مراجعات

هشام أصلان

أدب السيرة... البعض يمنحنا أعمارًا إضافية

2018.12.01

ما أصعب أن يكون الإنسان معاصرًا!

البعض لا يترك أجمل من حكاية يحكيها الجميع إلا هو. تشغلني الفكرة، وأتصورها خسارة فادحة للمرء. كيف لأجمل حكاياتك أن تسري بينما أنت لست هنا لتستمتع بحالتها؟ أنت الذي يعيش على البوح. من هنا، لا أرى في كتابة السيرة سوى محاولة لتمرير تلك الحكاية الشائكة، التي لا يساوي ما حولها إلا بنية سردية لها. هكذا فكرت في إجابة سؤال أحد التحقيقات الصحفية: «ما الذي ستسقطه لو كتبت سيرتك الذاتية؟».

الصدق الذي تفتقده السير الذاتية العربية لا يقف أبدًا عند سطحية فضح آخرين شاركوا الكاتب حياته، لكنها تفتقد ما يتصوره الكاتب فضحًا لنفسه. وأنا أحب فضائحي. لا يمنعني من إفشائها إلا مراعاة شركائي، وأعيش أملًا في أن يأتي يوم تسقط عنده تلك المحاذير، ويصير ذكرها غير مؤذي لهؤلاء.

ولكن مهلًا. نحن أصحاب سياقات محدودة. حيواتنا ليست مهمة إلى هذه الدرجة. الذين يهم العالم معرفة سيرتهم الذاتية يستحقون من شركائهم رحابة أوسع. من التي ستكره أن يحكي ماركيز عن علاقته السرية بها قبل أن يصبح كاتبًا عظيمًا؟ أي عجوز ستتضرر كثيرًا لو عرف العالم أنها أقامت، في شبابها، علاقة خاصة مع كونديرا؟ بل ما المأساة في أن يتضرر البعض من ذكره في سيرة هؤلاء؟ قد يستحقون أن يكون لهم بضعة ضحايا. لكننا لسنا هؤلاء. لم نقدم للعالم ما يثير شغفه ليعرف الكثير عن حيواتنا بتفاهتها.

لا أتصور في حياتي ما أحب ألا أذكره في سيرتي الذاتية. مع ذلك، لن أستطيع حكايتها مراعاة لأبطال حياتي. بالتالي لا أتصور أنني سأكتبها ذات يوم. سأكتفي بمتعة منقوصة في أن يعرف الآخرون بعضها عبر نميمة الأصدقاء، وسأحافظ على تمثيل إنكارها، أو ربما أكون من محظوظين استطاعوا تمرير حكايتهم عبر تحايل على الحدود الضيقة لتقليدية التصنيف. التاريخ يشير إلى كثير من الحكايات التي هي ليست سيرة مباشرة لأصحابها. كتبها عنهم آخرون، أو كتبوها عن أنفسهم وقالوا «رواية»، تاركين للقارئ فرصة جيدة ليمارس لعبة التلصص.

مع ذلك، وبما تفتقده السير الذاتية العربية من صدق كامل، تحمل قراءة المهم منها متعة كبيرة. ربما يستمتع أبناء مهنة الثقافة بقراءة السيرة أكثر من القارئ العادي، ذلك أنهم، بطبيعة الحال، يقرءون تاريخ بشر يعرفونهم، أو حتى سمعوا بحياتهم. نحن أبناء الشهوة، والنميمة شهوة تُسهِّل عنصر التشويق. نحن نقرأ، أولًا، من أجل المتعة؛ التسلية هدف نبيل، وشرط أي تلقي يأتي بعدها. علينا الاعتراف بأن القارئ، إن لم يكن سيُمتحن فيما يقرؤه، لن يكمل بغير مُتعة.

2

في مناقشات كثيرة مع الأصدقاء حول مسألة التصنيف الأدبي عمومًا، وجنس السيرة خصوصًا، يطرح السؤال نفسه دائمًا: ما الذي يمنع أن تُصنَّف السيرة رواية؟ هل هو خضوع لتقليدية ضرورة التصنيف؟ ماذا لو تغيرت الأسماء الحقيقية لأبطالها إلى أسماء مستعارة؟ لو قال الكاتب نفسه إنها «رواية»؟ بصراحة، لا يحدث شيء. الزمن ينتصر للكاتب ما توفر شرط المتعة. مرور السنوات غالبًا ما يُخلِّص الكتاب من تلقي المعارف وأصدقاء المقهى، ويتركه لمجرى القراءة الواسع الذي يصنعه قراء آخرون لا يعرفون من الكاتب سوى كتابه وليس شخصه، خصوصًا ما يتعلق بالمجتمعات العربية.

والنماذج التي نجحت لمؤلفات نعرف أنها سيرة صريحة لأصحابها، وإن حملت تصنيفات أخرى، هي نماذج ليست قليلة. لكننا لسنا مُهمين. المهم هو ذلك القارئ الذي لا يعرفك.

لديك نماذج من قبيل: «بيرة في نادي البلياردو»، رواية وجيه غالي الوحيدة، التي نعرف أنها سيرة ذاتية كتبها وانتحر، «كلبي الهرم... كلبي الحبيب»، الرواية الوحيدة للشاعر أسامة الدناصوري، التي اختلف أصدقاء الكاتب حول ما إذا كانت رواية أم هي يومياته مع المرض. ونماذج أخرى ناجحة لم يُصنفها أصحابها روايات، ولكن أيضًا لم يصنفوها سيرة. بعض هذه الأعمال يعتبر ملائمًا لطرح أسئلة التصنيف: «الجنوبي» لعبلة الرويني، والذي تحكي فيه قصة أربع سنوات هي عمر زواجها من أمل دنقل، وعمر صراعهما مع مرضه بالسرطان الذي انتهى برحيله. بذروة متألقة للحكاية بدأت صباح يوم احتشدت فيه القاهرة «بملايين السيارات الفارهة، بينما أكبر شعرائها يخطو بقدم واحدة إلى معهد السرطان».

قال لي ناقد كبير: «لو كانت صبرت شوية كان ممكن الكتاب ده يبقى رواية مهمة»، بينما لم أرَ ما يَفرق بينه وبين رواية مهمة سوى استخدام الأسماء الحقيقية لأبطاله. هناك أيضًا أمثلة من قبيل: «وليمة متنقلة» لإرنست هيمنجواي، بحكاية أربع سنوات قضاها في باريس أيام الفقر.

هكذا، وإذا غضضنا النظر عن سُلطة الجوائز الأدبية وشروطها، ستجد أنك حتى في حالة خضوعك لقوانين التصنيف بحسب معايير كل مرحلة زمنية، لن تخضع الكتابة إلا لما تريد، بفيصل وحيد هو المتعة أو عدمها.

على ذلك، تأتي كتب السيرة، بغض النظر عما إذا كُتب هذا على غلافها أم لا، من أكثر أجناس الأدب متعة وفائدة، ربما لأن صاحبها، وإن اجتهد في ضبط تقنية بعينها للكتابة، أو وضع لنفسه سقفًا للصراحة، سيظل أكثر تحررًا من قيود المجتمعات الأدبية نقدًا أو جوائز، تاركًا نفسه لبوح لن يُختبر من خلاله إلا ما تمنحه السماء له من مستوى للموهبة.

3

ستكون أفضل حظًّا إذا توفرت لقراءاتك سير أكثر من شخص عاشوا نفس الفترة، وحكوا عن حيواتهم مشتبكة مع زمن واحد أو مكان واحد.

كنت أجلس في المكتب منتظرًا أحدهم، عندما وقعت يدي على الجزء الأول من «حضن العمر»، السيرة الذاتية للراحلة فتحية العسال. أنهيته ليلًا، وذهبت صباحًا أبحث عن أجزائه الثلاثة الأخرى. كنت كلما حكيت عنه لصديق من محترفي القراءة، يقول إن هذه متعة لا تكتمل إلا بقراءة «دراما الحب والثورة»، السيرة الذاتية لزوجها الكاتب عبد الله الطوخي. وجدتني أقرأ سيرة فتحية مرة أخرى بعيون زوجها، كما قرأت سيرته بعيونها، لأنشغل بأسئلة حول تحولات المثقف وموقفه تجاه السلطة، ومنطقية انتقال بعضهم من مقعد المُناضل حتى السجن السياسي إلى مقعد المُحب للسلطة. كيف يحدث ذلك أحيانًا خارج فكرة البراجماتية الشخصية، وباتساق صادق مع النفس؟ بينما تتضح صورة لطالما رآها أبناء جيلنا مُغبشة، لتلك العلاقة بين مثقفي الستينيات عمومًا وبين سلطة عبد الناصر، واقتراب من فهم أسباب خروج أغلبهم من سجونه ناصريًّا، أو على الأقل مُحبًّا!

في سيرتي فتحية العسال وعبد الله الطوخي، أيضًا، إحالة إلى التأمل في حقيقة العلاقة بين الرجل والمرأة، غير أن أهمية هذه الإحالة في ذلك السياق أتت من عدم وقوفها عند ارتباك علاقة الزوجين الشهيرين، أو حتى سطح العلاقات عمومًا، بل تلك كانت فرصة لتأمل مساحة أعمق وأكثر خصوصية في هذه المنطقة، مثل الارتباك في تقييم طبيعة تلقي التقدميين من الرجال في دوائر المثقفين أو اليسار للمرأة والعكس، فضلًا عن الصراع النفسي لدى البعض، حيث ما يريد لأفكاره من تحرر في مواجهة أثر نشأته وثقافته الفطرية، وإذا كان يسير في طريق هذا التحرر عميقًا أم أن المسألة واقفة عند مجرد صياغة أحد أشكال التنازل حفاظًا على شروط الالتصاق بدائرة أو جماعة. أسئلة تحيلك إلى قضايا اشتعلت مؤخرًا حول مسألة العلاقات، وعوامل كثيرة أدت إلى مكاشفات حادة وصدامية احتكت بسطح قشرة سميكة تكونت فوق مساحة من صديد في جسم النخبة.

وبالعودة إلى ما طرحته السيرتان من أسئلة تحولات المثقف ثم علاقة أبناء الستينيات بعبد الناصر، تستطيع أن تقرأ الحالة بأجواء أكثر شبابًا في مذكرات محمد سلماوي، الصادرة حديثًا عن «الكرمة للنشر». غير أنه إذا فتحت مذكرات عبد الله الطوخي مساحة فهم أمام هذا السؤال، فإن مذكرات سلماوي تضاعف الدهشة والالتباس، ذلك أنه رغم انتماء الأخير إلى عائلة جاءت ثورة يوليو على مصالحها بشكل مباشر، ستجده يتَّسم بالبنوة المخلصة لحقبة الثقافة المصرية في فترة الستينيات، وأحد المحبين لدولة يوليو وعبد الناصر والفخورين بزمنهم الثقافي، وشابًّا انتفض، كأبناء جيله، مع سماع خطاب التنحي وراح يجري معهم في شوارع القاهرة، بينما منعته يوليو، قبل سنوات، من إكمال تعليمه في الخارج بعد تأميم أملاك والده.

4

بعض السير لم يكتبها أصحابها بأنفسهم. جاءت في أشكال مختلفة للكتابة، ما يعود بنا مُجددًا إلى مواجهة مع جدلية التصنيف. وربما كان هذا النوع من الكتب المعتمدة على سيرة أحدهم هو الأكثر إثارة للجدل. لديك مجموعة من الأمثلة المشهورة داخل وخارج العالم العربي. مثلًا: «أنت قلت» للروائية الهولندية كوني بالمن. ترجمتها للعربية الشاعرة التونسية لمياء المقدم. وهي رواية أحداث حقيقية عن حياة الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث وقصة زواجها من الشاعر الإنجليزي تيد هيوز ثم انتحارها الشهير. كتبتها المؤلفة وأعطت صوت الراوي للزوج، الشاعر الشهير، الذي صورته الحكايات المعروفة كذكوري ظالم تسبب في هذا الانتحار وباقي تلك القصة المعروفة تاريخيًّا.

جاءت الرواية تناطح هذه الحكايات المشهورة، متكئة على كتابه «قصائد عيد الميلاد» وبعض أوراقه الشخصية، لتجد طريقها إلى الجدل والمناقشات مفتوحًا في أوساط المثقفين المهتمين بحقوق المرأة ودوائر النشاط النسوي، وأربكت التلقي العام والنقدي، خصوصًا في سياق لحظة نخبوية مرتبكة بطبيعة حال المرحلة، حيث راح راوي الرواية، هيوز، يعدد في سمات زوجته الشخصية، بإشارات إلى كونها شخصًا مؤهلًا للانتحار منذ سن مبكرة مدعومة بحياة أُسرية ليست على ما يرام، وتمريرات لعدم احتمالها فكرة التبعية والانطفاء في ظل لمعانه الأدبي والاحتفاء به شاعرًا نجمًا، ما أحالها إلى قلب الحياة فوق رأسيهما منطلقة من ادعاء إهماله الذي تجلى بالفعل في انسياقه وراء سيدة جديدة جميلة. هكذا وجدت الرواية مبررات لهيوز، أو على الأقل أعطته فرصة شرح نفسه، قبل أن تبرر الجنوح المسرحي للشكل الذي اختارته سيلفيا للانتحار: حشرًا في الفرن. ما لم تصل به الرواية من أحداث، هو انتحار الزوجة الجديدة لهيوز بطريقة مشابهة!

وفي مناطق الجدل الذي أحدثته السير التي لم يكتبها أصحابها، هناك، أيضًا، قصة حياة أحمد حسنين باشا، وهي حكاية شاب من أبناء الطبقة الوسطى المصرية في عهد الملك فاروق، وصل، عبر ذكاء نوعي وحضور إنساني خاص، إلى قلب القصر الملكي وحكم مصر من خلف ستار يليق بشخصية رجل ساحر وغامض. السيرة كتبها أمير الصحافة المصرية، والمقرب من دائرة الحكم في ذلك الوقت، محمد التابعي، في كتاب فاتن أصدرت طبعته الحديثة دار الشروق، منذ سنوات، عنوانه «أحمد حسنين باشا... من أسرار الساسة والسياسة».

لديك، بتشويق، حياة حسنين باشا، الرجل القوي في القصر الملكي، صوره الكتاب بوصفه الشخص الذي حال دون فساد السلطة، وضبط توازن الملك فاروق على كل الأصعدة، مرورًا بأحداث شخصية وتاريخية مهمة وشيقة، انتهاءً بوفاته في حادث سير مريب بعدما تزوج والدة الملك بفترة.

تستطيع قراءة قصة حسنين باشا من زاوية نظر أخرى ومغايرة تمامًا لما رسمه كتاب التابعي، في مذكرات مرتضى المراغي، التي أطَّرت حسنين في صورة الشخص المُتسبب في إفساد الملك، ومُحفزهُ على ما حكته قصص، ليست مؤكدة، حول حياته المليئة بالعربدة وعدم تحمل مسئولية الحكم بما يليق.

وها هي المصادفة تأخذنا إلى مذكرات المراغي نفسه، أحد الشهود المهمين على عصر مهم، حيث كان آخر وزراء الداخلية قبل ثورة يوليو. وهي المذكرات التي اندهشنا، وقت تصفحها، من كيف كانت تتغير الحكومات بين أسبوع وآخر. ونحن الذين كنا تعودنا على ثبات الحكومات فوق مقاعدها عشرات السنين، لم نكن قد رأينا بعد أن بعض اللحظات الزمنية تفعل بالوزراء فوق مقاعدهم ما تفعله العواصف البحرية بمراكب الصيد البسيطة.

التابعي أيضًا كتب قصة حياة المطربة أسمهان، بيقين وصل إلى عنونتها بـ«أسمهان تروي قصتها». والكتاب أثار جدلًا على مستوى عربي، حيث اعتبر البعض، وبينهم الكاتبة شريفة الزهور، أن التابعي قصد تشويه أسمهان انتقامًا منها كعاشق مكلوم: «وأحسست أن شيئًا ما وقف في حلقي! ولكني استطعت أن أحبس الدمع وأقول من يدري! كنت أعرف وأنا في طريقي إلى السيارة التي ستقلني إلى محطة (اللد) ومنها إلى مصر، كنت أعرف أنني صافحت آمال الأطرش لآخر مرة، ووقفت أمامها وجها لوجه لآخر مرة، وأنني لن ألقاها بعد اليوم»، مستعيدًا نصيحة أمها: «لا تخدع نفسك في أمرها. إنها لا تحبك، لأنها ما أحبت رجلًا في عمرها، ولن تحب، صدقني، فأنا أعرف الناس بإيملي».

الآراء التي اصطدمت بالكتاب الممتع، ترى أنه حمل سطورًا ماكرة للانتقام من السيدة التي أتعبه حبها، فمرَّر كلامًا حول حياة لاهية وعشق متناهٍ للشراب. غير أن المفارقة تأتي في أن بعض المناطق البراقة التي اعتبرها المعترضون تشويهًا، هي ذاتها التي أضفت على شخصية أسمهان سحرًا وحضورًا نوعيًّا.

القارئ غير المهتم بالبحث وراء الحقيقة سيرى، غالبًا، في سطور التابعي تخليدًا لامرأة تستحق الأسطورة، حتى وإن كانت، بتعبيره، لا تستطيع رؤية الكأس فارغة، ولا تستطيع رؤيتها ممتلئة.

لم أكن أقتنع بكلام الرصناء عن أثر حلاوة الصوت والطرب بوصفهما سحرًا بين رجل وامرأة. أفكر بينما أتأمل صورة ملونة لأسمهان تحتل غلاف كتاب محمد التابعي، وأحتار في تلك السيدة التي لا أراها جميلة، بعكس كل من تعامل معها. بياض شاحب، وشفاه لا أتصورها بارعة في التقبيل، أو قابلة حتى للاستسلام بين شفتي رجل، وفي الداخل بعض الصور لجسد محدود، ومتواضع. في مراحل أخرى من العمر، يدرك الواحد أن السفور الذي تفتقده ملامحها يضفي جلالاً كبيرًا على فكرة استسلامها لرجل. هو هذا الإغراء القاسي لسيدة يبدو عليها التحفظ، عندما تلمع عيناها لأحدهم، ولو ظن هذا الرجل أنه الفائز بها، تلسعه نارها، كما تلسع رجلاً تلو الآخر بضمير مرتاح. صوَّرها التابعي كتوليفة نادرة التحقق.

هنا أيضًا تقرأ، بين السطور، ما يعكس المنطق الجدلي حول قلب الرجل واتساعه أحيانًا لأكثر من علاقة، تلك الصفة الذكورية التي تستاء منها النساء وإن ارتبك بعضهن أمام هذا الـدونچوان. يتضاعف أثر هذه الصفة عندما تتسم بها امرأة كسرًا لتابوهات المجتمع، تلهو بالحياة والرجال دون انكسار، ربما لأنها انكسرت مبكرًا ذات مرة. ولو حدث وحالفك الحظ، سوف تفوز، على الأكثر، بمعزة خاصة، لكنك لن تستطيع امتلاكها، وتصير سمات شخصية مثل الكذب واللوع وعدم الالتزام إلى طاقات شاحنة للمغناطيس الذي ترتديه. كانت أسمهان، التي رسمها التابعي، هي تلك السيدة التي تضع رأسها على كتفك، وتحك قدمها في قدم الجالس أمامك، ثم تختار بينكما غير ملتفتة لعتابك البارد، لأنها أدركت أنك تحت سيطرة كاملة.

وبالعودة لاشتباكات وتقاطعات السير التي عاش أصحابها الفترة الزمنية نفسها، وفرصة قراءة التاريخ عبر أكثر من تجربة شخصية. تقودنا مصادفة جديدة لأن نعيش مع أحمد حسنين باشا، رجل القصر الملكي الأقوى، كشخصية رئيسية في سيرة أسمهان. ذلك أنه، طبعًا، من غير المنطق أن يفوِّت تاريخ المرحلة فرصة تقاطع شخصيتين بتركيبتي حسنين وأسمهان من دون الوقوع في الحب. هي التي قالت إنها لا تُحب الغناء أمام السيدات، وهو المغامر الجذاب والسياسي الداهية الذي ترك أثرًا وحكاية لدى كل من عرفه.

5

من أنواع المذكرات، أو السير الذاتية، تلك التي كتبها أصحابها في أزمنة قديمة ونشرت في دوريات أو صُحف ثم أُعيد نشرها بعد وفاة صاحبها واختفائها قبل اكتشافها ونشرها مُحققة حديثًا. وهذه يأتي جدلها دائمًا من منطقة مدى دقتها: هل هي المذكرات الكاملة لصاحبها؟ هل استثنى ناشرها الأول أجزاء منها لأي سبب؟ أي من نسخها أكثر اقترابًا من الحقيقة؟

منذ شهور صدرت مذكرات نجيب الريحاني عن دار «بتانة» للنشر، مُقدمة بدراسة طويلة لشعبان يوسف، يؤكد عبرها أن هذه هي المذكرات الحقيقية للريحاني، واضعًا عددًا من الأدلة على عدم صدق المذكرات المشهورة التي نشرتها دار الهلال في 1959، بعدما نُشرت مُسلسلة في مجلة الكواكب عام 1952.

والمقارنات بين المذكرات الرائجة والأخرى المجهولة، في دراسة يوسف، كثيرة. أبرزها أن الأولى صدرت بعد عشر سنوات من رحيل الريحاني، وهو الوقت الذي ذاع فيه صيت فنانين مثل يوسف وهبي ومحمد عبد الوهاب، ما دفع مجلة الهلال إلى حذف الفقرات التي تخصهما، حيث جاء ذكرهما مع  آخرين ببساطة الحديث عن فنانين ناشئين دون حذر من سطوة نجوميتهم، فضلًا عن إشارة إلى خيال محرر المذكرات القديمة، وتقديمه نجيب الريحاني حاكيًا عن نفسه بطريقته التمثيلية التي نعرفها، بينما الكتاب الذي قدم له شعبان يوسف صاغه الريحاني كشخص طبيعي يحكي بأريحية عن نجاحاته وخيباته وليس «كاركتر» مضحكًا: «هذه سطور حياتي، بحلوها ومرها، بهنائها وشقائها، بكأسها المترعة، وكأسها الفارغة. إنها تسلية للذين أحبوني وشاقهم أن يروا صورتي بغير ماكياچ، وتذكرة للذين سيحيون من بعدي، حينما يروق لهم أن يطالعوا قصة دراما ضاحكة، عذابها أعذب من راحتها!».

وبين هذا النوع من السير الذاتية، مذكرات أم كلثوم، التي صدرت حديثًا عن «سلسلة كتاب أخبار اليوم»، بمقدمة وتحقيق لمحمد شعير بعنوان «مذكرات الآنسة أم كلثوم»، الذي هو في الأصل عنوان حلقات نشرتها مجلة آخر ساعة بين نوفمبر 1937 ويناير 1938، وهو عنوان ملائم لهذه الحالة المغايرة بشكل كبير لما اعتدناه من أدب السيرة الذاتية أو المذكرات. ذلك أن بطلتها لم تنشرها وهي في أواخر العمر وسقف التحقق الفني، ولكن في شبابها، وربما ليست مبالغة لو قلنا في بدايات التحقق، ذلك أنها كانت لا تزال على حافة الشهرة الكبيرة. من هنا تغيَّر عنوان الحلقات عند الحلقة الثانية ليصير «ذكريات لا مذكرات».

تقول حكاية شهيرة، إن مسئولي الإذاعة المصرية بعد يوليو 1952، منعوا أغاني أم كلثوم بحجة أنها كانت من المطربين الموالين للملك فاروق، وأن عبد الناصر عندما سمع بهذا الأمر أبدى استياءه من القرار وألغاه موبخًا مسئولي الإذاعة بأن هؤلاء المعترضين عليهم هدم الأهرامات لأنها كانت «موجودة أيام الملك». ثم صارت العلاقة شديدة الود والخصوصية بين ناصر وأم كلثوم. والتاريخ المصري تملؤه أوراق تتحدث عما قدمته بصوتها ونجوميتها لدولة يوليو ومجهودها الحربي. وإن كان التاريخ يغفر للمواهب الكبيرة هفواتها السياسية، فأم كلثوم ربما من الجالسين على عرش غفران التاريخ عمومًا. غير أنك لن تستطيع منع شيء من الاستغراب والضحك وأنت ترى تجليًا للمبالغة في مجاملة أي حاكم والتناقض في الرؤية السياسية، ما يأتي ضمن ألطف فصول الكتاب، وأكثرها تسلية، وهو فصل مقالات سومة في الشأن العام. لا مزايدة على احتفاء «الست» بليلة غنائها أمام ملك مصر، ولا تشكيك في صدقها حول تقديسها عبد الناصر، شأن نخبة وعموم المصريين في ذلك الوقت، لكنها تلك اللغة غير الخجولة من ناحية، والضمير المرتاح في وصل رثاء عبد الناصر والاحتفاء بالسادات، في الوقت ذاته، من ناحية أخرى! تحكي:

«لم أكن أدري ما يخبئ القدر وأنا في موسكو إلا حين أيقظني ابن أختي وهو يجاهد نفسه، ليتلمس الوسيلة التي يقول لي بها إن عبد الناصر قد ذهب إلى لقاء الله، وأن مصر قد فجعت في أعز ما تملكه. ورحت أصرخ: مصر، وطني، بلدي، المعركة، ما المصير؟ وعدت من موسكو دون أن أغني. وعدت أسائل نفسي: هل أستسلم ليأس ثانٍ كيأس النكسة؟ أو بنفس الإيمان الراسخ في أعماقي، الإيمان الذي تعلمته من عبد الناصر، أطرح اليأس وراء ظهري، وأمضي في طريقي أغني للنصر حتى يوم النصر؟ ومرت الأيام، وتمثل لطف الله في قضائه، في شخص ذلك المجاهد الشريف، الرئيس أنور السادات، الذي كان ضمادًا كبيرًا للجرح الكبير، وامتدادًا رائعًا لروح ناصر التي لن تموت».

على ذلك، يوفر الكتاب، وبسخاء، الكثير من الحكايات التاريخية المهمة التي كانت سيدة الغناء طرفًا فيها. الأهم، أن هذه الحكايات تأتي على لسانها.

6

بعض المقاطع ليس الأجمل، غير أنها تضيء، في تصوري، المناطق شديدة الخصوصية لدى كاتبها، وكأنها كُتبت منفردة ثم صارت سببًا، أو بداية الخيط. هنا بعض المقاطع التي لو لم أكن أعرف أنها من كتب مختلفة، لكان ممكنًا قراءتها كمقاطع متفرقة في كتاب واحد. وكأن البعض يكتب البعض الآخر، أو ربما يكتبنا بشكل ما.

   وجيه غالي «بيرة في نادي البلياردو»:

«أردت أن أحيا، أردت أن أقيم علاقات غرامية مع كونتيسات، وأن أقع في غرام عاملة بار، وأن أبيع الهوى، وأن أصبح زعيمًا سياسيًّا، وأن أربح في مونت كارلو، وأن أكون متشردًا في لندن، وأن أصبح فنانًا، وأن أكون أنيقًا، وأن أرتدي رث الثياب».

هيمنجواي «وليمة متنقلة»:

«طلبت شراب الرم. فكان له مذاق رائع في ذلك البرد، وواصلت الكتابة. دخلت فتاة المقهى وجلست وحدها إلى طاولة قرب النافذة.

   كانت جميلة جدًّا ولها وجه عذب طري يتألق مثل قطعة نقد ضربت حديثًا، إذا كانوا يضربون النقود من بشرة ناعمة نضَّرها المطر، وكان شعرها مقصوصًا بشكل مائل حاد على خدها.

   نظرت إليها فشوشتني وأثارتني كثيرًا. وتمنيت أن أضعها في القصة أو في أي مكان آخر، ولكنها وضعت نفسها حيث يمكن أن تراقب الشارع والمدخل، فعرفت أنها في انتظار شخص ما. ولهذا فقد واصلت الكتابة».

   عبلة الرويني «الجنوبي»:

«كنت أريد الكثير من الكلام، والكثير من الانفعال، والكثير من النار والكثير من الحرائق، وكان يمنحني مشاعر عميقة يرفض تأكيدها بالألفاظ. كان يريد من مشاعري المزيد من الهدوء والمزيد من السكينة، من أجل لحظة اطمئنان واحدة لم يعرفها طوال حياته، وكنت أمنحه انفعالات مستمرة وتوترًا عاطفيًّا لا يعطي استقرارًا».

7

   تقدم السير لقارئها حيوات متعددة في صفحات. فأنت كلما انتهيت من سيرة أحدهم، ستكون قد عشت حياة أخرى، يدعمها إدراكك لكونها حقيقة لا خيال. ستعيش تجارب غير تجربتك، وترى أزمنة غير زمنك، وبلادًا غير بلدك. قد تتفاوت أهميتها بحسب صاحبها وتجربته الحياتية واشتباكها مع عالمه، لكن في الأخير تستطيع، وبضمير مرتاح، أن تقول إنك قد ذهبت جوَّالًا في الأماكن والأزمنة ورأيت. ذلك أن هناك من يضاعفون أعمارنا، ويمنحونا أكثر من حياة.