نظر

خالد يوسف

أكاذيب الفاشية بين المرح والكابوس

2021.01.01

من الأساطير حتى الأطواق الكهربائية

 

نوفمبر بدا مثل يوليو، الفتاة التي عبأت حي أندرسونفيل في شيكاجو بصراخ الفرحة كانت ترتدي قميصًا بل أكمام ونصف جسدها الأعلى يقفز من سقف سيارتها، لم يكن صراخًا أكثر منه التقاط للأنفاس، كان تعبيرًا صوتيًّا عن السنوات الأربع السابقة في حياة الأمريكيين. لافتات بايدن وهاريس الزرقاء للدعاية الانتخابية كانت حاضرة، ولكنها ليست محور الاهتمام. نوفمبر بدا وكأنه أول شهور السنة، وكان التعافي هو الهم الأساسي، ليس من الكورونا فقط، بل التعافي من الاستنزاف، والإجهاد، والغرائبية الخالصة، ومسلسلات تليفزيون الواقع غير المحدودة التي ذاقتها مدينة مثقلة بالهموم كشيكاجو، تنتمي لولاية زرقاء في عصر ترامب. صيحات الفرح والرقص الاستثنائي في شوارع أندرسونفيل لم تكن احتفالاً بأي انتصار، بل لاستعادة بعص ملامح الحياة الطبيعية «فقط». 

بالنسبة لجيل كامل من الأمريكيين ـ بتركيباتهم الديموغرافية دائمة التغير في العقود السابقة، كل ما حدث من ٢٠١٦ هو ربما التجربة الأولى الحقيقة، وبالعرض البطيء لتحول الشعبوية من مجرد خطاب مزعج إلى كونها كتيب دعائي أو بروفة مسرحية في كيفية صعود الفاشية، كتطبيقات عملية يومية للواقع الذي رسمه مسلسل «المؤامرة ضد أميركا» الذي عرضته شبكة HBO مطلع ٢٠٢٠، في معالجة تليفزيونية لرواية فيليب روث الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه، عن أميركا افتراضية في ثلاثينات القرن الماضي، يكتسحها التيار المناصر للنازية، فتتحول رويدًا إلى دولة من دول المحور. 

الأمريكيون التقدميون أنفسهم كانوا يشعرون بالحيرة وهم يرون المجهود المضني لخط الدفاع الأول ثقافيًّا في مقاومة عصر ترامب، كل خط الساخرين التليفزيونيين عجز في مناسبات عديدة عن مضاهاة غرائبية عصر ترامب، كان مؤلمًا رؤية المنازلة غير المتكافئة مع غرائبية ترامب من قبل ستيفن كولبير، وتريفور نواه، وجون أوليفر، و»نابغة التيك توك» سارا كوبر، وسارة سيلفرمان، ومايكل رابربورت، وكونان أوبرايان، وسيث ماير، وجيمي كيميل، وكل طاقم »ليلة السبت على الهواء«، وقناة كوميدي سنترال، وكيث أولبرمان، ومعهم نخبة من ساخري اليوتيوب من محترفي التقليد، حتى الظهور المتكرر لجون ستيوارت لم يكن كافيًا لالتقاط الصورة كاملة، ولفهم صدمة ٢٠١٦، تشارلوتسفيل في فيرجينيا، وإجراءات العزلة العبثية، دون نسيان كل مؤتمر صحفي عبثي يخص مستجدات الوضع بالنسبة لتفشي الكوفيد ١٩ من ولاية إلى أخرى. 

على وجه الخصوص، كان مدهشًا لقطاع كبير من المتابعين للترامبية هو عجزه على مدار أربع سنوات عن إدانة جمعات التفوق الأبيض، تلك الرغبة في عدم خسارة عضو واحد من أتباعه من مناصري اليمين المتطرف. حتى في عز احتياجه إلى جمع أصوات متأرجحة خلال المناظرة الأخيرة له أمام بايدن، معطيًا أوامره لجماعة «الأولاد الفخورين» بالاستعداد والترقب في حال خسارته للانتخابات. إنها القشة التي أشعلت فضول الحائرين، قبل أن تعرف عنوانًا عريضًا بحصوله (خاسرًا) على ما يقرب من ٧٠ مليون صوت. إنها النبوءة التي توقعها ترامب نفسه في مطلع ٢٠١٦ عندما أكد «الكثيرون سيقومون بالتصويت لي حتى لو أطلقت النار على شخص ما في الجادة الخامسة في قلب مانهاتن». 

كانت مفارقة كبرى أن تأتي محاولات التفسير الجدية من حلال برنامجين ساخرين، قاما بعمل تجربة بحثية سياسية من نوع تجريبي خالص. في قرار باقتحام الستار الذي يجلس خلفه الطرف الثاني، من أي شعبوية وهم الجماهير نفسها. المفارقة الأكبر أن يكون رد الفعل هو الأكبر من جانب المشاهدين. الحالة الأولى يمثلها جوردان كليبير، المراسل الكوميدي للبرنامج الساخر «ديلي شو برفقة تريفور نواه» على قناة كوميدي سنترال. مواظبًا على الدخول في قلب معظم التظاهرات والفعاليات المخصصة لأنصار ترامب، خصوصًا في ولايات الوسط الأمريكي. 

جوردان كليبير يدخل في جدالات مباشرة مع جمهور ترامب، في محاولة لفتح دوائر نقاش معهم، ومجادلتهم على نحو سقراطي، وبنفس منطقهم الخاص. كمحاولة تفهم سيدة في منتصف العمر تنوي الهجرة من أمريكا في حال فوز بايدن لرفضها العيش في بلد اشتراكي على حد قولها سيجعل التامين الصحي متاحًا للجميع، ويتسامح في قوانين الهجرة، معلنةً خطتها للسفر إلى كوستاريكا. ليتمنى لها كليبر التوفيق بالعيش في بلد آخر معروف بتأمينه الصح الشامل. متمنيًا لها أيضًا حظًا سعيدًا كمهاجرة في وطنها الجديد. 

كانت جولات كليبر الميدانية فرصة مهمة للتعرف على آخر المعتقدات التي يتداولها أنصار ترامب، ومن أهمها أن الصين قامت بتطوير فيروس الكورونا رغبة في إهداء الانتخابات لبايدن، بإجبار قطاع عريض على إرسال أصواتهم عبر البريد. وأن الحاسب المحمول لهانتر بايدن ويحتوي على تفاصيل أعماله الخاصة يحتوي أيضًا على معلومات خطيرة تتعلق بتدخل دول أجنبية في السياسة الأمريكية، مما يشكل خطرًا على الأمن القومي. وأن «الواسطة» والمحسوبية مستفحلة في الدوائر الخاصة بجو بايدن، لكن الأمر مختلف بالنسبة لإيفانكا، لأنها تمتلك كل مميزات شخصية «الأميرة». كل هذا إلى جانب باقة من أفضل مختارات نظريات المؤامرة القادمة للتو من «فرن» غرف كيو أنون الافتراضية.

إلا أن المحتوى الأكثر إثارة للاهتمام، والأكثر تجريبية يتعلق بما حاول الكاتب الكوميدي روبرت سمايجل أن يقدمه، من خلال أدائه لشخصية ترايمف الكلب الشتام، الدمية المطاطية ذات اللكنة الروسية الثقيلة «وكأنه أحد القاطنين الجدد القادمين لحي تشيلسي النيويوركي من الجالية الروسية، الكلب الذي لا يتأخر في مصارحة الجميع بما يفكر، دون الالتفات إلى البروتوكولات المعتادة، خصوصًا على مستوى لخطابات السياسية. ليس من أقلها إرسال مراسلات مزيفات تابعات لقناة فوكس لنشر أخبار من نوعية نية ترامب تعقيم البورتوريكيين، أو بعث مراسل أخر لفعالية مختلفة، مستطلعًا مجموعة آراء اليمين المتطرف التقليدية بخصوص قوانين الهجرة، قبل أن يقوم المراسل المزيف بترجمة مقابلاته إلى اللغة الإسبانية، وسط شعور بالاضطراب والحيرة من جانب الضيوف من أنصار ترامب، وكان البرنامج يضعهم في مواجهة مباشرة أمام الغريم، في تجربة عملية لمدى نجاعة أفكارهم.

يبقى الإسهام الأكبر لترايمف الكلب الشتام جاء متمثلاً في السلسلة الناجحة لجلسات مزيفة لاستطلاع آراء أنصار حقيقين لترامب داخل غرفة مغلقة، يتم فيها عرض مجموعة من الخطط والأفكار التي يمكن سماعها من قبل ممثل يقوم بتقليد صوت الرئيس، استعدادًا لحملته الانتخابية في ٢٠٢٠. على أن تقوم المجموعة بإعطاء أحكامها في مدى فعالية تلك الرسائل وقدرتها على إلهاب حماس الناخبين. ويكفي القول بأن مجموعة المقاطع المتعلقة بتلك الجلسات تجاوز عدد مشاهديها ال١٠ ملايين مشاهدة على يوتيوب، فيما يعتقد بأنه عرض حي يلتقي فيه العبث السياسي الكوميدي بأساسيات الفكر الفاشي. لعل أهمها ترحيب المجموعة بفكرة مفادها تركيب أسوار كهربائية غير مرئية لاصطياد المكسيكيين العابرين للحدود، أو تخصيص مصائد على دورات مياه عامة متنقلة، تغلق أبوابها بمجرد اصطيادها لمهاجر غير شرعي، وهي فكرة شبيهة نالت الإعجاب أيضًا؛ لمنازل تتحول إلى أقفاص تلتهم أي خادمة غير شرعية، قبل أن يتم شحن الجميع إلى بلادهم مرة أخرى.

بصرف النظر عن غرائبية الموقف، ووجود ناخبين يمكنهم بالفعل تصديق أن أوباما هو سيدة متحولة جنسيًّا، وأن هيلاري كلينتون هي رجل كهل. إلا أنه لا يمكن تصديق التقاطعات المثيرة التي صنعتها تلك «المقالب» السياسية مع واحد من أهم الكتب السياسية لعام ٢٠٢٠ وهو «تاريخ قصير من الأكاذيب الفاشية» للمؤرخ والكاتب الأرجنتيني فيديركيو فينكلستين، فيما يعتقد بأنه الجزء المكمل لكتابه السابق «من الفاشية إلى الشعبوية» في عام ٢٠١٧. 

فينكلستين يبدأ كتابه «الأكاذيب الفاشية» بالتصريح الذي أدلى به ترامب نفسه قبل عامين: «كل ما تشاهدونه، وكل ما تقرؤونه لا يعبر عما يحدث»، وهي البداية المثالية لوصف الكابوس الراهن، الذي يتجاوز مرحلة الغوغائية والدجل السياسي. إنها حالة لها علاقة بإرث طويل تركته الحركة الفاشية في القرن العشرين. وموقها العدائي من مفهوم «الحقيقة». ويضع فينكلستين خطوطًا واضحة تحت الملاح الخاصة للكابوس الراهن بقوله في المقدمة «نحن نعيش لحظة تلتقي فيها الشعبوية مع الفاشية على الرغم من كونهما أيديولوجيتين مختلفتين، فأنهما يتقاسمان شحن مناخ الزينوفوبيا، دون كبح جماح العنف السياسي المصاحب. إنه هدف يتقاسمه الشعبويون مع الفاشيون الجدد الآن». ويضع فينكلستين الخلط الذي تقوم به الفاشية بين الأسطورة والواقع خطوة أولى في طريق الصعود السياسي. أن يتم وضع الأسطورة محل الواقع، تمهيدًا لترسيخ الأكاذيب التي تعتنقها تلك الفاشية على أرض الواقع، مستشهدًا بالأساطير التى طالما أحاطت باليهود في العقلية الأوروبية عن المجتمعات اليهودية بداخلها، أنها غير نظيفة، وناقلة للأمراض. لتصبح الخطوة المثالية هي حبسهم داخل الجيتو؛ في أوضاع لا تسمح إلا بترسيخ تلك الفكرة، وتحويلهم إلى مجتمع منفر، تستفحل فيه الأمراض. 

الخطوة التالية تتمثل غالبًا في حالة التوحد التي تشعر بها الجماهير مع أفكار القائد، وتوجهاته الرومانسية تجاه التاريخ القومي لشعبه، مع التحفظ على أن الفاشية تسحق في طريقها أي رومانسية أخرى قد تعمق شعور الفرد بذاته المستقلة «الأكاذيب المنظمة تقوم بتعريف مهمة الفاشية، الحقائق أو الأكاذيب هي فقط ما تحدده رؤية القائد، هذه هي الحقيقة) الوحيدة». إنه إذن ذلك الهوس الذي يشغل الفاشية، تلك المعاني المتضمنة داخل ثنايا الحقيقة، كلما كان الأمر أعلى صوتًا، أكثر عنفًا وأكثر صخبًا كان أقرب إلى «الحقيقة»، إنها بحسب قول فينكلستين «التعبير الوحيد المشروع والعابر للتاريخ عن الشعب، بل عن الأمة كلها، سعيًا إلى تحويل الأكاذيب الأيديولوجية إلى حقائق لا يمكن التشكيك فيها». الفاشية تعشق الحدس على عكس التأمل أو التمهل، الوجود الجسدي للقائد يقارب ذلك التصور الديني الكاثوليكي لتجسد الروح في جسد الأنبياء؛ ذلك الإيمان الذي لا يقبل التشكيك، وينبغي القبول به دون مناقشة. 

كما أن العداء للحقيقة شرط مهم من شروط تلك العقيدة، وفينكلستين يدلل على وجود مفهوم الأخبار الكاذبة» في نماذج مبكرة من القرن العشرين، منها حزمة «الوصايا العشر» التي أوصت بها قيادة الفصائل الفاشية في رومانيا عام ١٩٣٥، ومنها وصية أساسية مفادها: «لا تثق بأي معلومات تتناول أخبار الفصائل في أي صحيفة، وحتى لو كانت قومية النزعة، ولا حتى ما ينقله المخبرون، أو حتى أصدق الناس، الفصائل تؤمن فقط بالأوامر التي يصدرها القائد». ولعل ما عايشه الطبيب أنتوني فاوتشي رئيس المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية خلال الأشهر الأخيرة من تعليقات ترامب هو تطبيق عملي لتلك الوصية القادمة من فاشيي رومانيا. 

إعادة خلق وتشكيل العالم، ومنها «الحقيقة» هي شاغل أساسي لدى الحركات الفاشية. في الوقت الذي تقود فيه المتغيرات العلمية العالم منذ القرن الثامن عشر، تتمسك الفاشية بالقيم المطلقة؛ بـ «الحقيقة التي يعتقد فيها تتغلب على الحقائق التي يتم إثباتها عمليًّا». سنوات ترامب الأربعة تعتمد في قوامها الأساسي على خلق منظومة موازية للحقائق (تشمل العناد في إعلان الهزيمة في الانتخابات بدعوى التجاوزات التي شهدتها العملية الانتخابية الأمريكية في ٢٠٢٠). 

يؤكد فينكلستين في الفصل الخاص بعلاقة الفاشية بالتدمير على ما أشار إليه المفكر الفرنسي الفاشي جورج فالوا؛ بأنه في الواقع البرجوازي ٢ + ٣ يساوي خمسة، قانونًا وتجارةً. ولكن في الحياة القومية ٢+ ٣ يساوي ستة، لأن الروح البطولية تصنع الفارق»، إنها المصنع الذي تمكن من تحويل التعاليم المسيحية إلى شعارات تستخدم لصالح العنف السياسي. ويضعها المؤرخ الأرجنتيني ساطعة في جملته: «القادة يكشفون عن رغباتهم للأعداء والأصدقاء بالقدر نفسه. ولكن هدفهم الأول هو تلبية رغبة أنصارهم المكبوتة في التدمير». أما الجانب الآخر من عملة السخرية والمرح في التعامل مع الترامبية هو الكابوس، ذلك الارتباط الدائم بفكرة النبوءة، مشيرًا إلى تعليق أحد القساوسة المحافظين الأمريكيين أن رحيل ترامب عن السلطة قد يتسبب في حرب أهلية لن يتعافى منها بلدنا أبدًا«. النكات التي أطلقها جوردان كليبر أو الكلب المطاطي ترايمف، لن تغيِّر من واقع أن تيارًا كاملاً وضع قدمًا ثابتة في الوقع السياسي الأمريكي، إلى الدرجة التي اعتبرت فيها النخب الأمريكية الحزب الجمهوري على أولى عتبات تحوله إلى حزب سلطوي، وأنه تجاوز مرحلته الشعبوية التي عرفت ملامحها في مطلع العقد الماضي عقب تولي أوباما السلطة. 

في فقرته الأخيرة من كتابه القصير، يضع فينكلستين الصورة النهائية كاملة، في إقرار لواقع جديد تشكل بأفعال أكثر منها رغبة في إطلاق نبوءة، مؤكدًا على أن الشعبويين لديهم رغبة جامحة باستبدال الحقائق التاريخية بمجموعة أفكار مزيفة عن أمجاد سابقة وعد القائد دومًا بإحيائها. إنها الوسيلة الأمثل على حد تعبيره لفهم شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، وهي سلة جذابة يمكن أن نضع فيها كل أوراق حق حمل الأسلحة، والإجهاض، والتامين الصحي الشامل، وتعقيد قوانين الهجرة.

ذلك الماضي المجيد وهمٌ يعتبره فينكلستين في قلب التصور الفاشي لما يعرف بـ «الحقيقة»، أو «هذا المفهوم أصبح الموتور لشعبوية اليمين في نسخته الحديثة». وقد تكون تلك الكلمات واضحة بما فيه الكفاية، ولكنها ستأخذ شكلاً ساطعًا مع نهاية الفقرة الأخيرة في «مقالب» الكلب الشتام ترايمف، عندما عُرِض إعلان زائف عن نية ترامب إعداد قائمة بالشخصيات التي تستحق الحصول على المصل الواقي من الكورونا فور طرحه. ليجمع كل المشاركين في الاستطلاع مثالاً عن رغبتهم في إعطاء ذلك المصل لزوج من ولاية ميسوري؛ أشهر بندقيته في وجه متظاهري احتجاجات مقتل جورج فلويد بمجرد اقترابهم من حديقة منزله، وذلك قبل شخصية مثل أوبرا وينفري على سبيل المثال. وقتها قالت سيدة من ضمن المشاركين في الاستطلاع: «ذلك الزوج يستحق المصل أكثر من أي شخص، هؤلاء دافعوا عن ممتلكاتهم، لقد رأيت نفسي في هذا الموقف، هؤلاء الناس هم نحن».