عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

محمود هدهود

أمراء الخليج وحلم بيريز الذي لم يتحقق

2025.05.17

مصدر الصورة : آخرون

أمراء الخليج وحلم بيريز الذي لم يتحقق

 

بعد توقيع معاهدة أوسلو، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز، كتابه الشهير «الشرق الأوسط الجديد» الذي طرح فكرة مفادها أن في إمكان الشرق الأوسط أن يتحول إلى مركز اقتصادي عالمي بعد أن تنفتح القدرات التكنولوجية الإسرائيلية على التمويل العربي الخليجي من جهة، والقدرات البشرية العربية من جهة أخرى، بفعل السلام.

لم يتحقق حلم شيمون بيريز، لكنه عاد ليظهر مرة أخرى، وإن بصيغة مختلفة، على لسان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في منتدى مستقبل الاستثمار في الرياض سنة 2019. خرج الأمير السعودي وقتها بعد أسابيع من الاختفاء إثر فضيحة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، ليقول إنه لا يود أن يفارق الحياة قبل أن يرى دول الشرق الأوسط في «مقدمة مصاف الأمم» على حد تعبيره، وذلك بأن وصف الشرق الأوسط بأنه أوروبا الجديدة.

بدأت بوادر البحث عن اقتصاد غير نفطي للخليج في إمارة دبي. كان قلق النفط والسلطة يشغل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم الإمارة منذ قيام دولة الإمارات سنة 1971، ورأى الشيخ راشد أن بناء مقومات اقتصادية غير نفطية في دبي هو الضمان الوحيد لحمايتها من نفاد احتياطياتها المحدودة وتغول جارتها الكبرى أبو ظبي عليها. بدأ مشروع دبي الاقتصادي في منتصف الثمانينيات عندما تأسست منطقة جبل علي الحرة التي استضافت 19 شركة في ذلك الوقت، ثم ورث الشيخ محمد مشروع والده منذ صعوده إلى السلطة كولي عهد للإمارة سنة 1995، لتتمدد المنطقة الحرة، وتتأسس موانئ أبو ظبي العالمية، وتشهد المدينة طفرة إنشائية جعلت منها واحدة من أبرز الوجهات السياحية.

اصطدم مشروع دبي بالأزمة المالية العالمية سنة 2008 عندما وجدت الإمارة نفسها غارقة في الديون، بينما رأى ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في أزمة الشقيقة اللدود فرصة لبسط الهيمنة الناعمة عليها، فقدمت أبو ظبي حزمة إنقاذ اقتصادي بقيمة 10 مليارات دولار، حسمت بها أبو ظبي هيمنتها على الدولة، خاصة بعد وفاة الشيخ صقر بن محمد القاسمي، حاكم رأس الخيمة وأحد الأمراء المؤسسين للدولة.

لم يكن المشروع الاقتصادي بالنسبة إلى محمد بن زايد مجرد طموح تنموي، وإنما فرصة سياسية لمركزة السلطة في دولة اتسمت منذ نشأتها بتقاسم السلطة بين مكوناتها، وبينما تمتع الوالد المؤسس بشرعية عرفية اكتسبها عبر روابطه الشخصية مع حكام الإمارات، فإن الابن كان بحاجة ماسة إلى إعادة تأسيس الدولة والحكم على طراز جديد يتسم بمركزية السلطة التي تبررها الكفاءة الاقتصادية. تحولت الفرصة السياسية إلى ضرورة وجودية بعد الثورات العربية سنة 2011 التي نظر إليها حكام الخليج، خاصة من الجيل الثاني المتطلع إلى وراثة السلطة، بوصفها تهديدًا مباشرًا لحكمهم، وبالتوازي مع الانخراط الإماراتي النشيط في مكافحة الثورات العربية والقوى الإسلامية والراديكالية، واصل المشروع الاقتصادي للدولة نموه على مسارين، الأول هو مشروع دبي الذي تواصل بنجاح بعد أزمة 2008، والثاني هو مشروع أبو ظبي الاستثماري الذي أمّن لأبو ظبي نموها الاقتصادي من جهة، وأمن لها اقتصادًا سياسيًّا إقليميًّا يخدم أجندتها السياسية من جهة أخرى.

في إبريل 2015، صعد الأمير السعودي محمد بن سلمان إلى السلطة عبر منصب اُستُحِدثَ له خصوصًا كوليٍّ لوليِّ العهد. عبَّر استحداث المنصب عن أزمة الوراثة وإعادة التأسيس التي تعانيها الإمارات الخليجية، وعَبْر خمس سنوات، خاض الأمير الطموح والغِرّ معارك إثبات الذات مع الجميع، بدأها بحملته على اليمن في 2015 قبل أن يتورط في سلسلة من القرارات العنترية الفاشلة، كحصار قطر واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وصولًا إلى كارثة اغتيال جمال خاشقجي. بحلول 2020، وجد الأمير السعودي مساعيه وقد خابت، باستثناء نجاحه في مركزة السلطة في السعودية والتخلص من المنافسين المحتملين بعد التخلص من محمد بن نايف وليالي السكاكين الطويلة في الريتز كارلتون. وكان على الأمير في هذا الوقت أن يذهب إلى الاقتصاد لبناء شرعية التأسيس الثاني والوراثة.

كان التحديث الاقتصادي إذن جزءًا من مشروع مركزة السلطة والتأسيس الثاني في السعودية والإمارات، أما الجزء الثاني فقد تمثَّل بوضوح في توثيق عُرَى العلاقات مع الولايات المتحدة. لقد تشكل وعي جيل الوراثة من أمراء الخليج العربي عبر عدة محطات تاريخية كان على رأسها غزو الكويت سنة 1990، ورأى الأمراء الشباب بوضوح أن استقرار عروشهم رهين بالحماية الأمريكية، كما رأوا في سلسلة الأحداث الممتدة بين الحادي عشر من سبتمبر وغزو العراق والثورات العربية أدلة واضحة على أن احتواء المشاريع الراديكالية في الإقليم ورعاية أنظمة محافظة في بلدان المشرق العربي، هي شروط للاستقرار السياسي في الخليج.

بنى محمد بن سلمان ومحمد بن زايد علاقتهما بدونالد ترامب على هذا الأساس بعد تجربة مريرة مع باراك أوباما. فقد رأت السعودية في امتناع أوباما عن التدخل في مواجهة النفوذ الإيراني الذي يتهدد السعودية في لبنان وسوريا واليمن، وتوقيع الاتفاق النووي سنة 2015 دون أي شروط تتعلق بأمن الخليج، خيانة أمريكية لا يجب السماح بتكرارها، ما دفع الأميرين الخليجيين إلى الاستثمار بكثافة في حملة المرشح الجمهوري المغمور والمغامر دونالد ترامب سنة 2016. كشفت تحقيقات وزارة العدل الأمريكية أن مسؤولين من أبو ظبي والرياض قد مررا ملايين الدولارات بصورة غير قانونية لحملة ترامب، وقد بلغت قيمة الدعم الإماراتي وفقًا لشهادة رجل الأعمال أحمد الخواجة 200 مليون دولار، وهو ما يعادل نصف ما جمعته الحملة بشكل رسمي.

خلال الأشهر الأولى من ولاية ترامب، قرر الأميران الخليجيان خوض مغامرتهما الكبرى الثانية بعد حرب اليمن، وهي حصار قطر، لكنهما فوجئا بأن الولايات المتحدة في ظل ترامب لم تَنحَز إليهما، واختارت المؤسسات الأمريكية موقفًا شبه محايد في الصراع بين الفرقاء الخليجيين. وكان قد أصبح واضحًا بالنسبة إلى الإمارات على الأقل، أن علاقتها بالولايات المتحدة ونفوذها الإقليمي لا يمكن ضمانه إلا عبر بوابة التحالف مع إسرائيل، وليس مجرد التطبيع معها، وهو ما تم الإعلان عنه سنة 2020 بعد أن كان قد نشأ وتوثق بالفعل على مدى سنوات. أما قطر، فقد انضمت إلى جارتيها في مشروع الاستثمار في العلاقة مع الإدارات الأمريكية، لكنها بقيت أكثر ميلًا إلى الإدارات الديمقراطية، كما بدا في الخدمات التي قدمتها إلى إدارة بايدن أثناء الانسحاب من أفغانستان.

تمثِّل الطائرة القطرية رشوة تقليدية هدفها دفع الأذى المحتمل من شخص هوائي كترامب. الإمارات تحافظ على إيمانها الكامل بالحليف الإسرائيلي. أما السعودية فهي من يواصل الاستثمار في ترامب حتى في ظل حكم الديمقراطيين. في فبراير 2024 مثلًا، قدمت السعودية استثمارًا بقمية 2 مليار دولار في شركة جاريد كوشنر صهر دونالد ترامب، وذلك حتى قبل أن ترتفع أسهم دونالد ترامب في الانتخابات.

بالعودة إلى الحلم الاقتصادي السعودي الإماراتي، أو حلم بيريز إذا شئنا احترام حقوق الملكية الفكرية، فإن ما يجري إلى الآن لا يبدو مبشرًا. يظل المشروع الإماراتي إلى اليوم أقرب إلى صندوق استثمار كبير يبحث عن مراكمة الثروة دون أن تنشأ حوله بالضرورة شبكات إقليمية من شأنها أن تحول المنطقة إلى مركز اقتصادي عالمي وفقًا لحلم بيريز.

أما السعودية التي تقول رؤيتها لـ 2030 إنها تسعى إلى أن تبلغ نسبة الصادرات غير النفطية نصف الناتج المحلي الإجمالي، فإنها حتى 2023 تظل دون نسبة 20٪، ويواجه هذا المستهدَف تحديات ديموغرافية واضحة، كما تشهد السعودية منذ 2016 نموًّا واضحًا في نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي التي بلغت أخيرًا نحو 30٪، ويبقى الجانب الأنجح في المشروع السعودي إلى اليوم هو صندوق الاستثمارات العامة الذي تخطت أصوله حاجز التريليون دولار، أي إن المشروع يبقى أقرب إلى مشروع لاستثمار الفوائض النفطية منه إلى مشروع لتغيير الوجه الاقتصادي للمنطقة.

أما على صعيد الاستثمار السعودي في دونالد ترامب، فإن هذا الاستثمار يبقى محدودًا إلى اليوم. المسألة ليست حجم الاستثمارات المبالَغ فيه التي جرى الإعلان عنها بينما يؤكد الخبراء أنها مذكرات تفاهم لن يتم تنفيذ أغلبها على الأرجح، وإنما المسألة هي في ضعف المقابل الذي يقدمه دونالد ترامب إلى السعودية والخليج إلى الآن. لقد سعت السعودية منذ وقت طويل إلى الحصول على مشروع نووي سلمي، وهو أمر لا يفترض أن يشكل مطلبًا صعبًا بالنظر إلى أن لدى مصر مثلًا من الناحية النظرية مشروعًا نوويًّا سلميًّا. كان من المنتظر أيضًا أن تحصل السعودية على ضمانة دفاعية معينة من الولايات المتحدة، أو أن تقدم الولايات المتحدة إليها سلاحًا نوعيًّا من طراز المقاتلة F-35، لكن من الواضح إلى الآن أن إدارة ترامب لا تنوي منح السعودية أيًّا من ذلك، على الأقل قبل الحصول على موافقة إسرائيلية من المرجح أنها لن تأتي، بالنظر إلى أن إسرائيل لم توافق على منح حليفتها الأقرب إليها في الإقليم، الإمارات، نفس تلك المقاتلة.

ربما نجح أمراء جيل الوراثة في الخليج في إعادة التأسيس عبر مركزة السلطة، كما حققوا نجاحات استثمارية ضخمة يمكن تقديرها بقيمة الأصول المدارة من قبل الصناديق الاستثمارية لكل من السعودية والإمارات، لكن مشروع الشرق الأوسط الجديد كمركز اقتصادي عالمي، يبدو إلى الآن حلمًا بعيد المنال بالنسبة إلى الحكومتين، وتبقى صلاتهما بالولايات المتحدة مجالًا لتقلبات الإدارات الأمريكية ومدى الرضا الإسرائيلي عنهما.