مراجعات

ماهر عبد الرحمن

الاستثناء هو القاعدة

2017.11.01

تصوير آخرون

الاستثناء هو القاعدة

 

عرض كتاب "المنبوذ: السلطة السيادية والحياة العارية"، تأليف جورجيو أغامبن، ترجمة وتقديم وتعليق عبد العزيز العيادي، منشورات الجمل 2017.

يعتبر جيورجيو أغامبن من أهم الفلاسفة الإيطاليين المعاصرين؛فله العديد من الكتب والمحاضرات والندوات ومشروع ثقافي كبير لترجمة كل أعمال فالتر بنيامين إلى اللغة الإيطالية. وأهم كتب أغامبن هو هذا الكتاب الذي صدر عام 1995 وتُرجم إلى الفرنسية عام 1997 والإنجليزية عام 1998، وأخيرًا صدرت له هذه الترجمة العربية في مطلع 2017.

المنبوذثاني دراسة تُترجم لأغامبن إلى اللغة العربية. كانت الدراسة الأولى هي "حالة الاستثناء"التي صدرت ترجمتها في 2015. والمشروع الفكري لأغامبن هو مشروع ممتد منذ عقدين ولا يزال مستمرًا حتى اليوم، وأصدر منهسبعة مجلدات. وقد حظيالعمل الذي نستعرضه الآن باهتمام وتقدير في الأوساط الأكاديمية والثقافية، وكان له تأثير كبير على عدد من الحقول المعرفية المختلفة، سواء القانونية أو الفلسفية أو السياسية وغيرها.

أغامبن حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعة روما عام 1965 برسالة عن الفكر السياسي لسيمون فييل، المفكرة والفيلسوفة والكاتبة اليسارية الفرنسية. وقام بالتدريس في عدة جامعات بإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أحداث انهيار برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001 والسياسات والقوانين الاستثنائية التي فرضتها حكومة جورج بوش، تخلى عن منصبه كأستاذ متميز بجامعة نيويورك،وامتنع عن دخول الولايات المتحدة تمامًا اعتراضًا على الشهادات البيولوجية التي أصبحت تطلبها سلطات الهجرة والجوازات الأمريكية.

في مقدمة الكتاب يقول أغامبن إن "المحرك الأول لهذا الكتاب هو الحياة العارية، أي حياة المنبوذ التي يمكن انتزاعها ولا يمكن التضحية بها، هي التي أردنا بيان وظيفتها الأساسية في السياسة الحديثة".

هناك بعض المفاتيح المهمة لفهم كتاب أغامبن، منها المفهوم المحوري "Homosacer" الذي يعني حرفيًّا "الإنسان المقدس- والملعون أيضًا"، الذي ترجمه عبد العزيز العيادي إلى المنبوذ. وهناك أيضًا مفهوم السلطة السيادية ومنطق السيادةوحالة الاستثناء. وفي مفهوم السيادة والاستثناء يتعاطى أغامبن ويشتبك أحيانًا، هنا وفي دراسات أخرى له، مع ثلاثة مفكرين مهمين ومحوريين، هم بالترتيب كارل شميت وفالتر بنيامينوميشيل فوكو.

يُعرِّف القانون العام والنظم السياسية الدولة الحديثة بأنها تتكون من ثلاثة عناصر أساسية متفق عليها وهي: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية. والأخيرة هي التي تقوم بالحكموتحقيق أهداف الأمن والاستقرار والتنمية، وبتنظيم أمور الجماعة وحماية الإقليم ضد الاعتداءات الخارجية. وأحد خصائص هذه السلطة السياسية أنها صاحبة سيادة، أي أنها صاحبة سلطة عليا تسمو فوق الجميع وتفرض القوانين والقرارات باعتبارها سلطة أصلية ومستمرة وآمرة.

بعض فقهاء القانون العام يضيفون صفة رابعة إلى السلطة وهي أنها مطلقة على إقليمها وسكانها، بمعنى أنها تستطيع تغيير القواعد والقوانين في أي لحظة. وهنا تقع المفارقة التي يفتتح بها أغامبن الجزء الأول من كتابه بعنوان مفارقة السيادة.فـ"صاحب السيادة كائن في نفس الوقت خارج النظام القانوني وداخله". فهو خارجه حين يضع القاعدة القانونية التي يراها مناسبة، وهو داخله حين يلتزم بالقواعد التي أصدرها هو مادامت قائمة وكذا بالتزامه باتباع الإجراءات اللازمة لتغيير هذه القواعد.

صاحب السيادة، كذلك، يعترف له القانون بسلطة إعلان الحالة الاستثنائية، ومن ثم تعليق سريان القانون نفسه الذي يخضع له. وبالتالي فالمفارقة التي يصيغها أغامبن هي أن القانون كائن خارج ذاته.

يعتبر إسهام كارل شميت، الكاتب والفيلسوف والفقيه الدستوري الألماني، أصيلاً ومهمًا وجذريًّا في نقدالفكر القانوني الليبرالي الذي يقدم القانون باعتباره نظام مجرد من القواعد القانونية القادرة على تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية بالمساواة بين السكان. شميت يرى أن تلك المساواة صورية، كما أنها تفترض أن السيادة والقانون تحكم حالة طبيعية معيارية لم ولن توجد أبدًا. ومن ثم فهو يقوم بتقديم فكرته عن نظام وبنية قانونية هي بنية الاستثناء، وفكرة الدولة الكلية (التوتاليتارية) في مقابل دولة القانون البرجوازية.

يقول شميت: "ينبغي أن يكون النظام مستتبًا حتى يكون للنظام القانوني معنى... كل قانون هو "قانون مناسب للمقام". ينشئ صاحب السيادة جملة الوضع في كليته ويضمنه... الاستثناء أهم من الحالة العادية. الحالة العادية لا تثبت شيئًا، الاستثناء يثبت كل شئ"]كارل شميت، اللاهوت السياسي: أربعة فصول في مذهب السيادة[.وهكذا يمكن أن نتقدم خطوة في تعريف السلطة السياسية للدولة ليس بأنها فقط المحتكرة للعنف،بالإضافة إلى ما تقدم من تعريف، لكن،والأكثر جوهرية،أنها التي تحتكر اتخاذ قرار الاستثناء،الذي "هو بنية السيادة".

على ضفة أخرى من النهر يقف الألماني، أيضًا، فالتر بنيامين، الذي يتحدث عن مفهوم "الاستثناء" كقاعدة في مقالته الشهيرة "أطروحات في فسلفة التاريخ".يقول بنيامين: "تُعلمنا تقاليد المقهورين أن "حالة الطوارئ" التي نعيشها ليست الاستثناء بل القاعدة"،]فالتر بنيامين، مقالات مختارة، ترجمة أحمد حسان[.

من خلال هذه البصيرة لبنيامين يطور أغامبن فهمه وتناوله لطرح شميت. فصاحب السيادة من خلال احتكاره اتخاذ قرار الاستثناء؛ يطمس الخط الفاصل بين الواقع والقاعدة القانونية، بين القاعدة والاستثناء: "أن يكون ]القانون[ساري المفعول دون أن يكون دالًا... كل المجتمعات وكل الثقافات (سواء كانت ديموقراطية أو كليانية، محافظة أو تقدمية) قد دخلت اليوم في أزمة مشروعية حيث وقع إدراك القانون... على أنه محض "عدم ثورة". لكن هي ذي تحديدًا البنية الأصلية للعلاقة السيادية، ومن هذا المنظور، العدمية التي نحيا في صلبها ليست غير إبراز لهذه العلاقة بما هي كذلك".

وإذا كان ميشيل فوكو يطرح في دراساته المتعددة أن الحداثة هي لحظة التحول والتجاوز من نمط السلطة السيادية إلى نمط السلطة البيوسياسية، ويقصد بها الاندماج في آليات وحسابات سلطة الدولة، ويسميها في دراسته "إرادة المعرفة""عتبة الحداثة البيولوجية"، حيث يصبح النوع والفرد، من حيث هما مجرد جسم حيّ، رهان الاستراتيجيات السياسية،فإن السلطة السياسية خلقت، من خلال المراقبة التأديبية والتطوعية، ما يمكن وصفه بـ"الأجساد المذعنة".

يقول أغامبن في كتابه إنه حاول أن يكمل ما تركه فوكو ناقصًا، لكنه في البداية يختلف مع فوكو في رؤية تحديد ظهور البيوسياسة كلحظة ظهور للحداثة، بل إنها كانت دائمًا عملًا من أعمال تلك السلطة السيادية؛ ومن ثم فليست الحداثة هي التحول إلى نمط جديد من السلطة بقدر ما هي إظهار فقط لما كان كامنًا بها، أو بلغة قانونية: كشفًا وليس إنشاء. ويصل أغامبن لذلك إلى أنه ثمة "تآزر داخلي بين الديمقراطية والشمولية" وأنهما، في حقيقتهما، وجهان لعملة واحدة من ناحية اهتمامهما بالبعد البيولوجي للسيطرة.

أخيرًا، فإن الحيز النموذجي الذي تتجلى فيه السلطة السيادية الحديثة، كما يرى أغامبن، هو المعتقل. فالمعتقل، وليس المدينة كما يذهب أرسطو، هو تجلي السياسة الأنقى؛ ففيه تتجسد حالة الاستثناء التي تصبح قاعدة. وفي الفصل الأخير، بعنوانالمعتقل ناموسًا للحداثة، يقول أغامبن "حالة الاستثناء التي كانت بالأساس تعليقًا مؤقتًا للنظام القانوني على قاعدة وضع حقيقي للخطر، تكتسب من الآن فصاعدًا في المعتقل قاعدة مكانية دائمة... حيث إن نزلاءه قد جردوا من كل منزلة سياسية واختزالهم بالتمام في الحياة العارية". الحياة العارية هي تجريد من حماية القانون لصالح حالة الاستثناء، تلك الحالة التي تسمح لصاحب السيادة أن يسحب الحياة من أي شخص، في أي لحظة، وبدون أي تحفظات.