عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

حي السيدة زينب

د. هدى السعدي

العثمانيون في السيدة: سلاطين وأغوات وصَدَقات

2025.08.09

مصدر الصورة : آخرون

العثمانيون في السيدة: سلاطين وأغوات وصَدَقات

 

حضرت الدولة العثمانية إلى حي السيدة زينب وأسهمت بشدة في عمرانه، بالرغم من تراجع مكانة القاهرة بوجه عام من العاصمة المركزية تحت المماليك إلى عاصمة لواحدة من الولايات. جاء إلى المنطقة مسؤولون عثمانيون كثيرون للبناء فيها، بداية من أغوات الحريم السلطاني وأمراء الحج وانتهاء بقادة الجيش والولاة الباشوات والبكوات وسلاطين عظام. أنشؤوا في السيدة مشروعات خدمية تؤسس للوجود المرئي المُبهر للخلافة العثمانية الجديدة بين الناس في الحي والولاية.

بالمقارنة بمشروعات أمراء وسلاطين المماليك الضخمة والعملاقة جدًّا في السيدة، كانت بنايات العثمانيين هنا كثيرة في عددها ولكن متواضعة في أحجامها. أقبل عليها في الأغلب الموظفون الكبار بالدولة الذين يشغلون المناصب في مصر ويقيمون بها أو فقط يمرون بالولاية ويرغبون في توزيع الصدقات وفعل الخيرات فيها. مع تقديمها لخدمات أساسية للأهالي، اتخذت مشروعاتهم في الأغلب طابعًا خيريًّا، حيث كانوا ينشئون البناية من الأساس كموضع لإنفاق الصدقة والإحسان على فقراء الولاية. على سبيل المثال، بنوا المساجد وأسبلة المياه وكتاتيب تعليم الصبيان والفتيات والتكايا والزوايا للمتصوفة، إلخ.

لم يهتم سلاطين العثمانيين أنفسهم، وهم الخلفاء الشرعيون للمسلمين، لمدة طويلة جدًّا بالحضور إلى السيدة أو إلى مصر بشكل عام. فتحوا مصر في عام 1517م وظلوا لمدة مئتي عام كاملة من دون أن يضع سلطان منهم فيها حجرًا. ثم فجأة ظهر في السيدة وحدها سلطانان دفعة واحدة، في ظرف سنوات قليلة في منتصف القرن الثامن عشر، لينشئا مشروعين أحدهما ضخم وهائل على خطى سلاطين المماليك. كانت تلك هي فترة ضعف وبداية سقوط الدولة العثمانية، ويبدو أنها احتاجت إلى الظهور في منطقة حيوية مثل السيدة بالولاية ذات الأغلبية المُسلمة من السكان (بالدولة العثمانية ولايات ذات أغلبية مسيحية من السكان بشرق أوروبا).

وبشكل عام، ازداد نشاط رجال الدولة العثمانية في العمران في مصر في القرن الثامن عشر، بالتزامن مع عودة أمراء المماليك بقوة الى الساحة السياسية مره ثانية ومنافستهم لباشوات الدولة العثمانية على السلطة، بل واستولوا عليها في لحظة ما وأصبح والي مصر من المماليك قبل أن تستعيد إسطنبول الحكم. ومن هنا نجد أن مسؤولي الدولة العثمانية في مصر نشطوا لإثبات وجودهم في البلاد ومحاولة كسب الرعية، من خلال بناء مشاريع خدمية ودينية بارزة الشكل ومُزينة بزخارف عاصمتهم إسطنبول اللافتة للنظر والمُميزة في جمالها.

في منطقة السيدة زينب، بشكل عام ابتعد العثمانيون عن البناء في الأماكن التي كان ركَّز فيها المماليك مشروعاتهم من قبل، واختاروا مواقع أخرى مُميَّزة لأنفسهم. فضّلوا البناء على ضفاف الخليج المصري، الذي سيتم ردمه في الفترة الحديثة ويتحول إلى شارع بورسعيد.

فلنأخذ جولة في بنايات العثمانيين في حي السيدة، وعدد المتبقي منها حوالي 12 منشأة صغيرة وكبيرة. كعادة المنطقة، تحمل بنايات هؤلاء فيها الكثير من الحكايات الطريفة، بل والصادمة في كثير من الأحيان، عن شخصيات من بنوها وعلاقة أهل الحي بهم.

***

الوالي العبد وشيخ الأزهر: مسجد داود باشا

عندما تمّ تعيينه واليًا على مصر في عام 1538م، كان داود باشا عبدًا وواجه صعوبات في قبول حُكمه عند النخبة المصرية، بخاصة لأنه كان "أغا" مخصيًّا. ولكنه في النهاية بقي في منصبه 11 سنة كاملة، قام خلالها ببناء مسجد جميل في السيدة.

قام السلطان سليمان القانوني بشكل منظم بدمج ولاية مصر إداريًّا وماليًّا في الجهاز البيروقراطي العثماني الذي تم تطويره بالباب العالي بإسطنبول. بينما كانت مدة مكوث الوالي المُعيَّن في القاهرة في السابق في الأغلب عام واحد أو أقل من عام، عيّن السلطان سليمان داود باشا بهدف أن تستمر خدمته لفترة طويلة لضمان تثبيت سياسات الدولة في الولاية الجديدة واستقرارها. داود باشا كان معروفًا أنه رجل يحب القراءة والعلم، لديه مكتبة كبيرة ويُقدر العلماء، وأيضًا حليم وكريم الأخلاق. ولكنه كان في الأصل عبدًا مخصيًّا، في نظر أحكام الشريعة ليس برجل حرّ وكامل وبالتالي لا يصلح للولاية العامة. رفض شيخ الأزهر في مصر وقتها، الشيخ أحمد بن عبدالحق، وبقية العلماء معه سلطة داود باشا عليهم، وجهروا بالاعتراض والرفض. لما وصل الكلام إلى السلطان سليمان، لم يقم بإقالة داود، بل أرسل بخطاب إلى شيخ الأزهر يشكره ومرفق معه وثيقة عتق داود. واضطر الجميع إلى القبول بولايته.

بعد عشر سنوات من حكمة القوي والناجح للولاية، بدأ داود باشا بتشييد مسجد لطيف في موضع وسيط بين الخليج المصري والبركة الناصرية في شارع يعرف اليوم بـ"سويقة اللالا" في عام 1548م. يخبرنا علي باشا مبارك في كتابه الخطط التوفيقية أن المسجد كان في الحقيقة مؤسسة تعليمية، مدرسة لتعليم الفقه والشريعة وملحق بها كُتاب لتعليم الصبيان والفتيات، بالإضافة إلى ذلك به سبيل لتوزيع المياه مجانًا على سكان الشارع. وقام بإنشاء الأوقاف التي تنفق من ريعها على المشروع، وتضمنت أوقافه بيوتًا سكنية ودكاكين مؤجَّرة. ولكن للأسف تُوفي الباشا قبل افتتاح المسجد، إذ اكتمل البناء بعد وفاته بخمس سنوات. ودُفن في مقابر الإمام الشافعي في مصر.

مسجد داوود باشا

***

أغوات الحريم السلطاني فاعلو الخير بالسيدة


لم يكن داود باشا هو الأغا الوحيد الذي عمَّر المنطقة، جاء بعده ثلاثة آخرون من العبيد المخصيين. شكّل "الأغوات" طبقة فريدة واستثنائية في الدولة العثمانية وجهازها البيروقراطي المتقدم. كانوا في الأصل عبيدًا يُختطفون كأطفال من بلاد في شرق إفريقيا، ثم يتم جلبهم إلى صعيد مصر لإجراء عملية الإخصاء لهم، قبل أن يُرسل من ينجو منهم من تلك العملية القاسية إلى إسطنبول ويباعوا للقصر السلطاني بأثمان باهظة كسلعة نادرة وفي غاية الأهمية. كان يتم تعيينهم في منصب "أغا دار السعادة" وهو المشرف على الحريم السلطاني بمن يسكنه من زوجات وجوارٍ وأبناء السلطان، يدخلون الحريم ويخرجون منه بُحرية لحراسته والإشراف على خدمة عائلة السلطان فيه. وأتاح لهم هذا المنصب العالي التمتع بنفوذ سياسي هائل من خلال علاقته المباشرة مع السلطان ونسائه القويات، والحصول على ثروات ضخمة وامتلاك العقارات في جميع الولايات الهامة ومنها مصر.

وفي ولاية مصر، استخدم أغوات دار السعادة ثرواتهم في القيام بأعمال البر والإحسان وساهموا في العمران. إذ أسسوا المساجد والأسبلة والكتاتيب، وأوقفوا عليها ريع ممتلكاتهم لتنفق على إدارتها أبد الدهر.

في منطقة السيدة زينب، حضر عباس أغا دار السعادة وبنى سبيلًا وكتابًا في عام 1677م . اختار أن يبنيه على الطراز المملوكي المتميز: مبنى لطيف من طابقين، الطابق الأرضي فيه سبيل لتوزيع المياه مجانًا على سكان الشارع الذي بناه فيه، والطابق الثاني كُتاب لتعليم الأيتام من الأولاد والبنات. اختار أن يبنيه قرب شارع الصليبة، حيث تركزت كثير من البنايات التعليمية العظيمة للماليك وخاصة مدرسة ابن تغري بردي الرومي، في شارع اسمه الألفي. في الحقيقة، وبحسب علي باشا مبارك في كتابه الخطط التوفيقية، هناك أغا آخر اسمه علي أغا عِزبان ضابط بالجيش كان في الأصل قد بنى السبيل، ثم أنفق عباس أغا على ترميمه وإعادة تعميره. منقوش على واجهة السبيل:

"بسم الله.. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.. هذا الموضع جدده عباس آغا دار السعادة سنة 1808هـ".

ثم حضر إلى السيدة عمر أغا دار السعادة ، واهتم بتعليم الفقه والشريعة بها. قام بتجديد وإعادة تشغيل مدرسة مملوكية قديمة كانت قائمة بجوار بركة الفيل، مدرسة بشير الجمدار أو المدرسة الجمدارية التي أُنشئت في الأصل في عام 1359ه. قام بتزيينها بزخارف عثمانية وأعاد افتتاحها عام 1689.

ثم حضر بعدهما الحاج بشير أغا دار السعادة، وقام ببناء سبيل وكتاب في عام 1718م و كان معروفًا عن الحاج بشير أنه أحد أقوى الأغوات وأكثرهم نفوذًا، حيث كان يشغل منصب خازندار القصر السلطاني وتآمر البعض عليه بسبب نفوذه وتم إبعاده إلى قبرص، وأرسله السلطان من بعدها إلى الحجاز وولاه منصب شياخة الحرم النبوي الشريف ومنصب "أغاوية" المدينة ليكون كبير الأغوات فيها. مرّ الحاج بشير بالقاهرة وأقام بها 60 يومًا وهو في طريقه من مكة إلى إسطنبول، وكلف مملوكه ووكيله ببناء مشروع خيري فيها. بدرب الجماميز بجوار الخليج المصري في السيدة، بنى الأغا سبيلًا له واجهتان حتى يقوم بخدمة سكان شارعين معًا، وبنى فوقه أيضًا كُتابًا لتعليم الأطفال. وأقام الحاج بشير أيضًا بمصر أوقافًا خيرية مخصصة للحرمين الشريفين، ترسل دخلها السنوي إلى مكة والمدينة. بأعلي بوابة سبيله بالسيدة مكتوب:

"بشير آغا دار السعادة، يسّر الله له السعادة".

سبيل بشير أغا دار السعادة

سبيل عباس أغا دار السعادة

 

***

 

أمراء الحج في السيدة

بصفته خليفة المسلمين، كان من أهم مهام السلطان العثماني تأمين طرق الحج لمكة والمدينة، وأيضًا إخراج قوافل الحج السنوية من ولاية مصر لتحمل كسوة الكعبة الشريفة وحجاج بيت الله من مصر وبلاد المغرب وإفريقيا. يعين الخليفة أميرًا للحج يقيم في مصر، واهتم من شغلوا هذا المنصب العالي والجوهري بتوزيع الصدقات وإنشاء البنايات الخيرية لها في مصر.

في السيدة زينب، بنى يوسف بك أمير اللواء السلطاني الشريف مجمع يحتوي على سبيل وكتاب وزاوية للصلاة في عام 1634 م . أنشأه في شارع مراسينا بجوار الخليج المصري، وألحق به أحواضًا مستطيلة كبيرة لسقاية الدواب العابرة من حمير وبغال وخيل وخلافه.

وأنشأ بعده ذو الفقار بك أمير الحج مسجدًا "مُعلَّقا" أي مرتفعًا عن مستوى الأرض ويطل على الخليج المصري في عام 1680 م . كان ذو الفقار بك من أبرز أمراء الحج في الفترة التي خدم فيها، حيث تولى إمارة الحج إحدى عشرة مرة في عهد ثلاثة ولاة، وعُرِف عنه الشجاعة والتقوى. يقول علي باشا مبارك إنه ألحق بالمسجد سبيلًا وكُتابًا ولكنهما خربا. يتم الصعود إلى باب المسجد بدرج، وبنى الأمير تحته عددًا من الدكاكين التي أوقف ريعها على دعم نفقاته. المسجد مزين بالنقوش العثمانية الجميلة، وكُتب على مدخله:

"أنشأ هذا المسجد المبارك، من فضل الله تعالى وعونه وجزيل عطائه العميم، الجناب الكبير العالي والكوكب المنير المتلألئ الأمير ذو الفقار بك أمير اللواء الشريف السلطاني وأمير الحج، وكان الفراغ في شهر ذي الحجة سنة 1090هـ."

سبيل وكتاب يوسف بك بالصليبة

مسجد ذو الفقار بك

***

القادة العسكريون

يظل القادة العسكريون العثمانيون متمركزين في الولاية لأشهر طويلة وربما لسنوات، ويقيمون فيها لفترات ممتدة، وأقبل العديد منهم على البناء والتصدُّق في السيدة.

على سبيل المثال، استحوذ الأمير أحمد بك كوهيه على قاعة مملوكية قديمة عُمرها قرون وبني على بقاياها مسجدًا كبيرًا في عام 1740م . تولى أحمد بك كوهيه منصب "كتخدا" أي رئيس لفرقة لحامية عسكرية متمركزة في قلعة الجبل اسمها "طايفة مستحفظان"، وتولت فرقته تأمين الوالي العثماني المقيم بالقلعة وأيضًا حفظ الأمن في الولاية بشكل عام. في السيدة، وجد قاعة متهدمة كان قد بناها أحد أمراء السلطان الناصر ابن قلاوون عام 1310ه، وقام بتحويلها إلى مسجد. أضاف إلى القاعة مئذنة ومنبرًا ومحرابًا وزخرفه بنقوش عثمانية. كان كوهيه يمتلك الكثير من العقارات في مصر، وقام بوقف ريع بعض منها للإنفاق الدائم على إقامة الشعائر بالمسجد. وأوقافه تلك مسجلة في حجة وقفية شرعية مؤرخة بسنة 1741م.

وقام الأمير يوسف جوربجي ببناء مجمعًا ضخمًا يشمل مسجدًا وسبيلًا وكتّابًا على غرار مشاريع المماليك الضخمة المجمعة، في عام 1763م . الطريف فيه أن اسمه، كضابط عثماني بارز في مصر، كان يحمل أيضًا رتبته والشارع الذي كان يقطن فيه وبنى به مشروعه الضخم: الأمير يوسف جوربجي جماليان هياتم. فلقب "جوربجي" يُقابل رتبة "يوزباشي" (نقيب حاليًّا) في التسلسل الهرمي للجيش العثماني، وتشير "جماليان" إلى أحد الفرق السبع النخبوية في الجيش العثماني التي كان يقودها، بينما "هياتم" هو اسم الشارع الذي كان يسكن فيه، حارة الهياتم بجوار الخليج المصري. عاصر هذا الأمير فترة من الاضطرابات وعدم الاستقرار في الولاية، وربما كان ذلك سبب قراره بإنشاء المجمع لاستعادة بعض من الظهور والشعبية للسلطة العثمانية فيها، وزيَّن واجهته ومئذنته بزخارف عثمانية بائنة للعامة. المبنى من أشهر المساجد المعلقة، المرتفعة فوق الأرض ويتم الصعود إليها بدرج، وفي الأسفل منه مجموعة من الدكاكين التي تم وقف ريعها على الإنفاق على إدارته.

مسجد الأمير يوسف جوربجي جماليان هياتم

***

مسؤولون آخرون

 

كان إبراهيم بك المانسترلي يعمل سكرتيرًا للوالي ومسؤولًا عن المراسلات مع إسطنبول، وأقام لفترة طويلة في القاهرة. ولذلك قرر أن يتصدق على أهل الولاية الفقراء بأن بنى سبيلًا بسيطًا في السيدة في شارع مراسينا، بقرب الخليج المصري، سنة 1714م . بعكس عادة المماليك والأغوات قبله، أنشأ المبنى كسبيل فقط بدون كُتّاب للتعليم بأعلاه. وضع في واجهته نافذتين لتوزيع الماء، أي شباكين "للتسبيل". وبنى بأعلاه قاعات سكنية ربما يكون قد أقام بها هو وعائلته وقام بتأجيرها وقام بوقف ريعها لدفع رواتب العاملين بالسبيل وتغطية نفقاته، ولكن اندثرت تلك القاعات ولم يبقَ لها أثر اليوم.

وهناك مسؤول عثماني يعمل في منصب غريب، يحمل لقب "حارس الطير"، وقرر بناء مسجدًا بالسيدة. بنى بكتمر السعدي مسجده عام 1732م ، واختار أن ينشئه في شارع "سويقة اللالا" بحي السيدة زينب، وهو الشارع نفسه الذي بنى به داود باشا مسجده، وهو شارع مشهور بأن كانت تقيم به مربية لأولاد الأمراء والملوك اسمها لالا صفية وكان يسكن به علية القوم والنخبة. المسجد مشهور اليوم أيضًا باسم "جامع الكردي" لأنه طبقًا لعلي مبارك يضم ضريحًا لشيخ صوفي اسمه الشيخ الكردي وعليه مقصورة من الخشب. يتم الصعود إليه بالدرج، وكتب علي مبارك أيضًا أنه كان بأسفله حواصل أي مخازن للبضائع، وبداخله مكان للتطهر والوضوء بجواره نخيل وأشجار. على باب المسجد لوحة رخامية منقوش عليها بخط جميل أبيات شعر منها:

"وَمُذْ لَاحَ لِلتَّارِيخِ فِيهِ سُعُودُهُ     بَنَى مَسْجِدًا للهِ أَمْسَى بِالتَّقْوَى"

مسجد بكتمر السعدي (جامع الكردي)

***

سلطانان في السيدة زينب

وأخيرًا وبعد مضي أكثر من قرنين من حُكم العثمانيين، ظهر سلطانان في ولاية مصر، وفي منطقة السيدة تحديدًا دون المناطق الأخرى بالقاهرة. ظهرا دفعة واحدة وفي ظرف عقد واحد فقط في خمسينيات القرن الثامن عشر. مع تصاعد نفوذ أمراء المماليك وتراجع سلطة الولاة العثمانيين في مصر، لم يقتصر السعي على استعادة الهيمنة على الولاية على باشوات وبكوات الدولة العثمانية فحسب، بل ظهرت لأول مرة محاولات مباشرة من قبل السلاطين أنفسهم لتأكيد حضورهم الرمزي كخلفاء للمسلمين بين الناس. تمثلت هذه المحاولات في تنفيذ مشاريع معمارية وخدمية بارزة يظهرون بها أمام الأهالي وتُعزز شرعيتهم.

بفارق زمني لا يتجاوز تسع سنوات بينهما، أنشأ سلطانان متأخران بنايات في السيدة. تجنّب كلا السلطانين البناء في المواقع المكتظة بمشروعات المماليك، واختارا جوانب الخليج المصري (المعروف اليوم بشارع بورسعيد) لإقامة منشآتهم المعمارية الكبرى.

في عام 1750م ، أنشأ السلطان محمود الأول مُجمّعًا معماريًّا مهيبًا استلهم فيه النموذج المملوكي الضخم الشاسع، حيث ضمّ فيه أربعة مشروعات: مدرسة للفقه الإسلامي، وكُتّابًا لتعليم الأطفال، وسبيلًا لتوزيع المياه، وتكية صوفية. واختار موقعًا واسعًا تحيط به مناظر مائية جميلة، على الضفة الشرقية من الخليج المصري من ناحية ومقابل بركة الفيل من ناحية أخرى.

ثم في عام 1759م ، بنى السلطان مصطفى الثالث مشروعًا أكثر تواضعًا ولكنه مبهر في الجمال وغالٍ في النفقات، وهو سبيل وكُتّاب، في الطرف الجنوبي من الخليج المصري وعلى ضفته الأخرى الغربية.

ومن اللافت أن مشروع السلطان مصطفى كان أول اعتراف رسمي من حاكم مسلم بوجود قبر السيدة زينب بنت علي (ض) في المنطقة. فقد أقام مشروعه بالضبط في مواجهة المسجد القائم حاليًّا، تحديدًا على الجانب المقابل له من الخليج المصري ، ثم بعده بعام واحد فقط بُني أول ضريح معروف للسيدة في سنة 1760م، ولكن بناه أمير مملوكي وليس باشا أو بك عثماني. كتب علي مبارك في خططه أن الصدر الأعظم علي باشا الوزير المتولي كان قد "جدَّد" هذا الضريح سنة 1548م، بينما كان يشغل منصب رئيس الوزراء للسلطان سليمان القانوني وكان داود باشا صاحب المسجد المذكور سابقًا والي مصر. ولكن لم يقُم أي مسؤول في أي من الدول الإسلامية السابقة أو في الدولة العثمانية لاحقًا ببنائه أو بناء مسجد للسيدة في هذا الموضع من قبل أو من بعد ذلك. كان بناء السلطان مصطفى لسبيل في مواجهة ما اعتقد العثمانيون أنه ضريح السيدة بمثابة الإشارة للأمير المملوكي عبدالرحمن كتخدا أن يبنى مسجدها بعده بعام.

بالعودة إلى مجمع السلطان محمود، راعى فيه الخليفة استيعاب جميع فئات العلماء والمتصوفة الموجودين بالولاية وقتها. بالرغم من أن الدولة العثمانية كانت تطبق المذهب الحنفي رسميًّا في المحاكم الشرعية والفتاوى الرسمية، خصص السلطان محمود مدرسته لتدريس المذاهب السُّنية الأربعة، وصمّمها على نمط المدارس المملوكية المعروفة بتقسيم الإيوانات الأربعة، حيث يُخصَّص لكل مذهب إيوان يجلس به المشايخ الذين يعلمونه في حلقات مع طلبتهم. وأيضًا أنشأ بالتكية خلوات للصوفية للإقامة والدراسة بها وعقد حلقات الذكر. وكانت التكية أيضًا تأوي الفقراء وتوزع عليهم صدقات الطعام والشراب مجانًا كل يوم.

ومع مرور الزمن، تراجع الدور الفقهي لمجمع السلطان محمود وأصبح الناس يشيرون إليه من الأساس كـ"تكية" بعد أن ركَّز نشاطه من الأساس في التصوف وأصبح ملاذًا للدراويش. حدث ذلك بينما انجذب العديد من سلاطين العثمانيين أنفسهم إلى الطرق الصوفية وانضموا إليها كبديل للفقه ذي التصوص الجامدة، واعتمدوا عليها للتقرب من الشعوب المسلمة التي يحكمونها.

أما سبيل وكُتّاب السلطان مصطفى، فقد تميّز بجمال زخارفه وتنوع مشارب التصميم فيه، حيث مزج بين الطراز العثماني الإسطنبولي من ناحية والأسلوب القاهري المملوكي المحلي من ناحية أخرى، بالإضافة إلى التأثر بالتصميمات الأوروبية. أمر السلطان مصطفى باستيراد البلاط الهولندي الملوّن المصنوع في أمستردام خصوصًا لتزيين السبيل من الداخل والخارج، وتم تزيين جدرانه بحوالي 2500 بلاطة زرقاء وبيضاء، مرسوم عليها أزهار ومناظر طبيعية ومشاهد من الحياة الريفية الهولندية.

بهذا، جاءت مشاريع السلطانين في منطقة السيدة زينب كردّ فعل واضح على تراجع الهيمنة العثمانية وتزايد تأثير المماليك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبحثًا عن استعادة الشرعية والسيطرة عبر العمارة والخدمة العامة للناس في المنطقة.

تكية السلطان محمود

سبيل السلطان مصطفى