عدد 18-عن الفقد والافتقاد
باهو بخشوللحديث بقية يا دينا..
2020.11.01
..وللحديث بقية يا دينا
التقيتها للمرة الأولى سنة 2001، بمعرض القاهرة الدولي للكتاب.. وجهٌ مُرحبٌ مصحوب بملامح طفولية. لم أعرف حينها أن خفة روح هذا اللقاء الأول مصدرها ذلك المزيج النادر، الذي ميَّزها دائمًا، بين الاعتزاز بالنفس وقلب يتسع لكل الناس. شاهدتها، بعد ذلك، في لقاءات يصعب حصرها، وكان وجهها دائمًا طيبًا ومريحًا، مع كل من تلقاهم من زميلات وزملاء وأصدقاء. ظلت تستقبل الحياة بكل مناحيها بطيبة.. يمكن القول إنها كانت جادة جدًا في طيبتها. التزام سياسي غريب على الرغم من كونها صحفية في وظيفةٍ بدوام كامل. هكذا ظلت طيلة حياتها المهنية، لطف خالص مع رفيقاتها ورفاقها على تنوع التزامهم السياسي وثقافاتهم وأعمارهم وأنواعهم.. ومحبة عابرة للتقييم، تنطلق، إن جاز التعبير، من تفاؤل عميق للإرادة.
لم أعمل معها قبل سنة 2006، وهي فترة أعتبرها من حظي الحسن في الدنيا، كنت حينها في الثامنة والعشرين، وكانت هي في الثانية والثلاثين من عمرها. أتذكرها في اجتماعات هيئة تحرير «الاشتراكي» الممتدة والملهمة لي، خلال نقاشات حول أهمية النشرات الناظمة للأحزاب الثورية وتطور الصحافة الورقية في العالم، مرورًا بالفراغ السياسي الحاصل نتيجة انبطاح حزب التجمع وصحيفته، وصولاً إلى الأحداث الراهنة والتي يتعين تغطيتها في العدد. كانت قليلة الكلام. «تأخذ الكلمة» مرة واحدة في الاجتماع لتعرض مقترحاتها لشكل وموضوعات العدد وفقط. دائمًا مستعدة على الرغم من صعوبة المشاركة في اجتماعات مسائية، بينما يبدأ يومها في الرابعة صباحًا في الـ BBC.
أذكر المرة الأولى التي طلبت منها إبداء رأيها في مقال كتبته أو تغطية صحفية ما. في الأغلب لم تكن تولَّت رئاسة التحرير بعد. يصعب الجزم في مسألة كهذه، لأن عمرًا قد مضى، ولأنه لا يطرأ تغيّرٌ على أدائها إطلاقًا مع تغير موقعها من دورة الإنتاج. طبعت المقال المُرسل على بريدها الإلكتروني، وسطرت تحته ثلاثة أسطر، وأعطتني الورق قائلة «هذا الجزء غير مفهوم، تحتاجين الى توضيح ما تريدين قوله». ظلت هذه التيمة محورًا لحديثنا لسنوات لاحقة. أسمعها الآن بينما تكرر بصوت محبب يحاول تبسيط الأمور «عندما تريدين أن تعبري عن ثلاث أفكار، اكتبي ثلاث جمل، لا أحد يجري ورائك ويضطرك إلى حشر أفكارك في جملة واحدة». تطورت قدرتها على درء ما باتت تتوقعه من جمل غير مفهومة، مستعينة بما تتمتع به من خفة ظل خاصة، بتقليد صوت فؤاد المهندس في المشهد الشهير بـ«طعمياية»، لتقول «باهو افتكري.. خليهم اتنييين».
أذكر أن اقتناعي بوجهة نظرها تسبَّب لي في أزمة. وأدركت أن استعانتي بجمل مُركزة جدًا -أو غير مفهومة بحسب تقييمها- لم يكن قصورًا في القدرة على التعبير، بقدر ما كان تخوفًا من امتلاك مواقف سياسية مركبة والإعلان عنها. لم أرَ في نفسي الجدية اللازمة للإعلان عن مواقف سياسية بها شبهة «الحنجورية». لكن، «اللي معاه دينا يمشي على المية». بمجرد أن ينتابني ارتباك في أثناء الكتابة، كان الحل سحريًّا وبسيطًا.. أقول «يا دينا»، بينما اتوجه اليها، مقاطعة أيًّا كان ما كانت تكتبه أو تدققه، «هو احنا موقفنا السياسي «الفلاني» سببه كذا أم كذا». كانت تجيب ببساطة وبلا أي اندهاش، فأتركها مطمئنة بعد دقائق قليلة، بينما أسمع صوتها يردد ورائي «اكتبي بقى ربنا يهديكي» وأضحك. هكذا أخذت وضع الأخت الكبرى على الرغم من فارق السن الصغير بيننا.
لا مجال هنا لذكر عدد المرات التي قالت لي فيها مصطلح «ربنا يهديكي» في إطار صداقتنا، بنبرة برعت في استحضار دفئها بين الجد والهزل. لكن لا مفر من القول بأن الفارق في الخبرة السياسية كان كبيرًا، كانت تمزج بين المهارات العملية والتحريرية، فقد كانت عضوًا ثابتًا في هيئات تحرير عديدة، على الرغم من مشاركتها الدائمة في مواقع طلابية أو عمالية أو حتى نقابية.
من حين إلى آخر، وبعد تجربتنا في «الاشتراكي»، كنت أحكي في حضورها عن مواقف لقبتني فيها بـ»فرقع لوز»؛ في إشارة إلى معاناتها معي، ومع غيري، كهواة حالمين أو فنانين كما كنا نحب أن نصف حالة الخوف من الكتابة الممزوج بمبالغة شديدة في تقدير أهمية المطلوب كتابته. كنت أحاول أن أعبِّر عن امتناني لإخلاصها وحرفيتها معًا. أردت أن أخبرها أنني أعرف أن تصحيحها لأي نص كتبته كان سيوفر عليها وقتًا كانت بحاجة اليه، وقت لم يتسع قط لكل ما أرادت فعله. تقطع كلامي لتدخل في سجال، لم يعد به أي منطق بعد انقطاعي التام عن الكتابة لأكثر من عقد من الزمن، مع مسيسين وكُتَّاب عن كوني كاتبة جيدة. هكذا ظلت لي ولغيري، شخصًا يرى الأفضل في الناس ويعاملهم على أساسه.
قال لي الصديق خالد السيد في مكالمة بعد وفاتها «عمرها ما زعلتني». جملة قصيرة ومُعبِّرة، قالها بينما كان ينتحب. لا أعرف المواقف التي تبادرت الى ذهنه ليقع اختياره على هذه الجملة للتعبير عن حجم خسارته. مواقفه معها كثيرة حتمًا وجرحه مفتوح لم يلتئم. لكنه، ذكَّرني بالتيمة الرئيسية لخلافاتها السياسية مع الطلبة من سنة 2006 حتى 2009. إن لم تخني ذاكرتي، فقد كان هناك خلاف بين الطلبة والقيادة بإحدى الجامعات حول ذوبان الطلبة الاشتراكيين في الحركة الطلابية. أتذكر كلامها عن أهمية الاقتناع بواقع اضطهاد النساء والأقباط كصلب للماركسية التي تدافع عنها. كان لديها طريقة خاصة جدًا في التعبير عن امتعاضها. تحلق بحاجبيها عن آخرهما بينما تسترسل في التعبير عن دهشتها. ظل هذا المشهد المتكرر، مثار ضحك ودود مهما احتدم الخلاف في الاجتماعات الطلابية. حافظت دائمًا على علاقة شخصية طيبة، على أقل تقدير، مع كل من زاملها.
كتبتُ ما استطعت أن أعبِّر عنه من خبرتي السياسية معها. لقطات من فترة حالفني فيها الحظ وكانت بداية علاقتي القريبة معها. لا أعرف إن كنت قد نجحت في صياغة جمل معبرة ومفهومة.. لكني حاولت أن أعبِّر عن امتناني، عساني أمتلك جزءًا من دينا جميل بعد الرحيل.. وللحديث بقية.