مراجعات
حسام الخوليأحمر لارنج": شارل عقل المهرِّج المجدِّد قراءة في رواية "أحمر لارنج"
2020.07.01
أحمر لارنج": شارل عقل المهرِّج المجدِّد قراءة في رواية "أحمر لارنج"
ثمة هوس عالمي يشغل عقول وأفكار الكتَّاب ومنتجي الفنون عمومًا، وهو يتجلى الآن على ما يبدو بشكل أكثر حضورًا وقتامة من أي وقتٍ مضى، وذلك في تساؤل تأسيسي مركَّب: كيف تبدو قيمة المنتَج الفني أمام صانعه وجمهوره بتجاهل أعدادهم (القليلة أو الكثيرة)؟ ثم ما قدر الموهبة التي يحملها الفنان/الصانع للتأكد من وجاهة قراره بالاستمرارية كمحترف متفرغ، أو الاكتفاء فقط بممارسة الفن كلعبة مسلِّية في أوقات الفراغ؟ هل يعبث بعمره وإمكاناته التي قد لا يُستبعد كونها متواضعة "مديويكر" متوسطة، أو حتى تالفة تصلح للتذوق لا لإنتاج أشياء أصيلة، ومن ثَم يمكن التغاضي عن تأثيرها المحدود إن وُجد، أم أنها تحفر طريق وعرة، وليس عليها أن تنشغل بالالتفات الحالي إلى تقديرها، فسوف تؤتي ثمارها مع الزمن لتخلِّد أسلوبية صاحبها بعد ذلك ومنهجه في إنتاج النص/ المقطوعة/ الفيلم؟ هذه حيرة قديمة تكاثفت على الجميع تلقائيًّا نتيجة انفتاح لم يُسبق لمساحات أوجدتها مواقع التواصل المختلفة، جعلت الإنتاج الفني (المكتوب والمسموع والمصور) أقل بيروقراطية، وأوسع صدرًا وأكثر تقبّلاً للجميع، فانسحبت بديهية ذلك الحراك إلى مساحات تجريبية متحررة، جعلتنا نرى من خلالها جرأة المستعد والمتطفل على القدر ذاته من حسن الاستقبال، بينما لم تستطع، أو لنقل لازمت قلق ورهبة التساؤل بشأن مدى كفاءة الموهبة أمام سيولة الإنتاج وسهولة عرضه تلك.
على ما يبدو يمكننا من هذا المنطلق الحديث حول رواية "أحمر لارنج" الصادرة حديثًا عن دار الكرمة للنشر، وإلى جانبها نُمدَّد سرديتنا للإشارة إلى تجربة كاتبها؛ التي تحمل في سياقها الأشمل على الرغم من حداثتها أسباب وجيهة للاختيار الحر غير العشوائي والتجريب الطموح والمقامرة المغرية.
في مطلع الألفية التي نعيشها كان هناك وجود موسيقي هامشي لمجموعة تُنتِج ما يعرف بـ"موسيقى الجاز الانطباعية" كموسيقى مصرية ما بعد حداثية يقدمها مجموعة من التجريبيين، بعضهم من غير المتخصصين وآخرون من ذوي المرجعيات الأكاديمية، ضاعت معظم أعمالهم في أثناء انتقال الموسيقى من "الأنالوج" التماثلي إلى "الديجيتال" الرقمي. وهو تحوُّل تبدو كيفيته غير مفهومة لغير المتخصص، لكنه كان جذريًّا في مستقبل الإنتاج الموسيقي وطرق التوزيع التقليدية؛ أصبح يطلب على سبيل المثال من فرقة موسيقية محلية كانت تنتج ما يحلو لها لاستهلاك جمهور شديد الصغر تعرفه وتعرف ذوقه، أن تنتقل -بالديجيتال- إلى جمهور أوسع غير ممركز مجهول الهوية ومتنوع الذوق يحكم على مدى مشروعيتها وكفاءتها فقط بالنظر للمنتج النهائي والحكم عليه ومن خلاله، دون رحمة أو إدراك للسياق والإمكانات التي تحركها، وتتحكم في عوامل إنتاجها؛ كتوقيت التدريب ومدى التفرُّغ التي تحتاج إليه الموهبة، واستقطاب «أسطوات» المجال لوزن الكفة مع الهواة في داخل الفرقة الواحدة، وغير ذلك.
بعد جولة ميدانية في أداء صُنَّاع تلك الموسيقى الانطباعية ما بعد الحداثية، دوَّن الكاتب السكندري المصري شارل عقل في روايته «نصوصًا مجمعة من الأيقونات الموسيقية لتلك الموجة الطليعية وما واجهه أصحابها من صعوبات إبداعية واجتماعية وأحيانًا بيولوجية» ليحكي من خلاله عن هؤلاء الذين ابتلعتهم ظرفية تاريخية تتجاوز قدرتهم على التكيُّف والتلاؤم، انتقلت بفجوة زمنية مباغتة في وقت أصبح «الوله بموسيقى أو فرقة ما، التي كانت تشكّل الهوية، بدأت تندر في حقبة الإنترنت، نتيجة لتشعُّب المصادر وفيض الفرق والمشاريع الموسيقية الجديدة، الجديرة بالمتابعة والآخذة في الزيادة، أصبحت فترة الانبهار أقصر، والتحولات أسرع، والبحث والتجميع والقراءة أكثر شمولية وسطحية، والارتباط بفرقة أو فنان أهدأ وأفتر والتجميع أكثر طمعًا وطموحًا، دون دراية للوقت المستلزم لاستهلاك تلك الوسائط، وبالانبهار الكلابي سريع التشتت صوب كل جديد أو غريب»1. كل ذلك في حبكة سردية يمكن اعتبارها روائية بالرغم من شطحاتها التجريبية في طريقة كتابتها غير السائدة التي جعلتها تسحب رمزيتها لتشمل صنّاع الموسيقى والفنون عمومًا.
معضلة الذكورية المجروحة
في الرواية غوص داخل مشاعر العشوائية والخوف والتردد والجرأة التي تملأ مخيال التاريخ الثقافي بسرديات وقصص لا نهائية، اكتشفت ذاتها كاملة داخل مشاعر شبابية بِكر، وفترات يحاول فيها الإنسان إعادة فهم ذاته وتشكيلها: سردية تبدأ من لحظة انتهاء علاقة عاطفية لم يكن صاحبها يدرك أنه غير مستعد لها، مع أصدقاء على مشارف رجولتهم وتحمل مسؤولية جديدة عليهم، يجمعهم انعدام الثقة في حجم الموهبة التي تعطيهم ضمانة اعتبارهم موسيقيين حقيقيين، لكن مع مساحة كافية من الوقت للتجربة والتأكد من صحة كل الأشياء يدعمه حب فطري للإنتاج الفني الموسيقي. كل ذلك كان قادرًا على إنتاج مشروع موسيقي بات يهدف إلى «أستاذية العالم»، أو ربما السخرية منها ومن أصحابه داخل قصة روائية كـ«أحمر لارنج».
على نحو مجازي وفعلي يختار الأبطال أن يظلوا على الهامش؛ تجد اختياراتهم للآلات التي يعزفونها غير رئيسية أو غير مشهورة أساسًا ربما -في سياقهم تحديدًا- للتأكيد على رمزية مساحات ذكوريتهم الجريحة داخليًّا، غير المكتملة وغير المدركة تمامًا لأنها لم تثبت نفسها بعد. أو ربما كما يبرر البطل ذلك «لأنني أكره الخيلاء والاستعراض ناسبتني [آلة] الأكسليفون، فهو على عكس جميع الآلات التي تشعر حين تعزفها بأنك خاص ومتألق... ينفرد الأكسليفون بأكثر الهيئات الموسيقية مللاً، فحتى أمهر عازفيه، سوف يبدو في أكثر حالاته وإبداعه مثل الموظف لا يفعل شيء سوى الجلوس"2.
مقطوعات موسيقية للقراءة
الكتاب مقسَّم -باعتباره موسيقيًّا- إلى مقطوعات لا فصول؛ عشرة مقطوعات منفصلة متصلة، سوف تستمع خلالها إلى أسماء تخييلية مربكة توقفك في كل مرة للتأكد من صحتها "القائل نعمًا وهلمّا وتعريشة الذهبي والجناس التام"، وأسماء أكثر غرابة تحتوي العبث والسخرية المناسبة والأكثر ملاءمة لتخبُّط أصحابها أبطال الفرقة الموسيقية الحقيقية المتخيلة في آن، والتي يمكن فهم سياقهم من الراوي الذي كان "محل لقاء الأصدقاء بغير ميعاد والمأوى لكل من بلا مأوى ومقصد كل خالي الذهن أو الوقت أو العمل"3 بكل رحابة صدره وهو يصف صديقيه الأبطال الأكثر تأثيرًا معه أنهما "بقدر ما كانت خطورة القائل تكمن في تعامله بالمنطق مع كل الاقتراحات الهوجاء وقدرته على الحجاج ببلاغة لتسهيل تنفيذ فكرة غبية، ممهدًا الطريق بالمنطق والحجة، بقدر ما كان هلمّا هو وقود التجربة، لا يضيع الوقت في الحذلقة، أكثرنا عملية بلا شك، يكره كل ما يجبره على التأمل والتريث يصيبه الانتظار بالتوتر والتردد بالغيظ، ولا يعتبر التكتيك ووزن الأمور سوى حنجلة"4.
لذلك، وكاتفاق ضمني يبرر قراءة الرواية، يظهرتقبّلهم وروايتهم في المشي على خطى أحدهم الذي لديه ذائقة فنية "تتسع لكل شيء، تستوعب كل شيء وتقدر كل شيء". هؤلاء المجربون الأوائل الذين يحاولون إثبات ذواتهم بالحكي حول كل الأشياء دفعة واحدة حتى تنقطع أنفاسهم تارة لما داخلهم من أشياء تحتاج إلى التعبير عنها وأخرى لاختلاق لفت الانتباه إليهم كغرباء يغرسون أقدامهم في المشهد الفني، كصنَّاع وأصحاب موهبة، وأخيرًا في التسليم باحتمالية عدم فهم بعض الأشياء على الرغم من توقّع الاستمتاع الكامل بها.
وفق تجربة موسيقيينا، وزاوية تناولهم الروائي، ربما تتساءل بشأن حتمية فشل التجارب الجديدة عمومًا وولادتها الميتة، هي وما يمكن أن تشكّله، ما يعني في حالتنا تجربة إنتاجهم الموسيقي المبتسر دون قصد أو ذنب أو مساعدة كما ينبغي. هذه تعجيزات وإن كانت مُدركة بالضرورة لغالبية منتجي الفنون في شتى مجالاتهم يدَّعي كثيرون محوريتها في كل بقاع الأرض وعدم اقتصارها على النطاق المحلي أو الإقليمي، فإن الكاتب هنا يُبروز معضلات متجاوزة لأبطاله بفجاجة يكثّفها وجودهم أبناءً لعالم ثالث قليل الوجود فنيًّا، لأسباب كتلك التي تخص محدودية حركتهم، ونظرة مجتمعهم إليهم، وشبه انعدام للفرص المتاحة أمامهم لأنه «لكي تكون موسيقيًّا متخصصًا ليس لديك كثير من الاختيار: تصبح عازف في فرقة شعبية تلتقط رزقها من الموالد والأفراح لجمهور ليس غرضه تقصّي المواهب، أو العمل في فرقة كلاسيكية أوركسترالية، وهو اختيار محدود جدًا لندرة الفرق التي تتلقى أجورًا في المنطقة العربية، أو ترضى بعمل ذي ربح معقول، مستغنيًا عن تحقيق الذات أو الاعتراف الجماهيري»5.
حكايات ذاتية في قالب خيالي
تجربة "أحمر لارنج" خرجت من رحم تجربة شخصية أساسًا للكاتب؛ الذي عمل في فترة من الوقت مبرمجًا موسيقيًّا، ومنتجًا ومسوِّقًا للموسيقى لفترة أهَّلته لمعايشة أبطال غالبًا ما استوحى منهم رواية مخلوقة من تفاعله الشخصي. لم تكن تلك المرة الأولى في سحبُه مساحة التفاعل الشخصي إلى الكتابة الفنية بالرغم من بدايته البعيدة من حيث الكتابة في المدونات ككثيرين، ثم تقديم فيلم قصير موجود على موقع «يوتيوب» تحت عنوان «لمبة نيون»6 ثم انتقاله دون مقدمات إلى الكتابة الأدبية الشخصية. في أواخر عام 2017 تقريبًا كنتُ داخل مكتبة دار الكتب خان، التي صدر عنها كتابه الأول: غذاء للقبطي، ضمن سلسلة «بلا ضفاف» المعنية بنشر التجارب الأدبية الخارجة عن التصنيفات المتعارف عليها في مختلف الأشكال: قصة ورواية وشعر ومقال. الكتاب يحكي قصة رحلته الذاتية داخل المطبخ القبطي وأكلاته شديدة الخصوصية. كانت الفكرة تبدو لطيفة، ونوعًا ما جذابة، إلى جانب حجم الكتاب الصغير وشكله الجديد وفكرة سحب المطبخ وتناوله بخيال سوسيولوجي أدبي داخل العالم المسيحي الذي لم يقدَّر لي أن أعيشه أو أسمع عنه على الرغم من قربه الدائم. وهذا ما جعله إجمالاً يبدو وجبة غير دسمة خفيفة الظل، فالتهمته في جلسة واحدة، وهو ما حدث مع «أحمر لارنج» أيضًا، بينما بعد الأخير كنت أكثر يقينًا من أهمية تجربة صاحبها المجدد المهرج «خفيف الظل».
ربما على العكس من تعقيدات يحكي عنها كل كُتَّاب التليفزيون والسينما الجدد وما يواجهونه من بيروقراطية وتدخلات خانقة، كانت على أقل تقدير سترفض أو تحد من هذا الجنون الجامح والتهريج المبالغ في تجريبيته، فجعلته يميل إلى كتابة تجربته روائيًا، وبحرية تسمح بهذا الكم من التهريج والتجريب الحر، لتقديم أفكاره التي تعطي إحساسًا طاغيًا بعدم افتعال الظُرف والإضحاك، ربما فقط بسبب المعايشة الشخصية التي تبصّره أكثر بسقف وحدود شخصياته.
وبات التساؤل الأكثر إلحاحًا ضمن السياق الأشمل لتلك التجربة: هل يمكن التأسيس عليها ومن خلالها أم تجاهلها ونبذ تهريجها الفج و«قلشاتها» شديدة المعاصرة التي قد تعجِّل بموتها؟ وقد أجابت تجربة «أحمر لارنج» وأثبتت شيئًا مُركبًا شديدة الأهمية.
الجانب الأساسي المستمد من «أحمر لارنج» بالتحديد كان التأكيد على تجربة صاحبها المبشِّرة، لا كموهوب فحسب، قدر امتلاكه لكثير من الثقة والجرأة التي تجعله يتحرك بثبات كيفي وبطء نسبي داخل مساحات تتداخل خلالها التجربة الشخصية بالتخييل الروائي، وإخراج منتج نهائي ممتع مجهول التصنيف، غير معتمد على وصفات كتابية وأفكار مضمونة النجاح يقبلها جمهور لا يمل التكرار، ربما لتصبح سببًا في إعادة النظر مرة أخرى إلى مساحات تجريب قد تجد فرصتها في سرديات كهذه التي تنطلق من شخصيات أصحابها مثقلة بخيال أدبي أو سينمائي في قولبة الأفكار مرة أخرى. تجارب جديدة تذكرنا بتجربة مثل تجربة عادل أسعد الميري تحديدًا؛ الذي تحرك في غالبية أعماله من مساحات احتكاكه الشخصي بموضوعات كتبه؛ إن كان الأخير ككثيرين واجهته صعوبات، وأحيانًا رفض، مع كل مساحة تجريبية تخصه متجاهلة الإشادة النقدية، فلا مناص من تمنياتنا أن تتغير الأمور مع تغير الزمن، وتتحرك دور النشر على اختلافها أكثر وأكثر للتفكير في كل جديد ومربك يُعرض عليها أو تسعى إلى إنتاجه. هذه التجريبية التي يفرضها اختلاف الزمن والملل أحيانًا ولا تُطلب في ذاتها، والتي قد تفشل حتى لدى البعض أو ربما لن تجد نجاحها المرجو مع من حققوها قبل ذلك، ستظل جديرة بالمقامرة والمجازفة والعنصر الأكثر نجاحًا في استقطاب جمهور مختلف وجديد يعني انتصار الناشر والكاتب معًا.
هوامش:
1 - يراجع الكتاب صفحة 170
2 - يراجع الكتاب صفحة 69
3 - يراجع الكتاب صفحة 165
4 - يراجع الكتاب صفحة 103
5 - يراجع الكتاب صفحة 47
6 - فيلم «لمبة نيون». إنتاج عام 2013. المؤلف: شارل عقل. المخرج: عماد ماهر.
https://bit.ly/2MEuy9a