهذه الطريقة، يكتسب الأمل وضعًا أنطولوجيًا يفسح المجال لأنطولوجيا "ما لم يوجد بعد"، التي طبقًا لها يصبح الجوهر الأكثر صلابة للواقع ليس "ما هو كائن"، بل "ما لم يصبح بعد".

فإن كان الأمل هو توتر يقودنا تجاه غير المعين والواضح، فهو في الحقيقة لا يختلف كثيرًا عن الواقع، الذي وإن كان أمامنا، لكن لا يمكننا الإلمام به بوضوح وبشكل كامل طالما يحمل ممكنات في داخله لم تتحقق جميعها بعد. هكذا يفصل بلوخ بين نوعين من الأمل: الأمل المؤسس، والذي ينطلق من معطيات الواقع وممكناته، والأمل غير المؤسس الذي لا تدعمه شروط السياق الموضوعي للحاضر.

"أينما وجد الأمل، وجد الدين أيضًا"، يتفق هنا بلوخ مرة أخرى مع لوفيت، لكنه لا يعني مثل هذا الأخير أن الأمل مؤسس على أصول لاهوتية تاريخية تمت علمنتها، بل يعتبره تطلعًا إلى كلية لم تتحقق بعد، تقدم نفسها كهدف نهائي في حد ذاتها. وبهذا المعنى فالأمل، في عدم اكتفائه بالحاضر وتجاوزه للمستقبل، يبدو مرتبطًا بالدين. والدين هنا حسب ما يعنيه بلوخ هو "تجاوز بلا تجاوز"، يقوم فيه الأمل المؤسس على ممكنات الواقع بالتحول من النظر إلى أعلى، نحو الإله، إلى النظر إلى الأمام. وتحت هذا الشرط يصبح "الملحد وحده قادرًا على أن يكون مسيحيًّا صالحًا". وعلى العكس أيضًا، فإن "المسيحي وحده هو القادر على أن يكون ملحدًا صالحًا". فالماركسية في تجاوزها للإلهي، أو ربما في استبدالها له، تسمح للأمل المسيحي- اليهودي أن يقف على قدمي الإنسانية.

ليس من الصعب الانزلاق إلى وصم بلوخ بالطوباوية، وهو ما كان واعيًا له بشكل كبير. لكنه بدلاً عن صد تهمة الطوباوية عن نفسه، سعى بشكل منهجي إلى تأطير الميل الطوباوي كشرط للوجود الإنساني وقاطرة لحركة التاريخ، مانحًا إياه وضعًا أنطولوجيًا، ليقيم تصورات للعالم والمعرفة والواقع يقع في قلبها عنصري الأمل والممكن.

***

لم يعش لا بلوخ ولا لوفيت ليريا وردة ماركس تدفن تحت ركام سور برلين. وصلت الرقصة إلى نهايتها، فيما أصبحت الماركسية، الأساس النظري لأمل بلوخ، والخصم اللدود الذي وجه له لوفيت نقده، تاريخًا. لكن في عالم نيوليبرالي استطلع مشارفه صاحب كتاب "الفلسفة والأمل الاجتماعي"، فحتى نسخة ريتشارد رورتي البرجماتية من الأمل وجدت نفسها تتهاوى. في نصه "النبوءات الفاشلة، والآمال العظيمة"، يخبرنا رورتي بأن النبوءات غير المتحققة تمنحنا أحيانًا القراءات الأكثر إلهامًا. فهو يوجهنا إلى العهد الجديد والمانفستو الشيوعي بوصفهما المصدريين الرئيسيين لخيبة الأمل في القرن العشرين، وفي الوقت نفسه العاملين الأكثر تأثيرًا في تحديد مساراته إيجابًا وسلبًا.

لا يعنينا هنا البحث عن "أشباح ماركس" التي يتحدث دريدا عنها، ولا يهمنا إعادة إحياءها أو صرفها. لكننا في عالم يبدو يومًا بعد يوم أكثر قتامة، تتراجع فيه حتى الديمقراطية الرأسمالية، التي وجد الأكثر راديكالية بيننا أنفسهم مضطرين للدفاع عنها بدلاً من نقدها. وبعد سبع أعوام من الثورات العربية نواجه جميعًا هزائم ثقيلة وندفع أثمانًا فادحة، لا تجعلنا نندم على آمال الماضي فقط، بل نتشكك في جدواها في المستقبل أيضًا. وفي ضوء كل هذا، فما يعنينا هنا هو استحضار الأمل مرة أخرى إلى مسرح التاريخ والواقع، والتساؤل إن كان ممكنًا؟ وإن كان ضروريًّا؟ ومتى كيف وعلى أي أساس ولأي هدف؟

لا إجابات حاسمة عن هذا كله، ولن يكون أبدًا، وربما هذا هو جوهر الأمل ومبرره ومعناه. ولعل أي محاولة لمواجهة تلك الأسئلة تقع في المنتصف بين لوفيت وبلوخ، بين الحاضر الذي يجب أن ننخرط فيه بوصفه كلًا، وبين المستقبل الذي يكمن فيه استغلال كل إمكانات الحاضر غير المتحققة بعد؛ بين الواقع وعدم رضانا به، والمتخيل بوصفه بديلاً ممكنًا؛ بين الحتمية بوصفها علمًا والإرادة بوصفها تجاوزًا علماني للإلهي.

وفي النهاية، فحتى لوقبلنا بتوصيف الأمل بأنه سراب يعيننا على احتمال مشقة وضع بائس والاستمرار في معترك الوجود، ألا يعد هذا كافيًا، على الأقل في ظرفنا الحالي، إلى حين؟!