مراجعات

أسماء سعد

«أدب الحروب».. كيف ألهمت المعارك الدامية الأيقونات الأدبية

2019.09.01

مصدر الصورة : ويكيبديا

«أدب الحروب»..  كيف ألهمت المعارك الدامية الأيقونات الأدبية

تحتفظ البشرية في عنقها بدين كبير للأدباء والمثقفين الذين لعبوا أدوارًا خالدة في مناهضة الحروب من خلال كتاباتهم الإبداعية، ومن المفارقات اللافتة أن الحروب القومية والإقليمية قد ألهمت الأيقونات الروائية الأدبية، إذ كان زمن الحرب والنزاعات والاضطرابات سببًا في ظهور الرواية باعتبارها أداة للمقاومة تارة، وحائط صد ضد شيوع الخراب والتمادي في الصراعات تارة أخرى، وقد أبدع الروائيون سواء في العالم أو في منطقتنا العربية في سرد واقع النزاع المرير الذي دمر شعوبًا وسحق مدنًا لقرون طويلة. فقد أمعن الأدب في محاولة سبر أغوار الحروب والكشف عن وجهها الكابوسي المظلم، برعت في تصوير ما لم تنجح الصورة في التقاطه من مشاهد الدم والفراق والفجيعة، وضع الروائيون سؤالاً أساسيًّا طوال الوقت عن منبع كل هذه القسوة وجذور الشرور والرغبة التدميرية لدى الإنسان، نلمس ذلك فيما طرحه الروائي المصري صبحي موسى بشكل مباشر في روايته «أساطير رجل الثلاثاء» التي يُكتب فيها أسامة بن لادن مذكراته، كما حاولت الروائية والشاعرة سهير المصادفة تتبع أصل العنف القبلي في التاريخ عبر روايتها «رحلة الضباع».

تشتعل العديد من المناطق والمواقع في العالم الآن بالنزاعات العسكرية، وتمادت لتتخذ شكل الحرب التقليدي، كما نتابع في إقليم ناجورني قره باغ بين أرمينيا وأذريبجان، واشتعال الحرب في إقليم تيجراي الإثيوبي، الأمر الذي يعود بنا إلى تسليط الضوء على أوقات كانت الحرب فيها سببًا رئيسيًّا ومباشرًا في نشاط الأدب، باعتباره حلاً لشعور الناس بالإحباط.

يمكننا الدفع بأن أثر الحرب على الأدب، يعود إلى عصور ما قبل الميلاد، وأنه حينما نفتش عن أكثر نصوص الأدب العالمي الضاربة في القدم، ففي الغالب سنرى أن الحروب القومية والإقليمية لعبت دورًا مباشرًا في سرد الروايات الأدبية في بدايات التاريخ، ولكن مع سريان حركة التاريخ والمضي قدمًا في حركة التطور الاجتماعي والفكري والعسكري والأدبي، بات لدينا تيار يستخدم الأدب ضد الحرب، ويدين الكتابات التي كانت تلعب على أوتار العصبية وتغذي الطائفية ونزعات القومية والدعوة للحلول العسكرية. وهنا يبرز لدينا كتَّاب بارعون أمثال دوستويفسكي وتورجنيف، سخروا في رواياتهم من رواة ودعاة الحروب، ونددوا بآثارها الفكرية الهدامة، وفي مطلع القرن العشرين، وعندم أصبحت الكرة الأرضية ساحة مستعرة لحربين عالميتين وحروب دامية أخرى، حقق عدد كبير من الأدباء حالة اصطفاف ضد الحرب.

وأمام محاولات الأدباء لشجب الحروب العالمية في نسختيها الأولى والثانية، بادرت الحكومات المتورطة في الحرب إلى تخويف وإرهاب المثقفين والكتَّاب، من أجل مواصلة نهجها الحربي العسكري، فما كان من أسماء بحجم إريك ريمارك، وإرنست هيمنجواي، وروجيه مارتن دوجار، ولويس فرديناند سيلين، إلا أن انطلقوا لإبداع أكبر كم من الاعمال الروائية والأدبية التي بلورت أفكار ونظريات براقة مضادة للحرب.

ومع صعود حكومات يمينية متطرفة اكتسبت مساحات جديدة من السلطة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمجر والنرويج، قابلت جهود الأدباء بخطابات سياسية تعزز ميول دعاة الحروب في العالم، تصدى لهم عدد كبير من الكتَّاب المرموقين، وسارعوا لإنتاج ونشر روايات مثيرة حول النتائج الكارثية للحروب، كان لها أبلغ الأثر في تحريض الرأي العام لمناهضة حكومات الحروب.

ومع تكثيف الأدباء والمبدعين لأعمالهم استطاعت الروايات جذب اهتمام الرأي العام، الخارج لتوه من أتون حروب طاحنة، وظفر المجال الأدبي بروائع عديدة لكتَّاب بارعون بحجم: ألبير كامو، وصمويل بيكيت، وجان بول سارتر، ورومان جاري، نورمان ميلر، وآلن روب جريبيه، الذين وصفوا الحروب بالعبثية، ومع التنوع في الخلفيات الفكرية والميول السياسية لتلك الأسماء، فإن رابطًا قويًّا كان يجمعها في شكل التزام أدبي وقاسم مشترك قوي هو مناهضة الحرب.

من أبرز تلك الملاحم الأدبية، ما دوِّن عن الحروب التي وقعت في أزمنة قديمة مثل «معركة طروادة». لكن هذه الأمثلة تختلف كثيرًا عن الروايات التاريخية التي ظهرت في عصور ما بعد الحداثة. وقد بدأت المحاولات الأدبية للاشتباك مع وقائع الحروب، محاولات بدائية غير ناضجة منذ ميلاد المسيح عليه السلام وما بعده، وفي بواكير ما قبل الحداثة، حين تعمد البعض حينها خلق بطولات وهمية وأسطورية مالت إلى أن تكون قصصًا هدفها الوحيد التسلية وإشباع رغبة الحكي، وهو ما شهد طفرة وتطورًا ملموسًا في مفاهيم أدب الحرب خلال القرون الثلاثة الماضية تحديدًا.
  
ألهمت الحروب الكثيرون من أجل الكتابة عنها، وكانت سببًا رئيسيًّا في ظهور أعمال خالدة، ولم تكن الرواية وحدها هي الوعاء الأدبي الوحيد الذي التقط مشاهد من الحروب، وإنما الشعر أيضا، ففيدريكو لوركا ‏الشاعر والكاتب المسرحي الإسباني، قدم أهم قصائده عن أصدقائه الذين ابتلعتهم الحروب الأهلية الطاحنة، قبل أن يموت هو أيضًا تاركًا كلماته خالدة في الأذهان: (لا تبحثوا عني، لن تجدوني)، كما أن الحروب الأهلية كانت سببًا في خروج إبداعات بول إيلوار إلى النور، وهو الشاعر الفرنسي المرموق وأحد مؤسسي الحركة السوريالية، وقد أبدع في كتابة تجربته القاسية مع الحرب العالمية الثانية واحتلال الألمان لباريس، ليتوج جهوده بقصيدته الشهيرة «الحرية».

 الكتابة تحت اللهيب، حفزت أسماء بحجم الشاعر اللبناني وديع سعادة، في ديوانه الأشهر «بسبب غيمة على الأرجح»، ليكون أحد أهم من كتب عن الحروب من العرب، راصدًا تأثيرات معايشة الحرب الأهلية اللبنانية واستحضار مشاهد الأرض المحروقة والمنازل الضائعة، وكيف أمعن في وصف مدن كانت تتمتع بالسكينة والأمان، وما جرى لها من دمار شامل، وذلك بخلاف عدد كبير من الأعمال لمبدعين عرب عن تجاربهم القاسية خلال معايشتهم للحرب، ليتركونا أمام نصوص بديعة تفيض بالإبداع والتشكيلات الجمالية، رغم خروجها من رحم الحرب ووحشيتها.

ولا يرتبط الإبداع فقط بفترة اشتعال جذوة الحرب، فحتى بعد انتهائها، تترك بصمة مريرة لا يمكن محوها بسهولة من أذهان الناجين، والذين ينطلقون في سباق نحو توثيق التجربة عبر أعمالهم المجيدة، لينقلوا بهدوء وروية معالم أقسى تجربة أقدم على فعلها الإنسان منذ أن هبط إلى الأرض، ليتفنن في جعل ساحة الحرب موضوعًا للأدب الإنساني، بعدما تتيح له الظروف التأمل في أبعاد ما جرى، وكيف تكون الحرب نقطة تحول جذرية في حياة كل المشاركين فيها، بعقد مقارنة تلقائية بين حالهم قبل جحيم الحرب وبعده.

 لا يمكننا تجاهل أمثلة فريدة على رواد من الأدب العالمي والعربي، قد عايشوا بأنفسهم فظائع الحروب، لتخرج لنا بأعمال ستظل علامة على تشابك جرى بين خيوط الإبداع وطلقات المدافع، فالروائي الروسي ميخائيل شولوخوف، الحاصل على جائزة نوبل عام 1965 عايش بنفسه الأحداث المأساوية التي خاضتها روسيا إبان الحرب العالمية الأولى، وهو في بداية الشباب، واستطاع في روايته الأشهر ذات الأربعة أجزاء «الدون الهادئ»، أن يرصد التطورات المأساوية المُتلاحقة التي عاشتها بلاده في تلك الفترة الحرجة من التاريخ، وما تلاها من سقوط نظام الحكم القيصري والحرب الأهلية التي تبعت هذا؛ كما خاض شولوخوف الحرب العالمية الثانية كمراسل حربي، ليكتب بعدها روايته «مقاتلون في سبيل الوطن». 

كذلك الأمريكي إرنست هيمنجواي، الذي حصل أيضًا على جائزة نوبل عام 1954 عن روايته «العجوز والبحر»، شكلت الحرب شريانًا أساسيًا من شرايين الإبداع في أعماله، وذلك بعدما خاض بنفسه الحربين العالميتين، ولحقت به إصابة في أثناء مشاركته في الحرب العالمية الأولى، ليصاب بعدها في أثناء خدمته على سفينة حربية أمريكية مهمتها إغراق الغواصات الألمانية، ونال العديد من الأوسمة العسكرية جراء شجاعته، وإلى جانب مشاركته كمراسل حربي في الحرب الأهلية الإسبانية، انطلق ليدون عن الحرب والمآسي التي تخلفها ومصير الإنسان فيها، وذلك من خلال العديد من الروايات مثل «وداعًا للسلاح» و»لمن تقرع الأجراس».

 كما أن صاحب رواية مزرعة الحيوان الروائي البريطاني جورج أورويل، قد شارك في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب اليسار في مواجهة القوميين، وكتب في العام 1938 روايته «الحنين إلى كتالونيا» ليؤرخ بدقة متناهية وقائع الحرب الأهلية الإسبانية بشكل روائي وسياسي أبدع في إظهار فظائع الحرب والقضايا العادلة التي يُكافح من أجلها الثوار.

وبالنظر إلى أمثلة في أدبنا العربي، فلا يمكننا تفويت أدب المقاومة الذي يعود الفضل في تسميته بالأساس إلى الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، والذي رصد آثار نكبة العرب في 1948 وما تلاها، وأعمال الروائي والأديب المصري مجيد طوبيا الذي كتب «أبناء الصمت» عن حال الجنود المصريين على الضفة الغربية لقناة السويس التي ألهمت صناع الفن المصري لإنتاج فيلم درامي حربي سيكون من أهم مئة فيلم في التاريخ.

بالإضافة إلى أعمال الروائي إبراهيم عبد المجيد أمثال «في الصيف السابع والستين» والتي تناولت المجتمع المصري وما أدى به إلى هزيمة يونيو 1967، وظروفها والتحولات التي طرأت على المصريين بعدها، وكذلك كتابات جمال الغيطاني عندما كان مراسلاً حربيًّا، وسجّل في روايتيه القصيرتين «الغريب» و»الرفاعي» بطولات من حرب أكتوبر؛ بخلاف ما كتبته الروائية السورية غادة سمان مذكراتها التي وصفت فيها وقائع ومجريات الحرب الأهلية اللبنانية التي عايشتها تحت اسم «كوابيس بيروت».

 حملت قامات أدبية كبرى على عاتقها مسؤولية تطوير أدب الحروب، وإحداث نقلة له تغير شكله من مجموعة نصوص مأسوية تراجيدية لا تحمل المقومات الكاملة للأدب، إلى أعمال ناضجة ومكتملة لا تقتصر على وصف مجموعة من المذابح، ومن تلك الأسماء الأيقونية سبينوزا وهيجل، الذين خرجوا من طائفة الكتاب اللذين سخروا بلا طائل من الحروب ومآسيها.

برزت على السطح روايات قيمة، وأعمال تكاد تقترب من حد المثالية، وأحد أهم عوامل تلك المثالية، أن أصحاب تلك الروايات لم يعمهم الانتماء القومي أو العرقي لأوطانهم، فقد وجهوا أقلامهم لنقد الواقع ككل، ومصارحة المتورط الغاشم بعيوبه حتى لو كان ذلك ضد أوطانهم، ونصرة المغلوب المستضعف حتى لو كان ذلك عدو حربي لشعوبهم.

وحينما تجردت الأقلام وتحررت من المنطلقات أو ذرائع القومية والوطنية، ظهر لنا الكاتب المسرحي والروائي ذائع الصيت ميجل دي ثربانتس، الذي يُعد أبا للرواية الحديثة في القارة الأوروبية، عبر ملحمته المبهرة «دون كيخوته» حول انطباعه بحتمية سقوط ونهاية الحقبة التي كان يتم فيها سوء استخدام واستغلال المحاربين. وسار ثربانتس عكس التيار السائد، فبينما كانت تعج أوروبا بأقلام تستنكر أصحاب الآراء والأفكار المناوئة للحرب، ويتهمونهم بخيانة أوطانهم، كان صاحب رواية العاشق المتحرر يسير وحده، لا مع الغالبية، مثله مثل الكاتب الكبير فيكتور هوجو الذي دأب على تخصيص قسم كبير من روايته الرائعة «البؤساء» لشجب المعارك الدامية التي سببتها الثورة الفرنسية في موجتها الرابعة والبكاء فوق أجساد قتلاها.

يضاف إليهن الروائي الفرنسي الشهير ستندال، الذي كان يُعد مقاتلاً شرسًا في صفوف قوات نابليون، إلا أن ذلك لم يمنعه في روايته «الأحمر والأسود» من انتقاد الاستعدادات العسكرية للحروب التي شهدتها القارة الأوروبية، ليكثف من تناول ما خرج عن هذه الحروب من مآسٍ. كذلك لا يمكن إغفال أعمال «أعمال الألماني العملاق هاينرش بُل، التي لامست جراحات وعذابات العالم أجمع بتناول الحرب وتداعياتها المؤلمة والمدمرة على كل المستويات، فهاينرش بل الأديب العالمي الملتزم بالقضايا الإنسانية، أدرك الحرب وعرف أهوالها ومآسيها، بل وصار من ضحاياها الذين لم تندمل جراح حزنهم، كما قال ذات مرة. وفي أعماله المبكرة بعيد الحرب العالمية الثانية جاهد بُل ليصور بشكل واقعي بعيدًا عن التزويق فظائع تلك الحرب والظروف التي سادت ألمانيا بعدها، حاله في ذلك حال جيل الكتاب الشباب، الذين وصفهم زميله فولفجانج بورشرت «بالجيل الضائع».

ووضعت أعمال بُل وبورشرت المبكرة تلك البداية الحقيقية «لأدب الأنقاض»، وواصل في وصفه لذلك النوع من الأدب في مقال أسماه «اعتراف بأدب الأنقاض»: «إذن فنحن نكتب عن الحرب عن العودة إلى الوطن وعن كل ما رأيناه في تلك الحرب وما وجدناه أمامنا عند عودتنا منها: أننا نكتب عن الأنقاض». ويبدو أن الجراح التي تركتها الحرب في نفس بُل لم تنتهي حتى مع انتهائها، فقد كتب في قصة «الرسالة»، التي نشرت عام 1947 يقول: «ثم عرفت أن الحرب لن تنتهي مطلقًا، طالما كان هناك ثمة جرح خلفته وما يزال نازفًا في مكان».

ظل أدب الحرب محدودًا في عالمنا العربي، إلى أن دقت الحرب العراقية الإيرانية طبولها، فكانت بمثابة نقطة انطلاق للأدباء العرب للكتابة بزخم عن الحرب وويلاتها، ولدينا عدد كبير من النماذج الأدبية العربية التي تم تصنيفها ضمن الأعمال الحربية، والتي ظهرت للنور رغم حالة الحصار حولها في أوقات وأزمنة تاريخية سابقة.

لدينا العديد من الأعمال التي تشكل «ذاكرة أدبية» قوامها شهادات وتجارب ورؤى حول الحروب، ففي العام 1990، وتحت رعاية وزارة الثقافة والإعلام العراقية، دوَّن ما يقارب 40 كاتبًا عراقيًّا وعربيًّا عن أدب الحرب، لنرصدها ونقيس أهوالها عبر عيون وعقول هؤلاء المبدعين.

الحرب كائن متوحش بالنسبة للكتاب، وهو ما يظهره كتاب «ذاكرة الغد»، الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة بالعراق وفيه: «أيتها التفاصيل النائمة تحت جلودنا منذ سنوات تسع، ماذا سنقول عن محبتنا الموجعة؟ لقد تغير كل شيء فجأة، عندما اندلعت الحرب التي اقتلعتنا من وسط احبتنا في البيوت الأمنة، وألقت بنا في الغربة متناثرين في السواتر الموحشة والليالي الكالحة»، فالحرب عالم جديد على الإنسان العادي، فما بالنا على الأديب، الذي يمتلك أضعاف مضاعفة من المشاعر والأحاسيس.

الأديب العراقي «جواد الحطاب» ينقل إلينا مفارقة شديدة الغرابة، وتتعلق بتجربة يتورط فيها الشاعر المرهف الحساس في معركة حربية دامية، ويجد نفسه وسط مآزق وتناقضات صارخة، حيث قال الحطاب ضمن كتاب «ذاكرة الغد»: من المؤكد أنكم تتسألون: هل أن هذا الفتى الشاعر، الذي يجلس أمامكم الآن، رقيقا وادعا، وعلى شيء من الأناقة.. قد استطاع أن يصوب بندقيته، ويقتل، بمفهوم المثقفين «قتل»؟ هل كان يملك الجرأة على أن يضغط زناد البندقية لينهي «حياة» حياة بكاملها وبكل متعلقاتها الاجتماعية من أب وأم وربما زوجة وأطفال؟، سؤال مشروع.. مشروع جدًا.. واجهته في أول صولة لنا على العدو ونحن نحرر أرض «زين القوس» وارتعبت.

ولكن تذهب أصوات أخرى إلى أن اشتعال جذوة الإبداع العربي في أوقات الحروب لم يكن حجر الزاوية فيها حرب العراق وإيران، إنما محطات تاريخية أخرى شكلت قوام الأعمال الحربية، سواء المتعلقة ببقاء فلسطين تحت الاحتلال منذ العام 1948، وحتى خوض العرب حرب 1973، وقد سبق ذلك بعض الروايات التي كتبت عن حرب 1967 مثل «سلامًا على الغائبين» للروائي السوري «أديب نحوي» وهناك بعض الروايات التي تحدثت عن الاجتياح الإسرائيلي «الرب لم يسترح في اليوم السابع، آه يا بيروت، للروائي رشاد أبو شاور، ورواية «نشيد الحياة» للروائي «يحيى يخلف» وإذا أضفنا بعض الروايات التي تحدثت عن الحروب الداخلية/الأهلية، مثل رواية «حبيبتي مليشيا» لتوفيق فياض التي تحدثت عن أحداث سبتمبر الأسود في الأردن، والروايات التي تحدثت عن الحرب الأهلية اللبنانية مثل «طيور الرغبة» لمحمد الحجيري.

ويتبين لنا براعة الروائي والمبدع العربي، وتوظيفه للأحداث من حوله ضمن وعاء أدبي إبداعي، وذلك بالنظر لحالة الروائي علي خيون، والذي يسرد في مجموعته القصصية الحداد لا يليق بالشهداء) الصادر عام 1981: في آخر ليلة، لي هناك، قررت أن أمكث في ملجأ الطبيب كي أضمد الجرحى، وأن أعود مع (عجلة) مياه الشرب، التي كانت تقطع مسافة طويلة ومقصوفة، قبل أن أصل ملجأ الطبيب، سقطت قذيفة غادرة فالتهمت القطن النظيف والشاش والأدوية، كانت تنتهك بوحشية رموزًا للإنسانية ومع سيارة الماء عدت استمع إلى قصص أخرى وأحفظها في جهاز التسجيل الصغير الذي كان معي، وهي قصص صادقة، بسيطة، تحرك الذاكرة مثل أغنية أثيرة إلى النفس، فأخذت بعضها وأخرجته في مجموعة «الحداد لا يليق بالشهداء».

وحول التقنية التي يتم بها كتابة نصوص أدب الحروب، يسرد أحد أهم الأصوات الأدبية الحداثية التي برزت في الفضاء الأدبي العربي، في ثمانينيات القرن العشرين، الكاتب حسن مطلك «فحظ الخيال أقل، وكلمات العزاء أقل فاعلية وتأثيرًا من الفعل، فلا قيمة للعزاء إذا لم يقدم على شكل فعل، أن تعمق معي خندق القتال أفضل من أن تقول لي: اصبر، وكان عليَّ أن أنقل الفعل نفسه في القصة أو الرواية خاليًا من كل كلمة مفتعلة، خاليًا من كل تطلع آمل.. لكن هذه (الواقعية) لا تكون مجرد تقرير صحفي، بل تأتي/تقدم بصورة جميلة، حتى في أثناء الكتابة عن إصابة رفيقي في المعركة: «في إحدى الأمسيات من زمن الحرب، طارت شظية مسننة فنبتت في ظهر خالد وهو يضحك بكل قوة، لكن الابتسامة لم تسقط عن وجهه فجأة، بل انسحبت بتمهل لتحل محلها صورة الألم، وكأنه حقن بالحبر» لهذا الأدب يبقى أدبًا، ويقدم بشكل وبصورة جميلة، والتي بدورها تخفف على المتلقي من سواد وقسوة الأحداث.