هوامش

يحيى وجدي

أحمد خالد توفيق.. من هامش «الجيب» إلى متن القلوب

2018.05.01

أحمد خالد توفيق.. من هامش «الجيب» إلى متن القلوب

بينما أكتب هذه السطور، تمر ذكرى الأربعين على وفاة الكاتب والطبيب أحمد خالد توفيق (1962- 2018). مضت أربعون يومًا وما يزال الجدل متواصلاً وعبارات التعازي والافتقاد تمتلئ بها حوائط «فيس بوك» وحوائط مقبرته بمدينة طنطا، في حدث نادر ربما لم يحدث لأديب أو مبدع عربي.

لا يأتي هذا الجدل العاطفي المتواصل رغم مرور وقت كاف للنسيان في ظل الأخبار المتلاحقة يوميًّا، بسبب الوفاة المبكرة للرجل، فقد تعودنا مؤخرًا على الوفيات المفاجئة لكثير ممن هم في عقد الخمسين أو ما قبله أيضًا. أقول «العاطفي» لأن الأمر كذلك بالفعل، حتى من مهاجمي الكاتب الراحل، فالأمر لا يخلو من حسد وشعور بالغيرة من كل هذا التأثير العميق -كما اتضح- في جيلين على الأقل.

هذا التأثير بدأ مع مطلع تسعينيات القرن المنصرم؛ حيث كانت حرب الخليج ما تزال أجواؤها تخيم على الفضاء العام، وحيث الآثار الاجتماعية غير الهينة التي خلفتها عودة العديد من الأسر المصرية من الكويت والعراق. هذه الآثار وغيرها من تغيرات جعلت الأجيال السابقة تنكفئ على نفسها أكثر فأكثر مما كانت عليه خلال حقبة الثمانينيات، وانطلق جيل جديد في فضاءات بعيدة عن التلفزيونات الرسمية التي لا تنفك تبكي «الزمن الجميل» وتقاليده في المسلسلات والأغاني والبرامج، وعن الصحف المملة التي تمتلئ هي الأخرى بأخبار الرئيس وأنشطته ومشروعاته وحكمته، وما كان متاحًا في هذا الوقت من مصادر للمتعة قبل المعرفة، كان قليلاً وفقيرًا.أما «الدِش» الوافد الجديد بطبقه اللاقط الذي يأتي بالعالم الساحر في الخارج يقتصر على الأغنياء، هذا إذا وافق الأهل على إدخال هذا الشيطان الذي يدخل معه «الخراب» إلى البيوت المطمئنة.

آنذاك، كانت القراءة المتاحة و«الممتعة» بموافقة الأهل تأتي من مكتبات صغيرة في المنازل، تضم بضع كتب لأنيس منصور ومصطفى محمود تصدرها دار أخبار اليوم في طبعات شعبية مع كتب الشعراوي وتفاسيره، وهي مجموعة محدودة كانت غالبًا تقبع في دولاب صغير يحمل جهاز التلفزيون، أو على رف في المكتبة الموروثة من الجيل الأسبق. وغير ذلك كانت كتب الجيب من سلسلة «رجل المستحيل» التي يكتبها الطبيب نبيل فاروق وبطلها ضابط مخابرات مصري يدعى أدهم صبري؛ رجل خارق يسافر العالم كله في صراع لا ينتهي مع المخابرات الإسرائيلية. وقبلها سلسلة «الشياطين الـ13» للكاتب الأشهر محمود سالم، وصدرت في نهاية السبعينيات وهي تدور عن 13 شابًا عربيًّا يواجهون المؤامرات التي تتعرض لها الأمة من أعدائها، وينتصرون.

في هذه الأجواء ظهر كتيب جيب صغير عن دار النشر نفسها (المؤسسة العربية الحديثة) التي تنشر سلسلة «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل» لنبيل فاروق، حمل الكتيب اسم «سلسلة ما وراء الطبيعة» مع «سلوجان» لافت يعّرف السلسلة الوليدة: «روايات تحبس الأنفاس من فرط الغموض والرعب والإثارة»، لكاتب جديد هو الدكتور أحمد خالد توفيق.

كل من نعى أحمد خالد توفيق وعبر عن تأثره الكبير به على مواقع التواصل الاجتماعي أو من الصحفيين والكتاب، تحدث عن أول علاقة له مع هذا الكتيب الصغير الذي فتح له عالمًا جديدًا ومختلفًا من المتعة. وعن انبهاره بهذا الكاتب الذي لا تكاد تبين ملامح وجهه من الصورة الصغيرة على ظهر غلاف السلسلة الجديدة. صورة بحجم طابع بريد لرجل في الثلاثينات من العمر تقريبًا مبتسم باطمئنان. وجه لم يره القراء من قبل لا في الصحف ولا على شاشات التلفزيون، يذكر المحبون كيف وجدوا أنفسهم يقارنون بين هذا الكتيب من سلسلة «ما وراء الطبيعة» بسلاسل «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل» ومن قبلهما «الشياطين الـ13» و«المغامرون الخمسة»، في اللغة البسيطة الساخرة، وفي الحكي المنساب الرائق، والعوالم الجديدة كليًا في موضوعات لا تتحدث لأول مرة عن عظمة بطل خارق يخرق الأرض ويبلغ الجبال طولاً، أو مراهقين أبطال يعملون كالروبوت لخدمة الحق والوطن وينتصرون دائمًا. كان ذلك التأثير الأول لأحمد خالد توفيق: احترام الواقع الذي يخالف هذا كله، بعين خيال عظيم يأتي من أرض -أو أراض- أخرى تمامًا.

ربح أحمد خالد توفيق من الجولة الأولى بجدارة، متحركًا خلف بطل من نوع جديد، هو رفعت إسماعيل الطبيب الكهل الوحيد؛ بطل لم ينتصر (في الظاهر) في أي معركة، وبطولاته -في الظاهر أيضًا- كانت بمحض المصادفة أو سوء الحظ كما يقول على لسانه. رجل لم يتحقق اجتماعيًّا، فهو بلا زوجة أو ولد، وحبيبته الوحيدة تركها خلفه في بلاد بعيدة لا ينفك يتذكرها برومانسية كانت جديدة هي الأخرى في التعبير عنها لهؤلاء القراء؛ بلا ثروة مالية، وهو شأن كل الآباء من قرية فقيرة في الدلتا، ويقيم  في شقة متواضعة في حي الدقي، يعاني أمراض القلب التي تكاد تودي بحياته في كل لحظة. «بطل خاسر» إذا صح التعبير بكل المعاني والمعايير المعروفة، لكنه يمتلك ما هو أهم من هذا كله، يمتلك حكايات لا تنتهي كانت وعلى مدى ما يقرب من 25 عامًا هي الجسر بينه وبين القراء من جيلين، أحبوا القراءة على يدي الرجل وعرفوا منه كتّابًا آخرين ومعلومات مدهشة واكتسبوا لغة بسيطة أنعشت مواهب الموهوبين منهم، وشجعتهم على أن ينتقلوا من مقعد القارئ إلى مقعد الكاتب فيما بعد.

على لسان الطبيب رفعت إسماعيل، راح أحمد خالد توفيق ينقل إلى قرائه من المراهقين في التسعينات والألفية الجديدة، عشرات التيمات التي سبق ونهلت منها الروايات والأفلام العالمية، من مصاصي الدماء والمذؤوبين، والسحرة والساحرات، والزومبيز، وآكلي لحوم البشر، والوحوش الأسطورية، والأشباح المحلية في كل الثقافات والبلاد، مستخدمًا كل تقنيات الحكي وسط إشارات لا تنتهي إلى كُتب وكُتاب، ومعارف ومعلومات عن الطب والأمراض وحتى الديانات الآسيوية، عن تقاليد الشعوب في الدول الإسكندنافية، وأحداث تاريخية في الحرب العالمية والفلسفات المختلفة؛ باختزال صحيح، لكن عبر شرارة تشعل نار من يحب أن يعرف أكثر. كان الكاتب الجديد معين لا ينضب الإبهار مع كل عدد جديد من سلسلة «ما وراء الطبيعة» وحكايات رفعت إسماعيل الذي لم يكن حتى يأخذ دائمًا صوت البطل، فكثيرًا ما كان يحكي من أوراق وصلته أو من مذكرات قديمة وجدها، لئلا يخرج عن دوره المرسوم ويتحول إلى بطل على أي نحو. ومع الحكي كان رفعت إسماعيل يناقش قارئه أيضًا، فتيمات الرعب المصري محدودة جدًا، ولا تخرج عن حكايات «النداهة» في الريف، والجن والعفاريت، لكنه استطاع مع ذلك أن يأتِ بتيمات الرعب العالمية وأساطيرها إلى هنا، في مصر وفي حي الدقي.

لم يكتف أحمد خالد توفيق بصناعة رفعت إسماعيل، وعمد إلى صناعة شخصيات جديدة في سلاسل أخرى غير «ما وراء الطبيعة» فجاءت «عبير عبد الرحمن» من خلال سلسلة «فانتازيا» منتصف التسعينيات، وشخصية  الطبيب «علاء عبد العظيم» في سلسلة «سفاري»، والاثنان من الطين نفسه الذي خلق منه رفعت إسماعيل. لا صورة لبطولة ولا أبطال، فالأولى، عبير، فتاة فقيرة رقيقة وهشة وحالمة ووحيدة كما يصفها، تسافر عبر جهاز خيالي مطور من الكمبيوتر إلى عوالم الخيال، حيث تجد ذاتها المغتربة في الواقع داخل أساطير وشخصيات وبلاد بعيدة وحقب زمنية من تلك الموجودة في الكتب فقط. أما الثاني، د.علاء، فهو طبيب شاب يسافر للعمل في قلب أفريقيا، ليقابل الطبيعة والميليشيات المسلحة والقبائل المتناحرة والأمراض الفتاكة في الغابات، ليحكي شأن أبطال أحمد خالد توفيق إلى قرائه ما لم يجدوه في الكتب والروايات الأخرى. وبين السلسلتين الجديدتين –فانتازيا وسفاري- والسلسلة الأسبق «ما وراء الطبيعة» راح أحمد خالد توفيق يترجم أعمال من كل مكان في سلسلة رابعة هي «كتب عالمية للجيب» وعنها عرف القراء آنذاك أشهر كتاب الرعب الأمريكيين من أجيال مختلفة، وقرأوا قصص أغلب الأفلام الشهيرة، جنبًا إلى جنب مع كتاب أعمق مثل إدجار آلان بو وغيره. كانت الترجمات مُلخصة للغاية، وتكاد تعتدي لصغرها على سمات الكتاب المترجم وعالم كاتبه، لكنها كذلك كانت بداية لمن يريد أن يعرف أكثر، ويقرأ بشكل أعمق وفي مصادر أخرى.

ظل رفعت إسماعيل يتربع على عرش أعمال أحمد خالد توفيق، وجرت مياه جديدة في نهر الزمن وعرف الشباب في مصر الإنترنت واستطاعوا أخيرًا الوصول إلى أحمد خالد توفيق نفسه، بعد أن كانت العلاقة معه تقتصر على الخطابات التي تذهب إلى دور النشر ويرد عليها في ملحق خاص لبعض أعداد السلسلة، وكثيرًا ما كان يفعل بلسان وصوت رفعت إسماعيل! ومع الإنترنت والمدونات، تكونت حول الكاتب الراحل مجموعات من الشباب، الذين يريدون المزيد من الكتب والأعمال، ومن الموهوبين الذين يريدون عرض محاولاتهم الإبداعية وإنتاجهم. وكما انطباعهم الذي كونوه عنه من خلال شخصياته الخيالية، كان أحمد خالد توفيق مشجعًا وداعمًا وبسيطًا ومتواضعًا إلى أبعد الحدود. وكان أن أصبح بينهم «العرّاب» كما أطلقوا عليه.

جاء أحمد خالد توفيق إذًا من الهامش. طبيب شاب محب للأدب يعيش ويعمل خارج القاهرة ويرفض الانتقال إليها حتى بعد شهرته، لم يظهر قط حتى عام 2007 تقريبًا في المحافل الثقافية التقليدية، ولم تكتب عنه الصحافة الثقافية ولا غيرها، وضع اسمه في المكتبات عبر «كتاب الجيب» الذي لا يتمتع كثيرًا بوجاهة غيره من الكتب ولا باحترام النقاد أو القراء المحترفين. جاء من هذا كله ليتردد اسمه بقوة على ألسنة جيل جديد من الكُتّاب الذين كانوا يشيرون لاسمه في المحافل الثقافية باعتباره الأستاذ والمعلم و«العرَّاب» وصاحب الفضل والتأثير. كُتّاب أغلبهم كان شديد التأثر به حتى صارت أعمالهم نسخة رديئة من أعمال أحمد خالد توفيق، وآخرين تفوقوا فقدموا أعمالاً جيدة لها شخصية مستقلة في اللغة والطرح.

وكما دمر توفيق الصورة التقليدية للبطل الخارق في سلاسل مغامرات الجيب التي يكتبها، راح يدمر أيضًا الصورة النمطية للكاتب. وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة التي حققتها سلسلة «ما وراء الطبيعة» وشخصيتها الرئيسية د. رفعت إسماعيل، أنهى أحمد خالد توفيق السلسلة عام 2014 بوفاة إسماعيل متأثرًا بأمراضه في سابقة لم يفعلها كاتب تقريبًا. صحيح أن توفيق وبين عامي 2007 و2014 أعاد تقديم نفسه بشكل مختلف ككاتب بعيدًا عن كتب الجيب، لكن إنهاء سلسلة وبهذه الطريقة كانت اكتمالاً فنيًّا شديد الذكاء وغير معتاد. فمع عام 2008 قدم أحمد خالد توفيق أولى أعماله الأدبية خارج سلاسل الجيب، رواية «يوتوبيا» عن دار نشر «ميريت» ذات الاسم اللامع في نشر الروايات لكبار وشباب الكتاب. قبلها بأعوام قليلة نشر مجموعات قصصية سواء فردية أو مع آخرين، كما ترجم الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير «نادي القتال» للكاتب الأمريكي تشاك بولانيك، لكن «يوتوبيا» وضعته في مكان مختلف عن الذي اعتاده طوال مسيرته قبل هذا التاريخ، وسرعان ما تُرجمت للإنجليزية والفرنسية والألمانية، ووضعها جمهور توفيق على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا لشهور. ومن خلالها دخل توفيق إلى مساحة جديدة من التقييم النقدي لم يختبرها في كتب الجيب من قبل. ومنذ ذلك العام -2008- راح توفيق يكتب مقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية المختلفة، وعرف ككاتب في أوساط أخرى غير المراهقين، وتابع نشر أعمال أدبية جديدة منها «السنجة» و«ممر الفئران» و«شآبيب» لم يحظ أيا منها باهتمام الدوائر الأدبية والنقدية التقليدية، لكنها كانت توزع بأعداد هائلة وفي طبعات عديدة. وكأن توفيق كان قدره الهامش، هامش خاص صنعه بنفسه ولنفسه، وله جمهوره الخاص أيضًا.

جاءت وفاة أحمد خالد توفيق عن عمر يناهز السادسة والخمسين ليفاجئ دوائر مختلفة لم تكن تتابع هذا الهامش، ولم تعرف الرجل من قبل، حتى إن بعض الأصوات فزعت من حجم تأثيره بين الشباب وقوته، وراحوا يناقشونه كظاهرة. أما قراؤه فعزموا على تنفيذ وصيته ترجمًة لعبارة كان يرددها أنه يكفيه أن «جعل الشباب يقرأون» وراحوا يسجلونها على قبره في أوراق صغيرة وكبيرة، وبلوحات رخامية تسابقوا في تثبيتها حيث يرقد من «جعلهم يقرأون».