مراجعات

دينا قابيل

أشباح الثورة

2018.12.01

المؤلف: علاء خالد

الناشر: دار الشروق، 2018

أشباح الثورة

قراءة في كتاب "أشباح بيت هاينريش بل"

يكتب علاء خالد من منطقة تخصه وحده، منطقة تجمع بين روح الشاعر الشفيفة  التي تسائل كل ما حولها، وبين  حس الرحالة   الذي يجوب  الأمكنة  ويقتفي الأثر الإنساني فيها أينما كان.

فعلى غلاف كتابه الأحدث “أشباح بيت هاينريش بل” لن تجد كلمة “رواية” التي تمهر العديد من الأعمال في السوق العربي اليوم. ورغم ما تحيل إليه كلمة أشباح في العنوان من خيال جامح أو غلبة للفانتازيا، إلا إن الكتاب بعيد تمامًا عن الخيال الروائي وعن الغرائبية، إذ هو أشبه بيوميات الكاتب أثناء رحلة إقامة أدبية في إحدى القرى الألمانية، في بيت صاحب نوبل “هاينريش بل”.

يتزامن تاريخ الرحلة مع بلوغ الكاتب سن الخمسين، محطة النضج والحكمة التي تتطلب مراجعة الذات ومراجعة رحلة الحياة والتي يكتشف خلالها أن وعيه بنفسه هو وعي شاب، أو قل طفلًا، لا علاقة له بمظهره العمري أو بالشعرات البيضاء الرصينة التي تكلل رأسه. يتزامن تاريخ الرحلة أيضًا مع مرور ثلاثة أشهر على اندلاع ثورة 25 يناير، وهو المحور الرئيسي في كتاب الرحلة، وأساس الصراع الذي يعيشه الكاتب في إقامته في مهجره المؤقت الذي يحاور فيه أشباح حلم الثورة. في ذلك الوقت دخلت الثورة مرحلة الثرثرة وتفرعت في مسارات جانبية غير متوقعة، كما يصفها علاء خالد في أولى صفحات الكتاب. لقد شعر بأهمية الهرب من هذا الزخم الذي يلاحقه، وأراد أن يلوك ما عاشه ببطء وتمهل لكنه لم يستطع الفكاك من أشباح الثورة وأحلامها.

 “كانت أصوات الثورة في مصر وهتافاتها ما زالتا تدويان في أذني، مع صدى بعيد لإحساس، ربما هو غير حقيقي، ولكنه موجود ويعلن عن نفسه باستمرار، بأني تركت الثورة وزوجتي في مصر، وذهبت لأكتب عنهما من مكان آخر أكثر أمنًا وهدوءًا”.

لسنا إذن بصدد رواية يلعب فيها الخيال دورًا رئيسًا وينسج عالمًا موازيًا، أو سيرة ذاتية مهمومة بمرحلة في حياة الكاتب يتمحور فيها السرد حول شخصية السارد وأحاسيسه وتطور رحلته النفسية، ولا حتى شعرًا، مثل ذلك الذي أتقنه علاء خالد منذ أواخر الثمانينيات ونظمه نثرًا في خمسة دواوين.

كما أن الكتاب لا ينتمي إلى “أدب الرحلة” الصرف، رغم عناصر التشابه الكبيرة التي تجمع بينه وبين هذا النوع الأدبي والذي يشتمل على ملاحظات الرحالة وصوره ورسومه وتدويناته، ويتناول رحلته الداخلية جنبًا إلى جنب مع اكتشافه لأرض مجهولة، ورحلته التأسيسية التي يتعلم فيها ويكتسب خبرات جديدة في فترة زمنية محددة.

انصهرت كل هذه الأنواع الأدبية لتكوِن كتابة عصية على التصنيف، بها شيء من ذلك كله؛ شيء احترفه علاء خالد مؤخرًا في العديد من أعماله، ينتصر فيه للكتابة ذاتها، متجاوزًا التصنيف الكلاسيكي ومتماشيًا مع الحداثة التسعينية التي ينتمي إليها الكاتب، تلك التي تثور على الحدود الفاصلة بين الأنواع وتغازل (العبرنوعية). ففي أشباح بيت هاينريش، كما في أعمال أخرى مثل “مسار الأزرق الحزين” أو “وجوه سكندرية”، ينطلق الكاتب من منطقة التجربة الحياتية المعاشة ليلتقط جوانب إنسانية نادرة، أو ليـطرح تأملاته الفلسفية البسيطة والعميقة في آن واحد، أو ليجوب الأماكن المختلفة ويقيم حوارًا بين الذاكرة وروح المكان. وهو الذي أطلق منذ سنوات مشروعه الثقافي الأثير “أمكنة”، حين أصدر مع زوجته المصورة سلوى رشاد مجلة مستقلة غير دورية تعنى بثقافة المكان وتحتفي بالنص المصور وبتحرير الأماكن من أطرها التقليدية بل وتحرير اللغة نفسها من ثوابتها الجامدة

يضاف إلى هذه الكتابة التأملية حول الذات وعبقرية المكان وتفاعلاته مع البشر، روح الشعر التي تخيم على الكتاب كله، تلك الروح الهائمة التي تركت رفيقتها في الوطن وذهبت تطارد أشباح الثورة في ريف أوربي وغابات سامقة مستقرة. ويتوزع السرد في “أشباح بيت هاينريش بل” بين ثلاثة خطوط رئيسية، الخط الرئيسي لليوميات والرحلة واكتشاف الذات عبر الآخر، وخط موازٍ لمجموعة من المقالات حول الثورة، كان يرسلها بانتظام لإحدى الصحف المصرية “ربما هذا العمود يعوض قليلًا إحساسي بالغياب والانقطاع عمَا يحدث في مصر”، ثم خط ثالث غير مرئي، هو خط الأشباح الذي أطلقته الثورة، فظلت تلاحقه أصوات الهتافات التي خلفها وراء ظهره، وحلم شهور الثورة الأولى، والمسيرات الجماعية في الشوارع وصوت زوجته الذي علا لأول مرة وسط فورة الحماس.

ففي الخط الرئيسي لليوميات، يطلعنا الكاتب عما يدور في رأسه من تأملات وتساؤلات مندهشة وقراءات؛ يشركنا معه في تفاعلاته ونقاشاته مع مجموعة الكتاب الذين يتقاسمون معه بيت هاينريش بل، وينتمي كل منهم إلى جنسية مختلفة؛ زوفنكو من صربيا وجيرمان من روسيا وألجريد من بيلاروسيا، يجمع بينهم جميعًا إلى جانب الهم الإبداعي أن كلًّا منهم “يحمل آثار ثورة مرت ببلده أو بذاكرته، وأشباحًا أطلقتها هذه الثورات”.

   يعيد علاء خالد بعضًا من مقالاته الأسبوعية التي اتسمت بالتحليل الهادئ والمتعمق، مثل “ستعيش أجيال مطاردة بشبح الموت” أو “صورة جماعية” أو “شعب بأكمله يسير على الماء”، فتمثل هذه المقاطع اليوم توثيقًا فريدًا لأيام الثورة الأولى. كذلك يعيد سرد نقاشاته الحماسية المتفائلة مع زميل الإقامة الأدبية، زوفنكو، هذا الذي أكسبته ثورة صربيا السلمية ضد حكم سلوبودان ميلوسوفيتش الديكتاتوري عام 2000 حكمة ما بعد الثورات وشيئًا من خيبة الأمل في احتمالات التغيير، فتجعل القارئ يقرأها اليوم بعد مرور حوالي ثماني سنوات على الثورة وقد اتخذ موقع زوفنكو اليائس، أو ربما اعتراه شيء من الحنين إلى هذه الأيام الخوالي.

الشيء الصادم بالنسبة إلي تشكيك زوفنكو في التغيير الحقيقي الذي حدث في صربيا، فقد عادت النزعة الفردية والأنانية لتطل من جديد بعد عشر سنوات من المسيرات الجماعية في الشوارع، كما قال. كان هذا الإحساس الجماعي هو الذي سافرت به من مصر وحملت صوره وڤيديوهاته معي، وأثمن شيء يمكن أن يبقى في ذاكرتي في السفر، وهو الصورة الرئيسية التي صنعتها الثورة. فمعنى أن أشكك فيها يعني أنه لم يبق شيء سوى التضحيات والموت والاستشهاد، ولا يمكن لثورة أن تعيش فقط على الموت”.

أو في موضع آخر من الكتاب يفسر خالد وجهة نظر زميله عن “خيبة الأمل” التي تخلفها الثورة للجميع قائلًا: “ليس بسببها (الثورة) أو بسبب مثالية الناس، وإنما لأن هناك مستويين من الأحلام، لا يتقاطعان إلا نادرًا، مستويان كانا شيئًا واحدًا أثناء الأيام الأولى للثورة، أما بعدها فكل يأخذ طريقه. لا أعتقد أن هناك ثورة كاملة لا تخلف خيبة أمل. أي ثورة مهما كانت دمويتها أو نقاؤها، هي ثورة ناقصة. لأنها تعيش على قوس زمني واسع مثل قوس قزح، ولأن هناك ماضيًا لا يمكن التغاضي عنه، يقتات على هذا الكائن الجديد”.

كما يشركنا الكاتب أيضًا في حواراته الأدبية مع رفاق المهنة الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة ولكن يبدو مع ذلك أنهم يتحدثون لغة واحدة هي لغة الكتابة التي تقرب المسافات بين هذه الثقافات المتباعدة. فيحيد الحديث عن الثورات ليذهب إلى الأدب الحديث، والاغتراب، والمسافة التي يتخذها الكاتب من الكلاسيكية، ويختبر علاء خالد تيمة الحنين كما يراها وكما تراءت لرفاقه، ويخلص إلى مقارنة مثيرة للتفكير:“الحنين له أصول شرقية. حنيننا في مصر كحنين الأطفال الذين يتمسكون بأمهاتهم، حنين معلق بالحبل السرِي. أما حنينهم في أوربا في طور ما بعد انقطاع هذا الحبل السرِي، حنين الكبار المتألم الذي بلا أم ولا حتى مرجع. هل يمكن أن أنسى المخرج الروسي تاركوفسكي في فيلم (نوستالجيا)؟ له حنين لا يشفيه العودة للوطن بل الاغتراب عنه، حنين لا شفاء منه أبدًا، يزداد مع الوقت ككرة ثلج، حتى تسد كامل فتحة الكهف التي تأتي منها العاطفة!”. 

أيكون هذا الحنين الذي يتحدث عنه علاء خالد باقتدار هو أشباح الثورة وأحلامها التي لا يستطيع منها فكاكًا؟ إذ يغلف الكتابة رغم ما تتسم به من تروي وعقلانية ومنطقية شيء من الحنين، حنين يتخفى وراء كتابة رصينة تأبى التورط في الشعرية فتقود بذلك القارئ إلى حلم البدايات الأولى للثورة، إلى الزوجة الحبيبة التي تركها في مصر، إلى رائحة القهوة التي يرشفانها معًا، ثم الحنين إلى بيت الإقامة الأدبية بصحبته الفريدة وغابات الريف الأوربي، بعد أن اختلف زمن الكتابة وعاد الكاتب إلى أرض الوطن.

فقد بدأ الكتاب بقسم قصير بعنوان “السفر” هو حوار اللحظات الأخيرة بينه وبين زوجته قبل إقلاع الطائرة المتوجهة إلى ألمانيا، حوار بسيط لكنه كُتب بروح الحنين واختتمه بجملة أشبه بالقصيدة. كما أنهى علاء خالد الكتاب أيضا بقسم بعنوان “العودة” يصف لحظة العودة بعد أن ألمت به حادثة حرق في يده وأهدته ابنة زميله الصيني ثلاثة مراكب ورقية: “كانت المراكب الورقية الثلاث التي صنعتها ابنة (يي كاي) تمثل بالنسبة إلي رمزًا للشفاء، تركتها سابحة في ماء المطر المنهمر وراء النافذة، بينما الطيور السوداء الملتصقة بالزجاج تفرد جناحيها في وضع أبدي وخالد للطيران”.

ما بين “السفر” و“العودة” يجرفنا علاء خالد إلى أشباحه وأشباحنا، نستعيد لحظات الحنين إلى الثورة المغدورة، فتقودنا هذه الكتابة إلى إعادة التفكير في الكتابة الحداثية غير المتورطة، المعادية “للحنين”، ونخلص إلى حقيقة تتولد من ذائقة الكتابة نفسها ومفادها “ليس كل الحنين شر”.