هوامش

صافي ناز كاظم

ألفريد جاري الباتافيزيكي: صاحب الثورة الأولى في المسرح الحديث

2021.04.01

ألفريد جاري الباتافيزيكي: صاحب الثورة الأولى في المسرح الحديث

الكتابة عن مسرح اللامعقول أو مسرح العبث أو البحث في خلفية أيٍّ من أقطاب الكتابة والتأليف في مجال المسرح الطليعي Avant-Garde Drama من المسرح العالمي المعاصر، لابد أن يقودانا إلى ذكر اسم: ألفريد جاري الباتافيزيكي. ورغم عمق الأثر الذي تركه ألفريد جاري في معاصريه وفي أجيال المتمردين من الكتاب والنقاد في المسرح العالمي المعاصر، تكاد الكتابة عنه في اللغة العربية تكون نادرة بل تكاد تكون معدومة باستثناء إشارات مقتضبة عنه تجدها تائهة في طيات بعض الكتب المترجمة. ولأهمية التعريف بهذا المفكر المسرحي المتمرد، الذي أطلقتُ عليه بحق عند كتابتي عنه عام ١٩٧٠ لقب صاحب الثورة الأولى في المسرح، أبادر بكتابة هذه المقدمة التعريفية التي أود أن تعكس في العربية صورة عن حياة هذا المفكر المسرحي: أبو المسرح الطليعي العالمي، مع عرضٍ لأهم أعماله المسرحية: أوبو ملكًا Ubu Roi، التي ذاعت مجددًا بعد أن قدمها المخرج والمفكر المسرحي العالمي بيتر بروك، على المسرح الباريسي في صيف ١٩٧٨، إذ إن أبو ملكًا هي تجسيد الثورة المسرحية والفلسفية التي أعلنها ألفريد جاري ليلة ١٠/١٢/١٨٩٦ لحظة عرضه الأول لتلك المسرحية. أما ما هو ملخص ثورته المسرحية والفلسفية؟ فهذا ما يمكن بلورته وتجميعه من مقولاته وكتاباته المتناثرة التي تعكس مبدئيته المسرحية بوضوح. ونظرًا إلى أن رصيد الكتابة في العربية عن ألفريد جاري معدوم أو يكاد ـ كما أشرت آنفًا ـ اعتمدت اعتمادًا كليًّا على البحث في الكتب التي صدرت باللغة الإنجليزية وعلى ترجمتي للمقتطفات التي أخذتها من تلك المراجع لتعينني وتوثق تشكيل الصورة التي وصلت إليها عبر رؤيتي الخاصة لهذا المفكر المسرحي المهم. كذلك اعتمدت كلية على ترجمتي للمقتطفات التي اخترتها من كتابات جاري عن مسرحه وأوردت نصوصًا منها ملحقات في نهاية هذه المقدمة.

لقد وصلت إلى معرفة ألفريد جاري الباتافيزيكي بالمصادفة: كان ذلك في عام ١٩٦٣ في مدينة شيكاغو وكنت في غمرة دراستي لعالم يوجين أونيسكو وصمويل بيكيت ـ أهم وأبرز اسمين في مسرح اللامعقول ـ كنت أقرؤهما بشغف وامتزاج يطاردانني حتى النوم والحلم ونظرتي إلى الأشياء. وبينما كنت منغمسة في كتاب عن يوجين أونيسكو، كان مؤلفه يرجع فيه أصول أونيسكو إلى مدرستين من مدارس المسرح الطليعي: مدرسة السيرياليين التي ينفي أونيسكو انتسابه إليها، ومدرسة الباتافيزيقا أو الباتافيزيكا أو الباتافيزيكس Pataphysics، سمعت لأول مرة عن ألفريد جاري: أول رائد لجماعة الباتافيزيكا. وقال مؤلف الكتاب إن أونيسكو رغم تنصله من جماعة السرياليين ليشعر بالفخر لانتسابه إلى جماعة الباتافيزيكا وبالغبطة للربط بينه وبين ألفريد جاري. وهذه العلاقة بين أونيسكو وجاري تبدو واضحة في تأثر أونيسكو بجاري إلى حد أنه ينقل عنه تعبيرات برمتها، أحدها يأتي على لسان أحد أبطاله في مسرحية جاك، يقول فيها: «عندما ولدت كان عمري عشرين عامًا» مطابقًا لتعبير جاري وهو يقدم بطله الباتافيزيكي فاوسترول Faustroll قائلًا: «عندما ولد دكتور فاوسترول في سيركاسيانه ١٨٩٨ كان عمره ثلاثة وستين عامًا وكان عمر القرن العشرين ناقصًا عامين».

يعرِّف جاري الباتافيزيكا بأنها: علم ما بعد الميتافيزيقا: علم ما بعد وراء الطبيعة. وأن نسبته إلى ما وراء الطبيعة مثل نسبة ما وراء الطبيعة إلى الطبيعة وأنه علم الحلول الخيالية. والتعريف لا يمكن أن يزيد على ذلك، فأتباع هذا العلم يقولون إنه علم من الصعب تعريفه لأن تعريف الباتافيزكا بتعبيرات غير باتافيزيكية شيء مناقض لنفسه. كل ما يمكن أن يوضح أو يفسر هذا العلم هو ما أثاره حول نفسه من اعتراضات على العلوم الطبيعية مع ما خلفه من نماذج فنية تعبر عن مدلولات وغايات هذا العلم والذي يكون ألفريد جاري بأكمله ـ أعني الإنسان وأعماله الفنية والسلوكية ـ النموذج الأمثل للباتافيزيكي.

كل ظاهرة عند الباتافيزكيين قانون مستقل قائم بنفسه أنه علم الخاص: القانون الذي يحكم الاستثناءات. ففي عالم الباتافيزيكا كل حدث يقرر قانونه وهذا يتساوى مع القول إنه ليس هناك قانون: علميًّا كان أو أخلاقيًّا أو جماليًّا. إنها نظرة تعبر عن مرحلة قصوى من الفوضى الفلسفية. كلمة الفوضى الفلسفية لا شك: كلمة مخيفة لكن المقصود بها هنا: فوضى إيجابية غير هادمة: بل إن الباتافيزيكي يعني أن تتميز نظرته بالمرح الجياش وبتسامح عريض وعالمي: لأن كل شيء في نظر الباتافيزيكي جائر وعبثي لذلك هو يفضل اللامعقول The irrational لأنه يسمح بمنطلق حر للعقل البشري.

الباتافيزيكا ترفض البحث عن الحقيقة المحدودة لأنها تفضل رحلة البحث والمغامرة فيما يسميه جاري إثيرنتي Ethernity التي تعني الأبدية ويمكن تحديد معنى إثيرنتي بأنها مجال الباتافيزيكا: عالم ما بعد ما وراء الطبيعة.

كان هدف جاري الوحيد في الحياة أن يتمرد، وهذا لم يحققه في مسرحياته وشعره وقصصه وسائر كتاباته فحسب ولكن في سلوكه الشخصي الذي تعمد أن يصوغه غريبًا موغلًا في الغرابة، شاذًّا عن كل قواعد السلوك السائد المتعارف عليه. وفي دفاعه الحار عن الباتافيزيكا والعلم الأعلى: كان احتجاجه على عدم جدوى الفكر البشري، إذ إن العقل والمنطق والاكتشاف العلمي بإمكانها وحدها أن تصل بنا إلى نقطة محددة من المعرفة. أما ما هو أبعد من هذه النقطة فإن العقل البشري يقف أمامه مسلوب الحيلة. وبما أن هذه النقطة ـ التي لا يستطيع العقل البشري أن يتخطاها ـ هي النقطة الوحيدة التي تهمنا حقًّا ـ نقطة فهم الموت ـ توصل جاري ـ عبر هذا المنطق ـ إلى أن كل فكرة ـ نتاج العقل البشري ـ فكرة تهزم نفسها. إذن فهي بالنهاية: عبثية ومضحكة. وهكذا ابتكر جاري علم الباتافيزيكا وكرسه من أجل استخدام المنطق المحض وذلك لكي يبرهن على أن نتائج المنطق تقود إلى اللامعنى. وتلك كانت وسيلة جاري للسخرية من الإيمان بالجهد البشري الذي يرى أنه مهما ارتقى يظل محدودًا.

لم يكن غريبًا إذن، والأمر كذلك عند ألفريد جاري وهو الرائد والنموذج الأول لعلم الباتافيزيكا، أن تخرج نماذجه الفنية وكتاباته كلها بشكل يسيطر عليه الأسلوب الكاريكاتيري الممعن في السخرية والإغراب ومسالك الخيال اللامعقول، بل أن يتحول هو نفسه إلى نموذج للتعبير عن وجهة نظره.

حين أريد أن أشير إلى شيء من نماذج ألفريد جاري الفنية أجد نفسي أمام خيار بين النموذجين الأساسيين اللذين استغرقا أساليبه الفنية المتعددة بشكل ملح وهما: نموذج الأب أوبو Pere Ubu أو أوبو ملكًا Ubu Roi ودكتور فاوسترول Doctor Faustroll وقد قدمهما من خلال مسرحه وشعره وقصصه ومقالاته ولوحاته الفنية ـ سواء أكانت حفرًا على الخشب أم بالزيت أم طبعًا ليتوغرافيًّا أو تخطيطًا سريعًا بالفحم ـ بل إنه تقمص في النهاية شخصية الأب أوبو حتى انتفت ملامحه الشخصية تمامًا وأصبح يتكلم بصوت ولهجة خاصة ابتدعها لشخصية أوبو ولم يتنازل عنها أو يغيرها حتى وفاته عام ١٩٠٧ وعمره أربعة وثلاثون عامًا.

لقد ولد ألفريد جاري سنة ١٨٧٣ في مدينة لافال Laval الفرنسية بماين Mayenne من أبوين ينتميان إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة ونشأت عنده فكرة أوبو عندما دخل مدرسة الليسيه في مدينة رين Rennes سنة ١٨٨٣ تلميذًا في العاشرة من عمره متميزًا بالذكاء والاستقلال والعناد والشراسة والسخرية ومع كل هذا تميز كذلك: بالخجل. وعرفته الليسيه على الفور مشاغبًا هائلًا مدبرًا لمؤامرات الفوضى بالمدرسة حين وجد ألفريد جاري في أستاذه مسيو إيبرت M.Hebert هدفًا لشغبه وسخريته فقد رأى فيه نقيضه وكل ما يكرهه في العالم من دمامة ووضاعة وابتذال. هذا المسيو إيبرت كان معروفًا بين تلاميذ المدرسة ـ قبل التحاق جاري بها ـ باسم الأب إيبيه Pere Ebe وكانت له هيئة جسمانية مضحكة ومنفرة، مترهل وشبيه بالخنزير، مفتقد لكل كرامة وسيطرة ولذلك كان هدف سخرية التلاميذ بالمدرسة لعديد من الأجيال. لكن أحدًا من التلاميذ لم يستطع أن يفوق جاري في شراسته وعدائه للأب إيبيه. وبمساعدة بعض أصدقائه كتب جاري سنة ١٨٨٨ مسرحية البولونيون Les Polonais وهي مسرحية ساخرة للعرائس محورها الأب إيبيه الذي حول اسمه فيها إلى الأب أوبو. ولم تأخذ المسرحية شكلها المتبلور النهائي ولا اسمها أوبو ملكًا إلى أن سافر جاري إلى باريس سنة ١٨٩١ ليدرس على الفيلسوف برجسون Bergson وفي بداية وصوله إلى باريس نشر جاري هالرنابلو Halernablou وهي شكل من التسلية الدرامية يجمع بين الشعر والنثر وأسس مجلتين Reviews وكتب أعمالًا مختلفة. وفي سنة ١٨٩٦ نشر مسرحية أوبو مطورة من محاولته في مسرحيته الأولى البسيطة البولونيون:

«لقد احتفظ بـ (البولنيون) واستخدمها ليس بدون تغييرها وليس بدون إكمالها. وإذا لم يكن هذا النص يعود إليه كلية، إذ إنه لم يجعل من هذا سرًّا، فإنه مع ذلك ينتسب إليه أكثر وذلك للأهمية التي ألحقها به ولما رأى فيه وأضاف إليه».

ونجح جاري في إثارة شغف المخرج المسرحي لونيه ـ بو Lugne-Poe مدير فرقة مسرح الأوفر Theatre de l’oeuvre ليقدم مسرحيته أوبو ملكًا وعرضتها الفرقة المذكورة في ليلة ١٠ ديسمبر (كانون الأول) ١٨٩٦ على المسرح الجديد Theatre Nouveau وأدى الممثل فيرمان جيميه Fermin Gemier الدور الرئيسي وعن هذا الحدث المسرحي يقول مؤلف كتاب اللامعقول:

«مثلما بدأت المغنية الصلعاء ـ (كتبها يوجين أونيسكو) عهدًا جديدًا ندعوه درامة اللامعقول، كذلك فإن المسرح في كل مكان قد تغير عن سابق عهده منذ أن نطق فيرمان جيمييه أول كلمة من أبو ملكًا في المسرح الجديد يوم ١٠ ديسمبر (كانون الأول) ١٨٩٦».

وقد أثار هذا العرض لأوبو ملكًا ضجة من حماس القبول والرفض وقورن بأعمال شكسبير وقال عنه أندريه جيد Andre Gide (١٨٩٦ـ١٩٥١):

«الشيء الخارق للعادة الذي لم يرَ المسرح مثله منذ وقت طويل».

وذهبت ساشا جويتري Guitry Sacha أبعد من ذلك حين قالت: «إن التساؤل عما إذا كانت أبو ملكًا عملًا خالدًا أم لا، سؤال فارغ. إنه عمل خالد في نوعه: ربما نتساءل وما هو نوعه. شيء صعب أن نحدد ذلك... إنه لا ينتمي إلى أي نوع آخر من الأدب... إذا كان لا بد أن أصنف هذه الظاهرة فلا بد أن أضعها في مصافِّ الكاريكاتير الحاد وأضعها مع أكثر الهزليات الخالدة قوة وأصالة».

تلك الليلة ١٠/١٢/١٨٩٦ كان من ضمن المشاهدين للمسرحية الشاعر والمسرحي الإنجليزي أرثر سايمونز Arthur Symons (١٨٦٥ـ١٩٤٥) والشاعر والمسرحي الأيرلندي وليام باتلر ييتس W.B. Yeats (١٨٦٥ـ١٩٣٩) وقد سجل الشاعر ستيفان مالارميهStephane Mallarme (١٨٤٢ـ١٨٩٨) وصفًا لمناظر وعرض المسرحية:

«لقد رسمت المناظر، من خلال عرف الأطفال لتمثل الداخلي والخارجي، وحتى المناطق الجافة والمعتدلة والمتجمدة، جميعهم في آن واحد. في مقابلك في عمق المسرح ترى شجرة تفاح مزهرة تحت سماء زرقاء ومقابل السماء شباك صغيرة مغلق ومدفأة... في قلب المكان تمامًا بين دخول وخروج شخصيات المسرحية الضوضائية الدموية. على اليسار رسم سرير وعند نهاية السرير شجرة جرداء وثلج يهطل، على اليمين نخيل... وباب مفتوح في مقابل السماء وإلى جوار الباب هيكل عظمي يتأرجح. رجل مهيب في ملابس السهرة يهرول عبر خشبة المسرح على أطراف أصابعه بين كل مشهد ليعلق على المسمار لوحة جديدة(1) (تصف مكان المشهد التالي)».

أما الشاعر ييتس فقد شعر ـ كما يقول الناقد الباحث مارتن أسلن ـ بأن ذلك العرض الغريب، أوبو ملكًا، كان علامة تنهي مرحلة كاملة في الفن. وفي سيرته الذاتية، ارتجاف الحجاب The Trembling of the veil ترك ييتس وصفًا دقيقًا لما شعر به عند مجابهته مسرحية جاري الهزلية بألوانها الزاعقة ورفضها المتعمد للمسات الرقيقة:

«الممثلون مفروض أن يكونوا دمى، لعبًا، عرائس تحركها الخيوط (ماريونيتس)، وهم الآن يقفزون جميعًا مثل الضفادع الخشبية وأستطيع أن أرى بعينيْ رأسي: الشخصية الرئيسة، التي هي نوع ما من الملوك، تحمل في مكان الصولجان فرشاة كتلك التي نستعملها من أجل تنظيف المرحاض، بشعور يهدف إلى مؤازرة الصحبة المنتشية جدًّا: صحنا لصالح المسرحية ولكن في تلك الليلة بفندق كورني: أنا حزين جدًّا لأن الكوميديا... أظهرت قوتها المتنامية مرة أخرى. إنني أقول: بعد ستيفان مالارميه بعد بول فرلين، بعد جوستاف مورو، بعد بوفيه دي شافان، بعد شعرنا نحن بعد ألواننا الموحية وإيقاعنا المتوتر... أي شيء ممكن بعد؟ بعدنا الإله المتوحش».(2)

ـ (من سيرة ييتس الذاتية ـ طبعة ماكميلان ـ لندن ـ سنة ١٩٥٥) ـ.

ويعلق أسلن على كلمات ييتس بذكر هذه المفارقة: إن الشاعر مالارميه الذي أشار إليه بيتس بأنه واحد من أعلام اللمسات الموحية، هنأ جاري على هذه المسرحية قائلًا: «لقد وضعت أمامنا، بقبس نادر وخالد عند أطراف أصابعك، شخصية عجيبة وطاقمها وذلك في نحت درامي واعٍ وصلب. إنها تدخل في البرنامج الدائم للذوق الرفيع، وإنها تطاردني. ـ (من خطاب غير مؤرخ أرسله مالارميه إلى جاري، مقتطف مذكور عند ج. روبيشيه، الرمزية في المسرح، باريس: لارك، ١٩٧٥ ص٣٥٩ـ٦٠).

ومع هذا التقييم الذي يشهد بحماس إلى جانب أوبو ملكًا كانت الغلبة في معركة القبول والرفض، في زمن عرض المسرحية سنة ١٨٩٦ لرافضيها الذين نعتوها بالهراء وبالنكتة السخيفة. «أما الناقد الوحيد الذي كتب عن الرواية باستحسان فقد خسر وظيفته في اليوم التالي».

إلا أن النتيجة النهائية كانت لصالح جاري الذي خرج إلى دائرة الشهرة وعمره ٢٣ سنة، كما كانت لصالح أوبو ملكًا التي سجلت موقعها منعطفًا أساسيًّا في مسار المسرح الطليعي العالمي المعاصر. ووصلت في أيامنا هذه إلى أيدي من يقدرها ويفهمها ويقدمها للناس بحسبانها:

«تعري ما تحاول المدنية جهدها لتخفيه» ويأخذها المخرج العالمي بيتر بروك ليخرجها في صيف ١٩٧٨ في باريس، وفق توجيهات جاري التي أرادها منذ اثنين وثمانين عامًا، لتعكس بين إعجاب مشاهديها في باريس اليوم: رؤية تقدمية ثورية معاصرة في وجه كل ما يمثله أوبو ويرمز إليه في كل زمان ومكان: ابتداء من تمثيله للنزعات الشرهة الدموية البغيضة في الأفراد، إلى رمزه للسلطة الغاشمة أو الإقطاع أو الشركات المستغلة أو إلى الاستعمار الذي يهيمن بالقوة وينتزع خيرات الآخرين بالبطش الدموي. ووجد فيه مارتن أسلن رؤية تنبئية بشخصية هتلر:

«إن أوبو تصور مرعب للطبيعة الحيوانية عند الإنسان، لقسوته وعدم رحمته. أوبو: يجعل من نفسه ملكًا على بولندا، يقتل ويعذب الجميع والعديد وأخيرًا يطرد مهزومًا إلى خارج البلاد. إنه لئيم وسوقي ووحش إلى درجة لا يتصورها عقل: وحين بدأ في عام ١٨٩٦ هزليًّا بسبب المبالغة في إبراز قسوته ولكن الواقع عام ١٩٤٥ ـ (مذابح هتلر) ـ تجاوز بمراحل ـ (ما بدا مبالغة عام ١٨٩٦) ونعيد القول مرة أخرى إن أوبو تصور حدسي للجانب المظلم في الطبيعة البشرية عكسه شاعر على خشبة المسرح فأكد ـ الواقع ـ صدقه النبوئي».

إذا أردنا بعد ذلك أن نعرض الخطوط العريضة لمسرحية أوبو ملكًا فيمكن أن نلخصها كالتالي:

في بداية المسرحية، أوبو، وهو إنسان قبيح، قذر، تفوح رائحته. بدين بدرجة هزلية، تشجعه زوجته ـ الأم أوبو Ma Ubu ـ على قتل فنسيسلاس Wenceslas ملك بولندا(3) واغتصاب العرش لنفسه. لقد كان أوبو سابقًا ملك أراجون لكنه صار ضابطًا عند فنسيسلاس. وفي اليوم التالي وبتشجيع من زوجته وتأييد من كابتن بوردير Bordure يذبح أوبو ومؤيدوه الملك فنسيسلاس في أثناء استعراضه لقواته. ثم يواصل فورًا ذبح سائر العائلة الملكية ما عدا بوجرلاس Bougrelas وريث العرش البطل الذي يهرب مع أمه. ويستولي أوبو على المملكة وتتبدى فكرة أوبو في مسألة وغاية الحكم وهي: أن يقتل الذين يملكون المال حتى يأخذه لنفسه بأكمله وهكذا نجد طابورًا من النبلاء، والقضاة والماليين يسقطون في فخ هو باب آلة نزع المخ وأوبو مستمرئ المشهد مستمر في إصدار في إصدار أوامره بالقتل بكل سطوة القرد. وما إن يجمع لنفسه كل المال الذي في بولندا حتى يبدأ في محاربة قيصر روسيا الذي قرر الثأر لابن عمه فنسيسلاس. وينهزم أوبو في المعركة ويهرب مع اثنين من أتباعه إلى كهف حيث يهاجمهم دب مفترس فيرتعد أوبو جبنًا كعادته في اللحظات الخطرة ويترك رفيقيه متخليًا عنهما لحظة الخطر ويصعد ليحتمي بصخرة عالية غير آبه بصرخات الاستنجاد به قائلًا: «لا شيء أفعله. ساعد نفسك يا صديقي لأنني مشغول هذه اللحظة بترتيل صلاتي. كل إنسان له دوره الذي سوف يؤكل فيه». وبعد زوال الخطر بعد قتل الدب يهبط أوبو من صخرته قائلًا إن الفضل في نجاتهما يعود إليه لأنه الذي ضحى من أجلهما بصعود الصخرة والصلاة ولولاه لكان من المؤكد هلاكهما. وبعد قليل تلحق الأم أوبو بزوجها والآخرين ويبحرون جميعًا لاجئين إلى فرنسا. وهنا تنتهي المسرحية الأولى حول أوبو ويبدأ في فرنسا طور جديد من أطواره المختلفة التي لا يكون فيها ملكًا بل شخصًا عاديًّا كما كان إلا أن السمات الأساسية في شخصية أوبو لا تتغير فهو كما سيظل دائمًا، ممثل الشر والأنانية والشراهة والوضاعة ونراه يحمل حقيبة يضع بها ضميره وهو يستمع إليه وإلى نصائحه لكنه لا يعير أي اهتمام لنصائح هذا الضمير المحمول في حقيبته المغلقة، إذا كانت تتعارض مع مصالحه وطمعه. وعندما يضيق ذرعًا بهذا الضمير يعمد إلى التخلص منه فيحمله من أقدامه ويغرِق رأسه في بالوعة المرحاض.

إلا أن طرح الخطوط العريضة لمسرحية أوبو ملكًا، أو لأي مسرحية أخرى من مجموعة الدورة الأوبوية The Ubu Cycle التي تتضمن: أوبو كوكو Ubu Cocu وأوبو مستعمرًا Ubu Colonialist، بهذا الشكل المبسط يكون ظالمًا للمدلولات التي يقصدها جاري في عمق هذا العمل خاصة لأن مثل هذا العمل لا يكتمل إلا بتقديمه على خشبة المسرح، فأعمال جاري المسرحية لا يمكن أن تستوعب من خلال القراءة لأنها لم تكن معدة للقراءة أبدًا بل هي نموذج نقي لما يجب أن تعد على وفقه المادة المسرحية. وهذه المادة التي لا يمكن استيعابها إلا برؤيتها على المسرح نموذج متعمد من جاري الذي كان يخوض المعركة من أجل تحرير اللغة المسرحية من سيطرة وهيمنة ووصاية اللغة الأدبية.

لم تكن أوبو ملكًا مجرد مسرحية أو شخصية مسرحية بالنسبة إلى جاري: بل كانت بالتأكيد كابوسًا يقض مضجعه على المستويات كافة: النفسي والذاتي والأخلاقي والفلسفي والجمالي. هذا الكابوس الكريه لم يدفع جاري إلى الهرب منه: بل على العكس دفعه إلى تقمصه لكي يظل حاضرًا ماثلًا أمامه يقض به مضجع الآخرين كذلك ليحفزهم إلى مواجهته للقضاء عليه في واقع القيم الشرسة التي تعم مجتمعهم في أي مكان وزمان. تبنَّى جاري طريقة الأب أوبو في الحديث وكان يدعو نفسه أوبو رغم أنه كان من المستحيل عقد أي مقارنة بينه وبين هذه الشخصية التي صورها لتجمع مطلق المخلوق الكريه، الميت الحس الذي يصوره في تخطيطات رسمه: له رأس أصلع على شكل كمثرى ومعدة مترهلة ضخمة: تجسيد الشراهة والغباء والقسوة، في حين كان جاري في وقت تقمصه لهذه الشخصية شابًّا وسيمًا يافعًا، له شعر طويل أسود يصل إلى كتفيه وعينان سوداوان يتمثل فيهما الصدق والحماس ويتميز بالشخصية القوية العنيدة المتعالية، المتمردة والمُحِبة للاستعراض والتي بإمكانها أن تكون مرنة سهلة المراس.

إلا أن تقمص جاري لهذه الشخصية البشعة بدَّله تدريجيًّا فبدا في أعوامه الأخيرة كما وصفه أندريه جيد: «بدا كمهرج من صنف غريب... جعل نفسه يبدو كالمهرج وأدى دور المهرج في حياته وكتاباته».

في بحثي عن جاري سنة ١٩٦٣ لم أجد له عملًا مترجمًا إلى الإنجليزية غير مسرحية أوبو ملكًا ومعها مقدمة ممتازة للمترجمة باربارا رايت Barbara Wright وتاريخ الإصدار يشير إلى عام ١٩٦١. ويبدو أن هذا الكتاب كان أول أعمال جاري المترجمة إلى الإنجليزية عن الفرنسية، وتضمن مع مسرحية أوبو ملكًا كتابات لجاري عن المسرح. لكن هذا الكتاب، وإن استطاع أن يثير الشغف بجاري لم يستطع أن يشبع استطلاعي. وفي سنة ١٩٦٥ خرج أول كتاب متكامل من أعمال جاري بعنوان: «مختارات من أعمال جاري» يتضمن خمسة أقسام:

١ـ الدورة الأوبوية (مسرحيات) The Ubu Cycle.

٢ـ كتابات عن المسرح.

٣ـ قصائد ـ (شعر باتافيزيكي).

٤ـ مقالات وتأملات.

٥ـ قصص.

مع ملزمة صور غنية لجاري ورسومه لشخصية أوبو وكل ما يتعلق به. كتب مقدمة هذا الكتاب روجر شاتوك (4)Roger Shattuck الذي اشترك مع سيمون واتسون تايلورSimon Watson Taylor في تجميع وإعداد أعمال جاري وترجمتها من الفرنسية إلى الإنجليزية ثم تبويبها لتظهر في ثوب دقيق ونظيف. وهذا الكتاب يعد الأول باللغة الإنجليزية والذي أتاح الفرصة للقارئ بهذه اللغة التجول المتكامل في عالم ألفريد جاري الغريب والثري.

إن الذي أثار شغفي وحماسي لتقديم جاري إلى القارئ العربي، سواء في محاولتي الأولى التي نشرتها عام ١٩٧٠ على صفحات مجلة المصور القاهرية، حيث كنت الناقدة المسرحية بها، أم الآن في هذه المقدمة، ليس هو تقديري الشخصي لهذا المفكر المسرحي، الذي أثار اهتمامي بجنونه وصدقه وغموضه وجلائه وثوريته القصوى حتى مطلق العبث، بل لأنه، لدهشتي، غير مسموع به أو عنه حتى بين المتخصصين في الوطن العربي. على الرغم من أنه منبع كل التيارات المسرحية التي أخذت حلقاتها تدور وتتتابع يمينًا ويسارًا في المسرح العالمي الحديث. فألفريد جاري هو بحق صاحب المأدبة الزاخرة التي أكل عليها كل مسرحيي العالم بعده. وإن كان بعضهم قد يرى أن أعماله لم تحتوِ المضمون السياسي الثوري المباشر الذي نعرفه في مرحلتنا الحالية، فإن ثورته في المفهوم المسرحي والشكل المسرحي ـ حتى فيما يجب أن يكون عليه جمهور المسرح، ثورته هذه هي نفسها خطوة هامة لأنها مهدت الطريق وأزالت منه العقبات أمام كتاب المسرح الثوريين: فيمكننا أن نقول: إن تأثير جاري وعصفه بالتقليديات المسرحية ودائرتها المحدودة هو الذي مهد لخلق كاتب سياسي ثوري مثل برتولد بريخت وبعده بيتر فايس وليس لخلق الكاتبين العبثيين: أونيسكو وبيكيت وحدهما: فلولا خطواته الرائدة الجسور لتحطيم القوالب والجمود في التصور التشكيلي للمناظر المسرحية مثلًا، لما أمكننا الآن أن نستوعب المسرح التسجيلي الذي هو أهم أشكال المسرح الثوري صاحب الرسالة السياسية في العالم الآن، ولما أمكننا أن نهز أكتافنا استخفافًا بالتعبيرات والتساؤلات المتخلفة التي ما زالت تتردد عن «الأدب» المسرحي والخط الدرامي والذروة والحبكة والعقدة والجمال اللغوي والفرق بين المسرح والمقال السياسي... إلخ. لقد كان جاري متمردًا ثائرًا والثورة ـ في رأيي ـ مباركة في كل أشكالها، تقدمية في محض وجودها: ولو أمعنا النظر في كل فن حقيقي لعرفنا أنه: ليس هناك فن إلا وهو ثورة وليس هناك فنان إلا وهو ثائر والعكس صحيح أيضًا.

لقد مات جاري سنة ١٩٠٧ فقيرًا، مهملًا، مشلولًا بين كُوَم من القاذورات والأوراق والكتب واللوحات المبعثرة المكدسة في غرفته الخانقة وقبل أن يلفظ النفس الأخير طلب من أصدقائه قشة يسلك بها أسنانه رغم أنه لم يكن قد تناول طعامًا منذ أيام. ما معنى أن يموت فنان هكذا عام ١٩٠٧: أعوام قليلة قبل أن تنفجر الثورات التحريرية على مسار القرن العشرين؟

الإجابة هي أن ألفريد جاري كان واحدًا ـ في إطاره ـ من الجنود الكثيرين الذين مهدوا ـ من خلال الفن ـ لروحية وشرعية التغيير في هذا القرن الثائر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) نُشر هذا النص في كتاب بعنوان «مسرح المسرحيين.. ثلاث مقدمات»، وصدر في طبعة محدودة عام ١٩٨٠عن مكتبة مدبولي ونفدت كل نسخه.

(1) يتضح هنا تأثر مسرح برتولد بريخت بهذا التصرف المسرحي الذي ابتكره جاري، وقد استخدم بريخت اللوحات للإعلان عن المشاهد والأماكن

(2) Repertoire

(3) يقول جاري في كلمته، التي قدم بها المسرحية ليلة عرضها الأول: «أما بالنسبة إلى مكان المسرحية فإنه بولندا وهذا يعني أنها في اللامكان»، مختارات من أعمال ألفريد جاري ص٧٨ ـ وكان اسم بولندا قد مسح من الخريطة عام ١٨٩٦.

(4) مؤلف كتاب سنوات الوليمة الذي يعد بإجماع الدارسين لموضوع جاري، من أهم المراجع الإنجليزية الرائدة عن ألفريد جاري The Banquet Years, Roger Shattuk, Faber & Faber, London, ١٩٥٩.