مراجعات
حسام الخولي«ما لا يمكن إصلاحه».. صدق اللغة وأصالة الكاتب
2020.09.01
مصدر الصورة : آخرون
قراءة في قصص «ما لا يمكن إصلاحه»
الناشر: دار الكرمة
2020 الكاتب: هيثم الورداني
بصّرت ونجّمت كثيرًا، لكني لم أقرأ أبدًا ما يُجيبني على استفسار أبله استقر دون إرادة في ذهني منذ سنوات: لماذا يعتقد بعض الناس أن الكلام -على الرغم من أنه يخرج من داخل الفم لا يدخل إليه- يؤكل؟ فيُقال «لا تأكلني في الكلام»، أو ربما «فلان يأكل الكلام»؛ أي يبخل في خروجه كما ينبغي. وفي لغة الشارع المصري التي نستخدمها تعبير يصف المتكلمون سريعًا هكذا، فيُقال «فلان يأكل الكلام». أما عندما نصف من يخدع الآخر خلال حديثه، فلا يفطن لمواضع الخطأ والصواب لديه فيُقال «احذر.. فلان يأكلك في الكلام»؛ أي أنه يستخدم ألاعيبه اللغوية في سياقات متداخلة، ويذهب بك إلى نتيجة يريدها، على الرغم من تشككك فيها، ليصبح من الصعب عليك تحديد خداعه مع إحساسك بذلك. وإذا كنّا لا نملك برهانًا قاطعًا ودليلاً أكثر عملية على استخدام هذا التعبير فإن استدراجه يجعلنا نعتقد بأنه لا يمكن لإنسان يملك فكرة أصيلة يريد عرضها للآخر أن «يأكله في الكلام» لأن جزء المعادلة الأشمل وسياقها الأعم ومجازها العميق لا يتحقق سوى بمشاركة الآخر مع المتكلم أو القارئ «لغويًّا». وربما لذلك يبرق أمامنا يوميًا عشرات الكتّاب الذين «يأكلوننا في الكلام والكلمات» فنجد كتابًا/كاتبًا ما يحمل وصف قوي هنا، وفكرة مبتسرة هناك، فنظل نلملم وراءهم اقتباسات هجينة مشوّهة تدّعي أنها تقول معانٍ كثيرة لكنها في النهاية لا تخبرنا بأي شيء. ولأننا لا نعيش بغير أمل، حتى لو كان سرابًا، فإننا نظل نبحث يومًا وراء آخر عن كاتب لا يأكلنا، يُعيد ذواتنا إلى التفكير معه من خلال اللغة؛ ويطرح فكرة أصيلة وينقّب عن معانيها وحيرتها بمشاعره ولغته المُعاد تدويرها دون خداع، لتجد نفسك فجأة قارئًا سعيد الحظ يحمل كتابًا بداخله فكرة مكتوبة جيدًا، دون استعارات خدّاعة وتفسيرات ملتبسة، وهو ما يمكن أن نجده في قصص «ما لا يمكن إصلاحه» للكاتب قليل الإنتاج كثير التأثير هيثم الورداني، الصادرة حديثًا عن دار الكرمة للنشر، وربما نجد الأصالة ذاتها في مشروعه غير القصير الذي بدأ منذ التسعينيات.
سؤال «اللغة» الأبدي في مشروعه
لم أجد استهلالاً أفضل من أصالة اللغة في بداية حديثي عن مشروع هيثم الورداني ككاتب يدرّب نفسه بالبحث عن الأصيل والجوهري، متجاوزًا للفكرة الصغيرة التي يمكن الحديث عنها بمباشرة فجّة، تتلمّس منه ذلك، لا في كتبه القليلة فقط، بل ربما حتى في تدويناته السريعة؛ في 2013 العام الكبيس المتضخم بالأحداث توفيَّ واحد من كتّاب جيله: هاني درويش، صديق الورداني، وقتها كتب مرثية1 يقول فيها: كم مرّة قامت الحياة بذلك؟ وكم مرّة ستقوم به من بعد؟ إذا جمع المرء كل هذه المسارات المعطّلة ووضعها بجانب بعضها، ثم فحص جيدًا البقعة التي تلفت عندها، وتأمل التضاريس التي نشأت عن ذلك التلف، ثم حاول أن يوافق بين هذه التضاريس، ويصل الأعمار المقصوفة عند أماكن انقطاعها، عندما يقوم بكل ذلك أية ماكينة سيراها عندئذ تنتصب أمام عينيه؟ لابد أنها لن تكون ماكينة جادة أو حاذقة، بل ستكون ماكينة مرحة ومبددة. فهي لن تكف عن التلعثم، ولن تتوقف عن تغيير اتجاه حركتها بشكل مفاجئ. ستتدفق فيها طاقة الحياة بإيقاع الألم الكامن، وسترقص كنوبة صرع لا تنتهي.
وفي موضع آخر خلال كلمته التي كتبها وألقاها في برلين عن المستقبل المتخيل2، ثم أُعيد نشرها مع انتشار فيروس كورونا المستجد لصلاحها كإسقاط، كتب: المستقبل ظل الكارثة الطويل، ما إن تضرب الكارثة حتى تلوح فكرة المستقبل، وما إن يظهر المستقبل حتى ندرك أننا بإزاء كارثة لم نكن نعرف بوجودها، هذا الظل لا يقل عنفًا عن الكارثة نفسها، فهو لا يدخر وسعًا لترميم تصدعات الكارثة وشقوقها مهما كان الثمن. دائمًا يسحب نفسه من الحديث عن الحدث مباشرة ويأخذه إلى ماضيه، أصله، ويفكر في إرهاصاته من البداية؛ موت صديق يسحبه للموت البشري عمومًا والأزمة الطارئة يجعلها تعيد تعريف المستقبل لديه، فقط من خلال اللغة يمكن إعادة تعريف الأشياء.
بعد كتابه الأول «خيوط على دوائر»3 الذي نشره بالتعاون مع عدد من الكتّاب، قدم أول كتبه المنفردة بعد ذلك في قصص «جماعة الأدب الناقص»4، كتب ينتظر اللحظة المثالية «مستقبلًا» تلك اللحظة المتخيلة الوهمية التي ينشأ عنها الحدث وأزمته، ومن خلال تأمل «لغوي» استهجن النظر إلى المستقبل على اعتباره طوق النجاة المثالي. ثم في كتاب «حلم يقظه»5 حكى بفرادة عن هوية المهاجرين وتصوراتهم عن المكان وعن العيش في «لغة أخرى» غير لغة الإنسان الأم، كتب عن حالة البين بين، يندم على سفره ويتعايش معه، يرمم الماضي ويسعى للمستقبل غير المفهوم، وعن أبطال يفكرون من خلال اللغة التي تُعيد تعريف ذواتهم مرة أخرى. ثم في «كتاب النوم» الذي كان بمثابة تمارين للاختفاء والظهور من جديد كإنسان بلا ماضي أو رافض له، يكتب: النوم في انشداده نحو المآسي وفي استعادته لها يستخلص من الماضي لغة جديدة، إذ ما هي اللغة إن لم تكن تلك القدرة على انتزاع ما حدث من نفسه ليصبح قادرًا على الحدوث خارج نفسه؟ ما اللغة إن لم تكن قادرة على التحوّر ومغادرة ذاتها لصنع معاني جديدة؟6
أمل أعمى في الخطوة المعلقة
أيضًا في المجموعة القصصية «ما لا يمكن إصلاحه» آخر مشروعاته تتلمّس الاشتباك اللغوي الأصيل الذي يكتب من خلاله دائمًا، تلمح الفكرة الظاهرة التي كتب من خلالها ثماني قصص غير ملتزمة بشكل أو نموذج واحد، تبحث جميعًا عن الماضي باعتباره الأمل الوحيد، عن الرجوع إليه أو تمني هذا الرجوع دون جدوى، عن الأشياء التي نريد ترميمها ونعيش على أمل كاذب بحدوث ذلك، لكن تتلمس البحث عن اللغة في دواخل كل قصة سواء بوعي أو بدونه. في البحث عن معنى جديد يُعيد صياغة هزيمة الأبطال والوقوف قليلًا للتفكّر «لغويًا» فيما يمكن النجاة به من هذا الانكسار وتلك الهزيمة، مجموعة من القصص والحكايات التي لا يحمل أيًا منها عنوان الكتاب الذي يحتويها، عنوانها فقط يحمل وصف للثيمة المتجاوزة لكل القصص، وتصبح اللغة هي نجاة أبطاله الغرقى.
في إحدى قصص المجموعة «أمل أعمى» يكتب: الكلمة قشرة داكنة نمت فوق جرح، لا تحمل معها معناها فحسب، بل تحمل معها أيضًا الخدوش التي أصابت المعنى فكل كارثة تترك آثارها في اللغة وحتى إن لم تر بالعين المجردة. أين يمكن رؤية تلك الندوب؟ في المعاجم... المعجم كما نفهمه ليس متحفًا للغة بل يصلح لأن يكون شكلًا من أشكال كتابة التاريخ.7 وفي موضع آخر يستطرد تصوّره: نحن نعود إلى المعجم لأننا وقعنا في أزمة، وأصبحنا بحاجة إلى مساعدة فالكلمات التي نعرفها لم تعد تعني شيئًا نحن نقوم بالبحث عن معنى شارد تركه أحدهم ولم يلتفت إليه من قبل، العودة إلى المعجم، تشبه عمل المؤرخ الذي تحركه لحظة خطر أو أزمة فيهرع إلى الماضي لكي يقرأ فيه ما يفيد محاولات النجاة، كل معجم جديد هو أمل في لغة جديدة موجه نحو المستقبل.8
اللغة في حكاية تاجر المخدرات المتحوّل وليد طه، بطل قصة «قانون سلطان الوجود»، الذي تقف عليه الحبكة؛ على عدم نطقه، على انقطاع لغته وتعبيره لأنه لم يعد يصدر أي صوت سوى صفير تنفسه العالي. واللغة في قصة أخرى يدور حوارها بين صديقين قديمين تقابلا مصادفة، أحدهما تزوج والآخر لا يزال وحيدًا، وتغيرت لغتهما تجاه بعضهما، واللغة لدى الطفل الذي تربّى خارج بلد والديه الأم، واللغة التي تسبب حرج والده «من التأتأة في الحديث بها كلُغة جديدة». عن صديق يتخيل منذ بداية يومه أنه يعيش يومًا آخر قادمًا من ماضٍ لن يستطع العودة إليه، ومستقبل مبني على تصوراته. وآخر لغته لم تعد هي، وشباب حولتهم الثورة إلى آخرين لن يعودوا كما كانوا على الرغم منهم.
في قصة الخطوة المعلقة يقول البطل: وفي اللحظة التي استويت فيها واقفًا كي أغادر المحطة شعرت فجأة أن شيئا خطيرًا قد حدث داخلي، بل تيقنت من دون سبب واضح أنني أخلف ذاتي إلى الأبد هنا، أتركها تتبدد ورائي وسط فيض الأصوات التي تعم الشارع.9 على ما يبدو أن الجميع يبدون كأشخاص واقفين في المكان الخطأ أو التوقيت الخطأ، يتطلعون للمستقبل بينما نجاتهم في الماضي، في عالم لا يمكن إعادته مرة أخرى، فلا يعرف أحدهم أيُنكر نفسه أم ينكر ما يرى.
نحن لا نحرق القصص، نحن ندور حولها، أو بالأحرى حول لغة هيثم الورداني التي تحاول أن تستكشف ذاتها وذواتنا معها، تتطلع لتصبح مركزية لعوالم الأشخاص أيًا كانت أعمارهم ومستواهم الثقافي والاجتماعي داخل حكايات شديدة العادية، تمرر خلالها هواجس ومشاعر تجاه العودة للغة كطوق نجاة أكثر جدوى من المستقبل الضبابي غير المُدرك بالضرورة. بالنسبة لهيثم الورداني الجميع جزء من اللغة ولا أحد خارج عليها.
الأحلام في حياة أبطاله
في رواية «قصة حلم»10 للأديب النفساني النمساوي أرتور شنيتزلر الذي كان سيجموند فرويد يبجّله لدرجة أنه كان يخاف مقابلته، تكثّف وتظهر تصورات الرجل وفكرته عن الكتابة التي تحكي ما يخاف الإنسان حكيه، في الرواية كتابة أدبية ثاقبة تسرد قصة زوجين يرويان خلال حكايات أحلامهما غير الواعية ما لم يستطيعا أن يقولاه في الحقيقة أمام بعضهما بعضًا. فهي تُكتب على أنها أحلام ليست حقيقية، لكنها تفسّر مشاعر الأشخاص الحقيقية تجاه بعضهم. يقول شنيتزلر عن بطله الغارق في هواجسه وأحلامه التي لا تنتهي «قرر أن يحكي لحبيبته أحداث الليلة السابقة في أقرب وقت وربما في الغد حتى، لكنه سيرويها كأن كل الأشياء التي مرَّ بها كانت مجرد حلم، وعندما تدرك تمامًا مدى عبثية مغامراته وخلوها الكامل من المعنى، سيعترف لها أنها حدثت في الواقع». هذا أيضًا ما يفعله أبطال «ما لا يمكن إصلاحه» دون وعي: يعبرون عن رغباتهم داخل أحلامهم خوفًا من إظهارها علنًا. أخطاء الماضي يمكن تصحيحها فقط خلال الأحلام، لذلك يلجأ أبطال الورداني إلى الحلم لإنقاذ أنفسهم من الهزيمة.
ربما إذن كان من الإجحاف أن نختصر مشروع الكاتب كاملًا في فكرة جوهرية واحدة، فعلى الأقل يمكننا بثقة أن نؤكد على فكرته الأثيرة تلك بوضوح شديد في مشروع "ما لا يمكن إصلاحه" فيما يخص اللغة. اللغة التي لا خلاص من سيطرتها علينا سواء كنّا واعين بذلك أو لم نعِ، لغة تشكّل من خلالها الماضي وهي السبيل للتفاعل مع المستقبل، ومنها يُكمل الورداني تصوّره حول مركزية الماضي وأهميته عن المستقبل.
في حديث قصير معه كان يشير إلى فكرة يلمسها في كتابات صمويل بيكيت بشأن أبطاله، على اعتبار أنهم أشخاص يتكلمون كثيرًا لكن دون أن يؤدي ذلك إلى نتيجة، ومن ثَم فالحديث وفقًا لذلك ليس أن يتكلم الإنسان عن شيء يريد أن يقوله لكن لأن يتكلم عن المستعصي، أي أن الخطاب عمومًا ليس جزءه الأساسي التواصل بل استحالة التواصل. ربما لأن "لغتنا لم تعد كافية للحديث عن الفشل" كما أخبرني. حتى المشروع الجديد الذي يعمل عليه حاليًا في قلبه سؤال اللغة مرة أخرى، وربما ليست أخيرة، وهو هذه المرة يسحب الخرافات والحيوانات لتتحدث، يسحب الأفكار والمشاعر التي يعتبرها موجودة خارج اللغة إلى داخلها وداخلنا، هذا ما يجعل تلك التأملات جديرة بالقراءة ويعطي مشروعه جوهرًا أصيلاً لكاتب مهموم فعلًا بما يمكن أن تفعله اللغة في البشر، وحريص على ألا يأكلنا في الكلام.
هوامش:
1: تدوينة نشرها عقب وفاة الصحفي هاني درويش على "تمبلر"، تحت عنوان: مقدمة لفقد طويل، 2013.
2: كلمة أعاد موقع "مدينة" نشرها بعد انتشار فيروس كورونا بعنوان: ظل الكارثة الطويل.
3: كتاب "خيوط على دوائر.." دار شرقيات. مشترك مع كتّاب آخرين، 1995.
4: قصص "جماعة الأدب الناقص" دار ميريت، 2003.
5: قصص "حلم يقظة" دار ميريت،2011.
6: كتاب النوم، دار الكرمة. 2017، انظر الصفحات (90 – 92).
7: انظر صفحة 76.
8: انظر صفحة 98.
9: انظر صفحة 32.
10: رواية قصة حلم. المؤلف: أرتور شنيتزلر. ترجمة سامح سمير. دار المحروسة، 2019. انظر صفحة 103.