مراجعات

منى أبو النصر

«بالأمس كنت ميتًا».. ذاكرة روائية حيّة لموت قديم

2020.09.01

مصدر الصورة : آخرون

«بالأمس كنت ميتًا».. ذاكرة روائية حيّة لموت قديم

 وجدت الكاتبة المصرية رضوى الأسود في الصدمة وسيلة فنية لافتتاح المجال السردي لروايتها الجديدة، بداية من عنوانها «بالأمس كنت ميتًا» الذي يُحيل إلى نبرة من زمن ماضِ، مصحوبة بطعم الموت المغدور، وكأنها عبر عتبة العنوان تفتح الباب على مصراعيه أمام صاحب الموت القابع خلف باب موصود منذ زمن، ليبدأ من داخل برزخه في سرد حكايته المُرة، مُحدثًا بين الحياة والموت جلبة من الأزمنة والتأويلات، التي اختارت رضوى الأسود أن تُمهِّد بها إلى ما هو أبعد من العنوان.

تتجاوز الصدمة عنوان الرواية وصولاً إلى أولى مشاهدها، التي تبدأ في غرفة مستشفى تتسرب منها رائحة الكحول، ومع ذلك تتزين فيها بطلة الرواية نزيلة المستشفى بالمكياج وهي تغني بصوت مُختنق أغنية عُرس، تُلوِّن أظافر يديها وقدميها قبل أن تستسلم لغرس «الكانيولا» المُعلقة بجوارها، لتجعل الكاتبة من تلك التناقضات مُفتتحًا لرائحة الحزن التي ستسود عالم الرواية وسيرة أبطالها، الذين وصلوا إلى حافة الصدمة، ولا يزالون يتكئون على أبسط الأسباب لمواصلة الحكاية، فالحياة رواية مثيرة كما تقول إحدى بطلات الرواية، وهي العبارة التي تحمل كثيرًا من مقاصد الكتابة لدى رضوى الأسود. 

مربع التاريخ وشجرة العائلة

تُمرر الكاتبة السرد على لسان أكثر من راوٍ، وهي التقنية التي منحتها القدرة على التحرك داخل بنائها السردي القائم على تنوع طبقات الزمن والمكان الذين يتحرران في الرواية من جمود خواصهما؛ فيُمهد السياق المعاصر للرواية للسياق التاريخي، ثم يعود التاريخي أدراجه للمعاصر من جديد بعد أن يكون قد صبغه بخواصه الزمنية، وهو بناء فني يستدعي سيّر شجرة العائلة، بسماتها التاريخية والمادية والمعنوية، بداية من الجذور وصولاً إلى جديد الثمار، فالجذور في الرواية هي بدايات الشرر، وبذور القصة، وهو اختيار سردي يليق بحكايات تستلهم واحدة من أبشع قضايا القرن الماضي؛ مذابح الأرمن على يد العثمانيين، وهي القضية الرئيسية في الرواية.

يتناوب على السرد عدد من الرُواة الشهود، وتتنقل الحكاية بين أوراق شجرة العائلة الوارفة، فكل حكاية صوت لوجهة نظر أحد أفراد العائلة التي يشترك بها الأرمن والكرد، إذ أرادت الكاتبة عبر تعدد الأصوات الإحاطة بناصية الحكاية بأبعادها المختلفة والمتشعبة، بداية من بطلتها «لوسي» المصرية سليلة شجرة العائلة الكردية والأرمينية معًا، صاحبة الظهور الأول في الرواية، والصوت المعاصر المُشرب بمرار مذبحة أجدادها الأرمن وقضية إحيائها، تتعرض لانتهاك نفسي وجسدي يُفضي بها لساعات أخيرة في مستشفى بارد، لمجرد أنها تتبعت خيط التاريخ، وأخلصت لجذور شجرة العائلة. ولا يمكن أن نفهم أبعاد هذا الانتهاك سوى بانتقال السرد إلى مربع التاريخ، حيث زخم من الأصوات الكردية والأرمينية التي تُنازع من أجل البقاء والصمود أمام غارات العثمانيين التي تستهدف مسخ هويتهم عبر إذابتها داخل بوتقة لا تعرف التعددية العرقية ولا الدينية، ولا تسمح بها.

لذلك فالصوت السردي في الرواية لا يمكن عزله عن الخلفيات العرقية لأبطالها، التي تكاد تكون المحرك الرئيسي للنص، والرابط الرئيسي بين التقلبات الزمنية والإنسانية التي تعصف بجميع أبطالها. فالزمن الروائي يمتد هنا ما بين عام 1843 وحتى عام 2000، أي من منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، فمن مدينة «وان» العتيقة إحدى أعمدة الدولة العثمانية، مرورًا بألمانيا المعاصرة، وظلال مصر بسنواتها التاريخية، وهي مساحة شاسعة سعّت الكاتبة لتعبيدها في محاولة لإعادة تأمل تاريخ الأرمن والكرد المنسي بتقنيات الرواية الحديثة، وما تتيحه من وسائل سردية متعددة، ما بين توظيف للمكان ووصف، واعتراف، واسترجاع، وحوار، ومونولوج، وهي جميعها وسائل تمنح العمل لونه الأدبي وتتفادى سقوطه في فخ الرواية التسجيلية المباشرة القائمة على تسجيل وقائع أو محتويات وثائقية عن تاريخ الأرمن والكرد.

 عصب الرواية العرقي

ولعل التاريخ كموضوع للرواية هو أحد عناصر الجذب لموضوعها وهو كذلك من عوامل تحدياتها، ليس فقط من حيث تخليق الحاضر والحدث التاريخي والمُتخيل، أو تأسيس علاقة حكائية تجمع بين شتاتهم، وإنما أيضًا في القدرة على تسليط الضوء على حدث تاريخي مُحدد دون انسياق وراء إغراء إسهابات التاريخ. فاختارت الروائية خلق سياق مُتخيّل رحب يتسع للتسامح والمحبة بين الكرد والأرمن كاستهلال يضيء الحالة التاريخية في تلك الفترة، فأسست لحكاية أسرتين مترابطتين واحدة كردية والأخرى أرمينية، حتى تظهر مع تفتح جيل الأبناء بوادر شرور العثمانيين وخططهم الإبادية العرقية، وسط تخلي بعض من الدول الأوروبية كروسيا عن حماية الأرمن، وصولاً إلى الحدث التاريخي الخاص بفتح سلطان الدولة العثمانية آنذاك؛ عبد الحميد الثاني، الباب أمام قُطاع طرقه وجواسيسه لضرب الحركات القومية التحريرية الأرمينية والكردية على السواء، وقبلها يستخدم عصا الفتنة الدينية لتأليب الكرد المسلمين ضد إخوانهم الأرمن المسيحيين من جهة، وترويع الأرمن بحرق قُراهم في مقابل دفعهم إلى ترك دينهم والانصهار داخل بوتقة العرق العثماني، وهي فصول تمر عليها الرواية وصولاً إلى حِيَل الأرمن في التخفي حتى نجاح القليل منهم في الهرب عبر البحر إلى مصر. وهناك على الجبهة المصرية يبدأ السرد في تقديم أحفاد العائلتين الذين تمكنوا من الهرب، وتحديدًا الابن كِروان الكردي والابنة بيروز الأرمينية الذين جمعتهما قصة حب استثنائية، قصة تمكنت من النجاة لتكون بمثابة شجيرة لأحفاد تلك الخلفية العرقية الخصبة التي قُدِّر لها أن تنمو في مصر، لتكون»لوسي» تجسيدًا روائيًّا لتلك الشجيرة، في التقاء ثقافي فريد يجعل التاريخ عصبًا رئيسيًّا في التكوين الشخصي والعاطفي والإنساني لأبطال الرواية وموضوعها.

يتجسد جانب الحكي من خلال سيرة عائلتي «آرشاج مندكيليان» الأرميني، و»فِرهد منديكانلي» المُسلم السني الكردي، اللتين تبدأ الكاتبة معهما رحلة طويلة في الزمن، وتطل خلال تلك الفترة التي تعود إلى أربعينيات القرن التاسع عشر، على مفردات من الحياة اليومية لهذا الزمن، بما في ذلك تفاصيل ملابس رجال وقتها ما بين «شروال» و»شوجال»، ورقصات الدبكة الكردية، ومأكولات «الكعوب» و»الدولمة»، وجميعها ملاحم غنية للفلكلور الشعبي للكرد والأرمن على السواء، باعتبارها جزءًا أصيلاً من الذاكرة الجمعية لهم. وهي التفاصيل التي تمنح القراءة عن زمن غابر ملامح ورؤية بصرية غنية، تجعل العائلتين الأرمينية والكردية في الرواية يتجاوزان كونهما مجرد شخصيات روائية إلى شخصيات ضالعة في التأثير، وربما السبب في ذلك صدقهم لا مثاليتهم، فكما أن هناك حضور للحب والصداقة، وهناك الانتماء، هناك كذلك الخيانة والشك، وبهذا تُسبغ عليهم الكتابة معالم إنسانية غير أيقونية، ولعل هذا القُرب الإنساني هو ما نجح في الخروج بالرواية من مأزق كتابات الأطلال والبكائيات الفجة، والانحياز في المقابل إلى توظيف الطاقة الشعورية لتلك النكبة التاريخية كروح عامة للنص. 

استعارات المكان والهُوية

يصف الروائي والشاعر والمترجم الكردي السوري جان دوست الرواية، في كلمته التي وضعتها دار نشر «المصرية اللبنانية» على الغلاف الخلفي، بأنها رواية «ولائم من خيبات، ودموع، وحب مهزوم»، ونجد أن الكاتبة استعانت، ضمن أدواتها، بالجغرافيا والعلامات المكانية كأدوات سردية تُحيط بتلك الخيبات، فهي لا تُبرز فقط رمزية شخصيات روايتها، ولكنها أيضًا ترصد التحولات الأيديولوجية والتاريخية والسياسية والاجتماعية لعصر الرواية ودلالاتها. ففي زمن الرواية المعاصر تتذكر «ليلى»، صديقة لوسي المصرية، منطقة الزيتون التي كانت أحد مقرات البشوات وعلية القوم في منتصف الأربعينيات، هذا المكان الذي كان يعج بأشجار الزيتون والموالح، ومن هنا جاءت تسميته. تمر الرواية على تحوُّل هذه الضاحية من أرض للزيتون والقصور، إلى مكان يهجره أصحاب الفيلات زحفًا إلى ضواحي كمصر الجديدة والمعادي، تحديدًا بعد ثورة يوليو 1952، وفي دلالة أخرى يلعب المكان فيها دور الرمز تشير الرواية إلى شارع باسم «ابن الحكم» بحي الزيتون، إلا أن ما تصفه الشخصية الروائية بـ»الطوفان الوهابي» الذي كان ضالعًا في تغيير اسم الشارع إلى شارع «الحكم» بحجة أن الحكم هو الله، والله واحد لا ابن له. تقول ليلى وهي تستدعي تلك المفارقات «ولا عزاء للتاريخ الذي تقبع فيه شخصية مروان بن الحكم رابع الخلفاء الأمويين، ولكن للحق ظل الناس يطلقون عليه الاسم الأصلي، حتى فَرَض نفسه ثانية مع تجديد الحي الدوري للافتات الطريق»؛ وهنا تبدو الاستعارة المكانية التي خلقها اسم الشارع مرتبطة بشكل رئيسي بحالة التلقي المجتمعية وتحولاتها والتغيير الذي يُعيد تشكيل المفاهيم ويفتح الباب أمام التساؤلات.

أما المكان في السرد التاريخي للرواية فهو دائم التنقل، ومعه تنزح المشاعر والحيَّل، بداية من مدينة «وان» حيث تبدأ أحداث الرواية، وانتهاءً بمدينة «ماردين» آخر معاقل الأرمن، حيث اختبأوا فيها وسط بيوت المسلمين قبل أن يُواروا ثرى العثمانيين «ظلت ماردين المكان الوحيد الذي لم يتعرض لأية مذابح أو تخريب، نظرًا إلى اختلاط بيوت المسلمين بالمسيحيين، فبات من الصعب بمكان التمييز بينهما، فأي هجوم محتمل من الفرق الحميدية معناه الوحيد مذبحة للطرفين:أكراد مسلمون، وأرمن مسيحيون». هكذا فإن تتبع خرائط الأحياء، والمدن، وتبدل جغرافياتها، وأيدلوجياتها هي خيوط استعانت بها الكاتبة رضوى الأسود في ضبط ميزان روايتها، وحبكة أحداثها، وتبدل المصائر، فيحمل بحر «ماردين» اثنين من سلالة عائلتي فرهد وآرشاج وهما بيروز الأرمينية وكِروان الكردي، يحفظهما الحب وهما على متن رحلة بحرية شاقة حتى يصلا إلى الشاطئ المصري، لينتظرهما على الشاطئ سؤال الهوية العصي، وهو أحد أبرز أسئلة الرواية وأعلاها صوتًا، مُتقلبين بين «هوية الدولة الأرمينية التي لم يعيشوا فيها يومًا، والتي كانت حدودها تمتد من المنابع العليا لنهر الفرات حتى بحر قزوين وإيران، أم الدولة العثمانية التي كانوا ضمن رعاياها والتي لم تكتف باغتصاب الأرض، بل أبادت أصحابها عن بكرة أبيهم. أما الهوية المصرية، الدولة المضيفة، التي مهما بلغ بها الحنان فلن تضاهي أبدًا حضن الأرض «الأم» وعلى الرغم من أن الروائية قد وضعت تلك التساؤلات على ألسنة شخصياتها عام 1915 فلا يمكن قراءة تلك السطور دون استدعاء لثيمة اللجوء واللاجئين في العالم إلى اليوم، في ربط يُفيد بدورة التاريخ التي تُعيد نفسها، ومعها الشقاء المُصاحب لسؤالي المواطنة واللجوء.

صوفية اللغة واحتراقها 

وجدت الكاتبة رضوى الأسود في الصوفية أكثر من مجرد نفحة إبداعية تُمررها بين سطور السرد، بل هي هنا أيضًا فكرة ورؤية لعالم الرواية الذي فقد خواص رحمته تحت أنقاض المذابح. تتسلل الصوفية من خلال شخصيتي «ليلى» و»مالك» الصديقين الأقرب لـ»لوسي» الناشطة التي دفعها إخلاصها لقضية الاعتراف بمذابح الأرمن إلى حالة عصبية ونفسية مضنية، فالصوفية في توظيفها المباشر تظهر في النص على هيئة نصوص تقتبسها «ليلى» بين الحين والآخر لسمنون المحب، وجلال الدين الرومي، أما في توظيفها الدلالي الأعمق فالصوفية في الرواية هي بلسم الفواجع، ورؤية لما خفي عن الأعين والقلوب، فترسم رضوى الأسود بالصوفية خريطة غير تقليدية لفكرة الحب بين رجل وامرأة، مفاهيم الغيرة والتملك، الرغبة والعذاب، وتعظيم فكرة التجربة والبحث عن الذات، ولعل تلك المفاهيم هي ما اجتمع عليه الأصدقاء الثلاثة ولو كانت بينهم بلاد. كما انطبعت الصوفية على لغة الرواية بشكل ملحوظ، من حيث الشعرية والرقة ولوعة الوجد، وإعلاء فلسفة العشق الأبدي، وهي ما يمكن لمسه في لغة المناجاة لدى ليلى كما تقول في إحدى حواراتها الداخلية «عشقت مالك ولم أفكر في مغبة هذا العشق..احترقت بناره ولم أبالِ إن كان سيصلني يومًا أم لا..لم يغب عني لحظة واحدة في سفره البعيد..لم أيأس من غيابه الطويل..كان حاضرًا معي يشاطرني كل شئ ويشطر روحي، وكنت قد أعددت نفسي لاستمرار تلك الحال..وحتى في ذوبانه روحًا وجسدًا مع لوسي..لم أكف عن حبه»، بهذه النزعة الروحية المتماهية في تلقي الأشياء يجتمع الأصدقاء الثلاثة على فكرة الحب مركزًا للكون المُتصدع.

الموت وخيوط الحكاية

ترتطم تلك النظرة الغارقة في المحبة بصخور الكراهية، فبعد أن تقرر لوسي الخوض في سؤال الهوية، تنضم في ألمانيا إلى جمعية تعمل على جمع الاعتراف الدولي بالإبادة الجماعية للأرمن، وخلال عملها تطَّلع على وثائق وحشية لإبادة الأرمن بينها حرق وذبح لنساء وأطفال، تُزيدها إيمانًا بعدالة قضيتها، ومهمة جمع الاعتراف الدولي بتلك المذابح. وفي هذا الوقت تصلها تهديدات تركية بسبب نشاط جمعيتها وتتعرض لوسي لحادث كاد يودي بحياتها، وتقرر مع ذلك مواصلة قضيتها الإنسانية، وتتعرض بسبب ذلك الاختيار لألوان من التنكيل والأذى، حتى يتم نقلها في سياقات عصيبة إلى مصر، حيث يلُازمها صديقا عمرها في غرفة المستشفى، التي تلفظ بها أنفاسها الأخيرة بعد أن تتحرر أمامهم من ثقل ما لاقت من تنكيل. وفي هذا الوقت تنتقل لغة الرواية من شاعرية الصوفية، إلى مفردات من قاموس التعذيب والانسحاق، وصوت العويل، انعكاسًا لصاحبة الحكاية التي فقدت ذاتها كما فقد أجدادها ذواتهم وحياتهم من قبل.

تُراهن الرواية على الاختيار والإنسانية حتى النهاية، حتى مع استسلام لوسي لموت آخر دفاعًا عن العرق عبر التاريخ، وهو الاختيار الذي جعلته الكاتبة يفيض في آخر كلمات لوسي التي اجتمعت في يدها خيوط الرواية في النهاية «هناك من يُصر على ألا يكون إنسانًا، وأن يكون فقط بشرًا ضمن مئات الملايين من بني آدم، الذين يزدحم الكون بنفاياتهم الجسدية والنفسية، الذين يلوثون الكون بأنفاسهم وأفعالهم، إنهم الذين يعيشون ويميتون جيفة». وربما وضعت الكاتبة «لوسي» في بؤرة الدراما التعذيب على يد متطرفين من أحفاد العثمانيين الأتراك الذين رفضوا نشاطها الذي يستدعي جرائمهم، لتُثمن فكرة الإيمان بالإنسانية كموقف واختيار وليس مجرد شعار للاستهلاك الأدبي، وفي فضاء هذا الإيمان يتضافر التاريخ والحاضر المُتخيل كصوت يُناجي إنسانية الحكاية، تلك التي تتردد عبر أكثر من قرن وربع، على مائدة الخيبات، والإبادة الجماعية، وتشتت الهوية، لتتحوّل الرواية إلى ساحة منفتحة على التناص التاريخي والمعاصر، فالسلطان عبد الحميد الثاني الذي نفّذ المجازر بحق الأرمن وغيرهم من المسيحيين الذين كانوا تحت حكم الدولة العثمانية، لا يمكن عزله عن أحفاده الذين هددوا  لوسي وروعوها للتوقف عن دعوتها عبر الدبلوماسية الشعبية للاعتراف بمذبحة جدودها الأرمن، خشية إثارة جريمة أجدادهم العثمانيين من جديد وفتح هذا الملف الدموي. وكأن الكاتبة كانت تُمهد منذ بداية السرد لنقطة التقاء بين مساري روايتها المعاصر والتاريخي، نقطة التقاء كاشفة، وكأن من مات أمس لن يكتمل موته دون أن تُروى حكايته ويُنكأ جرحه، فهي رواية عن إعمال الذاكرة في مواجهة التناسي، والحكي في مواجهة الغدر، والمحبة من أجل الاكتمال.