ثورة 1919

مجدي جرجس

اختطاف ثورة 1919 تحت شعار الهلال والصليب

2019.05.01

اختطاف ثورة 1919  تحت شعار الهلال والصليب

"لا أثر عندنا مطلقًا لاختلاف الأديان، فمن يوم أن ظهر فجر النهضة الحاضرة رأينا في أفق مصر الصليب يعانق الهلال"، هكذا صرَّح سعد زغلول في خطبته بفندق شبرد في 16 أبريل 1921م، ليصف هذا المشهد الخلاب. ويشير شهود عيان إلى هذا عناق الهلال والصليب في بعض المشاهد المصاحبة للثورة، منهم أحد الإيطاليين، يصرَّح عام 1919”لأول مرة في التاريخ يظهر الصليب مع الهلال على الأعلام المرفوعة”. كما أن مشاهد تبادل المشايخ والقسس منابر الخطابة واقع أكيد موثق من مصادر عدة. كل ذلك يؤكد أن عناق الهلال والصليب، فهو مشهد توافرت فيه كل الأركان الشرعية، على الأقل بالنسبة للمشاركين فيه والشهود عليه: البلوغ والعقل والحرية؛ الإشهار والعلانية، القبول والإيجاب.ولا يزال هذا المشهد لقطة مضيئة في تاريخ مصر الحديث، يُعاد بثها وإنتاجها بطرق مختلفة كلما ألمت بالبلاد المصائب الطائفية، أو استخدمت لتضليل المشاهدين.

وتحاول هذه الورقة، أولًا، تتبع كيفية ولوج هذا الشعار إلى قلب ثورة 19، ثم تربعه وتصدره لمشهدها لدى المؤرخين والكتاب اللاحقين، وكيف أن جوانب أخرى كثيرة توارت عند التأريخ لهذه الثورة، وظل هذا المشهد جاثمًا على صدرها، وربما صدور البعض. ثانيًا، ماذا يمثل هذا الشعار؟ ومدى تعبيره عن أفراد أو مؤسسات، وبالطبع أقصد المؤسسات الدينية. ثالثًا، هذا المشهد أكثر دلالة للصليب، لذا سأولي شعار الصليب الجانب الأكبر من المناقشة والتحليل في ختام هذه الورقة.

أولًا: عناق الهلال والصليب، والتأريخ لثورة 19.

يعد محمد صبري السوربوني من بين أهم شهود العيان الذين رصدوا يوميات الثورة وأحداثها. ويلفت السوربوني نظرنا إلى لقطة مهمة، وهي أن الظهور الأول لعناق الهلال مع الصليب كان مصاحبًا للمواكب الجنائزية. ويصف مشاركة الجميع في مواكب الجنازات يومي 8 و9 أبريل 1919م، لتشييع شهداء الثورة من مسلمين ومسيحيين ويهود أيضًا. والواقع أن طقس تشييع جنازات القبط قد دخل عليه رسم جديد منذ القرن التاسع عشر، إذ تضمن خروج الجنازة من الكنيسة وأمامها موكب من القساوسة والشمامسة، ويتصدر المشهد أحد الشمامسة حاملًا صليبًا نحاسيًّا كبيرًا يٌستخدم في الكنائس في مناسبات دينية بعينها. ويصف السوربوني هذا المشهد قائلًا: في يوم الجمعة، حضر جنازة أحد القبط رجال الدين المسيحي بأزيائهم الرسمية، يتقدمهم الصليب النحاسي الكبير. وإلى جوارهم علماء الأزهر، وعدد ضخم من الأعلام عليها الصليب والهلال. 

أي أن الظهور الأول للصليب مع الهلال كان بشكل مؤسسي، وهو ممارسة طقس ديني تشارك فيه الكنيسة برجالها. وربما إمعانًا في عدم استئثار الصليب بالمشهد، أو درءًا لأي توترات وانقسامات طائفية، ظهر الهلال أيضًا. ربما هذه الفكرة نبعت من الطلاب الوطنيين الذين كانوا يتابعون بوعي وذكاء مجريات الأحداث، وحرصهم على الالتزام بأهداف التظاهرات وعدم خروجها عن الدور المرسوم، ويظهر وعيهم هذا في تشكيل لجان لتنسيق الجهود وضرورة تنظيم التظاهرات وتوجيه المتظاهرين، سرعة تداركهم لمحاولات بعض المتظاهرين الهجوم على ممتلكات الأجانب. ولكن لا يظهر في أي من المصادر المتوفرة لدينا عن يوميات الثورة، من كان وراء فكرة إقحام الرايات المزينة بالهلال والصليب في مشاهد التظاهرات.

على أن هذا العناق لم يرد إلا في صور قليلة سجلت أحداث الثورة، من حشود وتظاهرات عامي 1919، و1920. ولكن ظهر هذا المشهد بكثافة في الأعلام والصور والكتابات التي ظهرت بعد عام 1922. وعلى سبيل المثال، تذكر المؤرخة بث بارون أن صور النسوة المشاركات في التظاهرات الوطنية، والتي نُشرت في مجلة اللطائف المصورة، أعيد تجميلها بالأعلام التي يظهر عليها عناق الصيب مع الهلال، عند إعادة نشرها في كتب حول الثورة. وتذكر هدى شعراوي في مذكراتها، في أثناء مشاركتها، مع مصريات أخريات، في المؤتمر النسوي بروما في مارس عام 1923، أنها فوجئت بوجود أعلام لكل الوفود، ولأنهن لم يكن على دراية بمراسم المؤتمرات لم يكن لديهن أعلام، فطلبت من زميلاتها أن يصنعن أعلامًا لمصر وأن يضعن عليها الهلال والصليب. وهكذا ظهر دومًا هذا العناق بين الهلال والصليب، في كل ذكر لثورة 19، وصار علامة مسجلة على أغلفة الكتب والمجلات التي تناولت ثورة 1919.الأمر لا يحتاج إلى مشقة لتتبع كل المنشورات والدراسات الخاصة بثورة 1919.

وتحت شعار الهلال والصليب توارت إلى الظل جوانب أخرى جديرة بالبحث والدراسة في ثورة 19. وصار هذا الجانب موضع التركيز، ربما كانت له مبرراته آنذاك، كوسيلة للحفاظ على التماسك الوطني في أثناء ثورة 19، وبعدها بقليل. على أن الإصرار على استدعاء هذه الرمزية كلما تواردت ثورة 19، يمثل جورًا على هذه الثورة وينزع عنها كثيرًا من خصائصها.

ثانيًا: ماذا يمثل هذا الشعار؟

ما من شك أن الهلال والصليب شعاران لمؤسسات وليس لأفراد! فهل كان للمؤسسات الدينية، وأخص بالذكر الأزهر والكنيسة القبطية دور ما أو علاقة بهذه الثورة؟

لا حاجة بنا إلى إعادة مقدمات وأحداث الثورة نفسها، وردت بالتفصيل في أوراق أخرى في هذا العدد. ولكن الملاحظة الأولية الواضحة أن المشاورات والاجتماعات والمبادرات جميعها جاءت عن طريق رموز مدنية خالصة، ولم يكن لأي رجل دين مسلم أو مسيحي أو لأي من المؤسستين أي دور، أو حتى مشورة فيالترتيب والتخطيط للثورة. هذا على مستوى القيادة. كما أن التظاهرات بدأت بطلاب المدارس دون انتظار توجيهات أو تعليمات من القادة أو حتى أساتذتهم، وانضم طلاب المعاهد الدينية، الأزهر، بصفتهم الوطنية، وليسوا كممثلين عن مؤسساتهم. كذلك لم يرد في أي من مذكرات قادة ومعاصري الثورة أي ذكر للتفكير للاستعانة بأي من الرموز أو المؤسسات الدينية.

ولم تظهر المؤسستان إلا قصرًا وفي ملابسات بعينها.فماذا عن الأزهر ودوره في الثورة.فلنبدأ بعام 1914، عندما طلب الإنجليز من شيخ الأزهر فصل الطلبة الذين عُرفوا بعدائهم للإنجليز، فقام بفصل عدد 3006 طالب من أصل 8222 طالب، بحجة عدم انتظامهم في الدراسة واشتغالهم بغير طلب العلم. وبعد فرض الأحكام العرفية، طلبوا من مجلس الأزهر الأعلى أن يرسل منشورًا إلى المعاهد الدينية في القاهرة والأقاليم لحض الطلبة على التزام الهدوء والسكينة، ونشرت مشيخة الأزهر هذا المنشور بين طلابها “مشيخة الجامع الأزهر تلفت نظر طلاب العلم بمناسبة إعلان الأحكام العرفية في القطر المصري، إلى وجوب التفرغ لدراستهم وعدم الخوض في الأمور السياسية، وأن يلتزموا جانب السكينة والهدوء، وأن يكونوا على الدوام بمعزل عن المجتمعات التي قد تقع عليهم فيها من المسؤولين مالا يودونه ولا تُحمد عقباه، وألا يتكلموا في الأحوال الحاضرة بشئ ما” وزادوا في البيان الموجه إلى الطلاب بالقاهرة “حظر الخروج من منازلهم بعد السادسة مساءً”.لم يقف الأمر عند هذا الحد بل طُلب من علماء الأزهر إصدار بيان إلى المصريين جميعًا يدعوهم فيه إلى الرضوخ للأحكام العرفية امتثالًا لأمر الدين، وبالفعل أصدروا بيانًا إلى الأمة مرصع بالآيات القرآنية التي تحض على السكينة والهدوء والحذر من مجالس أهل الفتن والشرور وختموا بيانهم بهذا الحديث “من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه”. على النقيض من مشايخهم وأساتذهم، شارك طلاب الأزهر بحماس كبير في تظاهرات الثورة، ويبدو أن مشايخ الأزهر قد أبرأوا ساحتهم من هذه المشاركة الأزهرية، وأبلغوا الإنجليز بذلك.ويمكن قراءة هذا الموقف من تقرير أللنبي إلى وزير خارجيته في 6 أبريل 1919، يقول فيه عن طلاب الأزهر المشاركين في التظاهرات “إنهم لا يقيموا وزنًا لكلام رؤسائهم من رجال الدين، وأصبح مسجدهم ملجأ ليليًّا لجماعات كبيرة من الناس يجتمعون فيه لسماع خطب من وعاظ غير مسؤولين مليئة بكل ما يدعو للأذى والتعصب”.وهذا التقريرمهم، إذ يبين أن طلاب الأزهر عصوا أوامر أساتذتهم، كما أنه يشير إلى عدم ترحيب المشايخ بفتح الأزهر أمام جموع المتظاهرين، وأن القائمين على ذلك هم طلاب الأزهر.

على أن قادة ورموز المؤسستين الدينيتين ظهروا على الساحة في 24 مارس 1919 في خضم التظاهرات، ولكن في دور آخر؛ إذ تصدر شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية وبطريرك القبط المشهد عندما كانوا في طليعة الموقعين على بيان يطالب الجموع بالتهدئة وعدم تعطيل المصالح. على أن شخصيات أخرى، بينهم أعضاء في الوفد، شاركوهم التوقيع على هذا البيان، والحقيقة أن زعماء الوفد أنفسهم امتعضوا في بداية الأمر من فكرة التظاهرات. في حين رأى آخرون الامتناع عن التوقيع «لأنهم رأوه بمثابة هدنة دون مقابل من الإنجليز...وأن هذا النداء جاء بمثابة تأييد لخطبة اللورد كيرزون». وطابت نفس الإنجليز بهذا النداء.

للمرة الأولى يقوم شيوخ الأزهر بإجراء مؤسسي علني، عندما اقتحم الإنجليز الأزهر في 11 ديسمبر 1919م. فقام المشايخ بمخاطبة السلطات وكتابة احتجاج، ولخصوا موضوع الشكوى «نحتج على هذه الحادثة السيئة قيامًا بالمفروض علينا من خدمة الجامع الأزهر الشريف وأهله». ولكن لم يأتوا في بيانهم على ذكر أي شئ متعلق بالثورة، أو أي أحداث أخرى جرى فيها الهجوم على المتظاهرين وقتلهم.وأخيرًا انضم علماء الأزهر إلى ركب الثورة، شأنهم شأن آخرين، بعد أن صارت واقعًا ملموسًا وتيارًا جارفًا يصعب الوقوف أمامه. وقام علماء الأزهر بإرسال بيان طالبوا فيه الإنجليز بالوفاء بوعودهم والاعتراف «بالاستقلال التام لهذا البلد الممتاز...».على أن ما جاء في تقرير لجنة منلر قد يفسر هذا الموقف الجديد لعلماء الأزهر، فيقول «في الأسبوع الثاني من وصولنا أرسل علماء الجامع الأزهر... منشورًا إلى المعتمد السامي البريطاني أبانوا فيه حقوق مصر في طلب استقلالها التام وطلبوا خروج البريطانيين من البلاد. وهناك أسباب تحملنا على الاعتقاد أن العلماء الذين وقعوا ذلك المنشور لم يكونوا يهوون ركوب ذلك المركب السياسي، وإنما ركبوه إذعانًا لضغط الأساتذة والتلامذة الذين نشطت بينهم الدعوة لمعارضة البريطانيين!» حتى الإنجليز يدركون أن هذا البيان هو ذر للرماد في العيون، بعد أن شملت الثورة كل أطياف المصريين، فانضم إليها، كرهًا، رجال المؤسسة.

شارك طلاب الأزهر وبعض مشايخه في هذه الثورة بصفتهم مواطنين مصريين، ولم تحظ مشاركاتهم بقبول مؤسساتهم الرسمية، وهم من ناحيتهم لم يدَّعوا تمثيل هذه المؤسسات. شعار الهلال مع الصليب أُقحم في ظروف بعينها، ثم وُظف في سياق جديد لإظهار وحدة المصريين في هذه اللحظة التاريخية. ولكن لم يكن قط تعبيرًا عن تمثيل المؤسسات الدينية الرسمية في الثورة.

لعل الطريف في الأمر أن وزارة الأوقاف وزعت خطبة موحدة على الجوامع في 27 مارس 1920 بمناسبة عيد ميلاد السلطان فؤاد. فامتعض جمهور المصلين وأنزل بعض المصلين الخطباء من على المنابر. وبغض النظر عن المناسبة إلا أن محاولة تحديد موضوع الخطبة وتوحيدها، كان بغرض وقف الخطب الحماسية الثورية من على منابر الجوامع. عرفنا فقط قرار وزارة الأوقاف، ورد فعل المصلين. ولكن من كان وراء هذا الطلب؟ قراءة الوثائق المتوفرة تشير إلى ازدواجية مواقف المؤسسات الدينية، بصفتها مؤسسات حكومية تسير في ركب السلطة، وبصفتها مؤسسات شعبية تتعامل وتوجه جماهير المؤمنين. ولكن غلب عليها دائمًا الدور الأول بصفتها مؤسسات حكومية تمتثل لأوامر وسياسات السلطة، وظلت أداة طيعة في يد سلطات الاحتلال والإدارة الحكومية. تمكنا من العثور على خطاب من حكمدار بوليس مصر موجه إلى رئيس المجلس الملِّي بعد هذا التاريخ بأسبوع، في 3 أبريل 1920، بمنع الخطب في الكنائس في الأعياد المقبلة. فربما كان قرار وزارة الأوقاف امتثالًا لخطاب مماثل وصلها من الحكمدار! بمعنى أن خطابًا مماثلًا أُرسل إلى الأوقاف والأزهر لوأد الخطب الحماسية والسياسية، واستجابت المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية لهذه الأوامر.

ثالثًا: الصليب والتمثيل القبطي في الثورة.

قامت الثورة كما أسلفنا، بواسطة رموز مدنية من أطياف شتى، وكان لأعيان القبط دور بارز فيها. على أن المبادرة بالتواصل مع الوفد جاءت من بين أعيان القبط من رواد نادي رمسيس. ولم تكن هناك أي إشارة من بعيد أو قريب إلى استشارة الكنيسة أو أي من الرموز الدينية القبطية في هذه الخطوة، وهي دلالة مهمة. على الرغم من أنها تنم عن بعض الطائفية، إلا أنها تنزع عن نفسها عباءة الكنيسة. على أن الأمر يحمل بين طياته جانبين مهمين، الأول هو السمة المدنية الخالصة للثورة. والثاني ينطوي على صراع مرير معلن بين أعيان القبط ورجال الكنيسة حول من له ولاية إدارة أمور الطائفة.وتاريخ هذا الصراع طويل، طالما استند كل طرف فيه على دعم وتأييد السلطة الحاكمة. والبطريرك المعاصر للثورة، البابا كيرلس الخامس (1874-1927) خبر هذا الصراع منذ توليه كرسي البطريركية، وخاض جولات عنيفة من الصراع مع أعيان القبط، وشهد بنفسه جدوى الاستعانة بالسلطة في مثل هذه الصراعات، إذ تمكن الأعيان بما لهم من سلطات من تأسيس مجلس ملِّي يرعى شئون الطائفة المالية والإدارية ويمثلها أمام الدولة، وبالفعل تشكل أول مجلس ملِّي قبل تعيين هذا البطريرك عام 1874، ليجد البطريرك هذا المجلس واقع أمامه. على أنه بذل كل ما في وسعه لتعطيله ووقفه، وبالفعل نجح في ذلك، إلى أن تمكنوا مرة أخرى من إعادة تشكيل المجلس الملِّي عام 1882. ودارت رحى الصراع مرة أخرى، ولكن هذه المرة تمكن الأعيان بحكم علاقاتهمالوثيقة بالسلطة الحاكمة (بعضهم كانوا أيضًا في مواقع حكومية مهمة) من استصدار أمر من الخديو في عام 1892 بتجريده من صلاحياته وتحديد إقامته في الدير، حسمًالهذا الصراع المرير بين البطريرك (مؤسسة الكنيسة) الأعيان.

ما من شك أن الكنيسة والكثير من القبط كانت لهم مواقف متباينة من الحركات الوطنية الآخذة في الصعود، وخصوصًا في ظل قيادة الحزب الوطني لزمام الأمور. وربما كانت السمة الدينية التي تتناثر في خطاب الحزب الوطني مبررًا لتخوفات. على أن الكنيسة، شأنها شأن الأزهر، مؤسسة تراتبية تقليدية لا شأن لها بالثورات، وكان رجالها آنذاك مشغولين بالصراعات الداخلية مع الأعيان حول قيادة الطائفة، وإدارة مواردها المالية. وربما كان الدرس الأهم المستفاد في تاريخ هذا الصراع، هو طبيعة العلاقة مع السلطات الحاكمة؛ إذ تدل التجارب على أن حسن العلاقة مع السلطة هي السند والمرجع في إدارة هذا الصراع. ولا تعوزنا الحجج على امتثال الكنيسة لتطلعات وقرارات سلطات الاحتلال والإدارة الحكومية التابعة لها.

ومن ثم، اتخذت الكنيسة، في ظني، موقفًا مناوئًا للثورة، وهذا الموقف مبعثه دافعان: الأول، الاستكانة والركون إلى السلام مع السلطات (الاحتلال والحكومة)، وهو خط مستمر في سياسات الكنيسة، لتقوية موقفها على رأس الطائفة؛ والثاني، المعارضة على طول الخط لسياسات الأعيان القبط، وعدم تمكينهم من الظهور بمظهر الممثل لجموع القبط.

على أن أمرًا جدَّ في أحداث الثورة أربك كلا الطرفين: الكنيسة وأعيان القبط. وهو الظهور الخاص للقمص سرجيوس الملقب بـ «خطيب الثورة»، ثم توالى ظهور القساوسة مع المشايخ، تعانق الهلال مع الصليب، والجنازات الشعبية للمصريين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.فمن ناحية، القمص سرجيوس لا يزال مرتديًا عباءة الكهنوت، ويمثل رمزيًّا، الكنيسة. وربما وجوده في قلب الثورة، يبعث نوعًا من الرضا الخفي بين قادة الكنيسة، حتى لا يستأثر أعيان القبط بالمشهد كله، كممثلين عن القبط. على أن المأزق يأتي من أن الصورة لا تزال غير واضحة المعالم. والثورة والتظاهرات الشعبية شأن جديد، ليس للكنيسة خبرة في التعامل معه، ولا باقي المؤسسسات والأفراد.

وقد لا يرتاح أعيان القبط لظهور أمثال القمص سرجيوس بأرديتهم الدينية وما تمثله من دلالات في مشهد مدني بالدرجة الأولى، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يمثل وجود رجل دين مسيحي في قلب الثورة سحبًا للبساط من تحت أقدام المشاركين الحقيقيين من القبط، وتحول تمثيلهم لشكل مؤسسي يٌختزل في الكنيسة وقيادتها لأمور الطائفة. ويخسرون جهادهم المرير لإزاحة الكنيسة ورجالها عن كل ما هو غير ديني. كما أن ظهور رجال دين في مشاهد عامة قد يُحمَّلبدلالات طائفية.

يحكي القمص سرجيوس كيفية اشتراكه في فعاليات الثورة، وهو قرار شخصي بصفته مواطنًا، لا بصفته كاهنًا أو ممثلًا لمؤسسة الكنيسة. بل كان للقمص سرجيوس تاريخ حافل بالمواقف الثورية أدت إلى ترحيله من السودان، وتعرضلعقوبة كنسية بسبب مقالات نارية ينتقد فيها أوضاع البلاد وكذلك أوضاع الكنيسة ويطالب بإصلاحها. أي أن سرجيوس من البداية لا يمثل طغمة الإكليروس ولا الكنيسة. نجح سرجيوس بجهوده الذاتية، مع معارضة الكنيسة، في تأسيس كنيسة جديدة بالقللي بالقاهرة، واتخذها منبرًا للوعظ. ولم يتردد سرجيوس في الصعود على منبر الأزهر مرات ومرات لإلقاء خطب حماسية على المحتشدين بساحته. وهو جد مشهد معبر عن أجواء وطنية خالصة. وحاز سرجيوس شهرة كبيرة وصار شخصية عامة.

كان الظهور الأول للكنيسة في يوميات الثورة، بشكل رسمي، عندما تم اعتقال سرجيوس، ضمن مجموعة اعتبر وجودها بمثابة وقود لحماس الجماهير. أظهرت الكنيسة اهتمامها به بصفته كاهنًا ينتمي للمؤسسة، وربما أولت هذا الاهتمام لهذه الشخصية الشهيرة بعدما أحست بانتظار رد فعلها من قبل الجماهير والرأي العام. وأرسلت الكنيسة في 27 أبريل 1919م اعتراضها على اعتقال سرجيوس، ووجهت هذا الاعتراض إلى السلطان أحمد فؤاد. على أن الكنيسة قد أسست اعتراضها على أنه تدخل في سلطاتها بصفتها صاحبة الحق الوحيد في محاسبة رجال الدين «كنا نود أن نقف على الأسباب التي أوجبت نفي القمص المومأ إليه، ونبلغ ذلك بواسطة السلطة حسب القوانين المرعية والامتيازات الخاصة برجال الدين، حتى يتسنى لنا النظر في أمر المذكور ونوقفه عند حد إذا كان حقًا قد أتى أمرًا يضر بالمصلحة العامة» ولم يرد في شكوى الكنيسة أي ذكر للثورة أو حق التظاهر، أو حتى تبرئة سرجيوس من الإدانة باعتباره مواطنًا مصريًّا قبل أن يكون كاهنًا. 

الظهور الثاني للكنيسة، كان بعد قبول يوسف وهبة (القبطي) لتأليف الوزارة، إذ قدَّم حسين رشدي استقالته من الوزارة كي يمارس مزيدًا من الضغوط لإجبار الإنجليز على قبول الوفد كممثل وحيد للأمة. ومن ثم لجأت السلطات إلى مصري آخر لتشكيل الوزارة وتوفير غطاء شرعي للإنجليز. اجتمع حشد من رجال الدين (بمشاركة القمص سرجيوس) والأعيان في 21 نوفمبر 1919م في البطريركية لإرسال اعتراضهم ليوسف وهبة على قبوله الوزارة. وربما كانت المبادرة من الأعيان لممارسة أقصى الضغوط على يوسف وهبة، بإشراك الكنيسة في هذا الأمر، خصوصًا بعد تصاعد الاعتراضات حول هذا التصرف من يوسف وهبة القبطي. ربما مارس الأعيان وغيرهم ضغوطًا على الكنيسة للتدخل في الأمر باعتبار الأمر شأنًا طائفيًّا، ربما مبعثه ما قد يثيره من مشكلات طائفية تتهم القبط بإفشال محاولات الأمة الحصول على الاستقلال، أو قد تعيد التذكير بمواقف بطرس غالي، رئيس الوزراء القبطي السابق (ت. 1910). على أن مواقف الكنيسة التالية، لا تجعلنا نسير في ركب اعتباره موقفًا وطنيًا.

لم يمض وقت طويل حتى صبت الكنيسة جام غضبها على القمص سرجيوس ثانية، بعد أن واصل خطبه من الكنيسة الجديدة التي أسسها بالقللي بالقاهرة، واعتبرت الكنيسة هذا الأمر خروجًا عن دوره ككاهن، وعن توظيف الكنيسة كمنبر سياسي. وبالفعل صدر قرار في يوليوعام 1920، بتجريد سرجيوس من رتبته الكهنوتية وأعادته إلى صفته المدنية واسمه المدني. السبب الظاهر خروجه عن التقاليد الكنسية، وانتقاصه من الرهبان وملاءمتهم لتولي قيادة الكنيسة كأساقفة أو بطاركة، ومن ثم يندرج تحت من انتقدهم سرجيوس البطريرك نفسه. على أنه يمكن قراءة قرار الكنيسة من منظور آخر؛ وهو محاولات الكنيسة لكي تبرأ ساحتها من نشاطات سرجيوس الثورية، وتقدم برهانًا على التزامها بتعليمات سلطات الاحتلال. وعلى الرغم من تباين الآراء حول موقف الكنيسة من سرجيوس إلا أني أميل إلى هذا التفسير، وربما حجتي في ذلك نصٌّمهمٌ يفصح عن مراسلات بين الكنيسة وسلطات الاحتلال لمساعدتها في التخفيف من حدة التظاهرات والخطب الثورية. إذأرسل حكمدار بوليس مصر رسالة إلى رئيس المجلس الملِّي القبطي، بتاريخ 3 أبريل 1920، يشكو فيها من استمرار الخطب الثورية في بعض الكنائس، ويحمله مسؤولية عدم إيقاف هذا الأمر. وهذا هو الخطاب بنصه»جناب المحترم القمص بطرس عبد الملك رئيس المجلس الملِّي القبطي. رأيت أن أخبركم بأن شكاوى عديدة قد وصلت إلينا بخصوص الخطابات المهيجة والسياسية التي تلقى من وقت لآخر في الكنائس القبطية بالقاهرة. وبما أن غدًا هو أحد الشعانين الأرثوذكسي وسيعقبه أسبوع الآلام فقد رأيت أن أحيطكم علمًا بمقدار التبعة التي تقع عليكم شخصيًّا من جراء إلقاء مثل هذه الخطب في كنائسكم في بحر هذه المدة وفي يوم العيد أيضًا. وإني بمقتضى هذا أطلب من جنابكم أن تعملوا ما من شأنه إنذار الأشخاص الذين يهمهم هذا وأرجو جنابكم أن تفيدوني بوصول هذا إليكم مع رافعه. حكمدار بوليس مصر». 

أزعم أن هذا هو السبب المباشر والحقيقي لتوقيع هذه العقوبة القاسية على القمص سرجيوس. والجدير بالذكر أن القمص بطرس عبد الملك هو ابن أخي البطريرك ومدبِّر أموره. فما كان من القمص بطرس إلا أن أحال هذا الخطاب إلى وكيل البطريركية (القمص باسيليوس)لكي يطلع الكهنة على هذا الأمر ويلزمهم بالتوقيع بالعلم وتنفيذ الأوامر. فأشَّر الوكيل على صورة الخطاب «إعلان لحضرات المحترمين كهنة كنائس المحروسة: المسطر بعاليه صورة ما ورد من جناب حكمدار بوليس مصر يؤمل اطلاعكم عليه ووضع اسم كل من حضراتكم على هذا بالمعلومية وتنفيذ ما جاء به». بالطبع لم يوقع القمص سرجيوس على هذه الرسالة، لم ولن يمتثل لهذه الأوامر، في حين وقع بالفعل كل كهنة القاهرة، بمن فيهم كاهن القمص غبريال كاهن كنيسة العذراء بحارة الروم،وهي الكنيسة التي يخدم بها ثاني أشهر كهنة الثورة وخطبائها القمص بولس غبريال. ولا يمكنني الجزم بأن الموقع على هذا الأمر هو القمص بولس غبريال نفسه، أم هووالده القمص غبريال على هذا الأمرإذ ورد التوقيع على الوجه التالي «القمص غبريال بحارة الروم».

وهكذا اعتبرت الكنيسة كل من يقوم بالخطابة، أو يسمح بها في كنيسته معرضًا للعقوبة، وامتثلت لرغبات سلطات الاحتلال وتعاونت معها على تنفيذ مخططاتها. بل لم يكتف القمص بطرس عبد الملك، رئيس المجلس الملِّي، بهذا الإجراء، بل سارع لدرء أي محاولات قادمة قد تُستخدم فيها الكناس كمنابر وطنية للدعاية للثورة، ونشر خبرًا مدفوع الأجر في صحيفة الوطن في 10 أبريل 1920 جاء فيه«حضرات سادتنا الموقرين وأخواتنا الأحباء المخلصين الذين يودون إظهار شعورهم الشريف بزيارتهم لنا للتهاني بعيد القيامة المجيد، لا يمكن عقد اجتماعات ولا مقابلات في هذا العيد مع قبول مزيد تشكراتنا القلبية للجميع، سائلين المولى سبحانه وتعالى جميعًا الخير والإسعاد، القمص بطرس عبد الملك رئيس المجلس الملِّي القبطي بمصر».

هذه النصوص تبين التزام الكنيسةبالتعليمات التي ترد لها من سلطات الاحتلال وتعمل على تنفيذها، شأنها في ذلك شأن مؤسسة الأزهر. على أن الكنيسة تمادت في موقفها نكاية في ظهور أعيان القبط في المشهد.

اقتبس هنا فقرات من نصمهم نشره محمد عفيفي، يبين رأي القمص بطرس عبد الملك في القمص سرجيوس في تلغرافأرسله إلى السلطان أحمد فؤاد بتاريخ 2 سبتمبر 1921 «... اتضرع لعظمة مولانا بألا تسمح عنايته بتفضيل شخص طُرد من زمرة الكهنوت بأحكام دينية...، وبتفضيل فرد لا قيمة له على أمة بأكملها تخضع لعرش عظمتكم وصدور الأوامر العالية بعدم تسليم كنيسة القللي لشخص ساقط معروف لدى عظمة مولانا وللجميع بترهاته وأكاذيبه...».

والواقع أن موقف القمص سرجيوس كان باعثًا لاضطراب كل الأطراف القبط، بالنسبة للأعيان، فهو يمثل رجل دين من داخل المؤسسة. لذا لم يكن مستغربًا ألا يأتـي ذكره في محادثاتهم ومذكراتهم، على سبيل المثال خلت مذكرات مكرم عبيد من ذكره، في حين ورد ذكر زميله الشيخ القاياتي مرات عدة. كذلك تبرأت الكنيسة منه بسبب اشتراكه في الثورة من جهة، وبسبب وقوفه في صف المناوئين لها (أعيان القبط الوفديين).

عود على بدء

المتأمل ليوميات الثورة، يلحظ نزعتها المدنية الخالصة، والحرص من البداية على تجنب المزايدات الدينية والطائفية. كذلك كانت الفعاليات والتظاهرات خالية من الشعارات الدينية أو الطائفية، وانصب كل اهتمامها على المطالب الوطنية ولم تحد عنها. المتأمل أيضًا لأماكن التجمعات والدعاية والخطب، يجدها متوزعة ما بين جوامع وكنائس ومقاهٍ ونوادي بل وبارات. 

على أنه في أوقات الحشد يسعى المتصدرون إلى كل جهد ممكن وكل مساهمة، ومن ثم لم يعلق قادة الوفد على اشتراك رجال الدين في مشاهد الثورة، وبما أن الكثير منهم على دراية بدواليب الحكومة وقنواتها مع المؤسسات الدينية، يكفي أن نشير إلى سعد زغلول الوزير سابقًا. لذا قبلوا هذه المشاركة ولكنهم لم يأمنوا هذه المؤسسات، على الرغم من الخطب الحماسية التي تشيد بكل طوائف المجتمع ولكنها دواليب السياسة والتعامل مع الحشود.

يظل رمز الصليب مع الهلال متصدرًا المشهد ويحجب عنا رؤى كثيرة، ويلقي بظلاله على يوميات ثورة مدنية خالصة، أُلبست ثوبًا دينيًّا.