مراجعات

منى أبو النصر

«أفكر في إنهاء الأمور».. الحياة داخل قبو عقل مُنهك

2021.01.01

«أفكر في إنهاء الأمور».. الحياة داخل قبو عقل مُنهك

يجد المتفرج نفسه في أول مشاهد فيلم «أفكر في إنهاء الأمور» في مواجهة حائط، فالفيلم يفتتح ثوانيه الأولى بكادر يقترب من ورق حائط منقوش بورود تعكس ظلال جمالية قديمة، ولكنه ذلك الجمال المُقبض، تتحرك الكاميرا في مواجهة الحائط ووروده ببطء طيلة 30 ثانية تقريبًا، وكأنها تُجري عملية مسح ضوئي لها، لاستكشاف تاريخ تلك الورود، وما علِق بها من أرواح أهل هذا البيت، ربما يتساءل المتفرج عن صاحب هذا الذوق الحزين؟ لا شك أنه يملك حسًّا شعريًّا مرهفًا، ولا شك أن ذوقه، وتاريخه الشخصي، هما أحد أبرز مفاتيح هذا الفيلم، وستجد أن كادرات كاتب ومخرج الفيلم تشارلي كوفمان يتجدد بها ظهور ورق الحائط هذا على مدار فيلمه، وكأنه منزوع من ذاكرة داكنة، لا سيما ظهوره المتكرر كخلفية لأبطال الفيلم في أحد أبرز أماكن السرد الدرامي للفيلم، وهو بيت البطل، أو قُل متاهته العقلية.

يستلب المخرج والكاتب الأمريكي تشارلي كوفمان جمهور فيلمه الأحدث «أفكر في إنهاء الأمور» I’m Thinking of Ending Things، عبر تجوال بطيء للكاميرا بين جنبات بيت يبدو خاليًا، مصحوبًا بصوت نسائي قلق، يضع المتفرج في دائرة حالة شعورية لا يمكن تفاديها، لا سيما وأن أولى عبارات هذا الصوت القلق هي عبارة من عينة المراجعات الذاتية المؤرقة التي تُشارف الحسم وهي «أفكر في إنهاء الأمور»، وهي افتتاحية خاطفة للعقل، ومُحرضة على التساؤلات والنبش في ذلك المجهول، فالمخرج يضعك في مواجهة مع حائط وصوت مجهول تائه، لا تملك سوى الانصياع وراء صاحبته، لمعرفة قصتها، وماهية تلك «الأمور» التي تُفكر في إنهائها.

تلك البدايات المُلغزة، تجعل لغة المشاعر هنا تسبق الحدث، فخلال الدقائق الأولى للفيلم يكون المُشاهد في الغالب قد وقع في حالة تعاطف مع البطلة التي يبدو أنها في حالة حصار خانق، ومشاعر انزعاج كبيرة حيال فكرة ما تعلق في ذهنها، وتحوم حولها شاءت أم أبت، يقول صوتها عن تلك الفكرة «تلازمني حين آكل.. حين آوي إلى الفراش.. عندما أستيقظ.. هي دائمًا هنا.. فكرة جديدة وقديمة في الوقت نفسه»، عزلة ما تؤكدها كلمات الفتاة، التي باتت فريسة فكرة لا تزول؛ وهي أنها تفكر في إنهاء الأمور، حتى يبدأ صوت الفتاة في الإشارة إلى شخص اسمه جايك تربطها به علاقة حديثة نسبيًّا، تتحدث عن رباط نادر يجمعها به، ولكن حدسًا ما يجعلها لا تستشرف مستقبلًا لتلك العلاقة، وهنا تظهر صاحبة الصوت أخيرًا، لتنتقل المشاهد إلى خارج جدران البيت الخالي، إلى مشاهد خارجية، حيث تقف البطلة بملامح حيّة، وملابسها الشتوية تعكس ذائقتها الفنية الحُرة، في انتظار صديقها الذي سيصحبها في رحلة لزيارة والده ووالدته للمرة الأولى في بيته بالمزرعة، ولكن على الرغم من ظاهر انفعالاتها الذي تبدو عليه الحماسة لتلك الزيارة ولعلاقتها ب جايك نفسه، فإننا نفاجأ أن حوارها الداخلي لم يهدأ لثانية، ليظل صوتها الداخلي يُردد على مدار رحلة السيارة «أفكر في إنهاء الأمور»، ومع ذلك فهي تقرر مواصلة الرحلة لأسباب عقلانية مرجعها أن جايك شخص جيد، ومتفاهم، ويُقدِّر ما تعمل، وهنا يجد المتفرج نفسه أمام ورطة فهم أبعاد تلك العلاقة العاطفية، فظاهرها ابتسامات ومشاغبات مرحة، وتفاعل وتلاقي، أما باطنها فمثير للقلق، ما يجعل أسباب التعاطف مع البطلة يتبدل تدريجيًّا لحالة من الريبة، لا سيما وأن بطل الفيلم لم يُظهر عن نفسه أشياء من الخوف كالتي تضمرها البطلة التي لم تكف عن إرسال إشاراتها الإنذارية الداخلية للحظة، إلا أن هذا الأداء السردي لن يصمد كثيرًا مع تقدم الفيلم، الذي يكشف مع كل جملة حوارية بين بطليه بُعدًا جديدًا لجراح منفتحة على الزمن، والعقل، والقلب. 

تدور أغلب مشاهد الفيلم داخل تلك السيارة، حيث جايك وحبيبته، التي ليس لها اسم في الفيلم، وفي الوقت نفسه يناديها جايك بأكثر من اسم على مدار رحلتهما أكثرهما لعل تكرارًا هو اسم «لوسي»، لتكون تلك الرحلة عبر السيارة واحدة من المغامرات الإخراجية للفيلم، إذ يحتدم التصاعد الدرامي لأحداث الفيلم في مكان له خاصية الثبات والحركة في ذات الوقت، ما بين سيارة صغيرة مُغلقة تقطع طريقًا طويلًا في ظل مناخ غير مستقر، ليربط كوفمان بين حركة الانتقال ودينامكيتها هنا وبين حركة تحرر الأفكار، أو كما جاء على لسان البطل لصديقته الغارقة في تأملاتها «الخروج في رحلة سيارة، يجعلنا نتذكر أن هناك عالم آخر خارج رأسنا»، وفي خضم تلك الرحلة المُحتدمة بالمشاعر، تتسلل مشاهد متفرقة ومبعثرة لرجل عجوز يبدو أنه عامل في مدرسة، رجل بهيئة بائسة يقوم بمسح الأرضيات، حتى أن تلك المشاهد العابرة له تجعلك تشعر في بعض لحظات الفيلم أنها مُقحمة، لاسيما في خضم التوتر والتركيز الرئيسي على رحلة البطلين ومشاعرهما المتلاحقة، حتى تبدأ ثمة روابط خاطفة في اتصال القصتين، ففي الوقت الذي يُحدّث فيه جايك صديقته عن شغفه بالمسرح الغنائي، لا سيما مسرحية «أوكلاهوما» ويستمعان إلى مقطع منها يبثه راديو السيارة، نرى العجوز في روتينه لتنظيف الأرض وهو يتابع تدريب لفتيات المدرسة لأداء ذات المسرحية الغنائية، وكأن ثلاثتهما يستمعون إلى المسرحية ذاتها، مرة أخرى يظهر العجوز في واحدة من فترات راحته وهو يتناول طعامه ويشاهد مقطعًا من فيلم رومانسي فج، ثم نجد على الطرف الآخر جايك وهو ينتقد الأفلام التي يصفها بالرديئة لأن «الأفلام الزائفة تنمو في العقل وتحل محل الأفكار الحقيقية، وهذا ما يجعلها خطرة» مثل الفيروسات، وهي عبارة «كوفماوية» بامتياز، فهو مخرج وكاتب لم يكن يومًا على مدار تاريخه سوى على يسار هوليود، ينتقد بوضوح الرومانسيات المثالية التي تنقلها السينما الأمريكية بوصفها سلعة سينمائية مضمونة، وهو ما يتحاشاه ويسخر منه أيضًا كما في هذا الفيلم.

تدلنا الحركة المتصلة للحوار الذهني القابع في عقل البطلة، المُتقاطع مع الحوار الظاهر بينها وبين جايك، أننا أمام واقع أقرب للسيولة لا يمكن القبض على ملامحه، هو بالأحرى واقع له زمنه ومزاجه الخاص، حيث تتنقل فيه الأحداث ما بين رعب نفسي إلى كوميديا سوداء حالكة، وصولًا للرقص والمسرح الغنائي، وحتى الرسوم المتحركة، وجميعها تُشكل طبقات ومستويات ذهنية، تجعل المتفرج في رحلة أقرب للتعقيد التي تجمع بين جايك وصديقته «لوسي»، التي كلما تشرد في دوامة أفكارها اللانهائية، وتغرق في صوتها الداخلي، نجد جايك ينتشلها بسؤال عن سبب شرودها، فتجيبه عادة أنها تفكر في أشياء مبهمة، وعادة ما يُقاطعها في كل مرة تُحدث نفسها بالعبارة الأشهر في الفيلم وهي «أفكر في إنهاء الأمور»، الشرود أيضًا جعل له تشارلي كوفمان صوتًا في الفيلم، وكذلك فقرات الصمت.

ولأن أغلب مشاهد الفيلم تقع خلال رحلة سيارة في جو ثلجي عاصف، بين بطلين رئيسين، فقد خلق كوفمان لحركة الكاميرا في الفيلم لغة بصرية تتراوح في زواياها بين المباشرة والتلصص أحيانًا، لتسهم بحركتها في تأجيج مزيد من التوتر الخلاق للفيلم، وحفاظه في المقابل على عدم التشويش على حالة الحوار المتصلة/المتقطعة بينهما، فكما جميع أفلام كوفمان، يعلب الحوار به دور البطولة، وهنا تحديدًا في فيلمه الأخير، يعتبر الحوار هو صلب الفيلم، حوار ينبش ويجادل ويسخر من مختلف المُسلمات حيال الحياة، والوقت، والحب، مرورًا بالسينما، والشعر، وحتى الفيروسات التي يرى كوفمان أنها ببساطة مثل كل شيء «تريد أن تعيش»، كما جاء على لسان البطلة، ردًا على وصف جايك لتلك الفيروسات أنها «وحشية»، وهو وصف لا يمكن المرور عليه بسهولة، في أيام نُعايش فيه فيروس مثل كورونا يُفسد علينا الحياة، فيما يرى كوفمان أن نتعاطى معه بتسامح لأنه فقط «يريد أن يعيش»!

وبمجرد أن يصل البطلان إلى منزل والدي جايك حتى تتعقد أمام المشاهد فكرة الفيلم برمتها، فتصبح علاقة البطلين العاطفية على الهامش، لتتوالد أسئلة من عينة: ما الذي يحدث؟ من هو جايك؟ ما كل هذه الغرابة؟ فيُصر جايك على عدم دخولهما المنزل، إلا بعد أن يدعو «لوسي» للإلقاء نظرة على حيوانات المزرعة التي يرعاها والداه، وفي هذا المكان يتضاعف الشعور بالانقباض، وحتى ألوان الفيلم تنزلق منذ تلك اللحظة لدرجات الزُرقة والرمادية والترابية الكئيبة، تركز الكاميرا على قسمات أحد الخراف، كأنه في مواجهة مع مصيره، تراه «لوسي» مثالًا لبؤس الوجود، فهو يأكل وينام ويتغوط مرارًا وتكرارًا يومًا بعد يوم، فتتساءل عن «الشيء الحزين الذي يملأ هذا المكان»، يتفاقم الأمر بعد أن تعرف عن مصير خنزير المزرعة، بعد أن يحكي لها جايك قصة موته البشعة، فتتأمل مكانه الفارغ، الذي لا يزال يحمل آثار موته، يُباغتها جايك بقوله: «الحياة قاسية في المزرعة»، فالمزرعة والخنزير وسائر الحيوانات، أرواح هائمة في قاموس تشارلي كوفمان، يشعرون بقسوة الحياة، تمامًا كالإنسان، ويكمن الفارق الوحيد بينها وبين الإنسان، كما يقول على لسان بطلته، أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يعرف بحتمية نهاية مصيره، فصار الحاضر لديه غير محتمل، «فاخترع لذلك الأمل»، ليستطيع مواصلة الحياة.

بتلك الحمولات القاسية التي خرجت بها البطلة من المزرعة، يدخل الفيلم نفق الغرائبية الأقرب للكابوسية، بمجرد ظهور الأم والأب غريبي الأطوار، حيث تتنقل الأم من أوج هيستيريا الضحك إلى النحيب والعكس، يُدون شغفًا كبيرًا بقدرات صديقته في الرسم والفيزياء، وسط انفعالات غير مفهومة لجايك الذي يبدو أنه يضيق بعفوية والديه، وبتاريخ طفولته معهم، ومع تصاعد درجات التوتر في هذا اللقاء، تبدأ كل الأزمنة في التداخل، فالأم والأب يتنقلون بين الشباب والشيخوخة مع كل تنقل لهم بين غرف البيت، تحتضر الأم في مشهد، ويقوم جايك بإطعام والدته في شيخوختها في غرفة أخرى، وفي لحظة تالية، تظهر الأم في هيئتها الشابة، فيما تتجول الفتاة داخل البيت وفي كل مرة تتعثر في أشياء تخص بجايك تُزيد من حيرتها حياله، لا سيما غرفة طفولته، والقبو الذي يلفت نظر لوسي منذ دخولها البيت، قبو له باب تظهر عليه آثار خربشات قديمة، باب مُهمل، يُبدي جايك خشيته وعدم ارتياحه له، وبمجرد قرار الفتاة النزول لذلك القبو، تبدأ في فقد هويتها، حتى تكاد تذوب في صورة جايك، وكأنها انسلاخ لصورة طفولته، وطيف من روحه الشعرية والفنية، فلوحاتها التي ظلت تتحدث عنها تجدها في القبو وهي بتوقيع جايك ، بل وما يُضاعف التعقيد أنها تجد داخل غسالة القبو قمصان العامل العجوز الذي تتقاطع مشاهده القليلة مع السياق الدرامي لجايك والفتاة، فهنا داخل هذا القبو تتجسد الحياة المُتخيلة داخل عقل باطن مُرتعش يريد «إنهاء الأمور»، عقل غارق في قبو من التساؤلات والأفكار الذاتية السلبية، وفوضى الغرف، وماضٍ من تعقيدات الطفولة، وصورته الذاتية عن نفسه.

 ويُزيد من توتر السرد، توالي اتصالات هاتفية للفتاة منذ بداية رحلة السيارة وحتى زيارتها لأهل جايك، اتصالات تأتيها من أسماء مختلفة مرة من «لوسي» وآخر من «لويزا» - وهي ضمن الأسماء التي أُطلقت عليها على مدار الفيلم ضمن أسماء أخرى- وكأن الاتصال الخارجي يأتيها من نفسها، وفي كل مرة كانت تتجاهل الاتصال، حتى قررت الاستماع لإحدى الرسائل الصوتية المسجلة التي وصلت هاتفها من إحدى صاحبات الاتصالات المتكررة، لتجدها أقرب لنداء استغاثة بصوت رجل يبدأ بقوله «أنا خائف»، كأنه صدى لصوتها الداخلي.

تتصاعد دراما التعقيد بعد مغادرة البيت، وصولًا إلى المدرسة الثانوية لجايك التي يصل لها مع فتاته في مفارقات سوريالية مُقبضة، وهناك في بهو المدرسة البارد تجتمع خيوط السرد الدرامي، إذ يختفي جايك ليحل محله البطل الحقيقي للفيلم الذي ظل ظهوره محل تساؤل على مدار أحداثه، وهو عامل المدرسة، ذلك العجوز الذي يمسح الأرضيات، وكأن كل ما دار في الفيلم من رحلة، وبيت، ومزرعة، وطريق، وحبيبة، جميعها أضغاث أحلام، أو قُل كوابيس، وماض متصارع داخل عقل هذا الرجل الذي يعيش حياة غير مرئية على هامش العمر، فهل لوسي هي جايك؟ هل جايك هو هذا الرجل العجوز؟ هل اكتفى العجوز من تهيؤاته وهلاوسه للحد الذي أصبح أقرب لقرار إنهاء حياته «الأمور»، لاشك أنه اكتفى منها، فهو يخرج في مشاهد الفيلم الأخيرة، في حالة أقرب للجنون، يتعرى في سيارته، على الرغم من العاصفة الثلجية، يتراءى له الخنزير الذي كان جايك يحكي مأساة قصة موته للوسي، ولكن وكأنه قد بُعث في هيئة جرافيكية سوريالية، يتجوّل مع العجوز العاري في طرقات المدرسة، يُلملم من على سطح الطرقات شذرات أفكاره اللانهائية، حتى نستمع على لسانه لواحدة من أبرز الجمل المفتاحية الفيلم على الإطلاق وهي «أنا، أنت، الأفكار..كُلنا في الحقيقة شيء واحد»، وهي عبارة لا يمكن كذلك فصلها عن مشروع «كوفمان» الفلسفي بشكل عام.

يضرب الجنون كذلك بطليه جايك وصديقته، الذين تصاعدت انفعالاتهما في النصف الأخير للفيلم فوصلت إلى حافة الهستيريا، لعل أبرزها مشهد قرار جايك التخلص من مشروبات «الأوريو» المثلجة التي ابتاعوها في طريق عودتهما من بيت والديه وإلقائها في سلة للمهملات، على الرغم من أن التخلص منها يكاد يكون مستحيلًا، فهم على طريق سفر في ليل عاصفة ثلجية، تخبره لوسي أنه يمكنهما الاحتفاظ بها حتى يصلا للمدينة بسبب سوء الطقس، فيبدأ جايك للمرة الأولى في انفعال جامح بضرب عجلة القيادة بجنون لأنه يريد التخلص من الأكواب «اللزجة»، يجعل كوفمان من هذا الموقف الذي يبدو للوهلة الأولى سببًا لا يستحق هذه الثورة، ولكنه مفتاحي ليخبرنا عما وصل إليه عقل جايك من جنون للحد الذي يرغب فيه في التخلص من «الأمور» التي باتت مزعجة بشكل لا يُحتمل، أو بالأحرى عقل العجوز الذي يتراءى له جايك كمرآة لأمور لم تُحسم في حياته.

تلك المقاربات وانعكاسات المرايا الذاتية، تجعل للفيلم طبيعة ديناميكية ذهنية حادة، سعى كوفمان أن يوازيها بحركة الجسد والكاميرا المتمثلة في تتبع انفعالات الأبطال التي لم تتوقف على مدار الفيلم، وتداخل موجات المونولوج في متن الحوار، مرورًا بشحنات جمالية رمزية بديعة، كمشهد رقصة الباليه البارع الذي جاء في ختام الفيلم، إذ جعل الراقصين فيه وكأنهما نسخ روحية من جايك ولوسي، يؤديان رقصة شجيّة في طرقات المدرسة، أو رمزيًّا على مسرح الرجل العجوز وأشباح قصة حبه المُتخيلة، رقصة حب اختتمت بتخيّل قتل جايك، وهو إسقاط آخر على مصير العجوز الذي بات يتخيّل الموت السيناريو الأقرب لنهاية حياته الثقيلة، كل تلك الحركة في متاهات العقل والأحداث تجعل متابعة الفيلم شاقة، وربما تحتاج لإعادة بعض مشاهده لمحاولة القبض على مقاصده، ولكن غموضه يمنحه وهجًا خاصًا مُحرضًا على مواصلة المشاهدة، ومحاولة حل ألغازه، وإيجاد تفسيرات للتغييرات الميتافيزيقية به، تلك التي تجسدت في التغييرات المفاجئة في الفيلم، التي استخدمها كوفمان كأحد ألاعيب السرد، فلا شيء في الفيلم يمكن إثباته، بداية من اسم البطلة، فهي في البداية تظهر باسم «لوسي» ثم في مرة أخرى هي «إيفون» و«لويزا»، مرورًا بملابسها التي تتغير، وتسريحة شعرها، وطريقة كلامها، وحتى مهنتها فهي في بداية الفيلم تكتب بحثًا عن داء «الكلب» ثم يقدمها كفيزيائية، فرسامة، فناقدة سينمائية، فالتغير يحدث فجأة في عناصر الفيلم في الرحلة ذاتها، وحتى العمر كذلك، فجايك الشاب تظهر يده في مشهد مُباغت على عجلة القيادة تنتشر فيها التجاعيد، وهكذا كان الأمر صارخًا في منزل والده ووالدته، وكذا يريد كوفمان أن يشير إلى تلك التغييرات التي تحدث في العقل، والزمن، فهل الزمن ثابت، أم متحرك؟ ومن يبدأ في التغير؟ لعل تلك الأسئلة هي ما حاول أن يعكسها في قالب غرائبيته، وكأن الملموس انعكاس لتغيرات لا يمكننا القبض عليها، كالزمن، والحب، وتقلبات القلب، أو قُل إنها لعبة الذاكرة/التذكر التي أراد كوفمان أن يلعبها مع جمهوره، على غرار ألعاب «استخرج عشرة فروق بين الصورتين»، فمثلًا هل تتذكر لون معطف لوسي؟ ماذا كانت وظيفتها؟ ولعل هذه العبثية هي في حد ذاتها مرآة لواحد من أثقل ثيمات الفيلم وأسئلته، فما الذي نتذكره في النهاية؟ هل توجد فروق جوهرية فعلًا؟ أو كما جاء على لسان البطلة في نهاية الفيلم، بعد أن يطلب منها عامل المدرسة العجوز وصف شكل جايك الذي تلازمه على مدار الفيلم، ومن المفترض أنها تربطها به قصة حب، فيأتي ردها الصادم المُرعب بأنها لا تتذكر شكله، لا تتذكره من الأساس «كيف يمكنني تذكُر بعوضة لدغتني قبل أربعين سنة!» وهكذا تنسحب الذاكرة المُنهكة في انهزام أمام رعب الحياة.