ثقافات
محمد أبو الغارألبير أرييه: أيقـونة مصـرية
2021.06.01
ألبير أرييه: أيقـونة مصـرية
ولد ألبير أرييه مصريًّا وعاش مصريًّا ومات مصريًّا، دافع عن مبادئ تنادي بالعدالة الاجتماعية والمساواة وسجن سنوات طويلة بسبب مبادئه. لقد ولد يهوديًّا وعاش مصريًّا مؤسسًا للجمعية اليهودية المناهضة للصهيونية..
نشأ ألبير أرييه مصريًّا وعاش مصريًّا ومات مصريًّا، يؤمن بوطنه الوحيد مصر، دافع عن مبادئ تنادي بالعدالة الاجتماعية والمساواة وسجن سنوات طويلة بسبب مبادئه. ولد يهوديًّا وعاش مصريًّا مؤسسًا للجمعية اليهودية المناهضة للصهيونية. وقد ربطتني بألبير صداقة طويلة امتدت لسنوات، وأجريت حوارات طويلة معه شملت تاريخ حياته ورحلته الطويلة المليئة بالأحداث..
ولد ألبير في عام ١٩٣٠ وغادرنا في عام ٢٠٢١، وكانت صحته ممتازة حتى وقع في حمام منزله وكسرت عظمة الفخذ، وأجريت له جراحة كبيرة، ولكن حدثت مضاعفات بعد العملية، واستمر الأمر ما يقرب من عام في علاجات مختلفة، حتى اضطر إلى أن يترك سكنه الذي عاش فيه منذ عام ١٩٣٥ إلى منازل أولاده سامي وهاني في مدينة العبور؛ حيث عاش حتى وفاته. وأصل عائلة الأب من اليهود الإسبان الذين طردوا عام ١٤٩٢ من إسبانيا وتفرقوا في حوض البحر المتوسط إلى بلغاريا ومنها إلى تركيا، وتوفي جده أبراهام في تركيا، بعد أن أنجب جاك الذي هاجر إلى مصر وعمره ١٥ عامًا، وعمه إسحق توأم أبيه الذي غيَّر اسمه إلى روجيه وهاجر إلى فرنسا وتزوج من مسيحية وعاش في مارسيليا، والأخت الكبرى لويزا التي تزوجت من إيطالي وعاشت في ميلانو. هذه الهجرة من تركيا حدثت كلها في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، وتوضح أن هذه العائلة ذات الأصول الإسبانية قد هاجرت إلى بلغاريا ثم تركيا ثم تفرق الأبناء الثلاثة بين إيطاليا وفرنسا ومصر؛ فالشتات اليهودي حقيقة تاريخية واضحة. أما من ناحية عائلة أمه، فجدته تأتي من أصول روسية عاشت في رومانيا، ثم هاجرت العائلة إلى تركيا حيث تزوجت الجدة من جد ألبير وهاجرت العائلة مرة أخرى إلى مصر عام ١٨٨٨، وأنجبت ثلاثة أولاد وبنتًا، البنت هي ماتيلدا أم ألبير التي ولدت عام ١٨٩٩ وتعلمت في مدرسة الراعي الصالح، والأولاد أخوال ألبير تعلموا في مدرسة الفرير، وكانوا يسكنون في حارة قشتمر خلف كلوب محمد علي بشارع طلعت حرب. وقد حضر والد ألبير إلى مصر في أوائل القرن العشرين وكان عمره ١٥ عامًا، وعمل في محل في الموسكي، ثم دخل في تجارة الملابس والأدوات الرياضية والكشافة، حتى افتتح محله "نيو لندن هاوس" في ميدان مصطفى كامل، ومكانه الآن مقر أحد البنوك. وقد عمل في تفصيل الجلاليب والقمصان، وكان من زبائنه جمال عبد الناصر وأنور السادات وخالد محي الدين. وللأب صورة وهو يلبس الطربوش ويجلس خلف سعد زغلول وإسماعيل صدقي عام ١٩٢٤. ويحمل الجنسية التركية، وكان من حقه الجنسية المصرية فتخلص من التركية، وحصل على الجنسية المصرية عام ١٩٢٢، وتزوج عن حب ولكن كانت هناك مشكلتان؛ الأولى أنه من طائفة السفرديم (اليهود الشرقيين) وهي من الأشكيناز (يهود شرق أوروبا)؛ ولم يكن الزواج بين الطائفتين سهلاً ولا مرغوبًا فيه من الطائفة اليهودية، والأمر الثاني أنها كانت فقيرة ولم يكن معها ما تدفعه (دوطة)، وكانت العروس هي التي تدفع ما يشبه المهر عند الزواج. ولكنهما تغلبا على العقبتين وتزوجا وأنجبا بنتًا في عام ١٩٢٤، ثم ألبير عام ١٩٣٠؛ وكلاهما ولدا في ٤٦ شارع الفلكي بباب اللوق بواسطة داية يهودية أجنبية. وعاش ألبير مع عائلته في البيت ثم انتقلوا إلى شارع البستان عام ١٩٣٥ وظل يعيش في نفس البيت حتى نهاية حياته. وقد هاجرت أخته إلى فرنسا مبكرًا وأصبحت أستاذة في الجامعة، متخصصة في تاريخ الأندلس وعاشت في تونس سنوات طويلة، أما ألبير فقد بقي في مصر. كانت العائلة تتكلم الفرنسية في المنزل، وكانت منطقة وسط البلد بها عدد كبير من السكان من اليونانيين والإيطاليين وجنسيات أخرى، وكانت الفرنسية هي السائدة في ذلك الوقت. وقد قوبل حصول ألبير على الجنسية المصرية باستغراب لأن الجميع كان يبحث عن جنسية أجنبية ليتمتع بالامتيازات الأجنبية، وقال ألبير "لقد ولدت وعشت وسجنت وتزوجت وأنجبت في هذا البلد.. وأنا لا أريد أن أموت بالطبع، ولكن المؤكد أنني سأموت في بلدي مصر".
يقول ألبير إن ارتباطه بقضية العدالة الاجتماعية بدأ منذ الطفولة حين أخذه والده إلى مدينة شبين القناطر ليقابل بعض الزبائن، وشاهد ألبير على الطبيعة الفقر الشديد للأطفال في القرية، والتصقت بعقله الباطن صور الفقر الشديد ولم تغادر مخيلته طيلة حياته. ودخل مدرسة الليسيه وكانت مدارس علمانية لا يدرَّس فيها الدين، وكان الأستاذ محمد سيد أحمد زميله في الفصل. أما التعليم فبالفرنسية فقط، فأحضر أبوه شيخًا أزهريًّا ليدرسه اللغة العربية في المنزل، ثم دخل كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية لمدة عام واحد ١٩٤٦.. وحدثني أنه يذكر لطيفة الزيات وهي تخطب في الطلاب، وأن لويس عوض كان يدرس الآداب الانجليزية، وبدأ في الانخراط في العمل السري عندما كان عمره ١٨ عامًا، ويقرأ صحيفة البروجريه وبعض الصحف الفرنسية الأخرى في هذه الفترة المبكرة من العمر. كما كان صديقًا لأخت يوسف حزان التي تزوجت من أخ فؤاد حداد، وأنه لم يكن متدينًا، ولم يعتد الذهاب إلى المعبد بخلاف الكثير من العائلات اليهودية، وضرب مثالاً بجاك حسون الطبيب النفسي الشهير الذي هاجر إلى فرنسا، والتي كانت عائلته مصرية صميمة، وكان أبوه يذهب ليصلي في الجامع إذا تعذَّر عليه السفر إلى المعبد اليهودي البعيد. سافر ألبير للخارج إلى فرنسا للمرة الأولى عام ١٩٤٦ وعاد بالباخرة بحقيبة مليئة بالكتب.
يقول ألبير "كان الجو عام ١٩٤٧ و١٩٤٨ صعبًا.. أصدقائي في المعتقلات، أو تركوا مصر، وكنت على وشك أن أعتقل أيام الملك.. ولكن أصدقاء والدي أنقذوني"؛ إذ كان الكثير من عملاء والده من الشخصيات المهمة في الشرطة أو من السياسيين الكبار، وحدث أن حضر ضابط شرطة للقبض على ألبير في البيت فوجد أباه، وكان الضابط عميلاً عنده وصديقه، فحذر الأب من أن يحفظ ابنه ألبير أي متعلقات أو أوراق تدينه، وبالفعل لم يقبض عليه، وقد توفيَّ والده وهو في السجن. وعندما سألته عن علاقة الشيوعيين المصريين بالصهيونية قال إن قليلاً جدًا منهم كان منتميًا للصهيونية، ما عدا مجموعة في مصر الجديدة؛ وهم ٧٠ شخصًا هاجروا إلى إسرائيل وكوَّنوا حزب المابام، وأضاف "سألت واحدًا سافر الخارج وعاد إلى مصر ما الذي تغيَّر في مصر بعد غيبة سنوات قلائل، فقال حاجتين: مافيش حد حافي في الشارع، والقاهرة بقت للمصريين".
يحكي ألبير "في أثناء الحرب العالمية الثانية كنت أسمع الراديو، وأتعاطف مع الحلفاء ضد النازية، وقد أخبرني رفعت السعيد أن دخول الاتحاد السوفيتي الحرب ومعركة ستالينجراد كانت من أسباب إيمانه بالشيوعية.. وقد قرأت رواية الأم لمكسيم جوركي، وهي التي شجعتني على الإيمان بالشيوعية".. وعن ذكريات تلك الفترة يحكي أنه في مدرسة الليسيه فرانسيه كان يوجد مدرس فرنسي عظيم هو الذي جنَّد أنور عبد الملك وأمينة رشيد ومحمد سيد أحمد، وأنه هو الذي أقنع محمد سيد أحمد بالشيوعية، وأن أول من شرح له الماركسية كان شخصًا ألمانيًّا اسمه هانز، وأن الذي جنده كان يهودي فلسطيني كان طالبًا في الجامعة الأمريكية. وقد قبض عليه بعد ٨ سنوات من دخوله الحركة الشيوعية، واستمر في المعتقل من ١٩٥٣ إلى ١٩٦٤، مؤكدًا على أن الكثير من الشيوعيين اليهود كانوا وطنيين يحبون مصر وضد الصهيونية، ولكن النظام سجنهم لفترات ثم أخرجهم وطلب أن يغادروا مصر "داخل السجن عام ١٩٦١ طلبوا مني مغادرة مصر بصفة نهائية وهو مستعدون للإفراج عني فورًا" لكن ألبير رفض العرض واستمر حبسه ثلاث سنوات أخرى، قائلاً "لا أريد لأحد أن يشكك في مصريتي". وفي داخل السجن توطدت علاقته مع الإخوان المسلمين المسجونين، ويقول إن بعضهم "كانوا يعتبرون اليهود الشيوعيين أعداء، والبعض الآخر يعاملوننا معاملة جيدة.. وتعرفت على مهدي عاكف وكان مدرس تربية رياضية.. وكنت أعرفه من قبل لأنه كان يحضر لشراء الملابس الرياضية من محل أبي.. وكنت، أنا ومهدي، مسؤولين عن تحضير العجين وخبز العيش في سجن الواحات للمساجين".
ولما سألته عن جمال عبد الناصر قال "كان في السياسة الخارجية متفتحًا.. وكان سياسيًّا، وفي السياسة الداخلية منغلقًا بسبب تكوينه الطبقي، وهذا أثَّر على سياسته". ثم أضاف "المشكلة إن معظم الضباط لم يكونوا مثقفين.. وكان يوجد ضابط مثقف أعطوه رئاسة مؤسسة الأسماك"! ولما سألته عن دور إسرائيل في خروج اليهود من مصر قال إنهم حاولوا كثيرًا، ولكن ما حدث في ١٩٥٦؛ أي العدوان الثلاثي، أخاف اليهود. كما أن جزءًا من خروج اليهود كان بسبب سوء معاملة الحكومة لأعداد منهم، تلك المعاملة السيئة التي طالت جميع الأجانب وحتى اليونانيين. مشيرًا إلى أن إسرائيل سهلت خروج اليهود من مصر، وفي مراحل لاحقة عقدت حماس احتمالات الصلح والتفاهم. ويقول ألبير "إنه مما لا شك فيه أن هناك عددًا من المصريين اليهود كانوا لا يشعرون بمصريتهم ويريدون الحصول على جواز سفر أجنبي، ولكن كان هناك مجموعة ضخمة من اليهود القرائين المنتمين لمصر بالكامل، ويعيشون في الأحياء الشعبية، وثقافتهم مصرية ويستمعون للموسيقى الشرقية ويرتدون الجلابية البلدي"؛ لقد أُجبر القرائين على الذهاب إلى إسرائيل. وهناك من الطبقة الوسطى من بقية اليهود الذين ترجع أصولهم في مصر إلى عدة أجيال، ولكنهم أجبروا على الخروج، وشخص مثل ألبير وهو وطني مصري حقيقي كانوا يريدون خروجه من مصر بأي طريقة، ولكنه صمم على البقاء في مصر التي دافع عنها وعن أهلها.
وفي عام ١٩٦٥ بدأ العمل مع خالد محي الدين ورفعت السعيد، وحين قابل محي الدين شعراوي جمعة على سلم الاتحاد الاشتراكي وسأله لماذا ترفض إعطاء باسبور لألبير، سأله شعراوي: هل تضمنه، فأجاب خالد: أضمنه أكثر من نفسي.. فصدر له جواز سفر وترخيص من الاتحاد الاشتراكي بدخول الكثير من الأماكن الممنوعة، وأصبح أحد المساعدين الأساسيين لخالد محي الدين في منظمة السلام، وسافر مع الوفد المصري الذي رأسه خالد محي الدين.
أما عن رأيه في حل المشكلة الفلسطينية فكان يرى أنه إن آجلاً أو عاجلاً سيكون هناك سلام، وأن الإسرائيليين والفلسطينيين سوف يتفقان على حل الدولة الواحدة.
وكان ألبير قارئًا متميزًا لتاريخ مصر وتاريخ العالم، وعنده مكتبة ضخمة، ويتحدث الفرنسية والعربية والإنجليزية بطلاقة، وكانت ثقافته موسوعية وقد حكى لي أنه تطوع لمساعدة فقراء جالية اليهود في أثناء وباء الكوليرا في عام ١٩٤٧، فدخل البيوت وشاهد البؤس الشديد والجهل، واقتنع بأن الاشتراكية هي الحل لإنقاذ البؤساء المصريين، وكان ذلك قبل انضمامه للحزب الشيوعي واعتناقه الماركسية. لقد عرفت ألبير لسنوات طويلة وهو مصري حتى النخاع، ووطني محب لبلده ويكره الظلم والعنصرية الموجودة في إسرائيل، وهو بالإضافة إلى ذلك كان موسوعي الثقافة خفيف الدم يعرف كل ما يحدث في مصر، وكان في مرضه الأخير يقرأ ويعلق على كل شيء في الفيس بوك. أما بالنسبة للفن فقد أحب الموسيقى الغربية الخفيفة، ولكنه اكتشف سيد درويش والأغاني الشعبية داخل السجن، واستمتع بالموسيقى الكلاسيكية في مرحلة متأخرة من العمر. لقد رحل صديق عزيز ووطني عظيم، وقبل كل شيء إنسان حقيقي يعرف معنى الإنسانية والعدالة والتسامح.. فسلامًا على روحك يا ألبير.