فنون
حسام الخولي«لا يوجد شيطان».. السينما الإيرانية تحلق بعيدًا
2021.08.01
«لا يوجد شيطان».. السينما الإيرانية تحلق بعيدًا
في بداية السبعينيات قدم مخرجون إيرانيون مثل داريوش ميهروجي ومسعود قيامي وسهراب شاهد ساليس وبهرام بياظي ما يمكن أن يرسِّخ بداية وجود لافت للسينما الإيرانية لكن سرعان ما انهارت محاولات التأسيس تلك مع دخول الثمانينيات وصعود الحكم الإسلامي والثورة في عام 1979، فحُرقت نصف دور العرض السينمائية آنذاك، وهذا ما ستنتج إرهاصاته الصورة السينمائية بعدها، ثم عادت في الظهور رويدًا رويدًا، مع عباس كياروستامي ومجيد مجيدي ومحسن مخملباف، وانطلقت إلى عالميتها في العرض والجوائز حديثًا؛ في بداية الولاية الرئاسية الأولى من رئاسة زعيم تيَّار الإصلاح، الرئيس محمد خاتمي التي امتدت من أواخر التسعينيات حتى عام 2001 حصل المثقَّفون المحسوبون على هذا الجناح والذين كانوا يهتمون بالنظرية السياسية على حرية أكبر من سابقيهم. ثم في ولايته الثانية التي امتدت حتى عام 2005 أيضًا، وفي عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد منذ عام 2005 كان مصير معظمهم مثل مصير الكتَّاب والشعراء غير التابعين للحكومة، فاز نجاد في الانتخابات الرئاسية مرتين بفضل أصوات المواطنين ذوي الدخل المحدود في المدن والقرى الذين يشكِّلون غالبية السكَّان. وكانت سياسته تتميَّز بمحاولته الحدّ من سلطة رجال الدين الشيعة وسلطة المرشد الأعلى وكذلك بتشديد الرقابة في الوقت نفسه على الكتَّاب والشعراء المستقلين. انخرط الفنان الإيراني مع المجتمع وهو يعلم مدى التضييق الذي سيلاقيه فنه، ما أنتج كتابة وسينما أكثر تعقيدًا وتركيبًا وإلهامًا عامًا.
سرد تاريخي سريع لمسيرة إيران السينمائية
موقع إيران وضعها منذ بداية عهدها كمفترق طرق "ثقافي" بين الشرق والغرب، خطر منذ وقع نصر الدين شاه سليل عائلة قاجار المالكة في غرام الفوتوغرافيا التي شاهدها خلال سفره للغرب، وتعلم كيف يلتقط الصور وفتنته تمامًا، ورغم نفور رجال الدين أحضرها إلى القصر، وسرعان ما دخلت السينما بعد اغتياله وتولي مظفر الدين شاه الذي كان دائمًا ما يصطحب معه "أكاباشي" أي مصور في رحلاته إلى أوروبا التي عاد في واحدة منها معه سينماتوجرافي مفتون به، بدأت السينما في إيران أرستقراطية تخص البلاط الملكي ويرفضها رجال الدين ولا يستطيع الفقراء رؤيتها، الآن يحكم رجال الدين يرفضونها كعادتهم، بينما أصبحت الملاذ الآمن لطبقات الشعب المتوسطة والدنيا لعرض معاناتهم الداخلية والنفسية.
مع بداية الحرب العالمية الأولى ظهرت السينما الإيرانية والعالمية معها كوسيلة للأخبار، ومع دخول ثلاثينيات القرن المنصرم ظهرت فكرة الرقابة، وكان "على أصحاب دور العرض الحصول قبل عرض الفيلم على تصريح. وأي جزء يعتبره المجلس معارضًا للآداب واللياقة الاجتماعية سوف يحذف". وقد ظهر ذلك تزامنًا مع عرض أول الأفلام التسجيلية "العشب" كأقدم فيلم تسجيلي إيراني عن عادات الترحال لأحد القبائل الذي كان أكثر تداخلاً آنذاك من غيره مع الواقع الاجتماعي والثقافي والديني الإيراني، كما يحكي كتاب "السينما الإيرانية، تاريخ سياسي" لحامد أحمد رضا الذي ترجمه أحمد يوسف عن المركز القومي للترجمة.
في الأربعينيات غرقت سينما إيران دون إنتاج شيء يذكر، ومع الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك احتاج العالم عمومًا لـ"مصنع أحلام" خيالي ينسيه واقعه ووجد ضالته في السينما، وكانت إيران مثل العالم تريد ذلك، فمع الخمسينيات ونهاية الحرب استيقظت سينما إيران رويدًا رويدًا مع المخرج والمنتج إسماعيل كوشان وغيره، وظهرت السينما التجارية التي استغلت على سبيل المثال المرأة واللعب على موتيفات الدعارة باعتباره المرأة نموذج كلاسيكي للتلاعب والخيانة والنجاح التجاري، تحوَّلت تلك النظرة السينمائية للمرأة مع زيادة المتعلمين المتابعين للسينما في الداخل إلى مركزية وجودها وأهميتها كحامية وأمٍ رؤوم. وقتها أيضًا أغرى عرض الفيلم التسجيلي "بيت الله" الذي عرض طريق حج المسلمين إلى مكة السعودية بفائدة وجود الصورة السينمائية غير المستغلة. وافتتحت بعضهم دار عرض خصيصًا لعرض الفيلم لكنها لم تستمر، وهاجم المتطرفون منهم أيضًا الدار وأحرقوها. ثم في خمس دور عرض غيرها. وكانت النقطة الفاصلة في معرفة مدى الكراهية التي يكنُّها رجال الدين للسينما عمومًا.
في السبعينيات عبَّر فيلم "الغزلان" على سبيل المثال عن الواقع الإيراني آنذاك؛ صراعات سياسية ونضال مسلح وانتشار للشرطة وانقسام حاد بين الطبقات وإدمان العديد من الشباب للمخدرات ومجتمع سينفجر قريبًا لا محالة وهو ما حدث في نهاية العقد. ومع هذه حقبة الثورة، أحرقت ما يزيد عن 125 دار عرض سينمائي، وظهرت فترة "غامضة" انقسمت إلى سياقين؛ أحدهما يعتمد على التفسيرات العديدة للمؤرخين والمراقبين، والثاني لعلماء الاجتماع الذين حاولوا وصف وتحليل المجتمع وقيمه وسماته من خلال مشكلاته المعاصرة. ووقتها جرمت الأفلام التي تهاجم مبادئ الإسلام والدستور والملك وعائلته والتقاليد وما يبعث على الصخب والنساء العاريات وما يفسد الروح المعنوية للجمهور وعدم اللجوء إلى الأفلام التي تتحدث عن الفقر لعدم عرض صورة "مخزية" لإيران وغيرها. في بداية الفترة جاءت أفلامها غالبًا بأبطال يشبهون أبطال المخرج والكاتب محمد رسولوف؛ البطل يتكلم قليلاً، أفعاله تعبِّر عنه، يمارس أفعالاً لا تعود على أحد غيره بمنفعة إن لم تُحدث ضررًا، أبطال في الغالب من متابعتهم يعيشون في السينما كما في الحقيقة، يرون أن ثمة سجنًا كبيرًا يحتجز الجميع.
"أنا حزين إذ أشعر أنني أواجه أناسًا يتجاهلون قناع حزب الله والدين المبادئ الأكثر تقديسًا في الإسلام، بعد كل هذا الصخب، من ذلك الذي يجرؤ على أن يصنع فيلمًا؟". وزير الإرشاد الإيراني آنذاك مهدي خاه.
نضجت السينما مع الثورة أكثر من أي وقت آخر، وأسست مسارًا مخالفًا لنظرة الغرب للداخل الإيراني كما مدّد المخرج المستقل عن الدولة في الداخل نظرة أكثر تشابكًا واغترابًا عن الواقع المأزوم الذي يعيشه، أعتقد أنه عاشت تلك النظرة المركبة سينمائيًا -إلى الآن حتى- وحازت اهتمامًا أكبر لصدقها وآلامها الواعية بذاتها أكثر على ما يبدو وأوصلتها للعالمية، خرجت موضوعات السينما من رحم قضايا دينية حالمة منبعها سياسي مضمَّن على وجوه الأبطال "الأطفال" في الغالب، الذين قدموا ذاتًا جديدة لواقع ما بعد الثورة.
مشروع رسولوف كفلسفة متجاوزة للداخل الإيراني
في مرور سريع على مسيرة محمد رسولوف ومشروعه الأصيل الذي تحوطه الفلسفة مكتوبة ومصوَّرة نجد ترابطًا لافتًا بين السياق الشخصي والعام الإيراني؛ في أول أفلامه "الشفق" حكى رسولوف عن بطله "علي رضا شاليكاران" الذي يقضي عقوبة بالسجن بتهمة السرقة، بطل مزعج وشقي يحاول مرارًا الهروب من السجن مما يجعله يرتكب أعمال عنف، بينما يقيم حوارًا مع مأمور السجن، يطرح الأخير القضية التي قد يستقر عليها علي رضا عندما يجد زوجة. تصبح المعضلة الأكبر في خروجه هو الحصول على زوجة، ولكن كيف يجد زوجة وهو محاصر داخل أسوار السجن؟ تقع مهمة إيحاد شريك زواج على عاتق والدة علي رضا المسجونة أيضًا. لقد صادفت امرأة شابة محترمة رغم سجنها بسبب جرائم متعلقة بالمخدرات. هل ستنجح؟ نظرة مثيرة للاهتمام على حدود الحياة في السجن.
أيضًا في فيلم "الوداع" يحكي قصة محامي شاب في طهران يبحث عن تأشيرة لمغادرة البلاد، وهو ما فعله بالضبط المخرج محمد رسولوف في شتاء 2010. وفي موضوع آخر يحكي قصة بعض الفقراء في السواحل الجنوبية لإيران ليس لديهم مكان للعيش، ومن ثَم يقيمون على سفينة قديمة مهجورة في البحر. يحاول الكابتن نعمت، رئيسهم، إقناع مالك السفينة والسلطات الرسمية بعدم استعادة السفينة، ثم من ناحية أخرى، يببيع الأجزاء الحديدية للسفينة قطعة قطعة. فيلم "الجزيرة الحديدية" هي قصة أولئك الذين يجعلهم جهلهم ببساطة يثقون بأولئك المستعدين دائمًا لإساءة استخدام ثقتهم. يحمّلهم رسولوف المسؤولية نوعًا ما، ولا يلقي بها فقط على الظالم الواضح في الصورة وللناس. يرى أن الظلم يتحمله الظالم تمامًا مثل الذي ترك نفسه له ووافق عليه.
أخيرًا في الفيلم الذي تسبب في منعه من الإخراج بعده "رجل نزيه" يقدم دراما عن الفساد والظلم في المجتمع الإيراني. أنت المظلوم أو عليك أن تنضم إلى الظالم لتعيش. بعدها حُكم عليه بالسجن ست سنوات بسبب التصوير دون تصريح، قضى إحداها قبل الإفراج عنه بكفالة، وأعطاه هذا الوقت المستقطع من الحياة خبرة واسعة في النظام القضائي الإيراني. إنها ليست سوى واحدة من المؤسسات العامة الفاسدة التي استُنكرت بغضب في أفلامه خصوصًا في "رجل نزيه" الذي يقدم دراما أخلاقية واجتماعية بطيئة الانطلاق غير مباشرة تكتسب الزخم مع تقدمها، يخوضها البطل لأنه يرفض أن يصبح جزءًا من نظام فاسد، حتى لو كان بعيدًا عن كونه فيلمًا يبعث على الشعور بالرضا، فالموقف مقدم بشكل مقنع للغاية والاستنتاج الذي لا هوادة فيه.
وكلفت درة أعماله وأنضج قصصه الذي حمل فلسفته وإرهاصات مشروعه هذا العام في "لا يوجد شيطان"، أربع حواديت منفصلة متصلة، بها اختلافات في الموضوعات الحاسمة للقوة الأخلاقية وعقوبة الإعدام التي تسأل إلى أي مدى يمكن التعبير عن الحرية الفردية في ظل نظام استبدادي. في الفيلم نشاهد حواديت تتقاطع فكرة الإعدام بينها؛ بطل يعمل كعشماوي منذ سنوات ويمارس حياته، ومجند مجبر على إعدام أحدهم بينما لا يمكنه فعل ذلك، وآخر أعدم أستاذ حبيبته دون أن يدري بالظلم الواقع على الإنسان المظلوم الذي يُعدم.
المونتاج الحاد المحايد الذي يفصل بين قصص الفيلم قد يبرر أكثر أفضلية جزء عن الآخر، وربما وجدت فكرة المخرج ضالتها فنيًّا في أفضل قصص الفيلم التي قدمت في البداية، يفتتح أول المشاهد التي تعقب التترات برجل يخرج من جراج دائري دون أن نرى السائق أو الجراج ندور بأعيننا مع الكاميرا على دورة الحياة التي تبدأ وتنتهي في هذا المحيط الذي سنعلم بعد ذلك أنه مكان عمله الذي يعدم فيه "المذنبون" بشكلٍ يومي. تمضي القصة على وتيرة تدعو للملل على حياته الطبيعية تمامًا؛ يذهب لزوجته بعد العمل ثم لابنته ثم لمساعدة أمه والبقالة كحياة روتينية تمامًا يمارسها كل متزوج. قبل الصدمة المُمهد لها فنيًّا باستيقاظه في الثالثة فجرًا حين يبدأ عمله "المجحف" الذي يحدث في الظلام دائمًا كاللصوص ويذهب لإعدام مجموعة ما لا نعلم عنهم شيء سوى مشاهدة سحب الكرسي من تحت أقدامهم.
شاهدت الفيلم الذي عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي في الدورة 42 ثلاث مرات، مرتان للمشاهدة، وأخرى شاهدت الجزء الأول فقط، في المرات الثلاث لفت نظري البطل الذي لم تتغير ملامح وجهه الكئيب تقريبًا، والذي لا تفارقه نظرته الأخيرة في كل مرة ينفذ فيها الإعدام؛ عندما يحادث زوجته/ ابنته/أمه لم يتغير تجهمه، غير ملتفت لأي شيء كروح متلبسة ميت، يأكل البيتزا الساخنة مع ابنته، بينما تناوله زوجته قطعة من الجُبن ليتناوله، لا ينتظر حتى يفرغ فمه، يلتهم الجبن مع البيتزا وبعض المياه في اللحظة ذاتها ربما غير منتبه لمذاق أي شيء. وصمة العمل الذي يشارك فيه تحيطه دون وعي.
النهاية شديدة القسوة للربع الأول من الفيلم تعوضها النهاية الحالمة للربع الثاني، عندما ينجح البطل في الهرب من السجن وعدم الانصياع لتنفيذ حكم الإعدام، التسليم الذي نشاهده في الكهل الكبير في البداية، يقطعه الشاب الغاضب الذي يخرج عن القانون ويهرب من إيران بعدها، تنتظره حبيبته، وساعده على الهروب زميل فكر قبله لكنه لم يحظ بالقوة ذاتها للتنفيذ، ونراه في اللقطة الأخيرة، هو وحبيبته، في سيارة تتماوج بهما منتشية، رقصة الموت والحياة المجهولة، وصراخ يرفض التفكير في اللحظة القادمة، وكادر يثبت على مدينة هادئة ظاهريًّا فقط، مليئة بالصخب والعويل والمستقبل غير المرحب فيه بالأبرياء.
في النصف الثاني إجمالاً نشاهد نتائج هذه القرارات أكثر مما نرى أفعال لافتة، يخلق ذلك التساؤلات الأكثر عمقًا وفلسفة من المفاجآت التي تُختبر في البداية؛ كيف سنعيش إذا عارضنا ما يمارسه المجتمع كفطرة؟ هل يمكن أن نهرب من واقعنا طوال الوقت؟ ماذا لو لم أشارك فيما ظننته بديهيًّا؟ كيف يستمر النظام دون داعميه الصغار؟
في المشاهد الأخيرة نجد الشاهد الذي أصبح كهلاً الآن يتأمل خلية النحل التي يملكها، دون أي لي للمعنى لا نعلم ما هو أكثر تنظيمًا من مملكة النحل عمومًا، ربما ينظر ويتساءل لو لم يتخذ قراره العنتري بالهروب الذي جعله يهرب من الأمن طوال حياته محرومًا من ابنته ويتسبب في موت زوجته وأشياء أكثر حزنًا، تساؤل مبطن حول مدى انخراطه في دفع ثمن أشياء لم يجن منها سوى الخسارة، هل كان لزامًا أن أعارض شيئًا خارج عن إرادتي؟ مشهد طويل يترك الإجابة لكل مشاهد.
كل مشروع أصيل يحمل من خبرة صاحبه الشخصية، وكل تساؤل فلسفي حقيقي يخرج من معاناة مؤلمة يختبرها السائل قبل بلورة قناعته. تساؤلات المخرج هنا تدل عليه، كما تدل على موقعه وسياقه التاريخي والاجتماعي كفنان يعيش تحت أقبية قمعية في إيران الإسلامية شبه العازلة لأبنائها، المحاطة بالسجن المجازي والحقيقي لكل معارض، الطاردة للفن غير المؤيد لأفكارها، التي تشارك مجنّديها الصغار في حفلات الإعدام التي تتم بشكلٍ يومي على المذنب، وبينما يطرح عدد ليس قليلاً من فناني إيران المقيمين في الداخل والخارج فكرة الحصار مضمّنة في أفكارهم، يسير مشروع رسولوف في خط واحد ممتد، غير ممل، ملهم، يُفلسف فكرة السجن والحصار، ويطرح أسئلتها العديدة دون تدل، ضمن إجابته الشخصية التي تعتقد أن مشاركة الأفراد سواء بوعيهم أو دونه ضمن هذا الحصار/ الشر يجعلهم شركاء لرأس الأفعى الذي يمهد للطريق الوعرة. أن تشارك النظام حماقته دون وعيك فأنت -وفقًا له- شريك في الجريمة. فيلسوف عربي حقيقي يفكر على لحم بطنه، يقضي مخه ساعات للتخطيط في عرض أفكاره المحاصرة في الخيال كما في الحقيقة، ربما لا يجد مجازًا ما يدل عليها أكثر من الحديث عن السجن والمشاركة في إعدام الآخرين، ولا يجد أفضل من تمثيلات حياة المخرج الفيلسوف محمد رسولوف الذي يشارك جيله بمعاناتهم ويجعلون السينما الإيرانية يومًا بعد الآخر تحلِّق بعيدًا.