أعداد خاصة

رزق حسن نوري

يد السلطة الغليظة.. قراءة في جريدة الوقائع المصرية إبان ثورة 1919

2019.05.01

يد السلطة الغليظة.. قراءة في جريدة الوقائع المصرية إبان ثورة 1919

لعب الإعلام الصحفي الرسمي والخاص دورًا مهمًّا في أثناء أحداث ثورة 1919، وكانت المطبوعات عمومًا منذ إعلان الأحكام العرفية في عام 1914 تحت السيطرة المباشرة لسلطات الاحتلال، وخلال أحداث الثورة شددت السلطات من قبضتها الرقابية، فظهرت العديد من الصحف بها مساحات بيضاء طالتها يد الرقابة، فكان الإعلام البديل هو الحل المتمثل في المنشورات التي قام الثوار بطباعتها وتوزيعها، أو لصقها على جدران الحوائط في الشوارع بالمدن الكبرى، ولم يكن أمام السلطات العسكرية إلا الرد بمنشورات مضادة؛ من خلال جريدة تعبر عن الدولة وسلطتها، فوجدت ضالتها في الوقائع المصرية التي كانت بمثابة اليد الغليظة للسلطة، فمن المعروف أن القرارات والمنشورات المنشورة فيها تأخذ طابعًا قانونيًّا واجب النفاذ، فتصبح بمثابة السيف المسلط على رقاب المخالفين لها؛ لذلك يأتي هذا البحث في محاولة لرصد وتحليل القرارات التي نشرتها السلطة العسكرية والحكومية لمواجهة الثورة خلال عام 1919، ومدى أهمية هذا المنبر، وهل كان لها دور في التخفيف من حدة الغضب أم زيادته؟ 

الوقائع المصرية

أُسست الوقائع المصرية في عصر محمد علي كجريدة رسمية يخاطب بها الوالي موظفيه، لنشر أوامره، أو نشر نشاط دواوينه، طبعت صحيفة الوقائع أولًا في مطبعة بولاق حتى 26 صفر 1249هـ، ثم رئي أن تطبع في مطبعة ديوان الوقائع بالقلعة لتكون قريبة من مقر الحكومة، وظلت تطبع هناك إلى أن تقرر مرة أخرى أن تطبع في مطبعة بولاق()، ومرت بمراحل مختلفة من التطور، حتى قيام ثورة 1919. كانت قد استقرت في شكل محدد كجريدة لنشر الإرادات السلطانية، والقوانين والمراسيم والقرارات الوزارية، وأضيف تحت عنوان كلمة «الوقائع المصرية» جملة: «جريدة رسمية للحكومة المصرية» منذ بداية يناير 1911(). وفي خلال الحرب العالمية الأولى توقف نشر الإعلانات الأهلية بها، وصدرت في يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وفي عام 1917 وُكِّل أمرها إلى أحمد صادق بك، الذي كان وكيلًا للمطبعة الأميرية منذ عام 1912، ثم أصبح ملاحظًا للوقائع منذ 30 أبريل عام 1919، واستمر بها حتى أول أبريل 1920؛ ليتم ترقيته ليصبح مديرًا للمكتبة السلطانية، وخلفه في المنصب المستر نيوتن الذي كان يعمل بالمطبعة منذ 1911، وكانت المطبعة والجريدة في تلك المرحلة تتبع مراقبة مطبوعات الحكومة بوزارة المالية(). 

ومن خلال تحليل ما صدر عن السلطة المدنية (الحكومة)، والسلطة العسكرية (الاحتلال) من قرارات ومنشورات وقوانين نُشرت بالوقائع المصرية منذ مارس عام 1919، إلى نهاية العام، يمكننا رصد اتجاهات عامة لهذه القرارات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة محاور: 

الأول: التحذير والتهديد للثوار من مختلف الفئات. 
الثاني: التهدئة والاحتواء (تفكيك الكتلة الصلبة للثوار). 
الثالث: المحاكمات والتأديب؛ من خلال تفعيل القوانين والأحكام العرفية. 
كما نلحظ أن هناك بعض المحاور الثانوية المتمثلة في تعيين الأجانب، وفي إعادة هيكلة وترتيب بعض الإدارات والمصالح، وخصوصًا الحيوية والتي تعطلت بفعل الإضرابات. 

أولًا: التحذير والتهديد

نطالع في الوقائع أول القرارات المرتبطة بثورة 1919 منشورة في 25 مارس 1919، وهو عدد غير اعتيادي، صدر خصيصًا لنشر إعلان عن تعيين السير إدموند اللنبى نائبًا خاصًّا للملك، «وله السلطة المطلقة في جميع الأمور العسكرية والملكية، وأسند إليه اتخاذ الإجراءات التي يراها لازمة ومناسبة لإرجاع مراعاة القوانين وحفظ النظام في تلك البلاد، وأن يدير ويدبر كل الأمور على حسب احتياج حفظ حماية جلالة الملك في مصر على أساس ثابت وأمين»(). وغطت الوقائع فى صفحاتها خلال الفترة من 10 مارس إلى 25 مارس، الأوامر الإدارية وما يخص عمل الحكومة وإدارتها، وإنعام السلطان بالنياشين والأوسمة على عدد كبير جدًّا من العسكريين والموظفين الأجانب، ومعظمهم من كبار القادة العسكريين الإنجليز(). وظلت الوقائع بعيدة عن الاستخدام لمواجهة الثورة، ويبدو أن المسؤولين الإنجليز كانوا يعتقدون أنه لن تمر أيام بسيطة حتى تستقر الأمور في البلاد.

كذلك عملت السلطة من خلال التهديد، على تجفيف منابع تمويل الثوار بالأموال للاستمرار في ثورتهم؛ من خلال إصدار قرارات بناء على الأحكام العرفية المطبقة في البلاد، فصدر أمر بمنع جمع التبرعات في 12 مايو 1919، ونشر بالوقائع بعد ذلك، ليصبح قانونًا ساري المفعول، يهدف إلى التهديد من ناحية، ومنح السلطة القضائية -حتى ولو كانت استثنائية- مشروعية محاكمة الثوار الذين يجمعون التبرعات لدعم الصمود في الإضرابات أو تمويل التظاهر()، وتبدو أهمية هذه المسألة في الرسائل المتبادلة بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي؛ حيث كتب الأول إلى الأخير في 25 يوليو 1919 من باريس يذكره بأهمية مسألة التبرعات بقوله: «سبق وأن طلبنا منكم بيانًا عما تم جمعه من التبرعات للوفد، وما بقي بدون إرسال، ورغبنا أن ترسلوا الباقي مع الاجتهاد في الزيادة عليه بما يمكن جمعه من هذا الباب...»(). 

ثم صدر قرار مشابه للقرار السابق في 12 أغسطس 1919، أُلغي بمقتضاه قرار 12 مايو؛ ليأتي القرار الجديد في 4 مواد أشد تقييدًا لكافة أعمال التبرعات والاكتتاب، وجاءت بعض مواده غامضة تتيح للسلطة القبض على الأشخاص ومصادرة الأموال بدون دليل، مثل: بند «ج» من المادة الثانية: «يرتكب مخالفة ضد الأحكام العسكرية كل شخص يقتني عن علم نقودًا أو أشياء ثمينة على ذمة أي إعانة مجموعة بطريقة مخالفة لهذا المنشور»، وأيضًا المادة الرابعة التي جاءت على النحو التالي: «كل شخص يقوم بجمع نقود، أو أشياء ثمينة، أو يروج، أو ينظم، أو يشترك بجمعها بأي طريقة كانت، في أحوال يتراءى للسلطة العسكرية أنها تحمل على الاعتقاد بارتكاب مخالفة ضد هذا المنشور، يجوز أن يستدعى ليقدم إيضاحًا تامًّا عن صفة وغرض هذا الجمع. وكل من دعي لتقديم الإيضاحات المطلوبة فعجز عن ذلك، أو رفض، أو أعطى معلومات كاذبة أو ناقصة أو مضللة، يرتكب مخالفة ضد الأحكام العسكرية»(). ويبدو أن هذه المادة قصدت إعطاء ذريعة للسلطة للاستجواب والمصادرة بناء على الشبه.

ولمحاربة المنشورات التي انتشرت بشكل كبير منذ الأيام الأولى للثورة، أصدرت السلطة العسكرية أمرًا بمقتضى الأحكام العرفية، تحذر فيه أي شخص «يطبع، أو يجدد، أو ينشر، أو يوزع أوراقًا، أو رسومًا، أو صورًا، أو رموزًا، أو أي شيء من هذا القبيل، أو يحاول القيام بتلك الأعمال لقصد إيجاد التشويش، أو عدم الخضوع للحكومة الرسمية، يرتكب جريمة ضد الأحكام العرفية». وأن أي شخص يوجد في حيازته أوراق كهذه «ويكون الغرض الظاهر منها: إيجاد التشويش أو عدم الخضوع كما ذكر سالفًا سيُعد مرتكبًا لجريمة ضد الأحكام العرفية»(). 

وكانت قضية المنشورات مهمة جدًّا بالنسبة للسلطة؛ حيث إنها كانت المنفذ الأهم للثوار، مع إحكام السلطة العسكرية قبضتها على الصحافة، ومنع نشر كل ما يسمح للثوار بمعرفة أخبار الثورة في المناطق الأخرى من البلاد. 
ونشرت الوقائع بعض القرارات التي حملت صيغة تهديد واضحة للثوار عمومًا، ومنها المنشور الصادر من اللنبي القائد العام، والذي نشر في نوفمبر 1919 وحمل تحذيرًا بالعقوبات بشكل واضح للمحرضين على التظاهر، وخاصة من يستخدمون الصحف لهذا الغرض، ومن يقومون بتوزيع المنشورات والخطب «للتحريض على المظاهرات والاضطرابات التي من شأنها جعل النظام العام والأمن في خطر...»؛ لذلك قرر أن يجعل هذه المخالفات و«التحريض على المظاهرات المخلة بالنظام وغير الجائزة، أو الاشتراك فيها، وجميع الأعمال التي من شأنها أن تعطل السلطة...» تقع ضمن المخالفات للأحكام العرفية «وتجعل مرتكبيها عرضة للقبض عليهم، ولمحاكمتهم أمام محكمة عسكرية»(). ولم يكن هذا القرار الأول من نوعه، فقد سبقه العديد من القرارات المشابهة والتي خاطبت الطلبة والموظفين.

أ - الطلبة والسلطة (معركة طويلة)

كانت مشاركة الطلبة في الثورة عفوية، فبمجرد انتشار خبر اعتقال سعد زغلول ورفاقه، اندفعوا إلى الشوارع فكانوا الشرارة التي أشعلت روح المقاومة في باقي فئات المجتمع، وكان الإضراب أو الامتناع عن تلقي الدروس هو المظهر الأبرز للطلاب في مدارس وزارة المعارف وفي الأزهر الشريف، وكان أول إضراب عن الدراسة في مدرسة الحقوق، ولقد نظم الطلبة أنفسهم في لجان لتنظيم أعمالهم وتحركاتهم الثورية، وكانت مشاركتهم ضخمة في المظاهرات، حتى بلغ على سبيل المثال عدد المعتقلين من طلبة المعهد الديني بالإسكندرية 415 طالبًا، وإلى جانب المظاهرات قام الطلبة بدور البوليس الوطني لحفظ النظام أثناء المظاهرات والاجتماعات، وتنظيم وسائل المقاومة().  
لقد أحدثت الإضرابات التي قادها الطلبة، واستمرت على مدار شهر مارس وأبريل أثرها، فلم تجد الوزارات إلا أن تقوم بتأجيل الامتحانات في المدارس التابعة لها إلى أجل غير مسمى؛ لأنه لم تتضح لها ما ستؤول إليه الأمور؛ حيث نشرت وزارة الحقانية، ووزارة المعارف العمومية، منشورين يحملان نفس المضمون وهو تأجيل الامتحانات، ووجهوا دعوة للطلاب ممن تغيبوا عن هذه المدارس أن يعودوا كل إلى مدرسته في الساعة السابعة والنصف من صبيحة يوم السبت الموافق 3 مايو سنة 1919، وذلك عن سائر المدارس التابعة لهم، أما وزارة الزراعة فلم تعلن تأجيل الامتحانات في المدارس التابعة لها، وإنما وجهت نفس الدعوة إلى طلابها بالعودة للدراسة()، ونشرت هذه القرارات مرتين في 28 أبريل، وأعيد نشرها بنفس النص في أول مايو، وذلك لإعطاء فرصة للجميع للاطلاع عليها، وتنفيذ ما فيها؛ أملًا من السلطة في تحجيم هذا الإضراب.

وبالرغم من ذلك فإن الأمور لم تتحسن حسبما كانت ترغب الوزارات التي وجهت النداء السابق لطلابها، فلم يتغير الوضع صباح يوم 3 مايو، فتدخلت هنا السلطة العسكرية ونشرت بالوقائع إعلانًا بموجب الأحكام العرفية لدعوة الطلبة للعودة للدراسة، وحمل تهديدًا واضحًا لمن يمتنع بأنه إذا لم يعد عدد كافٍ من التلاميذ لمدارسهم في يوم الأربعاء 7 مايو سنة 1919، فستغلق المدارس العالية والثانوية والخصوصية والأميرية حتى بداية الدراسة في السنة المكتبية المقبلة، وسيحرم أي تلميذ مقيد بالمدارس المذكورة من أي امتحان يعقد هذا العام إلا إذا قام بما يأتي: أن يعود إلى مدرسته في يوم 7 مايو سنة 1919 أو قبله، وأن يواظب بانتظام لغاية انتهاء السنة الدراسية إذا استمرت هذه المدارس مفتوحة، ويستثنى من ذلك التلاميذ الذين يمكنهم أن يثبتوا عدم استطاعتهم تنفيذ هذا الإعلان. وهذا سيطبق أيضًا على طلاب المدارس الحرة الخاضعة لتفتيش الحكومة(). 

ويبدو أن هذه المعركة بين الطلاب والسلطة كانت طويلة، وكان الطلاب أكثر تصميمًا، فلم يهتزوا لمثل هذه التهديدات، فجاء قرار وزير المعارف بإعلان إنهاء الدراسة في 29 مايو بالمدارس الابتدائية للبنين، على أن تستأنف الدراسة في 9 أغسطس، وتكون امتحانات الانتقال للسنوات الأولى والثانية والثالثة من المدارس الابتدائية للبنين من أول سبتمبر 1919، ويبدأ امتحان القبول بفرقة السنة الأولى من المدارس الثانوية الأميرية للبنين للسنة المكتبية 1919-1920 من يوم السبت 13 سبتمبر 1919، وتبدأ الدراسة بالمدارس الابتدائية 27 سبتمبر 1919(). ومثل هذا القرار اعترافًا بالفشل في مواجهة إصرار الطلبة على الاستمرار في الاعتصام حتى تحقيق المطالب العادلة للثورة.

هدأت الأمور خلال إجازة الصيف الخاصة بالطلاب، وكذلك مر الصيف في هدوء بشكل عام، إلا أنه مع عودة المدارس، وتشكيل لجنة ملنر، وتعنت الإنجليز في الاستجابة لمطالب الوفد المصري في الاستقلال، امتنع الطلاب عن العودة إلى المدارس في العام الجديد، وصدر إعلان بمقتضى الأحكام العسكرية، في خمس نقاط بضرورة حضور الطلاب إلى مدارسهم وقت افتتاحها في 22 نوفمبر، وكل طالب يتخلف عن الحضور بدون إذن، أو من غير أن يقدم عذرًا مقبولًا يحرم من كل امتحان يعقد في شهري ديسمبر ويناير المقبلين، ولن يسمح لأي طالب بدخول الامتحان ما لم يقدم شهادة تدل على حسن سلوكه ومواظبته في المدة من 22 نوفمبر إلى يوم الامتحان، وتكون موقعة من ناظر المدرسة، والامتحانات المعلن عنها «ستعقد حتمًا للطلبة الذين يعملون تمامًا بمقتضى هذا الإعلان مهما قل عددهم»، والقواعد المتبعة بشأن الذين يرسبون في الامتحانات، ستطبق على كل طالب يحرم من هذه الامتحانات لسبب من الأسباب المتقدمة().

ثم ما لبث مجلس الوزراء أن أصدر في 24 ديسمبر 1919 قرارًا جديدًا بخصوص عودة الطلبة والتلاميذ إلى مدارسهم، مطالبًا إياهم أن يحضروا إلى مدارسهم في التواريخ التي ستحدد بقرار وزاري من المصالح التابعة لها مدارسهم، والتي سيعلن عنها في الجريدة الرسمية، وستعلق في جميع المدارس، وأن كل طالب أو تلميذ سيتغيب عن مدرسته من دون أن يقدم عذرًا مقبولًا، أو لا يحصل على شهادة موقع عليها من ناظر المدرسة التي هو مقيد بها الآن، تثبت حسن سلوكه وتمام مواظبته على تلقي دروسه، سيحرم من دخول الامتحانات خلال سنة 1920. 

وإمعانًا في العقوبة، تقرر اعتبار من توقع عليهم عقوبة المنع من الامتحان أنهم «رسبوا في امتحاناتهم، وتطبق عليهم القواعد المعتادة المختصة بتجاوز السن والإعادة»، ولمنع الطلاب من تقديم شهادات طبية يسمح لهم بمقتضاها التجاوز عن فترات الغياب، قررت الإدارة بأنه لن يعترف بالشهادة الطبية التي يقدمها الطالب أو التلميذ المتغيب إن لم تسلم إلى «ناظر مدرسته في خلال يومين من تغيبه لأول مرة، واعتمدها().

وبدأ التضييق على الطلاب المتغيبين، والذين لم يحضروا الدراسة، بأن تشددت الوزارات في قراراتها بشكل أكثر حدة؛ حيث قررت الوزارة معاقبة كل طالب لم ينتظم في الدراسة من 22 نوفمبر 1919 بسبب الإضراب، وذلك بحرمانه من دخول الامتحان واعتباره راسبًا في كل المواد المقررة له، وأنه لا يعفى من عقوبة الحرمان إلا إذا رأى مجلس الإدارة أن يأذن له في دخول الامتحان لأسباب خاصة»(). ويبدو أن هذا القرار ترك منفذًا للطلاب للإفلات من الحرمان، ولكنه كان منفذًا للطلاب الذين ارتأت السلطة أنهم غير مهتمين بالإضراب، وبالأمور السياسية عامة.

 استعانت السلطات بالآباء وأولياء أمور الطلاب، من أجل الضغط على أولادهم للعودة للدراسة، وذلك بقيام كل مدرسة بإعلام الآباء وأولياء الأمور بالقرار الخاص بميعاد عودة الطلبة والتلاميذ المقيدين بالمدارس العالية والمتوسطة التابعة للوزارة والخاضعة لتفتيشها يوم 10 يناير 1920(). وذلك في محاولة لإنهاء الإضراب الذي طال أمده، وتحت هذه الضغوط حاول الطلاب تخفيف آثارها السلبية عليهم، فكانت تحركاتهم دائمًا للسماح لهم بدخول الامتحانات، وطالبوا الوزارة بالسماح للراسبين في امتحان يناير 1920 بإعادة الامتحان في شهر يونيو 1920، وعدم دفع المصاريف عن المدة من أكتوبر 1919 إلى يناير1920، والإفراج عن المعتقلين من الطلبة في الحوادث الأخيرة، وقد استجابت الحكومة فقط لمطلبهم الخاص بالمصاريف(). 

ب- الموظفون: 

تجمع كل المصادر والمذكرات الشخصية للمعاصرين على الدور الإيجابي والمهم، الذي لعبه الموظفون والعمال خلال إحداث ثورة 1919، وخاصة في إرباك السلطة وإجبارها على التراجع واعترافها بالفشل، وعدم توقع قوة رد الفعل على اعتقال سعد ورفاقه، وكانت الإضرابات صداعًا في رأس السلطة، وخاصة السلطة العسكرية التي شعرت بانفصال حاد بين قيادتها في القاهرة، ووحداتها العسكرية، وموظفيها المدنيين من الأجانب في الأقاليم().

ويرى البعض أن السلطات البريطانية كانت تتوجس من احتمال الإضراب العام قبل أحداث الثورة في مارس 1919؛ لذلك ألحقت بعض الجنود بورش التدريب على تولي الأعمال()، ومع بداية الانفجار الثوري كان عمال النقل أول المضربين، وتبعهم سائقو سيارات الأجرة والنقل، حتى أصبحت المواصلات معطلة في العاصمة، وأضرب عمال عنابر السكك الحديدية في 15 مارس 1919، وكان عددهم يفوق أربعة آلاف عامل يقومون بأعمال الصيانة اللازمة للقطارات(). لذلك كان على السلطة العسكرية الرد على عمال السكك الحديدية فيما يخص استخدام العمال الأجانب في هذا القطاع، لذلك أعدت منشورًا ونشرته في الوقائع عن هذا الموضوع؛ من أجل تهدئة العمال وحثهم على مواصلة العمل، جاء فيه: «بعض الأشخاص السيئي القصد قد أذاعوا خبرًا مفاده: أن العساكر البريطانيين الذين يشغلون وظائف متنوعة بمصلحة سكك حديد الحكومة المصرية، إنما يفعلون ذلك ليحلوا محل المصريين. فمصلحة السكك الحديدية المصرية تعلن جميع المختصين أنه ليس القصد من تشغيل هؤلاء العساكر أن يحلوا محل المصريين، بل إن المصلحة تسمح لهم فقط بالاشتغال بحرف متنوعة؛ ليحسنوا حالتهم ريثما يصير إعادتهم إلى بلادهم، هذا مع العلم بأن ماهياتهم جارٍ صرفها من طرف الحكومة البريطانية، وليس من طرف الحكومة المصرية»(). ولكن هذا المنشور لم يمنع العمال من الإضراب الذي كان في جانب كبير منه دعمًا للحركة الثورية المطالبة بالاستقلال. 

 ففي اليوم التالي لنشر القرار، قرر عمال العنابر وعمال المطبعة الأميرية تنظيم مظاهرة عمالية في يوم 18 مارس، خصوصًا وأن القوات البريطانية كانت قد منعتهم من الاشتراك الجماعي في المظاهرة الكبرى، وتمكنت من ردهم عند كوبري شبرا، والقبض على حامل العلم وبعض القادة. 

وهنا فإن أمين عز الدين يرى أن دراسة الإضرابات العمالية خلال هذه الأحداث قضية معقدة، فبالرغم من الإفراج عن سعد زغلول، وتوقف الإضرابات في بعض القطاعات، فإن قطاعات أخرى كان لها مطالب عمالية مشروعة، حاولت الحصول عليها قبل انتهاء إضرابها، منهم عمال شركة الترام، ودخلت في مفاوضات طويلة مع الشركة(). 

 وفي أبريل دخلت الوزارة على خط المواجهة مع العمال والموظفين مباشرة بعد اشتداد وازدياد عدد الإضرابات، فنشر بالوقائع في 13 أبريل 1919 إعلان من رئيس الوزراء، يذكر في فقرته الأولى أنه قد «رخص للمصريين بالسفر، وتألفت وزارة شعارها الإخلاص التام للوطن، مشاطرة للأمة شعورها، ومقدرة لأمانيها حق قدرها»، ثم دعا الأمة «إلى الهدوء والسكينة»، وطالب الموظفين وغيرهم ممن أضربوا «بالعودة لأعمالهم»، موضحًا في الوقت ذاته أن الإصرار على الإضراب عن العمل في الحالة الحاضرة «يؤدي إلى ارتباك الأعمال، وانتشار الفوضى، فليتدبر المضربون عن العمل في المسؤولية الهائلة التي تقع عليهم بإزاء بلادهم إذا ما أصروا على موقف يعرض البلاد إلى مثل تلك الأخطار». 

وفي نهاية الإعلان أشار رئيس الوزراء إلى أن تأليف الوزارة سيعيد البلاد إلى الحالة العادية()، ولأن السلطة كانت تشعر بالانزعاج الشديد، فقد تم توقيع هذا الإعلان يوم السبت 12 أبريل، ونشر في اليوم التالي الأحد في عدد غير اعتيادي في صفحة واحدة، ولم تنتظر أن ينشر في العدد الاعتيادي الذي ينشر يوم الاثنين.  

ويبدو أن هذه التحذيرات والتوضيحات لم تأت بالنتائج المرجوة، فعادت رئاسة الوزراء بإعلان آخر يوم الثلاثاء في عدد غير اعتيادي أيضًا، ونص الإعلان كان على النحو التالي: «رياسة مجلس الوزراء، إعلان للموظفين»، «إن الحكومة تكرر الدعوة إلى الموظفين بالرجوع إلى عملهم غدًا (الأربعاء)، وتلقي عليهم مسؤولية عواقب الاستمرار على الإضراب عن العمل»(). 

بعد هذين التحذيرين لم تصدر الوقائع لمدة أسبوع كامل؛ لتعود يوم الثلاثاء بعدد غير اعتيادي في 22 أبريل (صفحة واحدة)، تستكمل فيه سلسلة المنشورات الموجهة لمخاطبة الموظفين والعمال المضربين عن العمل، وكان المنشور في هذه المرة من الجنرال القائد العام لقوات جلالة الملك في مصر، يُذكر فيه الناس في البداية بالأحكام العرفية، وأن إضراب الموظفين عن العمل بقصد إملاء خطة سياسية لحكومة عظمة السلطان (فؤاد)، ورفض الحماية التي وضعتها حكومة جلالة الملك على مصر، ويشير فيه إلى عدم استجابة المضربين لنداء مجلس الوزراء، فأشار إلى أن أي «شخص يتغيب عن العمل، أو ينشئ، أو يقود حركة، أو يمنع الموظفين، أو المستخدمين، بالتهديد أو بالقوة من تأدية أشغالهم، يقع تحت طائلة القصاص الشديد بموجب الأحكام العرفية»، لذلك أمر اللنبي - بما له من سلطة - موظفي الحكومة بالعودة إلى أعمالهم، مشيرًا إلى أنهم لن يتقاضوا راتبًا عن المدة التي غابوها بدون إذن، وأن من يرفض الاستجابة لهذا الأمر «يعد من كل وجه مستعفيًا، أو يحذف اسمه من كشف موظفي الحكومة. وكل شخص بطريق الإقناع، أو التهديد، أو استعمال القوة، يمنع أي شخص من القيام بأمري هذا يُلقى القبض عليه، ويحاكم بمجلس عسكري()، وبالتالي فإننا نرى في هذه المنشورات الثلاثة تصعيدًا تدريجيًّا؛ حيث رأت الإدارة أن يأتي في البداية من الوزارة، ولما لم يحدث الصدى المطلوب تدخلت السلطة العسكرية بكل قوتها، واستدعت للأذهان الأحكام العرفية؛ ليكون منشورها حاملًا للتهديد بتوقيع العقوبات العسكرية على المخالفين له، ولم يكن هذا المنشور الأخير بالطبع لإرهاب الموظفين المضربين عن العمل، ففي 24 أبريل نشرت المطبعة الأميرية نداء أخيرًا إلى موظفيها المتغيبين عن العمل بدون إذن، إن لم يعودوا لأعمالهم ستكون مضطرة لتعيين بدلهم().

ومع تجدد المظاهرات والإضرابات في نوفمبر مع قدوم لجنة ملنر، بدأت منشورات الحكومة بالوقائع تحمل تهديدًا مباشرًا وصريحًا للعمال المضربين؛ لتخبرهم السلطة بقرار رسمي أنها مقبلة على الاستعانة بغيرهم في العمل، وتبرير ذلك باعتصامهم، لذلك أعلنت مصلحة سكك حديد الحكومة المصرية عن طلب عمال للعمل لديها؛ حيث جاء في مقدمة الإعلان ما نصه: «إنه بالنسبة لاعتصام البعض من عمال مصلحة سكك حديد الحكومة المصرية، وإمكان امتدادها أو إعادتها في شكل يتأتى منه خسارة جسيمة للكل كافة، وربما يلزم لمعالجة ذلك عمال خطرية، خصوصًا من يكون لهم سابق إلمام وخبرة في أشغال السكك الحديدية، وهذا الشرط لا يمكن أن يؤثر على الذين ليس لهم خبرة من تقديم أنفسهم لطلب الخدمة؛ حيث إنه من الممكن للمصلحة استخدامهم»()، وفتح هذا الإعلان الباب لمن لهم خبرة أو بدون للتقدم بأوراقهم لهذا المؤسسة التى تضررت من الإضراب في السابق. 

ثانيًا: التهدئة والاحتواء (تفكيك الكتلة الصلبة للثوار):

إلى جانب ما اتخذته السلطة من إجراءات ومناشدات نشرتها بالوقائع لتحذير وتهديد الثوار، اتخذت أيضًا أسلوبًا آخر موازيًا وهو التهدئة، ففي عدد غير اعتيادي ناشد السلطان أحمد فؤاد المصريين في 6 أبريل، وطالبهم بعدم الاستمرار في المظاهرات بقوله: «فإني أطالب أبنائي المصريين بما لي من حق الأبوة عليهم أن يتناصحوا؛ لعدم الاستمرار على المظاهرات التي كانت عواقبها غير محمودة في بعض الجهات، وأن يخلدوا إلى الراحة والسكون وانصراف كل إلى عمله، وهذه هي يد المساعدة التي أطلبها»(). وقبل هذا الطلب استحضر السلطان صورة جده محمد علي، وما بذله من جهود في استقرار ونهضة البلاد. 

ولما كان سير الأحداث في البلاد يتجه إلى التصعيد أكثر، وأدرك المحتل فشل كل الوسائل التي استخدمها؛ من قمع، وقتل، ومحاكمات، وأخيرًا دخول السلطان على خط المواجهة بندائه الأخير الذي أشرنا إليه سابقًا، هذا الفشل من جانب سلطات الاحتلال جعلها تنشر في صباح 7 أبريل بالوقائع في عدد غير اعتيادي الإعلان التالي بإمضاء اللنبي، وقعه في نفس يوم نشره بالوقائع، وكان نصه كالآتي: «الآن وقد عاد النظام بنجاح، فبالاتفاق مع حضرة صاحب العظمة السلطان، أعلن أنه لم يبق حجر على السفر، وأن جميع المصريين الذين يريدون مبارحة البلاد تكون لهم هذه الحرية، وقد قررت علاوة على ذلك أن كلًّا من: سعد زغلول باشا، وإسماعيل صدقي باشا، ومحمد محمود باشا، وحمد الباسل باشا، يطلقون من الاعتقال ويكون لهم كذلك حق السفر»(). 

كما عملت السلطات على حل بعض المشكلات الفئوية القديمة، وخاصة للموظفين والعمال، بهدف تفكيك الكتلة الصلبة للثوار، ففي محاولتها لجذب الموظفين المضربين عن العمل والمنضمين للثورة إلى السلطة، أو إبقائهم على الحياد على الأقل، شرعت الوزارة في الإسراع بالتصديق في 26 يونيو سنة 1919 على المذكرة المرفوعة إليها من وزارة المالية، بشأن تحسين حالة موظفي الحكومة بسبب ارتفاع أسعار المعيشة، والتي تم نشرها في الوقائع المصرية، وفي المذكرة شرح وافٍ لجهود الدولة للتخفيف من أعباء الموظفين، وإدراكها لما يعانونه بسبب ارتفاع الأسعار وحاجيات المعيشة، لذلك فإن وزارة المالية عملت على محاولة توفير أي إعانات يمكن من خلالها تحسين مستوى دخل موظفيها لمواجهة هذه الأعباء؛ كما أنها ستتخذ «تدابير خاصة للحيلولة قدر الإمكان دون حدوث أي ارتفاع في سعر «الخبز والطحين»، لذلك اتخذت الوزارة القرار التالي: إبقاء إعانة الحرب لمدة سنة، ابتداء من أول يونيو 1919، على أن تراعى القيود والشروط السابق تقريرها، مع زيادة تلك الإعانة زيادة عامة قدرها 50 في المائة من قيمتها الحالية، وما سيصرف على هذا البند 800 ألف جنيه مصري. 

ثانيًا: إيقاف تحصيل الرسوم على الوارد من القمح والطحين في خلال عام، والمصروف على هذا البند 120 ألفًا. 
ثالثًا: إبقاء المخزون من القمح والطحين في يد «لجنة مراقبة التموين»(). 

وقد حمل هذا المنشور والقرار التابع له عدة دلالات: 

الأولى: هي سعى السلطة إلى توفير العلاوة والإعانة وبسرعة؛ لتفكيك الكتلة الصلبة للثوار. 

والثانية: هي قدرتها على توفير هذه الإعانة في الماضي، ولكنها لأنها لم تجد ضغطًا مناسبًا من الموظفين، فإنها تخاذلت عن ذلك. 

والدلالة الأخيرة: هي استخدام الوقائع منصة تفسير وشرح أسباب إقرار الإعانة في هذا الوقت؛ من خلال نشرها للمنشور الذي أرسلته المالية لرئاسة الوزارة لإقرار هذه العلاوة. 

وهنا فإن نشر هذا القرار في الوقائع المصرية يعني للموظفين: أن قضية الإعانة والعلاوات تم حسمها نهائيًّا؛ لأن هذا النشر كان أكثر مصداقية من أي تصريحات تصدر عن الوزارة في أي وسيلة إعلامية أخرى.
 وهذه الإجراءات جاءت بالهدف المرجو منها، حتى إن عبد الرحمن الرافعي أحد المعاصرين لأحداث الثورة، علق على تأثير هذه العلاوة على الموظفين المشاركين في الثورة بقوله: «وكان لهذه العلاوات أثرها في إبعاد الموظفين عن الحركة الوطنية، وتراخي صلاتهم بها، بل التنكر لها أحيانًا، والتفاتهم إلى مصالحهم الشخصية، ومن هنا يمكن أن ندرك السبب في تغير موقف الموظفين عما كانوا عليه في عهد وزارة رشدي، فقد كانوا يفيضون حماسة ضدها، بينما فترت هذه الحماسة، وحل محلها البرود والصمت العميق في عهد وزارة سعيد باشا»().

كما عملت الحكومة على إيجاد حل جذري لمشكلة الإضراب، وخاصة في القطاع الخاص، فقرر مجلس الوزراء في أغسطس 1919 إنشاء لجنة تدعى: «لجنة التوفيق بين العمال وأصحاب الأعمال»، مهمتها النظر في الوسائل التي من شأنها إيجاد حل لما يقع من الخلاف بين أصحاب الأعمال وبين العمال، وتشكلت برئاسة الدكتور ألكسندر جرانيفل، وعضوية صادق يونس بك، والمستر ويليام هورنيلو، ورفلة تادرس بك، وأحمد عمر بك، ومن اختصاصاتها فحص الطلبات التي يكون هدفها طلب تدخل الحكومة لحل الخلافات بين العمال وأصحاب الأعمال، ووضع واقتراح مشروعات للتسوية والتوفيق، يكون الغرض منها إزالة أسباب الخلاف، والتصديق على الاتفاقات التي تحصل بين الفريقين المتنازعين، ولم تكن اللجنة مختصة بالنظر في المسائل المتعلقة بموظفي الحكومة ومستخدميها(). 

ولم تنفصل هذه الإجراءات أيضًا عن الحالة العامة للبلاد أثناء الثورة، بل كانت تستهدف امتصاص غضب جميع الفئات المتعاطفة والمساندة للثورة. 

أما أصحاب المعاشات فقد كانوا أيضًا في خطة الإدارة؛ من أجل كسب ودهم في هذه الأيام التي تمر بها البلاد؛ لذا قرر مجلس الوزراء زيادة المعاشات بسبب غلاء المعيشة، وذلك على النحو التالي: منح إعانة غلاء معيشة بنسبة 60 % إلى أصحاب المعاشات التي تبلغ 100 جنيه مصري سنويًّا فأقل، منح إعانة ثابتة قدرها 60 جنيهًا مصريًّا في السنة إلى أصحاب المعاشات التي تتراوح بين 100 جنيه وبين 240 جنيهًا سنويًّا، أما المعاشات التي تتراوح مقاديرها ببين 240 جنيها و300 جنيه في السنة، فيمنح أصحابها الإعانة بالمقدار الذي يكون مكملًا لها لغاية 300 جنيه في السنة. وأشار القرار إلى أن هذه الإعانة ليست حقًّا مكتسبًا لصاحب المعاش، بل تكون عرضة للتعديل أو للإلغاء كلية بمحض إرادة الحكومة إذا تغيرت الأحوال التي دعت إلى تقرير منحها(). 

إن أسلوب نشر الإعلانات لتوضيح بعض الأمور السياسية لتهدئة الشعب لم يتوقف أيضًا من السلطة العسكرية، وخاصة مع قدوم لجنة ملنر*، فنشرت دار الحماية منشورًا توضح فيه سياسة بريطانيا في مصر بأنها «للمحافظة على حكومتها الذاتية تحت الحماية البريطانية، وإنشاء نظام حكومة ذاتية تحت سلطان مصري»، وكذلك الدفاع عن مصر من كل خطر خارجي، أو من تدخل أي دولة أجنبية، وغرضها في الوقت نفسه: تأسيس نظام دستوري يمكن «السلطان ووزراءه وحضرات مندوبي الأمة في دوائرهم الخاصة من الاشتراك في إدارة الأمور المصرية على أسلوب يزيد فيه نفوذهم على مرور الأيام، وذلك تحت إرشاد بريطانيا العظمى على قدر الحاجة»، ولذلك فقد قررت بريطانيا إرسال لجنة إلى مصر، ومن مهامها: 

تقرير نظام الحكم بعد أن تستشير اللجنة السلطان، ووزراءه، وأصحاب الرأي والشأن من المصريين.
 أن تباشر الأعمال الأولية اللازمة قبل وضع قوانين الحكومة المستقبلة نهائيًّا. 

وليس من اختصاص اللجنة أن تستقل بوضع شكل الحكومة على مصر، فإن مهمتها هي أن تدرس الأحوال درسًا دقيقًا، وتبحث مع أصحاب الشأن في البلاد في الإصلاحات اللازمة، وأن تقترح نظام الحكم الذي يمكن تنفيذه فيما بعد، وأن يكون ذلك بالموافقة التامة مع السلطان ووزرائه الكرام(). وهذه الإيضاحات كان الهدف منها تقويض أي محاولة للتأثير على الشعب والقادة والأعيان لمقاطعة اللجنة، ومن ثم كان نشره يهدف إلى التخفيف من المظاهرات والانتقادات التي قوبلت بها اللجنة، ولتقبل فكرة النقاش والحوار مع اللجنة، والتخلي عن المقاطعة التي واجهتها.

ثالثًا: المحاكمات والتأديب

بدأت المنشورات والقرارات الخاصة بالمحاكمات وتأديب الثوار مبكرًا، ففي ظل الإضرابات وانضمام المحامين إليها، وتوقف المحاكم عن العمل، أسرعت السلطات العسكرية بنشر قرار قائد الجيوش البريطانية في عدد لم يتضمن سوى هذا القرار المنشور في 20 مارس 1919، وتضمن القرار «أنه يحق للمحكمة أن تنظر وتفصل في كل الدعاوى الداخلة ضمن اختصاصها، ولو أدى ذلك إلى عدم حضور محامٍ عن أي خصم من الخصوم... وللمحكمة إذا رأت ضرورة أن تعين من قبلها عضوًا من أعضاء النيابة، أو أي شخص تتوفر فيه المعلومات القانونية للقيام بواجب الدفاع عن الخصوم»، لكن في نفس القرار لم يحرم أي خصم في الدعاوى الجنائية أو غير الجنائية، أن يوكل عنه من يشاء للقيام بأعباء إجراءات الدعوى().

لكن محاكمات الثوار في الأشهر الأولى من الثورة كانت أمام محاكم عسكرية تابعة للاحتلال، ذكر الرافعى العديد منها في مؤلفه عن ثورة 1919؛ حيث أشار إلى أن السلطة العسكرية قسمت القطر المصري إلى عدة مناطق، لكل منها محكمة عسكرية، وبعد أن حوكم الكثير من الثوار أمام هذه المحاكم، توقفت المحاكم العسكرية بالاتفاق مع السلطة المدنية، وتم إحالة من لم يحكم عليهم من المتهمين إلى المحاكم الجنائية المصرية()، فبدأت السلطة المدنية بعدها بإصدار القانون رقم 8 لسنة 1919 والخاص بتشكيل «مجلس تأديب في وزارة الداخلية»، للنظر في بعض المخالفات والتقصيرات الواقعة من موظفي المحافظات والمديريات، «... وبما أنه من الملائم أن القضايا التأديبية الناشئة عما حدث أخيرًا في القطر من الاضطراب تكون محصورة كلها في وزارة الداخلية»؛ رسمنا بما هو آتٍ: جاء في مادة واحدة أُشير فيها صراحة إلى أن السبب في تكيل هذا المجلس التحقيق في «المخالفات أو التقصيرات التي لها مساس باضطرابات القطر الأخيرة بمجلس تأديب يعقد في وزارة الداخلية»، وكان تشكيله كالآتي: برئاسة رئيس نيابة محكمة الاستئناف الأهلية، وبعضوية مدير قسم الإدارة، وباشمفتش إدارة عموم الأمن العام بوزارة الداخلية، فإذا حدث مانع لرئيس النيابة يمنعه من الحضور، فعلى وزير الحقانية إصدار قرار بتعيين رئيس نيابة آخر بدله، وإذا حدث مانع لأحد العضوين الآخرين فعلى وزير الداخلية إصدار قرار بتعيين بدله()؛ كما تشكل أيضًا في نفس اليوم مجلس تأديب خاص بموظفي وزارة المواصلات الوليدة، مشكل من وكيل الوزارة، ومستشار سلطاني، ومن النائب العمومي لدى المحاكم الأهلية()، وفى محاولة لترهيب الموظفين الحكوميين المشاركين بالثورة، وتبدو دلالة إصدار هذا القانون في شهر يونيو ذات مغزى؛ حيث كان قد تم الاتفاق بين السلطة المدنية والاحتلال على إيقاف المحاكمات العسكرية.

وفي عام 1920 صدر قانون خاص بالأحكام التأديبية في الجامع الأزهر، وفي المعاهد الدينية، جاء في مقدمته ما يشير بشكل واضح إلى أنه جاء لمعاقبة الطلاب لمشاركتهم الواضحة في الثورة بالقول: «نظرًا لأن اشتغال طلبة العلم والمدرسين والموظفين بما يصرفهم عن التعليم والتعلم، وتأدية واجباتهم؛ مما يؤدي إلى عدم قيام المعاهد بما هو مطلوب منها للعالم الإسلامي، ونظرًا لأن كثيرًا ممن لا يشعرون بالواجب عليهم قد اندسوا بين طلبة المعاهد، واتخذوا احترام هذه الأمكنة الدينية، وعدم إباحة التعرض لها ذريعة لإلقاء بذور المشاغبات، وبث الآراء الفاسدة في الأذهان؛ مما قد ينجم عنه إخلال بالأمن العام». 

ويبدو أن هذا النص يحمل الكثير من الاتهامات التي تشوه من إنجاز الطلاب المشاركين بالثورة، وقد جاء القانون في 15 مادة؛ ليمنع المدرسين والموظفين العاملين بالأزهر في المعاهد أو المساجد من «إلقاء خطب أو محاضرات، أو تحرير منشورات أو مقالات، أو يقوم بتوزيع منشورات أو مطبوعات؛ مما يكون من شأنه أن يفسد أخلاق الطلبة، أو يلهيهم عن طلب العلم، أو يخل بالنظام العام، أو بحرمة المساجد، يحال إلى مجلس تأديب، ويعاقب بإحدى العقوبات الآتية: الإنذار، أو قطع المرتب لمدة لا تزيد عن 15 يومًا، أو الإيقاف بلا مرتب لمدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، أو التنزيل من درجة إلى ما دونها، أو الرفت». 

أما فيما يخص الطلاب؛ فقد جاءت المادة الثانية لتجرم اشتراكهم في العمل السياسي بشكل عام، وتنذرهم وتحذر من يخالف هذا القانون بالعقوبات المتنوعة، التي تتراوح بين الإنذار إلى الطرد نهائيًّا من الدراسة، وهذا المحاكمات التأديبية «لم تمنع المحاكمات الجنائية متى كان هناك وجه لذلك»().

يتضح لنا من الوقائع أيضًا أن القائد العام البريطاني اللنبي، أصبح المسيطر الحقيقي على الأمور المدنية والعسكرية في البلاد، حتى وصل الأمر بأن يعتمد ميزانية العام المالي 1919-1920، في 31 مارس 1919، وجاء في مقدمتها: «إن اللجنة المالية أتمت تحضير الميزانية، وإنه لم يتيسر الحصول على الموافقة عليها طبقًا للقانون، ولما كان وضع تقدير للإيرادات والمصروفات أمرًا ذا صفة ضرورية ومعجلة؛ بناء على ذلك، أنا إدموند هنري اللنبي بمقتضى السلطة المخولة لي بصفتي قائدًا عامًّا لقوات جلالة الملك آمر وأصرح ...»، ثم سرد القرار الخاص باعتماد ميزانية 1919-1920، وعلى الجهات الحكومية تنفيذ هذا القرار(). فاعتماد الميزانية بهذه الطريقة يوضح أن سلطة السلطان أحمد فؤاد قد تم تهميشها تمامًا.

ونشطت السلطات العسكرية في إعادة تنظيم بعض الإدارات الحيوية، مثل: المواصلات بكل أنواعها، بما يحقق لها الحد من التأثيرات التي أحدثتها المشاركة الإيجابية للمصريين في الثورة على هذه القطاعات، فأسرع الحاكم العسكري بتعيين الجنرال سر جورج ماكولي مراقبًا عامًّا لطرق المواصلات والنقل الملكي في القطر المصري، مع تخويله السلطة التامة لاتخاذ التدابير التي تلزم لصيانة وتحسين جميع وسائل المواصلات الموجودة، ولضمانة نقل البضائع والركاب بالسكك الحديدية والطرق والماء، ووضعت تحت إدارته: مصلحة السكك الحديدية، والتلغرافات والتليفونات، ومصلحة البوستة، ومصلحة الليمانات والفنارات، وقسم هندسة الأشغال البحرية، والملاحة النهرية، والنقل الميكانيكي، والطرق الرئيسية والكباري، والنقل بالهواء للأشغال الملكية (الإشراف عليه، ومراقبته، ومنح الرخص الخاصة به)، ويمكنه عند الحاجة أن يضع تعريفة مناسبة ومعقولة لأجور النقل بجميع أنواعه، مع منحه جميع السلطات التي للوزير(). 

وفي شهر مايو 1919 تم تعيين جنرال روبرت بيرون دروري بلاكني مديرًا عامًّا لسكك حديد الحكومة المصرية وتلغرافاتها وتلفوناتها، مع الحصول على المنح والامتيازات الخاصة بمنصب وكيل وزارة، وعين الكولونيل موريس إدن سويربي مساعدًا لمراقب المواصلات العام()؛ كما تم في نوفمبر 1919 تعيين قاضيين أجنبيين في محكمتي أسيوط وقنا الابتدائيتين الأهليتين، وقاضٍ آخر بمحكمة طنطا الأهلية، وهم في الأصل محامون()، وبتعيين قضاة أجانب في المحاكم الأهلية في تلك الظروف، فإن الإنجليز سعوا ليكون لهم رجالهم في القضاء المدني الذي أخذ ينظر بعض القضايا المرتبطة بإحداث الثورة؛ كما نلاحظ أن المعينين في المناصب المدنية في تلك المرحلة كان معظمهم من العسكريين، وتفيض الوقائع بالكثير منهم.

ختامًا: يتضح أن نشر القرارات العسكرية والتأديبية والتحذيرية، وأيضًا نشر قرارات الأحكام العرفية الموجهة بالأساس إلى الثوار الذين رفضوا أي انصياع لها، ثم ذهاب السلطات إلى تنفيذ هذه التهديدات، تعكس استغلال سلطات الاحتلال للجريدة الرسمية الوقائع -الناطقة باسم الحكومة المصرية المدنية- بما يمثل انتهاكًا واستغلالًا لها؛ لتكون بحق يد السلطة الغليظة في مواجهة الثوار. 

ويتضح لنا أيضًا أن إصرار السلطات على انتظام إعداد الوقائع في بعض الأيام، بنشر قرارات إدارية قديمة حتى ولو جاءت في صفحة واحدة، هي للإيحاء للمتظاهرين والمضربين عن العمل بأن الإدارة والحكومة تعمل بلا خلل، وأنها لم تتأثر بالأحداث الجارية في البلاد منذ 9 مارس، وكذلك ربما تكون رسالة أخرى للخارج بأن الأمور مستقرة في البلاد، وأن كلًّا يؤدي عمله بانتظام، والدليل على ذلك: هو الانتظام في إصدار الجريدة الرسمية، (التي ربما تعادل حاليًا هيئة الإذاعة والتلفزيون الرسمي للدولة).