مراجعات

منى أبو النصر

«بساتين البصرة».. أحلام تستيقظ على يأس

2021.04.01

«بساتين البصرة».. أحلام تستيقظ على يأس

في روايتها الجديدة تستدرج الكاتبة والروائية منصورة عز الدين أبطالها من عوالم مترامية الأطراف: من سطور أوراق قديمة، ومجالس الفلسفة في زمن الحسن البصري، ولوحات مارك شاجال، تستدعيهم وتؤسس بينهم روابط تقمص روحية، في لعبة تستحضر بها فلسفة تناسخ الأرواح على مدار الزمن وميثيولوجياتها الضاربة في أغلب ثقافات العالم، وقامت بتوظيفها في الرواية كحيلة فنية أرادت بها سبر أغوار شخصياتها، وتحديدًا بطلها الرئيسي "هشام خطاب"؛ الذي تتوزع شذرات روحه بين القرن الحادي والعشرين والقرن الثاني الهجري، فاخترعت أزمنة، وأمكنة، وأصوات تنبش في التراث، والتاريخ، جميعها توقد جذوة أسئلة الرواية: هل تتناسخ الأرواح لتكتمل؟ وهل يتسع مكان واحد لموطن أرواحنا؟ 

تصعد الرواية بالقارئ، منذ عتبتها الأولى، درج الأحلام، والصور الشعرية، فيستهل السرد بصوت راوٍ يُخبرنا "بالأمس أكلت قمرًا" في عبارة ربما تُحيلنا لمطلع قصيدة هايكو مُنفتحة على الصور المُكثفة وظلال مشاعرها ، فالراوي من اللحظة الأولى يُطلعنا على سر من أسراره، فهو أسير عالم يرى فيه ذاته تأكل قمرًا، تتلون سماؤه بمسحات تركوازية أحيانًا، يتتطلع لتلاشي ضوء حياته مع القمر المأكول، في تنقل بين قمة الشعرية للكابوسية وفوضوية الحواس، فصوته يشي بغرق ذاته في واقع لا يخصها وتعلقها بواقع لا يعرف أحد عنه شيئًا غيره، في دائرة حسيَّة تجعلنا نستسلم مبكرًا لحكاية بطل الرواية الذي يُخبره القمر بالكثير. 

على الرغم من أن الأحلام في "بساتين البصرة" لها موضع مركزي، إلا أنها ليست في حد ذاتها سوى وسيلة لإنشاء وبناء عالم السرد، فالحدود الصارمة بين الواقع والأحلام والخيال والسحرية ليس لها مكان في قاموس منصورة عز الدين، كما يُخبرنا مشروعها الأدبي سواء في الرواية أو القصة القصيرة؛ فالرواية تنهض على ذكر حلم عابر في كتاب الأحلام لابن سيرين، تجعل بطل روايتها يتقمص هذا الحلم وينفذ منه إلى حياة موازية في التاريخ، ليُصدق أن روحه ما هي إلا امتداد لروح أخرى عاشت في البصرة القديمة تتنقل داخل مجلس الإمام الحسن البصري وأسواق المدينة القديمة ودروبها، في لعبة "تناسخ الأرواح" التي تُفسح للكتابة حرية الترحال في الزمان والمكان، جاعلة من الرواية مسرحًا مُتنقلاً يسعى ما بين قرن غابر وقرننا المعاصر، تدعمها حالة حركية خاصة للسرد عبر تقنية تعدد الرواة، فأحداث الرواية تجري على لسان أكثر من شخصية، فتتفرع خطوط الحكي وتتقاطع، كمنمنمات تستجلي المعاني وتستنطقها.

منطقة "البين بين"

على الرغم من أن الرواية تفتتح سردها على لسان البطل، إلا أنه يُطلعنا على اسمه بعد أن يكون قد فاض في وصف بواطن مشاعره حيال الحياة والوجود، فيقول عن نفسه إنه "مُتلصص على العالم"، وإنه "كائن ورقي"، ثم "ذاتي المتجمدة"، و"ذاتي العتيقة"، وهي أوصاف تجعل ملامحه الشعورية تطغى على أهمية اسمه، فقد أطلع القارئ تقريبًا على أزمات ذاته الكبرى، فبطل الرواية مُنقسم بين هويتين، الأولى يبدو أنه يهرب منها بعقل تعتمره الأحلام، والثانية هوية يعيشها بكل كيانه، داخل ماضٍ يثق في أنه عاشه من قبل، عبر به داخل حدود مدينة الأئمة واللغة والبساتين، وهي مدينة البصرة القديمة التي يقول إنها "ماثلة في ذاكرتي أينما توجهت، وها هي الآن حاضرة في مخيلتي كطلل مختال يأبى الاختفاء أو السطوع، مُفضلاً البقاء في منطقة البين بين" ولعل مصطلح "منطقة البين بين" تكثيف لجوهر المكان الذي تبحث الرواية في برزخه عن أسئلتها المؤرقة، تلك المنطقة القابعة بين الخيال والواقع، و بين الورق والبشر، منطقة تكتنز سحرًا لا يمكن مجاراته سوى ببناء مُحكم ولغة وصفية وشعرية خاصة، وهما ما تحققا في الرواية بشكل يجعل الولوج لمنطقة "البين بين" أقرب للرحلة في بساتين الذاكرة.

أوله يأس

تؤسس الرواية حبكتها الرئيسية على تفسير ورد في كتاب الإمام محمد بن سيرين، وفيه حُكى أن رجلاً أتى الحسن البصري فقال له: "رأيت البارحة كأن الملائكة نزلت من السماء تلتقط الياسمين من البصرة. فاسترجع الحسن وقال: ذهب علماء البصرة. وقد قيل إن الياسمين يدل على الهم والحزن لأن أول اسمه يأس"، التقطت منصورة عز الدين خيط هذا التأويل ووضعت بطلها محل رواي الحلم المجهول المذكور في كتاب الأحلام التراثي، وشيَّدت على أطلال هذا الحلم المنسي عالمًا لبطلها الذي تخيلته بشحمه ولحمه وجعلته يقود السرد بقوة المُخيلة التي وصلت به لمجلس الإمام الحسن البصري، فتخيلت أن بطلها هو من رأى تلك الرؤيا التي وردت في كتاب الأحلام لابن سيرين، وجعلته يتقمص حتى ذنب تأويل الحسن البصري للحلم بذهاب علماء البصرة، في نكزة رثائية تسكن أصداء الرواية، ثم ما يلبث أن يرى نفسه روحًا عتيقة باسم "يزيد بن أبيه"، وأنه يعيش في عالم البصرة القديمة، ويلتحق بمجالس العلم لشيخه الحسن البصري، ويُحب ويتزوج، عالم كامل يتقاطع مع عالمه المعاصر كـ"هشام خطاب" بائع الكتب القديمة، المُحبط على الدوام، الغارق في لعنة "البين بين"، ينتزع هُويته من هوامش الأحلام، غير أنه واعٍ لهذا التشرذم الذي يستلب عقله، ولكنه أيضًا يُشبع فلسفته الذاتية عن الحياة والمكان، التي تضعها منصورة عز الدين على لسانه في واحدة من جمل الرواية الأثيرة "في لحظات شكي، أذكر نفسي بأنني لم أزرها قط، لم أخطُ في شوراعها، ولم أقترب من سكة المربد، أو أعم برؤية بساتينها وأفقها ولا أعرف حتى إن كانت عامرة بالياسمين أم لا! غير أني أعود ليقيني بأن الزمن سيّال والمكان وهم. مكاننا الحقيقي موطن أرواحنا، وروحي عالقة هناك في المدينة القديمة قبل خرابها اللاحق في ثورة الزنج".

فأمام بطل الرواية "هشام خطاب" أو "يزيد ابن أبيه" يمكننا استحضار مقولة الروائي الأرجنتيني إرنستو ساباتو الذي ذهب إلى أن الإنسان عندما يحلم يكون شاعرًا فذًا، وما أن يصحو من الحلم حتى يعود مجرد مخلوق بسيط، فالبطل هشام خطاب مخلوق بسيط غارق في الشعور بعدم التحقق، وفقد الهوية، ولكنه في أحلامه وياسمينه وأقماره يتحوَّل لروح شاعر، يهيم ويُحلق في شخصية ورقية من حروف تفسير ابن سيرين، يتخيل نفسه صاحب الرؤيا التي منحه البصري تأويلها وهو بروح يزيد ابن أبيه، أما على أرض الواقع فهو مُتخبط في إحباطاته الذاتية، لا تنتشله منها سوى رائحة ياسمين خفيفة تتهادى وتلفه وتحمله من عالمه الدفين لعالمه العتيق "أشعر كأنني في حفرة، مغطى بطبقات من التراب وسط ظلمة حالكة يتخللها الشذى المؤرق للياسمين".

غطاء التاريخ

تنفذ الرواية لعالم البصرة القديم عبر مشهد مفصلي في تاريخ تراث الفلسفة الإسلامية، فالروح العتيقة للبطل تطأ مجلس الحسن البصري في لحظة اعتزال "واصل بن عطاء" لمجلسه، يسمع الشيخ الحسن يقول بقلب ثقيل "اعتزلنا واصل"، مشيرًا للجدل الناجم عن خلافهما الشهير الذي لايزال الفلاسفة وباحثو التراث إلى اليوم يعدونه أحد أبرز لحظات الشقاق في التراث الإسلامي، بعد أن يختلف واصل بن عطاء مع شيخه البصري حول منزلة مرتكب الكبائر التي وضعها في منزلة بين منزلتين (الكفر والإيمان)، وبعد هذا الاعتزال تبعه فريق كوّن الحلقة الأولى لمذهب المعتزلة، ما يجعل الرواية تُلامس لحظة مفصلية في تراث المعتزلة، بما يجعل يزيد ابن أبيه المُغرم بمجالس العلم يتتبع شخص واصل بن عطاء، الذي منحه السرد صوتًا كراوٍ يتحدث عن نفسه، فاستدرجت الروائية صوته الهادئ بهويته التاريخية المعروفة، ولكن في توظيف يتسق مع خيالها الروائي وشخصياتها المُتخيلة، وصنعت على هامش مجالس العلم في هذه الفترة شخصيات مُتخيلة أبرزها شخصية "مالك بن عدي النساخ" الذي يرتبط به "يزيد بن أبيه" بصداقة من نوع خاص تنتهي بخيانته، لتُشكل تلك الخيانة ميراثًا عميقًا لشعوره بالخذلان الذي يرقد في بواطن عقل وروح يزيد أو هشام خطاب، وتُفسر تلقيه لمعطيات حياته المعاصرة بتلك المشاعر، وهو ما نتلمسه في علاقته بالفتاة التي يُعجب بها ولكنه سرعان ما يفشل في بناء علاقة عاطفية معها، التي يراها للوهلة الأولى تُشبه طيفًا من زوجة "شاجال" بشعرها القصير التي تظهر في كثير من لوحاته، فيحلو له تشبيهه بها ويطلق عليها "بيلا"، على اسم بيلا روزنفيلد زوجة شاجال، وهنا أيضًا، وحتى الحب، يستبطنه البطل من مرايا الخيال.

صوت الموروث الشعبي

في ظهور ربما يبدو هامشيًّا، وظيفته الأولى تسليط مزيد من الضوء على لغز "هشام خطاب" الإنساني والروحي، مرَّت الرواية على ذكر والده، الهائم على وجهه، السارح منتشيًا بإنشاد السيرة الهلالية، يتنقل خلف منشديها في القرى والنجوع المجاورة، ليترك هشام وأمه في فقر وعوز دائمين، يجعلها في نار وغضب من هذا الزوج، وهذه الحياة التي تركها لها ولابنهما، تعود تُقلب في ذاكرتها تفتش عن سبب أو تفسير لما وصل له حالها، تسرح في أيام طفولتها تتمنى لو تعود بها لذلك اليوم الذي سقطت فيه أرضًا وتعثرت فانفرط عقد الكهرمان الذي ورثته عن جدتها، فانفرطت حباته، تمنت لو يعود اليوم فتعود بالحبات وتلضمها من جديد، فالعقد كما علمت لاحقًا، تميمة للحظ والخصوبة، وظلّت مؤمنة أن انقطاعه يعني عثرة ما، وفي مرة أخرى تتجاهل وصية أمها بترك سُرة ابنها "هشام" لدى صائغ جلبًا للثروة، وتُلقي بها في المقابل في النيل، تُقنع نفسها أن ما فعلته كان سببًا في حرمان ابنها نعمة الاستقرار، تلوم نفسها لأن سريان النهر الدائم من المنبع للمصب حرم ابنها تلك النعمة، وأورثه حيرة وربما ميل للضياع كوالده، هذا الموروث والإيمان بالموروثات النابعة من الصعيد، يضع السرد أمام مزيد من الاحتمالات، ويمنحه ضلعًا جديدًا للامعقولية، فهل هذا الضياع الذي يعصف بهشام خطاب ويجعله مُعلقًا بين تاريخين وهويتين وحياتين سببه أن أمه ألقت بسرته بعد ولادته في النيل! هل يمكن ترجمة ما آلت إليه حياته من ضياع بسبب لعنة تسببت فيها أمه لجهلها بما يقول الموروث؟ هل ورث من والده الشرود وراء افتتانه بفن الحكي، حتى ولو لم يكن حكي الهلالية، إنما حكي مجالس علماء البصرة، كلاهما "هشام وأبيه" لم يسع المكان شغف أرواحهما الهائمة واللاهثة وراء الحكايا.

فظهور الأم والأب في الرواية يتلمس الوصول لجذور تنشئة البطل أو تفسيرات "جينية" لأسباب جموحه العقلي، وكذلك الحال بالنسبة لإشارة الرواية إلى حكاية تخرجه في كلية العلوم واصطدامه بالواقع المرير في سوق العمل بين جيوش من العاطلين، فيُرشحه اهتمامه المتنامي بالكتب القديمة أن يصبح بائعًا في سوق الأزبكية للكتب القديمة "بدت مقبرة مثالية لدفن إحباطي وشعوري بالخيبة واللاجدوى"، تصنع منصورة عز الدين مُقاربة ذاتية تتلمس التاريخ، وهي تربط بين ذلك الإحباط الذي يشعر به البطل المهجوس بالكتب، وهو يستدعي ذكرى حرق "أبي حيَّان التوحيدي" لكتبه كلها، بعد أن اضطره الفقر إلى أكل حشائش وأعشاب الطريق كي يسد جوعه، تصنع مشهدًا بخيال هشام خطاب يستدعي به التوحيدي للحياة، وتمنح الكاتبة به ما يشبه مرثية لمصير أبي حيان المعروف بفليسوف الأدباء وأديب الفلاسفة "أتخيله وقد عاد يومًا إلى سكنه المتواضع ليجد مؤلفاته في مواجهته، فيحرقها يأسًا ونقمة لأن جيلاً يترك مثله جائعًا معوزًا غير جدير بما خطّه من كنوز". 

نزهة في اللغة

في البصرة القديمة حيث "بساتين اللغة" يجد النص براحه الخاص في بلاغة اللغة وجمالياتها بصورة لا يمكن تفادي سطوعها، فاللغة تختال في الرواية، تنثال بخفة بين العصور، وتستمد بصمتها الخاصة على لسان كل شخصية على حدة، باختلاف خصائصها الثقافية والاجتماعية والإنسانية، فالتنويعات اللغوية في الرواية تُحاكي خصوصية مدينة البصرة التراثية، بما في ذلك المهن الدارجة في ذلك العصر، وأسماء الشخصيات، مرورًا باللغة الشعرية التي تجري على لسان بطل الرواية هشام خطاب المهجوس بالكتب والتراث.

ففي المقاطع التي تدور في فضاء البصرة القديمة تتألق اللغة بفصاحتها كما يليق بأهل العلم والفلسفة ومن عايشوا عصرها الذهبي، على جانب آخر هناك ثمة استفادة لغوية من العامية والأغنية والأمثال الشعبية، فتتسلل العامية في مشاهد الأم "ليلى" التي تهيم وراء ذكريات طفولتها فتُناوشها مطلع أغنية فولكلورية توقظ بها حياتها القديمة "يا أنا ولا زيّي، زي القمر.. يا أنا ويتمشى في ضيّي"، فاللغة تتهادى بتنوع التراث ومراحله في كل من زمني الرواية، فالمونولوج الذي يسود الرواية كواحد من تياراتها يُطوّع اللغة وجمالياتها لصالحه وصالح أبطاله، وكذلك تقتبس منصورة عز الدين من بحور الشعر العربي على مدى تاريخه، ليس فقط كشغف شخصي لدى الكاتبة أو كـ"حليات" وزخارف للنص، بقدر ما تُضفي عبر الشعر مسحة توثيقية إنسانية لشخصياتها، وتجليات مشاعرهم و أزماتهم، كما ظهر في شعر "امرئ القيس" و"زهير بن سلمى" وصولاً لأمل دنقل الذي يستدعيه هشام خطاب وهو يستشعر مرار الخيانة التي سبق وطعنته بها زوجته المُتخيلة في زمنه البصري ، يتساءل هل خيانتها له سبب نفوره من بنات جنسها في زمنه المعاصر الذي يعيشه، يتساءل بلسان دنقلي أنهكه الحذر: هل كانت "رفسة من فرس، تركت في جبيني شجًّا، وعلمت القلب أن يحترس"؟

وفي ورطة عاطفية أخرى نرى صديقه في عالمه القديم "مالك بن عدي النساخ" يبكي موت زوجة يزيد بن أبيه، التي خانه معها، وفي ذات الوقت يبكي خيانته لصديقه، يتذكر تاريخه الطويل من محاولة التكفير عن ذنبه هذا دون شعور بالتخفف، في مشهد وجدت الكاتبة أن تمنحه صوتًا يليق بالرثاء، والندم، واليأس فأعارته صوت زهير بن سلمى ليقول من شعره "سئمت تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم" بيت قاله زهير يشكو العمر الطويل الذي شعر تجاهه بالضجر والملل. ويُجاور صوت زهير بن سلمى الشجي صوتًا ينثال من مذياع قديم لمحمد فوزي سارحًا في مجال السرد "تملي في قلبي يا حبيبي"، تلك المجاورة الصوتية بين فوزي وزهير، على سبيل المثال، تمنح للعبة الصدى في الرواية بطولة استثنائية، صدى الحياة والتجربة التي يُنبتها الفن في مجرى الزمن "السيّال".