مراجعات

حسام الخولي

إشكالية الضعف البشري في أعمال إيفان كليما

2018.05.01

إشكالية الضعف البشري في أعمال إيفان كليما

 

يقول فيلسوف العدمية جان بول سارتر إن «كل ثورة لها كتّابها الذين يسبقونها». فالكاتب في حد ذاته، ككيان منفصل، عليه أن يسبق الجميع بخطوة أو ربما خطوات يعطينا من خلالها كلمات ترسخ في الأذهان. يعبِّر الكتاب عن الجمع البشري وغضبه وثورته وأزمته وحلولها وهواجس عواطفه وحيرتها. مع التأكيد على أنه «أينما حلّ الظلم فالكتّاب مسؤولون عنه». أو بتعبير آخر لجورج ساند فصناعة الكتابة في ذاتها هي «صناعة للحرية»؛ سواء لحرّية الفرد من كيانات أو حكومات تكبت رغباته ومحاولاته للتغيير، أو تحرر من مفاهيم سائدة قد لا تناسب الوضع الجديد أو المُتخَيّل.

هؤلاء وغيرهم وضعوا فرضيات وتصوّرات ربما لا تعطي الكاتب وكتابته في ذاتها أفضلية أو استحقاقًا مُتوهَّمًا بقدر ما تختصر جوهر فعل الكتابة. إن الكاتب الحقيقي يعاني ليشعر بالجموع وما يريدونه -ربما قبل شعورهم أنفسهم تجاه الأشياء- وهو يملك وجدانًا أكبر من قرّائه يمكّنه من اختزال تصوراتهم وانفعالاتهم وصياغتها، سواء كانت انفعالاتهم السياسية أو الحياتية العادية غير المُدركة بوضوح. ربما أثبت هذا التصوّر نسبية صحّته وجدّواه مع مرور الوقت، ومع تتابع الثورات ودعوات التحرر المجتمعي في العالم.

سبقت موجة الربيع العربي على سبيل المثال مجموعة من الكتابات لكتّاب ومدوّنين معارضين للأنظمة الموجودة في كل بلد قامت فيها ثورة. هؤلاء شاركوا في صناعة وعي جديد -ذاتي وعام- ضد الأنظمة. بكتابات تنتقد المخالفات الشرطية في الأقسام؛ ونقاشات تُثار وجدالات اجتماعية حول إعادة صياغة وتشكيل معايير الآداب والأخلاق العامة للمجتمع؛ ومسار العلاقات العاطفية التي تدور في عقول الأجيال الجديدة. استطاعت هذه الكتابات -إلى حد ما- تحريك الماء الراكد والمحرّم إثارته والحديث عنه. وكانت بمثابة بوتقة لصرخات البقية.

(2)

بالنظر إلى نموذج بعيد ومشابه؛ في التشيك التي تقع وسط أوروبا في الخمسينيات، وقتها كانت أغلب الدول العربية تحت حكم ملكي استبدادي. كانت التشيك مغروسة بقدميها مع مجموعات دول أوروبا التي لم تتوقف عن القتال طول تلك السنوات. فُككت تشيكوسلوفاكيا الموحدة ليتم احتلالها فيما بعد لتعاني تفككًا دولتيًّا سياسيًّا تبعه بالضرورة تدمير لعلاقات اجتماعية، وانسحابات عاطفية جبرًا لأحبّة في الزمن الخطأ؛ مرة بسبب انشغالات الحرب وأخرى بسبب الانفصال.

آنذاك -أو ربما دائمًا- كان العالم يقتل الضعفاء دون ذنب؛ ودون شفقة لفقدانهم. كان هناك أيضًا ما هو أسوأ كثيرًا بالنسبة لأي يهودي وُلد أو عاش في تلك الفترة؛ محرقة ضخمة يصنع وقودها جنود ألمان أمرهم هتلر بصنعها ليحرِقهم. ثمة رسالة مباشرة لليهود قادمة من الغرب حيث تقع ألمانيا بما تمثّله من رعب: لا تقترب من أحد، لا تبتعد عن أحد، ستُقتل أينما كنت.

ما الذي قد يحدث لو ولدت محكومًا عليك بالموت؟ لو واجهت الضعف البشري -تارة بالشر وأخرى بالعجز- وعواقبه دون أن تعيه أو تفهمه؟ لا شيء، إذا اختارك القدر لتعيش بعد ذلك ربما ستفهم جيدًا هذا «الضعف» أكثر من غيرك.

أسئلة كثيرة مستمرة بحكم صيرورتها ووجوديتها كانت حاضرة أكثر لمن عايشوا خمسينيات القرن المنصرم، لما عاناه اليهود في المحارق، ولما رآه الناس من ويلات الحرب. أسئلة كانت تحتاج لكتّاب عايشوا ذلك ليكتبوا عنه ويفكوا طلاسمه. كانت تلك الأسئلة وغيرها شاعرية وفلسفية في العموم، ويمكن تشكيلها أدبيًّا. ربما تكون قد قرأت هذه الأسئلة سلفًا لأحد أشهر وأهم كتّاب التشيك الذي عاصر تلك الفترة أيضًا ونجّاه القدر؛ ميلان كونديرا، الصديق الشخصي للروائي والأديب إيفان كليما موضوع هذا المقال؛ لن تجدها عند الأخير بالسخرية نفسها التي أملاها علينا كونديرا، لكنها أكثر حضورًا وإظهارًا لمدى الحيرة التي تنتجها.

كليما، الذي وصل لمنتصف العقد الثامن من عمره حاليًا، ولد في مدينة براغ بالتشيك عام 1931، واعتقل في العشرينيات من عمره في معسكر اعتقال نازي لكن القدر منحه فرصة أخرى للحياة والهروب من الموت في الحرب العالمية الثانية. يعلم كليما جيدًا هو الآخر كلمات سارتر وغيره؛ أن الأديب عليه أن يسبق أي ثورة ويهيئ لها بأفكاره وكلماته. فاستمر في الكتابة وفي البحث عن هويته وكينونته. يقول على لسان أحد أبطال رواياته «لعلها إن كانت قد عرفت إلى منْ تنتمي كانت تصير في حال أفضل. إن المشكلة هي لِمَن ننتمي حقًا؟ ستة مليارات من البشر على وشك ختام الألفية الثانية، في عالم مُعوّلم، مسمى أنيق أطلقوه على موقف تضاءلت فيه الآمال وصارت الإنجازات العظمى الوحيدة هي المتاجر الكبرى». في حين أنه حتى أكثر العلماء والعباقرة «ليس لديهم إحساس بالأمان، ليس لديهم أدنى فكرة عن الاتجاه الذي يجب أن يتخذوه بينما يبدو كل ما يحيط بهم فاقدًا لأي اتجاه. يمكنهم امتلاك كل أنواع المتاع لكن الممتلكات لا تفعل سوى أن تضيف الإحساس بفراغ لديهم الوعي به، لأنهم ليسوا رعاعًا كأولئك الذين تعلّموا التكيّف وتحمّل كل شيء. إنهم حساسون لهذا الفراغ الذي نغض عنه أبصارنا، الفراغ الذي يجب على الجميع أن يملأه».

كان هؤلاء الكتاب السبب الرئيسي في ربيع براغ الذي وقع في عام 1968 –الذي قد يذكرنا بالربيع العربي- والذي تحررت فيه البلاد وصولاً إلى الثورة المخملية عام 1989 وعودة الحرية السياسية لتشيكوسلوفاكيا. ساهموا في التحرر من قبضة السوفيت الشيوعيين التي كانت تقف لهم بالمرصاد؛ تصادر كتابتهم وتترصدهم للاعتقال طول تلك الفترة، لكنهم لم يستطيعوا السيطرة بسبب الهروب والمقاومة ورمزية الكتابات؛ كان كونديرا مثلاً يحاول التحايل بروايات شديدة الرمزية، إلى أن ترك البلد ليكتب عنها أيضًا، بينما يقيم كليما حفلات يومية للكتاب في منزله للنقاش حول الأدب والسياسة وما يمكن تغييره.                                                                                 

ظل هذا الجيل مرتبطًا بالمدينة التي نشأ فيها، سواء من رفض مغادرتها ككليما، أو من غادرها وظلت في رأسه ككونديرا؛ حضرت في أعمال كثيرة لهم سواء بإسقاطات سياسية أو علاقات عاطفية عاصروها وقت الموت المنتشر.

أكثر من أربعين عمل أدبي أنجزها كليما، أشهرهم مجلده الأكبر «مجنون القرن»، وذلك منذ تفرغه تمامًا للكتابة؛ يعمل على رواية كل عام. تُرجمت أعماله لنحو 32 لغة مختلفة حول العالم -بعد أن كانت كتاباته ممنوعة- فقط في الأسابيع والأشهر التي تلت الثورة المخملية. وبمجرد سقوط الشيوعية باع أحد كتبه أكثر من 50000 نسخة.

كان كليما مهمومًا، في جزء كبير من أعماله، بإعادة طرح أسئلة قد تبدو بديهية؛ عن الفراق والتخلّي والضعف البشري في أشمل صوره؛ ذلك الذي يجعلنا ضحايا لمظلومية كبيرة من أصدقائنا أو أحبابنا أمام العالم الذي أحببناه لأجلهم؛ أو يجعلنا أشرارًا، نؤذي الآخر ربما إثباتًا لأنفسنا بأننا أقوياء، أو ربما طمعًا في الكمال الأبدي والخوض في المجهول. ماذا لو لم تكن الحرب؟ لو كانت تلك الجميلة التي أراها لتوّي هي حبيبتي بدلاً عن تلك؟ هل يهيئ القدر ظروفه، ويغزل شباكه لوهم إسقاط القدسية على أشياء، والشر على أخرى دون أن يكون الأمر عدمية لا يمكنها تمييز الغث من السمين والنافع من الضار؟ هل يمكننا بالفعل التخلّص من الضعف البشري؛ السبب الرئيسي وراء كل أزمات الحرب والحب؟ ونستعرض خلال المقال روايتين لإيفان كليما، نستحضر من خلالهما تصوراته عن كل ذلك.

(3)

حب وقمامة”.. البحث عن علاقة نظيفة

في روايته “حب وقمامة”، الصادرة ترجمتها عن دار التنوير، وهي أول ما تُرجم لكليما للعربية، وصدرت طبعتها الأولى عام 2012، للمترجم الحارث النبهان في نحو 286 صفحة من القطع المتوسط. نجد غلافًا عليه حشائش وطريق ممتدة تتوسّطها وردة حمراء، ربما إذا أردنا ترميزها، ستكون للذين يقفون وحدهم في الطريق، لا يجدون رفيقًا. في هبّة رياح قوية. ثمة شيء يحدث في الغالب ويمكننا فهمه؛ يخوض الإنسان صراعه مع الحياة وحيدًا، أو مع أشخاص غير مناسبين بالقدر الكافي، ربما ليظل بحثنا مستمرًا، والتوق دائمًا لحياة أفضل يلتحم فيها -ضَعفنا- بضَعف الآخر لنتقبّل تلك الحياة كحدث جديد غير ممل “نسير وسط القمامة والرماد وهباب الفحم، والمطر المسموم، والنسيان، نسير مثل ملائكة يتجاوزوا الحياة والموت والزمان” لنعيش.

خاض الكاتب من خلال نصه الذي استوّحاه من سيرته الذاتية رحلة غريبة نوعًا ما: ترك عمله الأساسي ليصبح عامل نظافة. اعتقد أنها قد تكون أجمل مهنة يقوم بها رجل، فالكناس ينال احترام الناس جميعًا، لكن عمله الجديد كان لبعض الوقت! ربما يحاول وضع إجابة لأسئلة فلسفية خاصة؛ هل فكّرت ذات مرّة كيف يُحب عامل النظافة؟ ولماذا؟ ما الأشياء التي يمكنها التأثير عليه؟ ما تصوّراته عن العلاقات العاطفية/الاجتماعية؟

كل ما يقوله الكنّاسون يشبه “المكانس العتيقة” القديمة حادة التعامل التي تبلع كل شيء وتتخلّص منه. يمشون في شوارع نظيفة فلا يخوضون صراعهم المعتاد بينما يجدون غيرها مليئة بالقمامة، وتحتاج النظافة ربما كل بضع ساعات، من ذلك ومع مرور الوقت؛ يكتسب الكنّاس خبرة أي الشوارع تملؤه القمامة عن غيره، في حين لا يمكنه ترك الأخرى شبه الفارغة دون أن ينظر إليها من وقت لآخر. يحاول الكاتب التعامل حياتيًّا بجذرية واضحة -كما يفعل الكنّاسون- مع علاقاته العاطفية وربما السياسية، يبحث جيدًا قبل ضياع الوقت في شارع/علاقة غير ذات جدوى أو مستنزفة، كما يعتبر “أن بقاء المرء مع شريكه السابق بعد أن يحب شخصًا آخر ضعف وخيانة للذات وللآخر الذي يحبه الآن؛ إننا نرمي الأشياء التي نريد التخلص منها في مقالب القمامة، هذه المقالب تنمو وتكبر حتى تبلغ السماء، هكذا تفعل أيضًا مقالب الناس الذين يكبرون، لا يزورهم أحد إلا من جرى التخلص منهم بدورهم. إنهم يواصلون محاولة اختلاق ابتسامة وتغذية أمل في داخلهم، لكنهم في واقع الأمر يفرحون برائحة من جرى التخلص منهم”، كِبار يهمّشهم الزمن أو علاقات صغيرة في منطقة البين بين التي لا تُظهر جدواها/عدم جدواها، لتظل الدائرة؛ لا العلاقات تنتهي ولا  القمامة... «عصية وحدها على الفناء مثل الموت».

أسرة نموذجية بدخل مادي يبعدهم عن الشوارع الملوّثة بالغبار والقمامة، مكوّنة من أربعة أفراد؛ طفلان صغيران، وأبْ يُرزق من كتابة الأدب، متزوّجٌ من طبيبة تُدعى ليدا. عائلة سعيدة بما يكفي-حتى الآن- لم تسلم من تقلبات مشاعر مؤسسها ولا مبالاة سيدتها؛ ولا من ضعفها البشري. يحب ذلك الكاتب عائلته بشكلٍ كبير، لكنّه في الوقت ذاته يحبّ امرأة أخرى، فنّانة تصنع التماثيل؛ تحب الحياة وترفض الروتين الذي ملّ الأديب من عدم تغييره. يلجأ الأدب للرمز، يواجه الكاتب روتينية وطغيان رقابة الاتحاد السوفيتي آنذاك بمحاولة خلق علاقة جديدة مع «الحياة» بوضوح وجذرية المحرقة اليهودية التي أقامها هتلر وعاصرها. «العفريتة برتقالية اللون» الزي الرسمي لعمّال النظافة، جعله يواجه ضعفه الخاص/العام؛ بعجزه عن التخلّص من أسرته وروتينها لما يكنّه لهم من زمن مشترك وتعوّد آدمي، وعجزه عن التخلّص من قوة هتلر كيهودي عاصر تلك الفترة.

لا يستطيع الهروب مع حبيبته خوفًا من ترك الأطفال وزوجته ولا يمكنه التخلّص من ذلك المتنفس الجديد، وهو يعرف أن أي محاولة لإقرار حقيقة ما ليست سوى «مناورة جيدة من لغة الحمقى، إذ لا أحد يستطيع تقديم حقائق حتمية، وأي شخص يقوم بذلك ليس سوى مصدر لخطر مرتقب». يقف بحياته الواقعية المملة، والمتخيلة الحالمة، على قمة الضعف البشري الذي لا يستطيع تفضيل/التخلّص من أحدهما على الآخر. يعتبر «كُتّل الأفكار المرمية هي الأكثر خطورة بين القمامة كلها، القمامة التي تغرقنا وتهددنا بأنفاس التحلل المنبعثة منها. إنها تندفع من حولنا وتنزلق هابطة منحدرات أرواحنا، والروح التي تلمسها تلك الأفكار تروح وسرعان ما لا يراها أحد حية من جديد». في الوقت الذي يحاول فيه إزاحة كل من يقف في طريق سعادته/أسرته القديمة، ويمضي «كانسًا» الجميع. ويخاف في الوقت ذاته من أن تحب فتاته آخر، أي يأتي مَن «يكنسه» وهو أيضًا يعيش مغتربًا عن وطنه وحياته.  يقلّدهم الكاتب ويلقي بكل شيء في الفرن، ثم يراقب مرتاحًا القمامة تتلوى في النار كما لو أنها تتعذب، يراقب ذوبانها وسط اللهيب ويصغي إلى فرقعة الزجاج وانفجاره وإلى طقطقة النيران المنتصرة، تتغلب النار في هذه الحال على ضعفه البشري، وتتخلص مما لم يعد مفيدًا (إذا جاز لنا أن نجزم ما المفيد وما غير المفيد) بينما يقتله الهروب والحيرة وصعوبة الاختيار.

بينما زوجته تعصرها الحيرة في إشكالية أخرى مقابلة؛ يربط ذهنها بين الموت/الفراق والقمامة؛ تؤمن بأن الحياة على صلة لا تنفصم بالتنظيف حرفيًّا وعلى نحو مجازي «كانت تتحسر على قذارة العالم الذي لا بد لها من العيش فيه». تحاول هي الأخرى القيام بعمل نظيف في مدينة قذرة بفعل فضلاتها أو ربما مهملة، تشعر بمسؤولية مضاعفة بتكدّس الأسرة كلها على عاتقها، مدينة تُرمى داخلها فضلات الآخرين/مشكلاتهم دون حساب أو تقدير.

يتوق كلاهما، وربما نحن أيضًا، إلى تنظيف حياتنا، إلا أنه بدلاً عن تنظيف أنفسنا في البداية كشرط أساسي، نبدأ بتنظيف من حولنا، وعندما نصل إلى تنظيف أنفسنا نكون قد أضعنا وقتنا في تنظيف العالم حولنا. نحاول أن ننفرد باللقاء مع الله والبشر في مكان «نظيف» لأننا نفهم أن الفردوس قبل أي شيء آخر حالة تشعر الروح فيها بالنظافة. لكننا نهمّش كوننا بشر على الأرض لسنا ملائكة في الجنة ولا يمكننا الهروب من ذلك. فالهروب من الفراغ أو الروتين لا ينتهي. هناك بديهية يؤكدها كليما للمرة الثالثة في روايات مختلفة؛ أن فراغ الروح لا يقبل الامتلاء وأن علينا أن نتقبل كوننا بشر.

(4)

لا قدّيسون ولا ملائكة”.. السؤال مرة أخرى: لماذا نرفض آدميتنا؟

من حيث انتهينا على تأكيد كليما المستمر بتقبّل آدميتنا، يكتب روايته الجديدة “لا قديسون لا ملائكة”، والتي صدرت أيضًا عن دار التنوير في نحو 292 صفحة. هذه المرة بعيون امرأة. طبيبة أسنان خمسينية منفصلة عن زوجها المريض، لديها ابنة مراهقة وأم مسنة ترعاهما.

حُلم، لا ندري على وجه التحديد إن كان في أثناء النوم بالفعل أم أنه حلمٌ يقظة، لكنها بالتأكيد تمنّت حدوثه واقعيَّا. تبدأ الرواية لتخطف النظر بقوة؛ تردد السيدة “قتلت زوجي الليلة الماضية، استخدمت مثقب أسنان لثقب جمجمته. انتظرت لأرى حمأة تخرج من رأسه، لكن خرج بدلاً عنها غراب أسود كبير”. جمل قصيرة مقتضبة توضّح الحالة التي تعيشها أو التي وصلت لها تلك الطبيبة وتنطلق بعدها للحديث دون توقّف، يسرد كليما على لسان بطلته حكايات تتحدث فيها عن حياتها وكيف تعيش وكم كانت تحب زوجها، حكايات تتماس أحيانًا مع كثيرين، تحكي كأنها لا تريد أن تتوقف، شفقة كبيرة تشعر بها تجاه تلك السيدة التي تريد أي شخص لتتحدث إليه، تتفجر الكلمات من صدرها.

الطبيبة في حيرة لا تنتهي؛ تكره زوجها الذي خانها مع إمرأة تصغرها وتركها وابنتها، ولم يرجعه سوى مرضه الذي جعل فتاته تتركه وحيدًا. تتداخل تيمة الرواية الأخرى وتأكد حيرة كليما، تم كنس البطل وإزاحته عندما قرر أن يكنس حيرته/ماضيه، ولم يتوصّل لشيء! هي أيضًا تعلم من واقع عملها أن الأسنان الجديدة أفضل من تلك التي ظلت تمضغ بها طول حياتها، والتي بقي منها القليل، لكنّها على الرغم  من يقينها لا تستطيع أن تتركها. وتتساءل “كم تبدو حكاياتنا مثيرة للشفقة حين نعاود النظر إليها، نترنّح في السير على قضبان معلقة، نتسلّق صخور ونقفز من أعلى جسر، ونحن مربوطون بحبل”. إنها تفهم أن عليها تقبل تلك الحيرة والضعف البشري الذي وقع فيهما زوجها. لا أحد يظل نفسه على كل حال، بل يصبح كائنًا آخر، من يريد أن يكونه ربما، أو على حد قول كارل تشابيك: يعيش البشر حياة واحدة فقط من الحيوات الكثيرة الممكنة وغالبًا ما تكون الأتعس من بينها.

البيت قبل انفصال الزوج -كما تصفه ابنتهما- لم يكن سوى مكانًا للنواح والأسى. الأم متقلبة المزاج، الشرهة في تناول الخمور، تنسى ابتسامتها في الخارج، وهو أمر لم يكن ليتقبّله رجل طبيعي، وعمومًا يجلس الرجل الآن على الكرسي، كـ”إنسان مسكين وحيد يعاني من النهاية ويخافها” مثل الجميع لكنه عجزه الواضح يرسم صورة الوحدة والضعف بشكل أكثر وضوحًا. ربما يمكنها وغيرها “غسل كل هذا القرف؛ ضعفها وذنوبها الحقيقية والمتخيلة” بالتسامح مع فعله أو تقبّل ضعفها الشخصي بالعلاقة التي أقامتها مع جون الصغير الذي كان تلميذًا لزوجها، مارست الجنس معه بكلمات حب بسيطة، لكن كل هذا لم يجعلها تشعر بالانتماء إليه ولم يخرجها من حيرتها؛ هم بالنسبة لها لا يزالون “يجدون متعة في العيش بعالم خيالي، حتى الآن لا شيء في الحياة الحقيقية يمثّل لهم أي عبء، وحتى إن كان ثمة عبء ما تزال لديهم القوة الكافية للتعامل معه”، بينما هي تريد الواقع، تريد علاقة ناضجة مع شخص كزوجها التي لا تستطيع الرجوع له ولا تفهم لماذا لا تنساه. الحياة حزينة. تنتهي القصص بالجميع -في الغالب- وحيدين وضعفاء.

ابنتها الأخرى تبدو ضعفية لكونها “تشعر بكل شيء لأقصى مدى”، بينما لا تستوعب جدوى اللا مبالاة بالأشياء وأننا “يجب أن نأخذ الناس كما هم بعيوبهم وأنانيتهم” لنتقبّل بشريتهم علينا أن نصبر. تستمع لأحد رجال الدين: الناس يتوقعون أن الأشياء يمكنها أن تصبح جيدة خلال أيام قليلة، لكن الأكثر فهمًا يعرفون جيدًا أن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك؛ لسنا قديسين ولا ملائكة. لكن كليما يؤكد قدسية قناعته الأثيرة على لسانه هو الآخر: لم أدّع أني قديس أو راهب، لقد استسلمت للحظة فحسب وأعلم أنني تصرفت بضعف. ينتهي الأمر بالجميع “بشرًا”. في السياق ثمة رسالة أخلاقية عن أناس لم يعرفوا كيف يعيشون بما لديهم، يريدون شيئًا آخر غير الذي قدمته لهم الحياة، يفتقرون للتواضع.

(5)

لا يبحث إيفان كليما عن الكمال أو الطوباوية الآدمية، بل يمكننا أن نجزم أنه يرفضهم ويعارضهم؛ يسير برواياته ليحكي قصص شديدة العادية والتماس بغالبية البشر، تتقاطع بشكل جذري مع اختياراتهم وضعفهم، لا لتدينه وتعامله بأبويّة وفوقية لكنها تحكيه، وتنسج خيوطها حوله لتجعله أكثر سلاسة وتقبّلاً لآدميتنا ومجهول مصائرنا الذي نخافه. لا تنتهي القصة؛ نرفض الأشياء ولا نستطيع أن نتركها، نحب الأشياء التي لا نستطيع الحصول عليها، إلا أن ذلك “الضعف” لا يمنعنا من الحياة.

في أحد حواراته يقول كليما “لا تهرب من أي مشكلة في حياتك، في المجتمع أو السياسة. المشكلات مهمة جدًا للكتابة وغيرها”. زوجة البطل في “حب وقمامة” طبيبة، وبطلة “لا قديسون لا ملائكة” طبيبة، وزوجة كليما في الواقع طبيبة أيضًا. ثمة أمر واضح، أنه لا يسعى للتأليف، ولا يهرب من مشكلاته الحقيقية مع الحياة. الرجل يحكي عن نفسه وعن ضعفه وعمن ينتمي إليهم.