عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هموم

أحمد منتصر

هموم عامل من ذوي الياقات البيضاء

2025.05.18

مصدر الصورة : آخرون

هموم عامل من ذوي الياقات البيضاء

 

يتردد كثيرًا في مصر الحديث عن تغيرات وانقلابات طالت بنية وطبيعة العمل في السنين الأخيرة، وما زلنا حتى الآن نكتشف يومًا بعد آخر نتائج هذه التغيرات. لا يقتصر الأمر على ساعات العمل والراتب والضمانات الاجتماعية، التي من الممكن إرجاعها، لا إلى قانون للعمل يحفظ حقوق العمال، بل إلى منطق جديد يقوم بالأحرى على مقومات مادية وأيديولوجية، أقرب إلى "السحل الاجتماعي". أما ما أود مناقشته هنا فيتعلق بدلالات هذه التغيرات أيضًا على الطريقة التي يدرك بها الفرد موقعه ووجوده الاجتماعي، ومن ثم يستطيع التفرقة بين من يشبهه ويشاركه في وضعه الاجتماعي، وبين من هو عقبة تحول بينه وبين إدراكه لوضعه هذا.

لقد شهدت الدراسات الاجتماعية والخطابات السياسية، منذ منتصف القرن العشرين وصاعدًا، تحليلًا يوسع من مفهوم الطبقة العاملة، فإلى جانب جماهير العمال التقليديين من "ذوي الياقات الزرقاء" العاملين على خطوط الإنتاج في المصانع صار هناك قطاع عمالي كبير من "ذوي الياقات البيضاء" يقومون بالعمل من فوق المكاتب، وتنطبق عليهم كل شروط الطبقة العاملة. وفي مصر اليوم صارت غالبية الطبقة العاملة محصورة بدرجة كبيرة بين "ذوي الياقات البيضاء"، نتيجة لما هو متاح من فرص للعمل، التي تكاد أن تنحصر في ثلاث وظائف: "كول سنتر" و"سيلزجية" و"ديلفرجية".

ومن اللافت جدًّا بالطبع ما جرى من تعريب ثلاث كلمات إنجليزية، وتطبيع تداولها وفق تصور يعتمد على تقسيم المجتمع بين قلة محدودة تملك القدرة على الاستهلاك، وقطاع كبير من العمال يقوم بتوفير خدمة الاستهلاك لهم. ويمكن حصر عدد من يملكون القدرة على الشراء والاستهلاك في مصر بين 5 إلى 10 مليون مواطن من ضمن المئة وعشرة مليون مصري، وتشكل هذه الأقلية من يمكن تسميتهم: "مصر المفيدة". ويقوم نموذج الاقتصاد الخدمي على توفير الخدمة لهؤلاء القادرين على الاستهلاك، بخلق الأدوات التي تساعدهم على ذلك، والرد على استفساراتهم، وتوصيل المنتجات إليهم، .. إلى آخر الوظائف التي تليق بمن يمكن تسميتهم "خدم الاستهلاك".

ربما تختلف قصتي وطبيعة عملي عن كثير من وظائف تم استحداثها في السنين الأخيرة، لكن ما أحاول تتبّعه يتعلق بالكيفية التي يتشكل بها إدراكنا لمواقعنا الاجتماعية، وأيضًا إمكانية الوقوف على ما يمكن تسميته "مُشتَركًا ضِمنيًّا". الانطلاق من هذا "المشترك الضمني" ربما يساعدنا على فهم من نحن؟ عمالًا أم موظفين؟ أم شيئًا آخر جديدًا لم يعُد شبيهًا بمسميات الماضي؟ وإذا أدركنا أن مُسمى: "عمال" هو شيء متقدم كثيرًا عمَّا كان يُسمى من قبل: "عبيد"، فهل هذا المُسمى والموقع الطبقي والاجتماعي "الجديد" يضعنا على طريق التقدم أم التراجع؟

مواقع متماثلة ووعي مشوه

يحلم أبي منذ صغري بأن أكون مهندسًا يومًا ما، ولكني أخفقت في تحقيق هذا الحلم، بعدما خذلني مجموع الثانوية العامة، ونسبة أقل من واحد في المئة، باعَدت بيني وبين كلية الهندسة. لم يتوانَ أبي عن تصور ابنه مهندسًا، ولم لا؟! فكلية العلوم تُخرّج دارسي الكيمياء، ومن ثمّ يتمكن من إلحاقي بمعمل شركة الكيماويات، التي يعمل لها منذ أكثر من عشرين عامًا، وحينها سأصبح "بشمهندس" أيضًا. في هذه المرة خذلت أبي ثانيةً، ورفضت العمل في الشركة، وبدلًا من ذلك، أجريت العديد من مقابلات عمل في شركات للأدوية، حيث مجال الدعاية والتسويق، لا سيما والمؤهلات المطلوبة، لا تتعدى شهادة التخرج والموقف من التجنيد. وتم قبولي بالفعل في إحدى الشركات، وأصبحت مندوب دعاية، لا، بل "ميديكال ريب"، بكتابة الكلمة ذات الأصل الإنجليزي: "Medical Rep" باللغة العربية، لأن في هذا المجال من العمل -ولا سمح الله- استخدام "العربية" فيه كلغة تواصل، شيء غير مستساغ، غير مألوف للآذان أن تسمعه، ويُستخدَم في كثير من الأحيان بأن يعطي انطباعات عن المكانة الاجتماعية أو الموقع الطبقي لأحدهم.

 أتذكر اليوم الذي دخلت فيه على أبي، بينما أعطيه بطاقتي التعريفية أو "البيزنس كارد"، على وجهها الأول اسم الشركة، وعلى وجهها الآخر، اسمي، باللغة الإنجليزية طبعًا، ويسبقه الاختصار: "Dr.". "دكتور فلان الفلاني" كم كانت قسمات وجه أبي تتورّد أمامي وهو ينطقها، بلغة صوتية تصاعدية، كأنه يخبر نفسه والعالم، أن هذا في إمكانه أن يكون تعويضًا مناسبًا، وشيئًا يستحق تمام الرضا. وكم كان الأمر في غاية الصعوبة أيضًا، وأنا أشرح له نوعية العمل الذي أمارسه، ولماذا أذهب إلى الأطباء؟ وما هي طبيعة الحديث الذي يجمعني بطبيب؟ ألهذه الدرجة تمكنت من استيعاب عديد من المسائل والأمور الطبية التي يستغرق الطبيب نفسه في دراستها سنين وسنين؟

هذا جانب واحد من الصعوبة، وأيضًا من التغيرات العميقة التي أوجدت وظائف وأسواقًا وأعمالًا، لا تختلف الدراية بها من عدمها بين أجيال فقط، بل يعمل هذا الأمر أيضًا في الجيل نفسه، بل وبين خريجي نفس الدفعة. فعلى سبيل المثال، من الممكن أن يكون اثنان من خريجي قسم الكيمياء، تخرجا وتقابلا بعد سنوات، يسأل أحدهما الآخر: ماذا تعمل الآن؟! يرد: أنا حاليًّا "كذا"، وفي الغالب ستكون كلمة أو اثنتين بالإنجليزية. والآخر بالمثل، فالأغلبية تعمل بعيدًا عن مجال دراستها، هكذا جرت العادة منذ زمن.

لم يعرف أبي الهندسة أو الطب، ولكن يعلم جيدًا المهندس وتخصصاته وطبيعة وظروف العمل وإسهام هذا العمل مجتمعيًّا، وبالمثل الطبيب والمُعلم والمحامي والمحاسب والتاجر والمزارع والعامل.. إلخ، ما يمكن تسميته: وظائف وأعمالًا. نفس الصعوبة التي واجهتها مع أبي، محاولًا إفهامه فكرة عملي، يجري توسيعها أكثر، بحيث أصبح السؤال عن الوظيفة: ماذا تعمل؟! يحتاج إلى ما يشبه "بريزنتيشن" طويلة، تعرض فيها نفسك بلغة وطريقة "عصرية" لمجرد تبيان ما تسهم به في عملك، ومدى علاقة هذا العمل بالناس والمجتمع، أي ماذا يقدم العمل لك وللمجتمع؟

أسئلة كثيرة بين محاولتي الفاشلة في إفهام أبي، ومحاولات الكثيرين، الذين لم يعتادوا على تعريف أنفسهم عمالًا أو موظفين، وإصرارهم على تعريف أنفسهم بصيغة: أنا ميديكال ريب، أو أنا ويب ديفلوبر "Web Developer"، أو أنا إنتريور ديزاينر "Interior designer".. إلخ، من مسميات وتعريفات لا تبحث عن شيء إلا التمايز والاختلاف، لأي غرض؟! وأيًّا كان هذا الغرض، فهل يسهم في تحسين شعور الفرد المعنوي وإحساسه بقيمة ما يعمل، ومن ثم إدراك موقعه الاجتماعي؟! وهل فعلًا لدينا إدراك حقيقي لمواقعنا الاجتماعية؟!

استوقفتني ذات يوم مشادة كلامية بين شخصين في الشارع، يقود الأول موتوسيكل مرتديًا تيشيرت "طلبات" وفي أذنيه سماعة هوائية "إيربود"، بينما يقود الآخر ما يسمى "تريسيكل" محملًا عليه بضاعته. الأمر اللافت للنظر، الذي لا يخلو من الكوميديا السوداء، بعيدًا عن سبب المشادة وصعوبات السير والزحام في شوارعنا، إلا أن اللغة ومستوى التعامل الذي يستخدمه كل منهما يتقاطعان مع ما أسميه "دلالات إدراك الوجود الاجتماعي" ومدى التشويش والعمى الذي يحكم هذه الدلالات.

يستنكر الأول الطريقة السوقية التي يتحدث بها الآخر، وبلغة عامية تَوجَّه إليه قائلًا: "إنت عاوج بؤك ليه؟ وبتتكلم كدا ليه؟"، فما كان من الآخر إلا أن ردّ عليه: "مالك ياعم؟ إنت مفكر نفسك بيه ولا إيه؟" تساءلت بيني وبين نفسي ألهذه الدرجة من الممكن أن يبلغ العمى حتى يتحول الأمر إلى مبارزة كلامية حول من يمتلك "أفضلية الموقع الاجتماعي" على الآخر؟! بالرغم من أن كلًّا منهما في النهاية "ديلفرجية" أو "موصلاتية"، سواء من يعمل لدى منصة إلكترونية، أو من يعمل على باب الله.

وبهذه الكيفية تتشكل مفارقات في الوعي تعطّل دومًا إدراك الفرد لموقعه أولًا، ومن ثم لموقع الآخر، الشيء الذي يعمل وفق معطى مسبق بأنه لم يعد هناك مجال للتوافق أو ضرورة لبحث ما تتقاطع فيه مصلحتنا مع الآخر، حيث مصلحتنا الشخصية من الأساس تتحدد بالضد من مصلحة الآخر. كل فرد يعمل وحده ويجني ثمار عمله وحده ويبحث ما يراه "حقه ومصلحته" بمعزل عن الآخر، حتى أنه على سبيل المثال: بات من المُجرَّم أن تخبر زميلك في العمل عن راتبك. نعم الراتب أمر سري جدًّا، لا منعًا للحسد، لكن ما تنتهجه إدارات العمل وفق أحدث نماذجها العصرية يهدف من الأساس إلى قطع الطريق على أي ملمح تضامني، أو أي إطار من الممكن أن يجمع موظفًا بآخر، الهدف الرئيسي أن يجعلك مؤمنًا في كل لحظة بأنك لا تشبه الآخر.

تفكير جماعي خارج الصندوق

باعتبار أني "ميديكال ريب" أجد نفسي في خانة "السيلزجية". كلنا بالطبع مسبوق اسمه على "البيزنس كارد" بلقب "Dr." ومهما اكتسبنا من وجاهة اجتماعية، بملابس تبدو أنيقة، وهيئات لا يشوهها الكدح، فإن خلف هذه الواجهة الزائفة، تكمن مقومات وصفات "الخدم"، الذين يعملون وهم مفتقدون للضمانات والتأمينات الاجتماعية، مطوقين بقيد في رقبتهم يُدعى "التارجت"، يأكل أدمغتهم حتى في أوقات الفراغ، التي لا تخلو من عمل "excel sheets" مرهقة ومملة في آن واحد، وتخطيط للعملاء المحتملين الآن، وبعد شهر، ثم ثلاثة أشهر.. وهكذا.

الهدف الحقيقي هو "البيع" وتحقيق "التارجت"، يضعك هذا الأمر في منافسة محتدمة مع الآخرين، إلى درجة تجعل من شبه المستحيل أن تتلاقى مصلحة ما مع هؤلاء الآخرين. نتنافس على الفرص ومقابلة الأطباء وكسبهم لصالحنا ولصالح أن يكتبوا منتج الشركة ويصفوه لمرضاهم. إذا لم نتمكن من تحقيق مستهدف أو تارجت البيع الشهري، نجد أنفسنا ببساطة، عن طريق إيميل أو مكالمة هاتف، تخبرنا بأننا لم نعُد مناسبين للشركة، وبالتالي نُطرد.

شابة حديثة التخرج، ما زالت في شهورها الأولى للعمل، نفذت فكرة برغم بساطتها فإنها مُلهِمة جدًّا، وتحاول كسر هذا الحائل الضخم بين منافسين شرسين نسوا -أو تم إجبارهم على النسيان- أن في النهاية مهما كانت نوعيات العمل، فإنه تبقى هناك مساحات ما زالت تفرض التلاقي والتعاون والتفكير في الآخر ومساعدته، ما زال هناك بالأحرى ما يمكن تقديمه بشكل جماعي.

تفرض طبيعة عملنا كمندوبين للدعاية والتسويق الطبي، أن نزور عددًا معينًا من الأطباء يوميًّا. في ذهابك إلى عيادة ما من الممكن أن تجد عديدًا من الحالات، أو أن الطبيب تأخر قليلًا.. إلخ، من أسباب تجبرك على الذهاب والعودة، من منطقة إلى أخرى، هل تنتظر ويضيع وقتك؟ أم تذهب لزيارة أخرى وتعود؟ وهل تضمن عند عودتك وجود الطبيب أم لا؟! أسئلة واحتمالات كثيرة، لم يعد التغلب عليها ممكنًا إلا بفضل مبادرة فردية كان لها عظيم الأثر الجماعي.

أنشأت الزميلة مجموعة "جروب" على "واتسآب"، يتجمع المندوبون فيه، بالتالي يتمكنون من متابعة تحركات بعضهم بعضًا، والسؤال عن أماكن العيادات ومواعيد الزيارات، والوقت الذي ينتهي فيه الطبيب من مرضاه ويستقبل المندوبين. تداول يومي للمعلومات، مكّن عديدين من تنظيم أوقاتهم وزياراتهم، بدلًا من العشوائية التي ميزت العمل قبل إنشاء الجروب. الآن أصبح لدى الجروب المئات من المندوبين، وبالرغم من عدم انتفاء فكرة أن كلًّا منهم لديه مصلحة فردية بحتة يقتضيها شكل ونوعية العمل، وبالرغم أيضًا أنه من الممكن جدًّا كون أحد هؤلاء منافسًا مباشرًا يعمل على مُنتَج شبيه جدًّا من منتجك، إلى آخر مزاعم عالم المصلحة الفردية النابذة للآخر، إلا أن هذه المبادرة البسيطة تشير إلى أن تفاصيل حياتنا اليومية يمكن إدارتها بشكل أسهل بمقدار تنظيمها بشكل جمعي، وأن "الآخر" من الممكن أن يكون له دور وإسهام في شيء ما.

الطبيعي أن يحدث هذا، لكن الكمّ الهائل من الأفكار السامة -أنت استثنائي.. إلخ- التي تُزرع في كل مُقبل على سوق العمل، تجعل الفرد مشوشًا، بجانب ما يراه بعينيه من تعسف وظروف ضاغطة، وشروط عمل تعترف بأن الزبون دومًا على حق، والإدارة دومًا حق أيضًا، وماذا إذًا عن هذا "الميديكال ريب"؟ أو ذاك "الدليفري"؟ أو أو؟

هل اختفت الطبقة العاملة فعلًا؟

على مدار سنوات، كثيرًا ما قرأت عن نظريات ومقولات تشير إلى "اختفاء الطبقة العاملة"، ولكن الأدق أن ما حدث هو محاولات حثيثة تعمل على "إخفاء" مقومات وجود الطبقة العاملة، تنظيماتها ومؤسساتها وممارساتها الاجتماعية. يُضاف إلى هذا ما ذكره الكاتب المصري محمد نعيم بأن "عنصر أساسي من عناصر الوعي البرجوازي في مصر هو تحقير المسميات العمالية، باعتبارها تعبيرًا عن وضع اجتماعي أدنى يتنافى مع رحلة الترقي الاجتماعي".

انعكس هذا الوعي بدوره على الأفراد العاملين أنفسهم، وأصبح الـ"ميديكال ريب" وأمثاله من الوظائف الجديدة الخدمية، لا يُعرِّفون أنفسهم إلا بالطريقة التي تُبعد عنهم شُبهة الانتماء إلى موقع عمالي، الأمر الذي يمكن تفسيره على أنه "ارتداد" إلى الخلف، إلى موقع هو بالفعل أدنى من موقع "الطبقة العاملة"، موقع "الخدم". وإذا كان هناك تأفف أو نفور من أن نرى أنفسنا عمالًا، فماذا يكون شعورنا في الحقيقة بينما يُنظَر إلينا في الواقع على أننا "خدم"؟!

بعد مشاهدة المسلسل الكوري "لعبة الحبار٢"، فكرة واحدة مرعبة سيطرت على تفكيري: هل هي نعمة أم نقمة؟ أن نجد أحدهم يخبرنا بأننا يُلقَى بنا إلى حتفنا. محاولة الإجابة على هذا السؤال تبعًا لسردية المسلسل تُظهر أنها نقمة، لماذا؟ لأن البطل الذي سبق له تجربة اللعبة، ونمى إليه العلم بتفاصيلها، أخبرهم بأنهم أقرب إلى الموت، لا إلى النجاة وكسب الجائزة: المال، لكن يظل كلامه في النهاية "مجرد كلام" أمام متلهفين، لاهثين، يرون كأسًا ضخمًا، يمتلئ بالملايين، ويمتلئ أكثر فأكثر كلما مات أحدهم، ليبقَى هتاف من بقوا، أو من نجوا حتى الآن: لنجنِ المال، لنجنِ مزيدًا من المال.

فكرت بعيدًا عن المسلسل وما يمكن أن يحمله من أفكار مُغرقة في ساديّتها، وتذكرت أحد الأصدقاء، يعمل مثلي "ميديكال ريب"، أخبرني في نهاية العام بأن شركته حققت بيعًا سنويًّا أكثر من ١٠٠ مليون جنيه، وأنهم في طريقهم إلى مضاعفة هذا الرقم في العام الحالي، وأن الخطة المستهدفة بعد خمس سنوات، أن يصبح البيع السنوي كذا مئة مليون جنيه. رقم مهول وضخم، يعجز أمثالي وأمثال صديقي عن استيعابه.

استرجاعي لهذا الموقف جعلني أتخيل العالم وما تجنيه الشركات ومديروها التنفيذيون على هيئة ذلك الكأس الكبير المُعلّق فوق رؤوسنا، على غرار أبطال لعبة الحبار، ويمتلئ أكثر فأكثر بالملايين، التي نظن أننا نجنيها، نعم نجنيها، بكدّنا وكدحنا اليومي، لكن لا لأنفسنا، وعبثًا نحتفي بما حققناه، والأكيد أننا نُلقَى لحتفنا، لا في لعبة، ولكن في حياة والتزامات وفواتير استهلاك وبطاقات ائتمان، نتخيل معها حياتنا بشكلها الطبيعي، لكن ما هو حقًّا الطبيعي الذي يحول بيننا وبين ما نراه غير طبيعي؟!

تظهر في النهاية حقيقة مواقعنا الاجتماعية، التي مهما نالت من مسميات وترقيات، ومهما تحصلت على كورسات ومؤهلات، فإنها في النهاية لا تجعلنا أبعد من كوننا "خدمًا". هناك "خادم جونيور" وآخر "خادم سينيور"، ولدينا أيضًا عديد من الخدم الذين لا يحملون ألقابًا على سبيل التجميل أو خدم بدون "تزويق" بالعامية. بشكل أو بآخر، لقد شاركنا في صنع عالمنا، وقيمه، واستهلاكه، وأخلاقه، وتأييد أفكاره والاعتزاز بفردانيته، والغاية من هذا؟ أننا للأسف كنا أول ضحاياه.