مراجعات

علاء بريك

الأحزاب السياسية في سوريا في القرن العشرين

2018.12.01

الأحزاب السياسية في سوريا في القرن العشرين

عرض كتاب "صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية"

المؤلف: عبد الله حنا.

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018

 

صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- الدوحة كتاب «صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية» للمؤرخ السوري عبد الله حنا.

يتناول الكتاب عبر 22 فصلاً سيرة الأحزاب السياسية السورية ومنابتها الاجتماعية منذ نشأتها وحتى مطلع القرن الحالي، وطُعِّم الكتاب بسيرة بعض الشخصيات السياسية السورية التي تُعتَبر مؤثرة في الحياة السياسية والحزبية، واستخدم حنا في كتابه منهجًا نقديًّا، في محاولة لرصد سيرورة حياة الأحزاب في سوريا، وقراءة الأحداث بالاستناد إلى الوقائع المثبتة والتمحيص في الوثائق والمرويات للوقوف على ما هو أبعد من الحدث.

يمكن تقسيم الحياة الحزبية والسياسية في سوريا إلى ثلاثة مراحل حسبما يستقرأ من أفكار الكتاب، حيث مرت بالمراحل التالية:

مرحلة الولادة والنمو:

تمتد هذه الفترة لتشمل حقبتين أساسيتين تتشكل في رحم الحقبة الأولى (المرحلة العثمانية) أفكار العروبة والحياة السياسية والرغبة بالتحرر، وتنضج هذه الأفكار في الحقبة الثانية، حيث خرجت المنطقة العربية من تحت السيطرة العثمانية وخضعت بعدها للاحتلال –الانتداب- الفرنسي، ويمكن ملاحظة أن هذه الفترة من 1908 - 1946، ويعد تاريخ ميلاد الكتلة الوطنية (1936) نقطة بارزة في هذه الفترة والتي ستفرز تناقضاتها الداخلية مجموعة من الأحزاب لاحقًا.

سبقت السياسة ظهور الأحزاب وهذا نراه واضحًا في تأكيد الكاتب على أن الطرق الصوفية تعتبر أحد أشكال التمظهر السياسي، وتعبيرًا عن الاحتجاج والرفض لما هو سائد سياسيًّا واجتماعيًّا، كانت هذه هي الحالة في منطقتنا العربية إبان الحقبة العثمانية، ولكن شكل التعبير السياسي اتخذ طابعًا أكثر تقدمية مع ظهور الجمعيات -وهي الشكل السابق على الكتل والتيارات في حقبة التحرر الوطني وما بعد- حيث يرى وليد المعلم في كتابه “طريق الحرية: سورية من الانتداب إلى الاستقلال” أن هذه الجمعيات والحركات العربية القومية أتت كرد فعل على التيار القومي التركي وتضييقاته المستمرة على المواطنين العرب -والسوريين خصوصًا- بالإضافة لتأثر مؤسسي وأعضاء هذه الجمعيات والحركات بالفكر الغربي.

وتتشكل هذه الجمعيات في غالبيتها من فئات مثقفة متعلمة من أبناء الطبقة الوسطى والبرجوازية-الإقطاعية التي احتكت مع الفكر الغربي، سواء عبر المدارس الأجنبية التي كانت تنتشر في بعض مناطق الدولة العثمانية، أو نتيجة تلقي العلوم في جامعات أجنبية –في معظمها فرنسية- وما صاحب هذا الاحتكاك من تبنٍ لأفكار التقدم والثورة والاستقلال والنزعة القومية ونبذٍ للتخلف والجمود.

نشطت في الفترة (1918 - 1920)1 الصحف، والأحزاب السياسية التي كان بعضها فيما سبق جمعياتٍ تنويرية (حزب الاستقلال نموذجًا والذي كان سابقًا جمعية العربية الفتاة). تعد هذه المرحلة مرحلة انتقالية لـ“الشعب2” السوري من نير العثمانيين ذوي الأيديولوجيا الإقطاعية وما يترافق معها من أشكال حكم ومؤسسات ومناخ سياسي، نحو النير الكولونيالي الإمبريالي ذي الأيديولوجيا الرأسمالية، وما يرافق ذلك من تغيرات للعلاقات الإنتاجية وللمؤسسات والمناخ السياسي، وهنا يبرز السؤال: ما أثر الاحتلال الأجنبي المتقدم اقتصاديًّا لبلد متخلف اقتصاديًّا3؟ بمعنى آخر هل من مصلحة الاحتلال تطوير وتحديث المستعمرة؟ أو أن تكمن مصلحته في الإبقاء على حالة التخلف؟

يورد المؤلف أن الانتداب الفرنسي كأحد أشكال الاستعمار الأخف وطأة  كان له جانبان: الأول يتمثل بنهب الثروات الوطنية وتحقيق الهيمنة الاقتصادية والسياسية على البلد المستعمَر، أما الثاني فيصفه حنا بالجانب التحديثي والذي يرافقه نشر للأفكار التقدمية الواردة مع المستعمِر، وهذه النقطة تحديدًا تفتقر إلى النظرة الديالكتيكية للعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، فالجانب الذي يُطرح على أنه تحديثي هو بالتحديد نتاج حركة المقاومة/النضال ضد المستعمِر، وليس أبدًا نتاج الأفضال أو الآثار الجانبية الجيدة للاستعمار، وما يدعم هذا الرأي هي التركة التي تركها المستعمِر في البلد عقب مغادرته والتي لم تنفع معها قيم “التنوير والحداثة” التي من المفترض أنها جلبتها معها. ولا ننسى دور الوعي الوطني الثوري التحرري الذي من المؤكد أن له دورًا كبيرًا في صياغة العديد من المفاهيم التقدمية والوطنية على حساب تلك المفاهيم الرجعية ضيقة الأفق.

وتتمثل خلاصة هذه المرحلة بصعود القوى التقدمية، لكن تقدمية هذه القوى لم تمنعها من قبول شخصيات من خلفيات رجعية، ويمكن تفسير هذا السلوك بأن التناقض الخارجي مع الاحتلال هو التناقض الرئيسي، وشكلت عملية الصراع السياسي والوطني مع الاحتلال خبرات كبيرة لدى هذه القوى، حيث زادت خبرتها وتحددت اتجاهاتها ورؤيتها للواقع والمستقبل.

  مرحلة النضج والنشاط والصعود والهبوط:

وتمتد هذه المرحلة لتشمل فترة ما بعد الاستقلال وحتى استلام البعث للسلطة، وهي المرحلة التي شهدت نشاطًا سياسيًّا مهمًا ما يزال تأثيره باديًا إلى الآن، وتميزت هذه المرحلة بالنشاط المحموم للأحزاب، وكذلك للعسكر الذين يميلون أو هم بالفعل منضوون تحت جناح حزبٍ ما، وتطرقت دراسة (زين الدين، 2008) لمسألة العلاقة بين الجيش والسياسة، والتي تظهر كيف أن الحوار السياسي الذي يفشل تحت قبة البرلمان أو طاولة المفاوضات كان ينتقل لحوار بالبنادق والاغتيالات والانقلابات، ولا يخفى أن الانقلابات العسكرية كانت أيضًا سمة عامة في المنطقة، حيث تخلص نتائج دراسة (عبدالعال، 2004) إلى أن أحد نتائج هذه الانقلابات هو تشكيل فئة من العسكريين السياسيين التي شكل نزاعها مع السياسيين أزمات متعددة منها الأزمات الوزارية المتلاحقة، ولا يتعرض حنا لهذه الجزئية بشكل من التفصيل فلم يورد أي فصل للحديث عن دور الجيش في السياسة وكيف تمت تصفية أجنحة منه نتيجة انهزام حزبهم السياسي، ولو وردت هذه النقطة لكانت إضافة ممتازة للكتاب.

تشكل الانقلابات والصراعات الإقليمية والدولية (الأحلاف) سمة هذه الفترة، تلاها تجربة الوحدة مع مصر وما رافق ذلك من استمرار لخط الحكم العسكري، حيث تجذرت في فترة الوحدة السيطرة العسكرية والأمنية، ويرى الكاتب أن هذه السيطرة هي التي أعادت إحياء مفهوم ودور المباحث السلطانية، وشكلت الحلقة الأخيرة التي ستخنق داخلها الحياة السياسية لاحقًا.

يعرض لنا الكاتب أفكار ومواقف والشخصيات المؤثرة لمجموعة من الأحزاب (الحزب الوطني، وحزب الشعب، وحزب الشيشكلي “حركة التحرير العربي”)، ليستحضر مضمونها الطبقي فبين حزب كبار الملاك وحزب الرئيس وحزب البرجوازية الدمشقية، تنتظم مجموعة من المصالح والتحالفات المحلية والإقليمية، فحزب الشعب مثلًا نراه قريب من السلطة العراقية التي كانت تحت سلطة الانتداب البريطاني، ويعود ذلك لارتباط المصالح الاقتصادية بين كبار قادة الحزب والقيادة العراقية.

لم ينس الكاتب تناول الأحزاب ذات الصبغة الشوفينية، فتعرض لأنطون سعادة وحزبه “القومي السوري”، يليه الإخوان المسلمون، ويرى حنا أن إخوان سوريا يختلفون عن إخوان مصر على الرغم من أنهم ينهلون من الأيديولوجيا نفسها إلا أنهم أكثر تسامحًا حسب رأيه وانفتاحًا على باقي المكونات، وهذا ما يعرضه في مواقف عدد من مراقبي الحركة، ولا يمكن لأي باحث يتناول حركة الإخوان السورية أن يتجاهل الطليعة المقاتلة وهو ما تعرض له حنا أيضًا بشكل منفصل في فصل لاحق “الفصل التاسع عشر”.

أما الفصل العاشر فتناول بالدراسة حزب البعث العربي وشخصياته ومرويات عن الحزب من دفاتر مؤسسيه وأعضائه الأكثر فاعلية، وهو أحد أجزاء حزب البعث العربي الاشتراكي الحالي، أما الجزء الآخر لحزب البعث العربي الاشتراكي والمتمثل بالحزب العربي الاشتراكي ومنظره الأبرز هو الحموي أكرم الحوراني، الذي كان يقود النضال ضد إقطاعيي حماة وله انتشار واسع بين شباب المدينة فقد أفرد له حنا الفصل التالي “الفصل الحادي عشر”، أما الحزب الشيوعي وقادته وأفكاره ومؤتمراته فقد تعرض لها حنا في الفصل الثاني عشر، أما الباب الثالث عشر فخصصه حنا لعرض بيوغرافي مختصر لبعض من الشخصيات السياسية الوطنية على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، وفي الفصل الذي يليه انتقل الكاتب للحديث عن حقبة الجمهوريات الثلاث وتعاملها مع الحياة الحزبية، فنرى تمييز بين ثلاث جمهوريات وفقًا لوجهة نظر الكاتب وهذه الجمهوريات هي:

1 - جمهورية الوحدة (1958 - 1961): وفيها حجب النظام الوحدوي الحياة السياسية، يرى حنا أن هذه الإجراءات لم تكن ضرورية، ففقد كان الشعب في سوريا مندفعًا تجاه الوحدة ولا يحتاج إلى هذا القمع السياسي ليسهل ترويضه! كما فعّلت هذه المرحلة الدولة الأمنية، وأعادت استحضار المباحث السلطانية التي ستسيطر على الحياة الاجتماعية في البلاد خلال الفترة التالية.

 2 - جمهورية الانفصال (1961 - 1963): عادت الحياة السياسية في هذه المرحلة إلى سابق عهدها وظل الخط اليساري للسياسة فاعلاُ عبر التأميم والإصلاح الزراعي، ولكن لم يكن الاستقرار تام، ويتساءل الكاتب عن القادة الحاليين للجمهورية هل كانوا انفصاليين؟

3 - جمهورية انقلاب الثامن من آذار/مارس 1963: نتيجة عدم الاستقرار والاستقطاب الحاد داخل حزب البعث حدث انقلاب الثامن من آذار والذي أوصل من كانوا يقودون البلد من خلف الكواليس إلى واجهة الحكم والسلطة وبذلك فقد نجحت اللجنة العسكرية للحزب في آخر المطاف في فرض رؤيتها واستلام الحياة السياسية.

مرحلة الاحتضار والجمود:

تمتد هذه المرحلة من الفترة التي أعقبت سيطرة اللجنة العسكرية على مفاصل السلطة وحتى تاريخه، وتكرر في هذه المرحلة ما حدث من استقطاب وتوتر داخل حزب البعث ولكن هذه المرحلة داخل اللجنة العسكرية نفسها، وحصلت التصفيات والاستبعادات بين أفرادها ليصل في نهاية المطاف اللواء حافظ الأسد إلى السلطة مؤسسًا نظامًا رئاسيًّا مركزيًّا ودولة الحزب الواحد والجبهة الوطنية التقدمية (أو جبهة النصف زائد واحد)، ولتصبح سوريا ولأول مرة في تاريخها في مرحلة استقرار/جمود.

تشبه المراحل التي مرت بها الحياة الحزبية والسياسية في سوريا خط قطع مكافئ زائد حيث تنطبق على مساراته المراحل الثلاث (الصعود والوقوف على القمة ومن ثم الانهيار/الجمود)، ولكن في الحقيقة فالكتاب لم يأت ليرصد الحياة الحزبية من واقع أدبياتها وما يحصل داخل مؤتمراتها العامة، بل لدراسة هذه الحياة من المواقف الاجتماعية وأساسها الطبقي الذي يدفع بأعضاء من الجبهة الوطنية مثلاً إلى عدم الاستماع لفلاحي الهبيط مثلًا عند شكواهم.

في الفصل الخامس عشر عرض حنا العوامل المؤثرة في تراجع الحراك السياسي في الفترة البعثية، ومن هذه العوامل التي تناولها تفصيلًا الكاتب:

الأجواء الاقتصادية والاجتماعية التي كانت في تلك الفترة.

1 - سيادة الاقتصاد الريعي على حساب الاقتصاد المنتج.

2 - تراجع دور النقابات.

3 - تفشي المظاهر الأمنية والمباحث.

4 - تراجع الحركة الثقافية والتنويرية.

5 - بروز السلفية الجهادية.

6 - السخرية البيروقراطية.

أما الفصل السادس عشر فيعرض الكاتب لشخصيتين مخضرمتين عاصرتا أوج نشاط الحركة السياسية في سوريا ومرحلة الركود السياسي أو قل انعدام الحياة السياسية، وهاتان الشخصيتان هما عبد العزيز عثمان وثابت العزاوي وقد التقى بهما حنا سابقًا، ونقل في هذا الفصل انطباعهما عما آلت إليه الحياة السياسية وما هو تصورهم للمستقبل، بهدف المقارنة بين من استسلم وركن إلى نوستالجيا عاجزة، وبين من يرى بالمستقبل أملًا يجب العمل على أساسه لتحقيق التقدم والخروج من المأزق.

أما الفصلين التاليين فقد تعرضا لقصة الأحزاب الشيوعية السورية وتطورها وانشقاقاتها ولقصة أحزاب علمانية غير شيوعية، والفصل التاسع عشر كما سبق وأشرنا تناول أحداث حماة والطليعة المقاتلة وسيرة الإخوان المسلمين من جديد، أما الفصل الذي يليه فقد تناول المشهد الإسلامي في سوريا والتيارات السنية المختلفة مع تعرضه لمفهوم الجهاد وتاريخه وتوظيفه وتعرض كذلك للسلفية من منظور دراسة سابقة للدكتور محمد حبش، ويركز حنا على قضية اجتماعية مهمة هي الحجاب في سوريا مؤشرًا على صعود وهبوط حركة التنوير ويفرد لذلك الفصل الحادي والعشرين وفيه أيضًا يعرض باختصار للتنظيم النسائي الديني المسمى القبيسيات، ويختم حنا بفصل عن الحراك الحالي يمثل قراءة للانتفاضة السورية في بداياتها وحتى مرحلة العسكرة.

 الهوامش:

لم تتوحد ولايتا حلب ودمشق حتى العام 1925، لم يوضح الكاتب هنا هل النشاط السياسي كان يتم في كل ولاية بشكل مستقل أم كان هناك نوع من الوحدة والتنسيق والتنظيم.

في هذه الفترة لم تكن بعد سورية الحالية بحدودها المرسّمة وفق اتفاقية سايكس-بيكو.

لم يأت الكتاب ليناقش هذا السؤال ولكن الإجابة التي يوردها د. حنا تستوجب عرضها نقديًّا كما تمت الإشارة إليه.

أشار المؤلف إلى هذه النقطة في بداية الكتاب ويمكن قراءة هذا الكتاب كتكملة في سلسلة ما كتبه الدكتور حنا عن السياق التاريخي لسورية وبالتالي اعتبار الكتاب جزءًا من مشروع وليس مشروعًا مستقلاً وترتبط طروحاته بباقي الطروحات التي وردت في مؤلفات سابقة للدكتور حنا.

ترد سيرة الشخصيات النهضوية والوطنية التقدمية في عدة فصول منها الفصل الثالث (رموز إسلامية نهضوية في مجابهة الاستبداد وتأثيرها غير المنظور في تكوّن الأحزاب)، وبشكل متفرق في باقي الفصول.

زين الدين، بشير. (2008). الجيش والسياسة في سورية: دراسة نقدية. دار الجابية (ط. الأولى). 1-551.

عبدالعال، سيد. (2004). الانقلابات العسكرية في سورية. دار مدبولي (ط. الأولى). 1-484.