مراجعات
زكريا صادق الرفاعيدراسة عن قاضي أمريكي في المحاكم المصرية المختلطة
2025.06.22
مصدر الصورة : ويكبيديا
دراسة عن قاضي أمريكي في المحاكم المصرية المختلطة
هذه الدراسة هي رسالة دكتوراة وضعها "بران باركنسون" [1] ، ونال عنها درجة الدكتوراه من جامعة فلوريدا في عام 2005. وعنوان الرسالة الأصلي " القاضي بيير كاربيتيس وديمقراطية البوربون في مصر" [2] .
يعد القاضي "بيير كاربيتيس Pierre Crabitès" (1877-1943) نموذجًا للدبلوماسية والخبرة الأمريكية المبكرة في الشرق الأوسط وربما كان في طليعة الدارسين الأمريكيين لشؤون الشرق الأوسط في مطلع القرن العشرين، وقد جاء إلي مصر قاضيًا في المحاكم المختلطة [3] في عام 1911 وظل لأكثر من ربع قرن حتى رحيله عن مصر في عام 1936، والواقع أن أعمال الرجل وكتاباته الغزيرة والمتنوعة والتي ما زال بعضها مخطوطًا حتى اليوم [4] تجعل من دراسته مدخلًا لا غنى عنه ليس فقط كشاهد عيان على حقبة مهمة في تاريخ مصر وإنما لفهم الاستشراق الأمريكي المبكر ونوازعه تجاه العالم العربي في الوقت ذاته [5] .
وقد ألمح كاتب الدراسة إلى توافر الدراسات خاصة بالفرنسية عن طبيعة ودور المحاكم المختلطة في مصر ومع ذلك فليست هناك دراسات ببلوجرافية يعتد بها عن القضاة الأعضاء بتلك المحاكم وقليل جدًّا ما كُتب عن "بيير كاربيتيس" وهذه الدراسة هي بمثابة دراسة استقصائية عن محطات حياته بصفة عامة دون التعرض تفصيلًا لآرائه وكتاباته، وعُرف عن الرجل أنه بحكم أصوله ونشأته كان جزءًا من التقاليد المحافظة للديمقراطية البوربونية ولعل مَثَله الأعلى في هذا الصدد هو حاكم ولاية نيو أورليانز عن الحزب الديمقراطي "فرنسيس نيقولاس" الذي تم انتخابه في عام 1896 بعد أن سُنت تشريعات قانونية خاصة ضمنت له إزاحة منافسيه من دوائر الحزب الجمهوري، وميز "بيير" بين الثقافة الأنجلو ساكسون الرافض لها وبين الثقافة الأمريكية المدافع عنها باعتبارها جزءًا من هويته الوطنية.
النشأة الأرستقراطية
ولد "بيير" في الحي الفرنسي في نيو أورليانز بولاية لويزيانا لأب فرنسي ثري من المهاجرين الكاثوليك بينما كانت والدته إنجليزية بروتستانتية من فرجينيا وتلقى تعليمه في مدارس الجزويت ثم درس القانون بجامعة تولان ولم يرغب "بيير" في الدراسة بالجامعات البريطانية وفضل الذهاب إلي باريس والالتحاق بالسوربون ودرس على وجه خاص قوانين نابليون المدنية التي اعتبرها أهم انجازات القائد الفرنسي وسعي إلى تطبيقها عندما جاء إلى مصر، وخلال وجوده بباريس تابع "بيير" مثل غيره قضية "دريفوس" [6] وصداها على المجتمع الفرنسي وتأثر بالقضية التي بدت مؤامرة بروتستانتية في نظر كثير من الكاثوليك، كما درس أيضًا بجامعة برلين اللغة الألمانية باعتبارها لغة الصناعة والقوة وقد أجاد "بيير" اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية واليونانية وعقب عودته إلي موطنه عمل بالمحاماة وكانت زوجته على صلة قرابة "بإدوراد وايت" رئيس المحكمة العليا وسرعان ما ضمنت له أسرته الأرستقراطية مقعدًا بالمحاكم المختلطة في مصر بعد موافقة الرئيس الأمريكي "وليم هاورد تافت" [7] (1857-1930) على ترشيحه ليحل محل القاضي الأمريكي المتقاعد "والتر بيري" ولعل اختياره كان دلالة مهمة على أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بات لها صوت مسموع في السياسة المصرية آنذاك.
وقد عُرف عن "بيير" تأييده للديمقراطية والقومية وظل وفيًّا لثقافته المحلية رغم انفتاحه على كثير من الثقافات المختلفة وكان على قناعة بوجوب عزلة أمريكا عن العالم عقب الحرب العالمية الأولى، كما كان مناهضًا للدور السياسي للأمريكين الأفارقة، محذرًا من تفشي الاشتراكية في أوساط السود، فحال سيطرتهم على الولايات الشمالية سيتواصل نفوذهم إلى باقي الولايات الفيدرالية وستكون لهم الهيمنة على النظام القضائي برمته.
الإقامة في القاهرة
عند وصوله إلى القاهرة ومعه أسرته أقام "بيير" بفندق سافوي كونتيننتال أفخم فنادق القاهرة ومحط إقامة الصفوة البريطانية والسياح الأثرياء وهو على مقربة أيضًا من دار الأوبرا المصرية ونادي الجزيرة، وظل مقيمًا به لعشر سنوات وأتاحت له تلك الإقامة لقاء كثير من الدبلوماسيين والقضاة والصحفيين والضباط ومناقشة القضايا المحلية والدولية، وعندما أوشكت الحرب العالمية الأولى على الانتهاء انتقل "بيير" للإقامة في إحدى الفيلات المطلة على شاطئ النيل.
وإبَّان إقامته بمصر أبدي "بيير" تقديره واحترامه للإسلام وصرَّح أنه درس الشرق بعيون أمريكية، فالنيل لديه هو نهر المسيسبي وانتقد سياسة المعايير المزدوجة من قبل الغرب تجاه الشرق، فبدلًا من محاولة فهم ثقافة الشرق كما هي سعى البعض إلى فرض رؤيته وثقافته بالقوة على الآخرين، وبدا انفتاحه على المجتمع المصري فحاول تعلم العربية واستعان بمعلم متقاعد من الأزهر هو الشيخ "منصور نصار" الذي صار صديقه ومرشده أيضًا للتعرف على تعاليم الدين الإسلامي كما أبدى إعجابه بنزعة التسامح بين المسلمين، وحسب رأيه فإن الامبريالية الأوروبية وأطماعها هي التي أدت إلي تواري فكرة التسامح وظهور التطرف الديني واعتبر دائمًا أن القومية المصرية لدى المصريين سمة متميزةً بذاتها عن العرب والإسلام، وعبر مسيرته احتفظ "بيير" بصداقات مع زملائه من القضاة المصريين، منهم: حنا نصرالله باشا، وأحمد شاكر بك، ومحمود الطوير بك، ومصطفى بيرم بك، وكان على قناعة غريبة بأنه باستثناء الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فإن المحاكم المختلطة هي أعظم مؤسسة عالمية.
ومنذ قدومه إلي مصر لم يُخفِ "بيير" رفضه وإدانته للسياسات البريطانية كما لم يكن على وفاق مع السير "وليم برينيت" المستشار القضائي الإنجليزي لوزارة العدل المصرية معتبرًا أن مشروع الأخير حول الإصلاح القضائي في مصر ليس سوى إحلال القانون الإنجليزي محل قوانين نابليون وإفساح الهيمنة في نهاية المطاف للقضاة الإنجليز وحدهم، كما أن "برينيت" هو من عرقل ترشيح "بيير" وترقيته إلى عضوية محكمة الاستئناف.
وقد أدرك "بيير" أن أيامه باتت معدودة في القاهرة بعد توقيع معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا وأن المحاكم المختلطة في طريقها إلى الزوال، وشرع يتلمس طريقه للبحث عن عمل جديد بالخارجية الأمريكية ولكنه لم ينجح في ذلك، وغادر مصر في يونيو من عام 1936 مكتفيًا بوظيفة مُحاضر بمدرسة القانون بجامعة لويزيانا في مسقط رأسه، ثم ما لبث أن رشحه الرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفلت" (1882-1945) ليكون ضمن أعضاء الوفد الأمريكي في مؤتمر مونترو في عام 1937، لمناقشة كيفية إلغاء المحاكم المختلطة [8] ، وعقب عودته قام "بيير" بجولة في العديد من الولايات الأمريكية متحدثًا أمام نوادي الروتاري في قضايا كثيرة خاصة عن النازية والفاشية واليهود، ورشحته الخارجية الأمريكية أخيرًا للعمل في قسم الخدمات الإستراتيجية وجمع المعلومات [9] في العراق خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه توفي بعد وصوله بفترة وجيزة في الثاني عشر من أكتوبر في عام 1943.
بيير كاربيتيس مؤرِّخًا
كان "بيير" غزير الإنتاج فأصدر أحد عشر كتابًا وترجمتين وكثيرًا من المقالات حول قضايا مختلفة، منها: مقالة عن القطن الإفريقي، كاشفًا عن أطماع بريطانيا في قطن مصر والسودان، وأخرى عن قناة السويس ودورها في الملاحة الدولية، وأشار بواقعية إلى أن الاحتلال البريطاني لمصر جاء من أجل السيطرة على قناة السويس، مضيفًا أن السياسة البريطانية كانت محقة في ذلك، وكتب مقالة عن وضع السودان بين مصر وبريطانيا بعد اعلان استقلال مصر وتصريح فبراير في عام 1922، كما نشرت له مجلة الشؤون الخارجية مقالة عن اتفاقية مياه النيل في عام 1929، وكان هدفه على حد قوله وضع ما لديه من وجهات نظر أمام صانع القرار الأمريكي، وبحسب كاتب الدراسة ترك "بيير" ستة كتب مخطوطة وكانت أكثرها إثارة للجدل ما كتبه بعنوان: "فلسطين ومشكلتها" ومن المرجح أنه كتبه ما بين عامي 1936-1937، و"خروج إسرائيل من مصر"، كتبه في عام 1938، ولوحظ تأييده وتفهمه للقضايا العربية معتبرًا أنه ما كان يجب إصدار وعد بلفور من قِبَل بريطانيا وهي على علم بأن العرب هم الأغلبية السكانية في فلسطين، واستنكر موافقة بريطانيا على طلب "لويس لبيسكى" (1876-1963) رئيس المنظمة الصهيونية في الولايات المتحدة بالسماح بزيادة أعداد المهاجرين في الأراضي المقدسة، مطالبًا بهجرة ضحايا النازية إلي أمريكا الشمالية، وأعلن أن إعلان الرئيس الأمريكي "ولسون" (1856-1924) عن حق تقرير المصير كان واجب التطبيق، لكن القوى الغربية لم تأخذه على محمل الجد، وأضاف في موضع آخر في نظرة استشرافية للمستقبل: "أنه طالما ظل وعد بلفور جزءًا من الانتداب البريطاني في فلسطين فإما أن تتحول الأراضي المقدسة إلى معسكر للجيش البريطاني وإما مقبرة كبري لليهود".
وقد صُنِّف "بيير" في الولايات المتحدة على أنه مُعادٍ للسامية بسبب انتقاداته للبروتستانت وقد أنكر أن العداء للسامية له طابع ديني وإلا كان المسلمون معادين للسامية وهذا غير صحيح فالعرب ساميون، كما أن اليهود عاشوا بسلام في ظل الحكم الإسلامي، وذهب إلى أن العداء للسامية هي الوجه الآخر للعنصرية متأثرًا في ذلك بالداروينية الاجتماعية [10] موضحًا في النهاية أنه لا يوجد شيء اسمه العداء للسامية، وإنما هناك فقط سوء في التفسير فلم يعانِ اليهود الشرقيون من أي اضطهادات كما حدث مع اليهود في الغرب، ووجه "بيير" انتقادًا حادًّا لعصبة الأمم التي تكونت عقب نهاية الحرب العالمية الأولى من بضع دول أوروبية، اتفقت فيما بينها على بسط هيمنتها على العالم، ودون مزيد من الاسترسال فإن آراء "بيير" حول القضية الفلسطينية جديرة بمزيد من الاهتمام والدراسة.
وربما كانت أهم إصدارات "بيير" التاريخية كتابه "الأمريكيون في مصر" وهو من أشهر أعماله وحظي بقراءة موسعة، وهو عمل تاريخي من الطراز الأول اعتمد فيه على الوثائق الأصلية وتحدث فيه تفصيلًا عن أصول ومهام الضباط الأمريكيين الوافدين إلي مصر، بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية في عام 1865، واعتبر أن قدومهم إلي مصر كانت ورقة سياسية حاول الخديوي إسماعيل (1830-1895) استخدامها في مواجهة الضغوط الغربية وأضاف أن مصر استعادت السودان بفضل جهود تلك القوات.
وقد توثقت علاقة "بيير" مع الملك فؤاد الأول (1868-1936) عقب السماح له بالتردد والاطلاع على أرشيف قصر عابدين، وكان موضع ترحيب باعتباره من المعارضين للسياسة البريطانية ومن المؤيدين للأسرة الحاكمة في مصر، وكتب دراسة عن "إبراهيم باشا" أكبر أبناء محمد علي -ترجمها محمد بدران- ونال عنها تكريمًا ملكيًّا، كما أصدر مجلدًا عن الخديوي إسماعيل، صدر أولًا في لندن في عام 1933، ثم ترجمه يعقوب صروف بعنوان: "إسماعيل المفترى عليه" وصدر في عام 1937 [11] ، وأوضح "بيير" أن إبراهيم باشا والخديوي إسماعيل عُوملا بخشونة وقسوة ولم يتم إنصافهما من جانب المؤرخين، وأن هدفه هو الرد على كتابات "ملنر" و"كولفن" و"كرومر"، كما وجَّه الثناء إلى الملك فؤاد لتزويده بالوثائق الملكية.
والحقيقة أنه يجب ألا ننسى أن كتابات "بيير" ودفاعه عن أسرة محمد علي لم تكن لدوافع ذاتية فحسب، بل كانت جزءًا من مشروع الملك فؤاد التاريخي لكتابة تأريخ دعائي للأسرة الحاكمة في مواجهة التيار القومي المتزايد بعد ثورة 1919، لا سيما الإلحاح على ثنائية (المؤسس) لرأس الأسرة محمد علي و(المجدد) عن الخديوي إسماعيل، وكان "بيير" أحد أفراد الجوقة التي تمت الاستعانة بهم، مثل: ساماركو وهنري دودويل وشارل رو، وغيرهم [12] . وقد تم ذلك بطبيعة الحال من خلال كيل المديح لبعض أفراد الأسرة وانتقاد آخرين فعلى حين كان الثناء من نصيب محمد علي وإسماعيل، فقد وصف "بيير" عباس الأول (1850-1854) بـ"الجهل والجبن والتعصب"، كما انتقد تفريط الخديوي سعيد (1854-1863) في الامتياز الذي منحه لصديقة ديليسبس.
وفي نهاية المطاف وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع وجهة نظر "بيير كاربيتيس" فإن كتاباته التاريخية ثرية ومتنوعة واعتمدت بكثافة على كثير من الوثائق الأصلية وما زالت جديرة بالفحص والدراسة ومقارنتها بمثيلاتها في تلك الفترة.
1- هو حاليًا أستاذ التاريخ بجامعة ساوث ويسترن بولاية جورجيا بالولايات المتحدة.
2- البوربون واحدة من الأسر المالكة الكبيرة في فرنسا ترجع جذورها إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وكان هنري الرابع أول من ملك فرنسا من الأسرة في عام 1559.
3- بدأ العمل بالمحاكم المختلطة في عام 1875 وظلت حتى ألغي العمل بها عام 1949، راجع في هذا الصدد دراسات الدكتورة لطيفة سالم عن تاريخ القضاء المصري الحديث.
4- تحتفظ جامعة نيو أورليانز حاليًّا بأوراق وكتابات كاربيتيس.
5- لم يذكر بيتر جران شيئًا عنه في دراسته المسحية عن بواكير الاستشراق الأمريكي وتطوره وصدرت أخيرًا بعنوان: الاستشراق هيمنة مستمرة، ترجمة سحر توفيق، القاهرة 2023.
6- ألفريد دريفوس هو ضابط فرنسي يهودي واتهم رغم براءته لاحقًا بأنه موالٍ لألمانيا وقسمت قضيته المجتمع الفرنسي بين مؤيد ومعارض خلال الفترة من 1894-1906.
7- هو الرئيس السابع والعشرون للولايات المتحدة (1909-1913) كما شغل أيضًا رئبس المحكمة العليا وقد استخدم ما عرف بدبلوماسية الدولار أي التوسع الاقتصادي.
8- مثَّل الوفد المصري في هذا المؤتمر النحاس باشا رئيس الوزراء وأحمد ماهر رئيس مجلس النواب وواصف غالي وزير الخارجية وعبد الحميد بدوي رئيس أقلام قضايا الحكومة.
9- أنشئ هذا المكتب في 13 يونيو في عام 1942 بأمر عسكري خَلَفًا لمكتب تنسيق المعلومات.
10- سادت في أوروبا وأمريكا الشمالية في سبعينيات القرن التاسع عشر وتبنت فكرة الانتخاب الطبيعي، كما طرحها دارون وأن البقاء للأصلح في الاجتماع والسياسة، ثم تراجعت في الانتشار عقب الحرب العالمية الثانية.
11- وقد علقت مجلة الرسالة من خلال بريد القراء على ترجمة صروف طوال الأعداد من العدد 198 في إبريل من عام 1937 إلى العدد 204 في مايو من عام 1937، وقد عددت فيها الأخطاء الكثيرة في الأسماء والمعاني، وأوردت عشرات الأمثلة مقارنة بين النص الأصلي والترجمة مبدية عدم رضاها عن الترجمة بقولها: "إننا كلما أمعنا في قراءة الكتاب زادت شكوكنا في أن الأستاذ صروف قد ترجمه بنفسه أو اطلع على الترجمة"، موقعة باسم الأستاذ الغنيمي.
12- راجع، أحمد زكريا الشلق، نهضة الكتابة التاريخية في مصر من الحوليات إلى التاريخ العلمي، القاهرة، 2023، ص 72-73.
ترشيحاتنا
