رؤى

أسماء يس

وكأنها الشعر

2018.01.01

مصدر الصورة : ويكيبيديا

وكأنها الشعر

 

منذ نحو أحد عشر عامًا، كنا نجلس، صديقة شاعرة وأنا في الأوبرا، وكنت قد نشرت مجموعتي القصصية الأولى، ومر بنا الشاعر حسن طلب وبصحبته الدكتور صلاح قنصوه، أستاذ علم الجمال، ساعتها قدمنا حسن طلب إلى صديقه؛ فلانة شاعرة وفلانة قاصة، نظر إلىَّ صلاح قنصوه وبلهجة قاطعة قال:

أنتِ الشاعرة طبعًا!

-لا..

- غريب!

لا أدري لم قال ذلك. ولا أدري، حتى الآن، إن كنتُ أشبه الشعراء، أو إن كان للشعراء سمت واحد أصلاً. وقتها لم أكن شاعرة بعد، ولم أكن أدري أنني سأكون، في الوقت الذي استقبل الكثيرون ممن قرأوا مجموعتي القصصية (كرسي أزرق في نهاية البهو) على أنها شعر، كنت أؤكد أنها قصص، على الرغم من أني اتفقت مع الناشر أننا سنكتب على غلافها «نصوص».. هناك شيء ما مراوغ في هذه التسمية بالتأكيد. يبدو أن الآخرين كانوا يعرفون قبل أن أعرف، وأن سؤال متى بدأت الشعر مثله تمامًا مثل سؤال متى عرفت تحديدًا أنك تحب. والإجابة ليست سهلة

***

لماذا الكتابة؟

منذ طفولتي أحببت الرسم، وظللت أرسم على الرغم من كل ما كان يقال في بيتنا عن حرمة الرسم، وعن أن الملائكة، بالتأكيد، لن تدخل غرفتي لأن بها صورًا. لم أكن أهتم إن دخلت الملائكة غرفتي أم لا.. لماذا قد تود الملائكة أن تدخل غرفتي التي تحوي كتبًا بدلاً عن الألعاب؟!

عندما أنهيت دراستي الثانوية، أعلنت عن رغبتي في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، لكن أبي، الذي لم يكن يريد أن يرسلني إلى القاهرة وحدي للدراسة، استطاع أن يقنعني أن الفن لا يحتاج إلى دراسة أكاديمية، وأنني أستطيع أن أرسم وأدرس الفن بشكل حر، وقتها كان الرسم قد توقف عن أن يكون حرامًا، لكن وقتها، في السادسة عشرة، لم أكن أملك القدرة على الدفاع عما أرغب فيه بعد.

 

***

"يا دار عبلة بالجواء تكلمي.. وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي"

اعتاد أبي أن يقول الشعر في البيت دائمًا، كان يقرأ الشعر الجاهلي بصوت جميل ولغة عذبة، نبهني الشعر القديم، على لسان أبي، إلى اللغة، وإلى الفرق الذي يصنعه الشعر في اللغة، وأوقعني في فخها، أحببت معلقة عنترة بن شداد كثيرًا، وأحببت الشعر الجاهلي، ولا أزال أحبه وأسمعه وأقرؤه، ولم يحب أبي قصيدة النثر التي أكتبها

"حييت من طلل تقادم عهـده.. أَقـوى وأَقفـر بعد أُم الهيثـم"

وفي الإعدادية كتبت أول قصيدة في حياتي، لا أذكرها نهائيًّا، وسأضحك كثيرًا لو حدثت المعجزة وتذكرتها، حتى قصائدي الأولى التي كتبتها فيما بعد تضحكني جدًا..على عكس الشعراء من جيلي، وكل شعراء قصيدة النثر من الأجيال السابقة علينا، وعلى الرغم من قراءتي المستمرة للشعر القديم، بشكليه العمودي والتفعيلي، فلم أقع قط في شرك الكتابة بهذين الطريقتين. منذ البداية كتبت قصيدة «حرة»، صحيح أن القصائد الأولى كانت رومانسية وبلهاء لكنها، على الأقل، كانت حرة.

***

وماذا عن الشعر..؟

يقول ابن رشيق: "سُمِّي الشاعر شاعرًا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره. قرأت هذه الجملة أكثر من مرة، في ظروف مختلفة، وفي أغلب المرات كانت تجعلني أبتسم، ابتسامة حقيقية مرة، وابتسامة سخرية مرات".

 أحيانًا، يكون الشعر هكذا؛ أنت عائد إلى بيتك فجرًا، وحيدًا ونصف سكران، لتجد رضيعًا ملقى إلى جانب الطريق، ويبكي طبعًا. الحياة هي هذا الرضيع الذي لا تعرف، ولا أحد غيرك يعرف أبويه. وأنتَ لأن القسوة في قلبك ليست في أوجها، بفعل الوحدة وبفعل السُّكر وبفعل الليل، ستقرر أن تحمل الطفل، وتأخذه إلى بيتك الذي لا يعيش فيه معك إلا العفاريت..تفتح الباب وتنظر في الأرجاء وتقول: أيتها العفاريت معي ضيف..

لا يستطيع أي إنسان أن يحمل الحياة بين ذراعيه، ويربيها، لتكبر وتكبر، ويكون هو أول من تتمرد عليه وتتركه ليشيخ ويموت وحده، لكنه لا يهتم، لا يتهمها بالعقوق، ولا يرى فيما فعله فضلاً. الشاعر يستطيع.

لكن الشعر في أحيان أخرى يكون هكذا؛ أنت عائد إلى بيتك فجرًا، وحيدًا ونصف سكران، وستجد رضيعًا ملقى إلى جانب الطريق، ويبكي طبعًا، وأنت وحيد ومرهق، ومفلس غالبًا، لأنك أنفقت كل ما معك على الخمر، ولأن الليل لم يعد بعدُ مثيرًا لأي شيء، ستنظر إلى الرضيع نظرة مشفقة، وتمضي مكملاً طريقك إلى بيتك، الذي لا يعيش فيه معك إلا العفاريت. تفتح الباب ليواجهك الفراغ التام، تنظر في الأرجاء وتقول: مساء الخير يا عفاريت.

لا يستطيع أي إنسان أن يترك كائنًا بالغ الضعف والهشاشة في الشارع، عرضة لكلاب السكك والبرد والمصير المجهول، ويمضي غير عابئ، كل ما يقلقه أن ينتبه ويفيق من سُكره. الشاعر يستطيع.

***

من أين تأتي القصائد؟

يقول جان كوكتو: "الشاعر لا يخترع؛ الشاعر يستمع.

الكابوريا تبيض في أي وقت!"

ذات صباح استيقظتُ لأجد قصيدة نائمة بجواري على السرير، هززتها برفق فلم تستجب، رفعت عنها الغطاء لم تستجب، كانت مستغرقة في النوم تمامًا، ويظهر أنها تحلم، كانت تهمهم بكلمات غير مفهومة، احمرَّ وجهها، ثم هدأت وفتحت عينيها، لتجدني أحدق إليها في دهشة، نظرت إليَّ محاولة أن تتذكر أين هي بالضبط، ظللتُ أنظر إليها متسائلة، فابتسمت، ثم قامت وغسلت وجهها على عجل، وخرجت.

ماذا قد يظن الجيران بي حين يرون رجلاً يخرج من بيتي صباحًا!

في ذاك الصباح العجيب البعيد لم تقل القصيدة كلمة، لكنها عادت مساءً، ورحلت صباحًا، ثم اختفت لفترة طويلة، وعادت، وتكلمنا كثيرًا، أو هي تكلمت وأنا استمتعت كالعادة. أستطيع أن أقول إن القصائد ثرثارة، وتشبه الكابوريا؛ ليس لها موسم معين للتزاوج وتبيض في أي وقت! ولها ثمان أذرع كالأخطبوط، لكنها لا تختفي في الشتاء، وتدخن بشراهة.

هكذا دون مقدمات، كنت أجدها واقفة إلى جواري، ذراعها على كتفي، أو تشاركني شرابي وغنائي. في إحدى الأمسيات اللطيفة كنت واقفة في المطبخ، وجاءت قصيدة فناولتني سكينًا حادًا، مغريًا لتجربته، فكدت أقطع شراييني به، تضحي الكابوريا بأحد أطرافها في حال الخطر، لكنها لا تكترث، لأنه ينمو ثانية بعد فترة؛ وعليك إن أردت صيدها أن تمسكها من ظهرها. القصد أني لم أستجب لإغواء استخدام السكين في تجربة الموت، وفضلت أن أستخدمه في تنظيفها، رششت التوابل عليها، وضعتها في الحلة، ووقفت أدخن وأنا أتأملها وهي تتحول ببطء من اللون البنفسجي إلى اللون البرتقالي ورائحة الكمون في أنفي..

في الأول كنت أخاف أن تغيب كثيرًا، وصرت لا أخاف. لكني من باب الاحتياط أترك لها مفتاحًا إضافيًّا تحت المشاية.

 

***

 

إلى أين يذهب الشعر؟

"التنهدات من الهواء وإلى الهواء تذهب. الدموع التي من الماء تذهب إلى البحر. لكن قولي لي، يا امرأة..هل تعرفين إلى أين يذهب الحب حين يموت؟"

أحمد راسم 1895 - 1958

ترجمة بشير السباعي

ومثلما لا أحد يعرف إلى أين يذهب الحب حين يموت، لا أحد يعرف إلى أين يذهب الشعر حين ينقطع، إذا كان الحب لا يعود، فإن الشعر يعود، ويذهب ويعود. وفقًا لموضة، لا أعرف مصدر جمالها تحديدًا، يرغب الشعراء في أن يموتوا شبابًا، أو لا يرغبون، لكنهم يموتون شبابًا. لكني منذ زمن أدركت أن الشعر هو الوسيلة المثلى، وربما تكون الوحيدة، لا لمقاومة الموت، وإنما لمواجهة الحياة، يصير الشعر كأنه هو، وتصير كأنك هو، إنه تميمة الحماية، وقطعة الثلج التي ألقيها في قفا الحياة معابثة أحيانًا. لذلك فمن المهم جدًا للشاعر ألا يموت قبل أن يموت الشعر في نفسه. إن وقوف الشاعر في مقابل الحياة، معركة عادلة تمامًا، ربما ينتصر شاعر ويموت في الثلاثين، وربما ينتصر آخر ويعيش حتى يقترب من المئة عام أو يتجاوزها؛ جون أشبري 1928 - 2017، مثالاً قريبًا، رافق الشعر أشبري حتى النهاية، فقد أصدر ديوانه الأخير «هياج الطيور»  قبل شهور قليلة من موته، رحل هو قبل أن يرحل عنه الشعر. ورافق الشعر نيكانور بارّا (1914- وحتى الآن). لم تتوقف معجزات بارّا عند كونه معلمًا للفيزياء والرياضيات، وشاعرًا في الوقت نفسه، لكنه استطاع أن يحيا طويلاً ويكتب شعرًا جميلاً...

كنت أظن أنني ممن سيموتون مبكرًا، أو يرغبون في ذلك، لكني غيرت رأيي، سأبقى ما دام الشعر باقيًّا معي. فيم قد أرغب إلا أن يجئ يومي قبل يومه!؟

 

 

تحذيرات

"في حالة الحريق، لا تستخدموا المصاعد، استخدموا الدّرج، ما لم تكن التعليمات بخلاف ذلك.

ممنوع التدخين، ممنوع إلقاء الفضلات، ممنوع التبرُّز، ممنوع تشغيل المذياع، ما لَم تكن التعليمات بخلاف ذلك.

من فضلك اجذِب السّيفون، بعد كل استخدام، باستثناء حين يكون القطار، متوقفًا في المحطة، ضع في اعتبارك الراكب التالي.

إلى الأمام أيها الجنود المسيحيون، يا عُمال العالم اتحدوا، ليس لدينا ما نخسره سوى حياتنا، ليكن المجد للأب، والابن، للروح القُدُس، ما لَم تكُن التعليمات بخلاف ذلك.

وبالمناسبة، فإننا أيضًا نعتبر الحقائق التاليةَ واضحة بذاتها،

أن كل البشرِ قد خلقوا متساوين، وأن خالقهم قد حباهم، بحقوقٍ ثابتة معينة، من بينها الحياة، والحرية، والسّعي إلى السعادة، وأخيرًا وليس آخرًا، أن 2+2 تساوي 4، ما لَم تكُن التعليمات بخلاف ذلك".

نيكانور بارّا

ترجمة أحمد حسان