المرايا

صقر النور

الباشا والقادر والعيان

2017.11.12

الباشا والقادر والعيان

«بنظامي سأكوِّن شيئًا فشيئًا أشخاصًا مُجدّين، ينتهي بهم الأمر إلى التعود على العمل، وقد وضعت يدي على كل شيء، ولكن لأجعل كل شيء منتجًا، والمسألة مسألة إنتاج. فمن ذا الذي يستطيع أن يقوم بذلك غيري؟ أين الذي كان يقدم السُلف اللازمة، ويشير بالأساليب التي تُتبّع، والزروع الجديدة التي تدخل؟ يجب أن يُقاد هذا الشعب مثلما يُقاد الأطفال. فتركه ونفسه يرجعه إلى الفوضى بجميع أنواعها التي قد أخرجته منها، والتي سيقع فيها ثانيةً لو تخليت عن قيادته لحظة واحدة». محمد علي

مقدمة

 «لائحة الفلاح وتدبير أحكام السياسة بقصد النجاح» كتيب من 76 صفحة، صدر في ديسمبر سنة 1829، أورد فيه محمد علي باشا التفاصيل الدقيقة لأنساق التدريب والمراقبة والإخضاع، ونظام علاقات الفلاحين بالموارد الطبيعية، وسياسة إدارة العملية الزراعية. هذه اللائحة هي باكورة أعمال مجلس المشورة، وهي الهيئة التي شكَّلها محمد علي سنة 1829، وترأسها ابنه إبراهيم باشا، وكانت تتألف من كبار موظفي الحكومة والعلماء والأعيان، وضمت 156 عضوًا، منهم 99 من أعيان البلاد، و33 من كبار الموظفين والعلماء، و24 من مأموري الأقاليم، وكانت من اختصاصاتها البحث في مسائل الإدارة المدنية والعسكرية[1].

تنقسم اللائحة إلى قسمين:

القسم الأول: مواعيد وعمليات وتكاليف الزراعة:

مواعيد وعمليات وتكاليف الزراعة في الدلتا.

مواعيد وعمليات الزراعة في أقاليم الصعيد.

القسم الثاني: واجبات المسئولين وقواعد المراقبة والعقاب

واجبات المسئولين عن مراقبة ومتابعة وتسجيل وتحصيل المستحقات من الفلاح (المأمور وناظر القسم وشيخ الخط والحاكم والقائمقام وشيخ الحصة والصراف والخولي والمشادين والخفراء).

أشكال عقاب المسئولين والفلاحين.

أُصدِرَت هذه اللائحة كمكّون أساسي من مكّونات حزمة سياسات أراد الباشا بها مواجهة انخفاض الإيرادات الزراعية وانسحاب الفلاحين من الأرض. وقبل أن أشرع في تحليلي لبعض مكونات الوثيقة ومضامينها، أود أولاً أن أقدِّم صورة عامة عن السياق الذي ظهرت فيه والتطورات التي سبقتها. وبعد أن نتعرض للظروف والأحداث التي سبقت صدور اللائحة، سنتناول بعض موادها وعلاقتها بالتحكم في العناصر البشرية وغير البشرية للإنتاج؛ فالمسألة كما يقول الباشا «مسألة إنتاج».

نظرة على سياسات الباشا الزراعية

 

حكم محمد علي مصر من 1805 إلى 1848، ولم يشهد عصره مسارًا خطيًّا في علاقته بالقطاع الزراعي. ففي البداية انتزع الباشا الأراضي من أيادي الملتزمين والمماليك «انتزاعًا قانونيًّا». ففي 1806 رفع قيمة «الفايظ» على الملتزمين، مما دفع بعضهم إلى التنازل عن أراضيهم لعدم قدرتهم على سداد ما تراكم عليهم من ديون. ثم فرض ضريبة ثانية وهي «كلفة الذخيرة»، التي مكَّنته من الاستيلاء على أراضي ملتزمين آخرين لم يستطيعوا دفع تلك الضريبة.

وحين استتب الحكم لمحمد علي بعد مذبحة القلعة عام 1811، أخذ في ملاحقة المماليك الفارين حتى 1812، واستولى على أراضيهم والتزاماتهم بالقوة، وأعطى الوسيَّات لملتزمي الدلتا التابعة له كأرض «رزقة بلا مال»، أي معفاة من الضرائب، وخصص لهم معاشًا سُمي بـ«فائض الالتزام»، ومنع ذلك عن ملتزمي أقاليم الصعيد، الذين حاربوه وحملوا السلاح عليه.

بعد ذلك قام محمد علي عام 1814 بتسجيل الأراضي لمن يزرعها، مع تحديد درجاتها ومعرفة ما يصلح منها وما لا يصلح في زمام كل قرية، ثم أجرى توزيعًا جديدًا للأراضي. ومنذ هذا المسح الزراعي وحتى ثلاثينات القرن التاسع عشر كانت الدولة تدير غالبية الأراضي مباشرة، من خلال شبكة من الموظفين التابعين لها، الذين يتحكمون في الإنتاج، ويراقبون الفلاحين، ويتلقون الضرائب.

ظل هذا النظام مستمرًا حتى عام 1840، حين أعاد الباشا العمل بنظام يشبه نظام الالتزام الذي كان سائدًا قبله، وهو «نظام العُهدة»[2]. وبعد أن أعاد توزيع الأراضي مرة أخرى على المتعهدين، حدد الضرائب، التي كانت تقدَّم في صورة عينية. كانت كل قرية تقدم 500 ألف طوبة محروقة وجذوع نخل وسعف لمعسكرات الجند، ورطلاً من السمن عن كل بقرة، بالإضافة إلى ضرائب الأعشار على الأراضي، وعلى ماشية الفلاحين، وهذه الأخيرة لم تكن موجودة من قبل.  وقد أثقلت كل هذه الضرائب كواهل الفلاحين.

ومن ناحية ثانية، وتمكينًا لنظام الاحتكار، وفيما يتعلق بتوريد المحاصيل وتداولها في الأسواق، أقرت الدولة نظامًا لاحتكار تسويق المحاصيل، فوضعت تسعيرة جبرية تشتري الحكومة المحصول على أساسها ثم تقوم هي ببيعه.

في بداية عهده، كان محمد علي يتاجر في القمح مع إنجلترا. وفي الأعوام من 1809 إلى 1811 استغل القحط الذي ضرب ممالك البحر الأحمر، والذي أدى إلى نقص إمدادات القمح، فكان يجمعه من الفلاحين من خلال فرض الضرائب عليه عينًا من المحصول.

ثم في عام 1812 احتكر الباشا القمح والأرز، وبعدها، في 1816، احتكر القرطم والنيلة والسمسم والقطن والعصفر والحمص، ثم أخيرًا احتكر القصب. كانت الحكومة تشتري إردب القمح من الفلاح بسعر 27 قرش وتبيعه محليًّا بـ65 قرش وتصدِّره بــ90 قرش[3].

وفي بداية إقرار نظام احتكار المحاصيل التصديرية، حاول الفلاحون المقاومة، فكانوا يمتنعون عن زراعتها. لكن الباشا أجبرهم على ذلك، وفقًا للجبرتي. وفي 1837 حدثت أزمة شديدة، فألغى محمد علي احتكار الحبوب، ثم بضغط من الإنجليز ألغى الاحتكار تمامًا سنة 1840[4].

وبسبب اهتمام الدولة بزراعة القطن والنيلة والكتَّان والأرز والسمسم من أجل تصديرها، ولأن هذه المزروعات لا تكتفي بمياه الفيضان وتحتاج إلى ري صناعي، فقد قامت الدولة بعمليات إعادة بناء شاملة للنظام الهيدروليكي، فحفرت سلسلة من الترع الصيفية، من أهمها الخطاطبة والمحمودية والسرساوية والباجورة وبحر شبين وبحر مويس والبوهية والمنصورية[5].

احتاجت هذه الطفرة الهيدروليكية استخدامًا مكثفًا للعمال، فسخَّر الباشا العمال لبناء قنوات عميقة في الدلتا لتوفير المياه للزراعات الصيفية. واختُرِعت فئات جديدة من السكان مثل «النفر» و«الفاعل»، ومن هنا جاء مصطلح «الشغل في الفاعل»، الذي لا يزال يُطلق على الأعمال البدنية الشاقة حتى اليوم في مصر.

كان محمد علي يحشد 400 ألف فلاح سنويًّا لمشروعات الري، وقد أنجز هؤلاء 40 مليون متر مربع من أعمال الحفر والردم في العام، وكان موسم العمل أربعة أشهر[6]. تطلب هذا تسجيل العمال في سجلات تفصيلية وإعداد إحصاءات شاملة لأعداد الذكور، وكذلك كشوف لحصر العمال المناوبين والورديات، عدا عن الإشراف على العمل وتوزيع الوجبات.

ويؤرخ آلان ميخائيل لترعة المحمودية التي بدأ حفرها عام 1819 باعتبارها نقطة تحول في تنظيم وإدارة موارد المياه من المستوى المحلي إلى المستوى القومي، في مشروع جُلب من أجله آلاف الفلاحين من قراهم للعمل الجبري، وقضى ثلثهم نحبه جراء البرد والجوع والأمراض. وقد عمل في هذا المشروع 300 ألف فلاح في بلد تعداده 4.5 مليون نسمة، أي 6.6 % من السكان[7].

وفي كتابه «كل رجال الباشا»، يشرح خالد فهمي كيف اضطُر محمد علي إلى تجنيد المصريين، بعد أن فشل في جلب السودانيين وتجنيدهم في الجيش. فبدأ عام 1822 بتجنيد 4000 فرد من الصعيد، ثم توسع في هذا الإطار في عامي 1823-1824، حتى وصل العدد إلى 130 ألف مجند في منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وتبع هذا الإجراء إنشاء ثُكنات للجنود، وإخضاعهم لنظام صارم من التدريب والمراقبة والتحكم[8].

كانت هذه التحولات، التي تشمل التجنيد الإجباري، سببًا في إعادة تنظيم علاقة المجتمع الريفي بالسلطة. ونتيجة للموجات المتلاحقة من السُخرة والتجنيد والضرائب، استتبع الأمر مقاومة شديدة من الفلاحين. ففي عام 1822 تمرد الفلاحون في الصعيد على سلطة محمد علي، وانطلقت ثورة عارمة استمرت لأربعة أشهر من قنا لأسوان، وشارك فيها 30 ألف فلاح وفلاحة، وانتهت بمقتل أربعة آلاف شخص. وفي العام التالي، وبسبب الضرائب، اندلعت ثورة عارمة أيضًا في العديد من قرى إسنا وأسوان واستمرت شهرًا[9]. وفي عام 1824 قامت انتفاضة ضد التجنيد الإجباري في قنا وإسنا، وامتدت حتى أسوان وجرجا.

وتقدم زينب أبو المجد[10] وصفًا لحالة التمرد في جنوب مصر خلال القرن التاسع عشر، فتشير إلى أن قنا كانت نقطة مركزية للتمردات الفلاحية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. أما في الدلتا، فقد اندلعت انتفاضة للفلاحين عام 1823، وهو ما اضطُر محمد علي لأن يذهب بنفسه كي يواجه هبَّة الفلاحين، ووصل الأمر أن قام بدك عدة قرى بالمدافع.

نظرة على لائحة الفلاحة

 

في سنة 1826، وقبل صدور «اللائحة» بثلاث سنوات، أصدر الباشا قرارًا بتقسيم البلاد إلى 24 إقليم؛ 14 منها بالوجه البحري و10 بالوجه القبلي، وعيَّن لكل منها مأمور. ووكَّل لهؤلاء الموظفين –»المأمورين»– مسئولية الاعتناء بالزراعة ومراقبة الفلاحين ومنع تسرُّبهم من قراهم أو ثُكناتهم. لذلك كان اختيار المأمورين يتم وفقًا لمعرفتهم بالزراعة وأحوالها[11].

قُسِّمت المأمورية إلى أقسام، والقسم إلى أخطاط، والخط إلى قرى، والقرية إلى حصص، ولكلٍ ناظر. وكان المأمور هو المسئول الأول عن الزراعة في مأموريته، ومن بعده يأتي ناظر القسم، ثم حاكم الخط، ثم قائمقام القرية، وبعده شيخ الحصة، يساعدهم خولي الزراعة الموكل إليه مراقبة الفلاحين بشكل يومي ورفع التقارير عن الري وتنظيف الحشائش وموعد الحصاد. 

ارتكزت «لائحة الفلاح» على هذا الشكل الهرمي للمراقبة، وقد جاءت مكمِّلة لما سبقها من أدوات التحكم في الفلاحين والزراعة. وفيما يلي نقدم نظرة نقدية مدققة على مواد اللائحة، باعتبارها الوثيقة التي تجسد منظومة محمد علي الزراعية في نهاية عشرينات القرن التاسع عشر.

السيطرة على العمليات الزراعية

 

تحوي اللائحة في قسمها الأكبر وصفًا لعمليات الزراعة بتفاصيلها الدقيقة، وما يجب على الفلاحين اتباعه من إجراءات وفقًا لـ»علوم أصول الزراعات». فهي تشتمل على وصف دقيق لمواعيد زراعة كل المحاصيل بأقاليم الدلتا وأقاليم الصعيد، وعلى تحديد مفصّل لأساليب خدمة المحاصيل، كالري والحرث والتسبيخ والتزحيف والقلع والتجريش والتلويط والضَّم والحصاد والدِراس والدِراوة والغربلة والتهوية والتندية والتشميس وتعطين الكتَّان وحلج القطن وتبييض الأرز، وكذلك لكمية التقاوي اللازمة لكل محصول، وعدد العمال اللازمين لزراعته وأجر كل منهم، بالإضافة إلى أسعار تأجير المعدات الزراعية وأسعار النقل.

قبل عصر محمد علي، كانت الدولة تستخلص الفائض في صورة عينية ومادية عبر حزمة من الضرائب والاستقطاعات، بالإضافة إلى فِلاحة أرض الوسيَّة التي كان عائدها خالصًا للملتزم. لكن على الأقل كان الفلاح حُرًّا في زراعة ما يرغب وحُرًّا في طريقة زراعته. كان الفلاحون، فيما يخص الشأن الزراعي، هم «أهل الخبرة»، وكانت معارفهم المحلية محل تقدير من السلطة العثمانية. اختصارًا، كان الفلاحون مرجعًا مهمًا لتنظيم العلاقات مع الموارد الطبيعية وإدارة الإنتاج الزراعي محليًّا.

يقول الحتَّة إن نظام الفِلاحة قبل حكم محمد علي، «تكوَّن وتجمَّد ليلائم الظروف الطبيعية والاجتماعية»[12]. كان هذا النظام متناغمًا مع المحيط الإيكولوجي، فكان ينتج نظامًا زراعيًّا-إيكولوجيًّا يتجدد سنويًّا، سواء عبر تداول زراعة الأرض، أو عبر مياه الفيضان التي تجدد التربة كل سنة، أو بالاعتماد على التقاوي التي يكثرها الفلاحين ويختارونها من بين أفضل محاصيلهم. لكن في عصر محمد علي تغيَّر الحال؛ فقد تمددت سلطة الدولة، ليس فقط فيما يخص استخلاص الفائض، ولكن أيضًا في تفاصيل عمليات الإنتاج وعلاقة الفلاح بالأرض والمياه والزرع.

في ظل محمد علي، تشّكل نظام مركزي يهدف إلى التحكم في العمليات الطبيعية بدلاً عن التناغم معها، وكان نظامًا مستبدًا بإدارة الموارد البيئية في مصر. وهكذا سُلِب الفلاحون المصريون الحكم الذاتي على حقولهم وعملهم. فبعد وجود مساحة كبيرة للمناورة والاعتراف بما هو قائم من قديم الأزل، وصل الحال إلى عدم وجود أي شيء في مصر يمكن البناء عليه (كما ورد على لسان الباشا في أكثر من موقع). وعبر سلسلة من الإجراءات التعسفية للسلطة، وعبر عمليات من التكيف والمقاومة من جانب الفلاحين، بدا جليًّا أننا ننتقل إلى نظام زراعي-إيكولوجي آخر. وبينما كان الفلاحون يعانون أكثر فأكثر في ظل هذا النظام الجديد، كانت البيئة الريفية والموارد الطبيعية المصرية تخضع كذلك لنظام جديد من التحكم والسيطرة.

يشير محمد حاكم إلى «التسييس» الذي حدث للقرارات الاقتصادية الخاصة بعمليتي إنتاج وتداول الحاصلات. فالتفاصيل التي تشتمل عليها اللائحة توضِّح كيف تم تحويل الجانب التقني من الممارسات الزراعية وعلاقة الفلاحين بالأرض والمياه والزرع من شأن ذاتي (علاقة مباشرة وحرة بين الفلاحين والأرض والمياه) أو في حده الأقصى شأن محلي (المجتمعات المائية والجماعات القروية التي تتكاتف لتجهيز الجسور وتقسيم المياه) إلى شأن من شؤون السياسة العامة للدولة المركزية.

 لكن ما قامت به اللائحة، في تصوري، أعمق من ذلك. فقد فرض محمد علي، قسرًا، تسييس علاقة الإنسان بالبيئة، وإخضاع البيئة الزراعية والتحكم فيها، وتنميطها داخل إطار من صنعه هو وخبراؤه. كان هذا التدخل الدقيق في كل تفاصيل العمليات الزراعية أمرًا يتجاوز «السيطرة على الأجساد» ليصل إلى السيطرة على كل العناصر «البشرية» و «غير البشرية» في النظام الإيكولوجي-الاجتماعي المصري، من أجل خلق، ليس فقط، واقع اجتماعي جديد أو «بشر جدد» لكن الهدف كان، وبشكل أساسي، خلق واقع إيكولوجي-زراعي جديد.

سيطرت الدولة على المدخلات الزراعية، وعلى التوزيع والبيع، وكذلك على البيئة الزراعية، وعلى تفاعلات الفلاحين اليومية مع الطبيعة، في محاولة منها لتنميط وتوحيد النظام الإيكولوجي-الزراعي. وعليه، يمكننا القول إن نموذج «السلطة المهيمنة على كل شيء» الذي حاول الباشا فرضه، كان يتجاوز السيطرة على الفائض إلى السيطرة على كل عمليات إنتاج الفائض من الناحية الإيكولوجية.

لم تلق هذه التحولات الراديكالية قدرًا كبيرًا من الاهتمام لدى الباحثين، ربما لصعوبة تحليل ذلك عبر المصادر التاريخية المتاحة، والتي غالبًا ما ركزت على الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، وليس الإيكولوجية، للعلاقة بين الإنسان والموارد. لكن الحقيقة أن هذه التحولات أدت إلى اندثار حاصلات وممارسات زراعية تحت ضغط التحكم والمراقبة وإقصاء المعارف الفلاحية الموروثة، في مقابل العمليات والإجراءات المقررة وكاملة التفاصيل التي فرضها خبراء الباشا. للمرة الأولى عوملت «معارف الفلاحين المحلية» على أنها معارف بالية ومتخلفة، في مقابل معارف الباشا ورجاله الأوروبيين أو القادمين بالمعارف الأوربية. فقد أنشأ محمد علي مدرسة الزراعة لتكون مركزًا للمعارف الزراعية البديلة، واستعان بخبراء فرنسيين وإنجليز ليتسلموا مهمة إنتاج النظام الإيكولوجي-الزراعي جديد.

فمثلًا نجد اللائحة وقد فصّلت تفصيلًا دقيقًا عمليات زراعة القطن من وجهة نظر الخبراء، وذلك على النحو الآتي:

«وقانون خدمة الأراضي المتقدم ذكرها فإنها تحرث أربع مرار، وإذا كانت الأراضي ضعيفة فتكون خمس مرار، ويكون ما بين المرة والمرة قدر خمسة عشر يومًا لأجل بلوغ رشدها فى الندا والشمس ويفك طوبها الذى يكون موجودًا فيها آخر مرة، يتنبه على المزارع أنه يغوط المحراث فى الأرض لأجل تمكينه، ويجعله حرثًا رفيعا مثل حرث الشتوي، وبعد خلاص الحرث يزحفها لأجل بيك الأرض ويفصلها خطوطًا، ويفصل بين الخط والخط ستة اشبار لئلا تضل بعضها، فمن ذلك يضعف موجوداته ويجعل عمق النقرة الواحدة في الأرض مقدار شبر وقبضة، ويكون الزرع ريشة منزرعة وريشة من غير زرع، ولم يزرع على المساطب خضار بالجملة كونه يمنع الخدمة من الأراضي، ووضع التقاوى فإنه يوضع في كل نقرة ثلاث حبات أو أربعة، وعند تمام وضع تقاوى الخط ينزل عليه المياه حتي يملاء الخط لأجل تغطية كامل النقر بالماء، وبعد تمام الزراعة على الوجه المشروح يستقيم مقدار خمسة أيام أو ستة ويسقيه مرة ثانية بالقانون ولم يغمره بالماء مثل أول، وبعد تمام ماء الحيوة التي هي ثانى سقية يتركه بغير شرب خمسة عشر يومًا، وبعدها ينزل عليه الماء ثالث مرة بشرط يتلاحظ إلى الزرع بكل نقرة، فالنقرة التي يوجد فيها أربعة عيدان يقلع منها واحدًا واثنين، والنقرة التي يوجد فيها واحد فذلك يكفى، وبشرط دائم الأوقات يكون منظف الأراضي من الحشيش الذي يوجد فى الخطوط، ومن بعد الثلاثة سقيات المذكورة يتركه من غير سقية، وكل عشرة أيام أو اثنى عشر يومًا يسقيه مرة واحدة، وهكذا على الوجه المشروح إلى بؤونة كل ثمانية أيام يسقيه مرة إلى غاية أبيب، وعند طلوع النيل المبارك يسقيه من مائه ويغمره زيادة حتى تعم المساطب ويصرف عنه الماء بسرعة، وبعد ثمانية أيام ينظر للأراضي إذا وجد فيها حشايش طالعة بالمساطب يعزقها فالفاس، ومن بعد سقيه من ماء النيل يبشر بالموجود، فيجمع كلما وجد بأوقاته ولم يبق يشرب مياها من ماء النيل إلا مرة أو اثنين، ولم يهمله في جمعه خوفًا من سقوطه على الأرض فيحصل له وساخة والذي يجمعه يوضعه في محل مصان داخل منزله

التسجيل والتحصيل والعقاب

 

يحتوي القسم الثاني من اللائحة على وصف للعمليات الآتية: أولًا نظام التسجيل الدقيق لكل المزروعات والحيازات والمراقبة الدائمة للفلاحين «ليلاً ونهارًا»، وثانيًا نظام تحصيل الأموال والمزروعات وتسجيل المتأخرات، وثالثًا قواعد العقاب التصاعدي للمقصرين من الفلاحين ومن مراقبيهم. وعلى الرغم من تداخل هذه الأجزاء بالوثيقة، فإننا سنحاول عرض العمليات الثلاث منفصلة وتحليلها، مع عرض أمثلة لكل عملية منها.

أولًا: التسجيل والمراقبة

 

توضح اللائحة الأعمال المطلوبة من الفئات الموكل إليها مراقبة ومتابعة الفلاح. فكي تتمكن السلطة من المراقبة، اعتمدت تنظيمًا هرميًّا يتكون من مجموعتين أساسيتين؛ المجموعة الأولى مسئولة عن مراقبة الفلاح وعقابه على التقصير مع تسجيل أسماء القاطنين وأعمار الفلاحين وزمام الأراضي بكل ناحية وتصنيف حالاتهم إما «قادر» أو «عيان».  هذه المجموعة كانت أيضًا تسجل مساحة المزروعات وأسماء الحائزين، وقد تكوَّنت من المأمور، وناظر القسم، وشيخ الخط، والحاكم، والقائمقام، وشيخ الحصة.

أما المجموعة الثانية فتعمل تحت إشراف المجموعة الأولى، وهي مسئولة عن المراقبة اليومية والتجسس الدائم على الفلاحين وأحاديثهم وأفعالهم في الحقول ونقل حركاتهم وهمساتهم لشيخ الحصة، وهؤلاء هم خولي الزراعة، والمشادين، والخفراء.

وبالإضافة لهذه الوظائف العامة كانت هناك وظائف إشرافية تخص بعض المنتجات التي اعتنى بها الباشا عناية خاصة، مثل إنتاج الحرير من دود القز، ويشرف عليها قباني المبيضة ومُباشر المبيضة وناظر المبيضة، وإنتاج الكتَّان، ويشرف عليه ناظر بيع القماش ووكيل الحريمات.

 وكي نفهم بشكل أكثر تفصيلاً طبيعة مهام المراقبة نورد بعض الأمثلة. فمثلًا يقوم المأمور بتوزيع المساحات المقرر زراعتها للمحاصيل الاحتكارية بمديريته:

«عند ترتيب الزراعة يجمع (المأمور) نُظَّار الأقسام وحكام الأخطاط وكبار المشايخ على يده، ويتداول معهم فيما يقتضي توزيعه على كل بلد بقدر عدد أنفارها بمضاهاة الأطيان عن زمام الناحية، ويرتب ذلك على كل بلد على السواقي والتوابيت والشواديف

وهذا يعني أن هناك مساحات يتم تحديدها للمحاصيل التي يُجبَر الفلاحون على زراعتها بكل مأمورية، ومسئولية المأمور هي أولاً تقسيم هذه المساحة على القرى والتأكد من توفر الفلاحين والمعدات اللازمة لإتمام هذه الزراعات، ثم تسجيل ذلك في السجلات.

أما ناظر القسم فمطلوب منه أن يكون:

«دائم الأوقات يدور على بلاد القسم بلد بلد، لأجل مناظرة أشغالهم ويكون عنده أصل المطلوب من بلاد القسم نظارته بلد ببلد، ويخصم منه مستخلص كل شهر، لأجل يعلم مقدار أصل المطلوب والمستخلص والباقي، ويكون جاعل لكل بلد واحد قائمام وواحد خولي على زراعة الأصناف، ودائمًا يكون منه التنبيه والتأكيد على خلاص كامل المطلوب من النواحي، وتأدية جميع مطالب الديوان بأوقاتها

فناظر القسم مسئول عن تعيين ومتابعة من هم دونه في النظام الإداري، وعليه أن يتأكد من قيامهم بأعمالهم على الوجه المطلوب.

أما مهام مشايخ الحصص وقائمقام الناحية، فقد تحددت في أنهم:

«يقعدون المشايخ مع قائمقام الناحية ويحررون قايمة بزراعة كل صنف... إلى أن يتم ذلك ويوضع عليها ختمه قايمقام الناحية، وترسل إلى ديوان المأمورية أو إلى ناظر القسم، بشرط كل شيخ حصة يأخذ بيده قايمة بأسماء مزارعين حصته، لأجل دائم الأوقات يناظر زراعة حصته وصورة القايمة التي تتوجه لديوان المأمورية تكون تحت يد قائمقام الناحية، لأجل أيضًا يكون دائم الأوقات مع مشايخ الناحية يباشرون الغيطان

كان هذا التوثيق يتم قبل الزراعة، بعدها تتم مطابقة ذلك مع المزروع فعليًّا، وهذه مسئوليات مشايخ الحصص والقائمقام:

«وعند ابتداء الزراعة ينبه على النواحي حين تستكمل يطلب دفتر بالضبط الشافي لمساحة الأصناف صنف صنف من كل بلد بالأسماء

وتحوي هذه السجلات المساحات الفعلية للمزروع من المحاصيل المحتكرة وغيرها، بحيث تكون كاملة، وعلى أساسها يتم التعامل مع المرحلة الثانية المرتبطة بمراقبة العمليات الزراعية.

ومن مهام المجموعة الأولى أيضًا منح الفلاحين تصاريح لمغادرة قُراهم، وتُسمى «تذكرة»:

«إذا كان أحد الفلاحين من النواحي بالخط يتوجه إلى أحد النواحي لأجل قضا أشغاله، ويطلب تذكرة يتوجه بها فلا يعطى له ذلك إلا بضمانة شيخ بلده، ويذكر بالتذكرة لونه وصفته وسنه وميعاد إقامته

أما المجموعة الثانية –الخولية والمشادون والخفراء– فهي مسئولة عن المراقبة الدائمة ومعاونة المحصلين. وتصف الفقرة الآتية باللائحة دورهم بشكل مفصَّل:

«يدورون على المزارعين يومي أولاً يحضرونهم إلى الديوان، لأجل الحساب وخلاص المطلوب منهم نقديات وأصناف وغيره على دور النفر الواحد، وإذا حضر ناس أغراب في الناحية متسحَّبين ويختبرون بهم يضبطونهم ويحضرونهم لقائمقام وشيخ البلد، وأيضًا إذا كان أحد تَسَحَّب من الفلاحين والمشايخ يخبرون عنهم كونهم ملاحظينهم ليلاً ونهارًا، وأيضًا عليهم كامل خدمة الديوان من جمع المسلى من الفلاحين أو تبن أو مسكه أو طلب رجال أشغال أو معاونة وكلا الغزلات وكذلك مشايخ القزازين وكل ما أمروا به بخدمة الديوان

إذن، فلمعرفتهم الوثيقة بالفلاحين، كان المنتمون لهذه المجموعة الثانية يعاونون ليس فقط جهاز المراقبة، ولكن أيضًا جهاز التحصيل واستخلاص الفائض. ولم تكن المراقبة مقتصرة فقط على العمليات الزراعية بل:

«وكذلك دائم الأوقات يبحثون على الأنفار الذين يتسحبون من بلاد الخط، ويتوجهون بكل بلد ويحضرون قايمقامات ومشايخ الحصص بالنواحي، ويحررون قوائم بأسماء المتسحّبين بلد بلد اسم اسم، وإقامة المتسحب بأي بلد والبلد بأي مأمورية، وبيان المطلوب منه بخط الصراف ويعرضون القوائم على ناظر القسم لأجل بوقتها يحضر لهم جوابات من المأمور، ويتوجهون مع أحد من طرفه لأجل حضور تلك المتسحبين

كانت المراقبة إذن تضمن عدم التَسَحُّب من الجهادية، أو التهرب من الضرائب أو التحرك من القرى.

وأما بخصوص المسئولين عن متابعة عمل النساء (الحريمات الغزَّلات) في مجال تربية دودة الحرير وغزل الكتَّان وتسليمهن للغزل في موعده فإن مهمتهم:

«يلزم أن في كل بلد يتوجه مع الحريمات إلى شون الغزل، لأجل يستلمون الكتَّان على يده، وبمعرفته، ويعود صحبتهم وينبه عليهم بالغزيل بسرعة، واجتهاد لأجل تشهيل الغزل أول بأول، وإذا كان يصير إهمال من أحد يخبر عنه القائمقام والمشايخ وعند تمام الشهر يجمع الحريمات وصحبتهم الغزل، ويتوجه بهم الشون لأجل يوردون ما عليهم، ويحضر الكتَّان صحبتهم، وأيضًا في كل شهر يلاحظون فوايظ الغزَّلات، ويطلبون صرفه من ناظر المبيضة لأربابه، فإن أجابوا لا بأس وإن توقف معه يعرض عنه لناظر القسم، لأجل زيادة رغبة الحريمات في استلام الكتَّان وغزيله

فيما يبدو، كانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها تشغيل النساء وتنظيمهن كقوة عمل مأجورة من قبل السلطة، والمرة الأولى التي يتم فيها إخضاعهن للقواعد نفسها التي يخضع لها الرجال في الريف.

ثانيًا: التحصيل

 

بعد عملية التسجيل ومتابعة الممارسات الزراعية تأتي عملية التحصيل، وهي مسئولية كلٍ من الصراف وناظر الشونة ومحاسب الشونة ومحاسب القسم. ويُلاحظ هنا فصل مسئولية المراقبة والعقاب عن عملية التحصيل، ومنع تسليم أي شيء لشخص آخر غير مختص به، وتحديدًا للمسئولين عن المراقبة والعقاب.

وتبين اللائحة مهام ناظر الشونة على النحو الآتي:

«يلزم ناظر الشونة أن يلاحظ الإيرادات وقت حضور المزارعين بالأصناف أو الغلال، ويكون عنده أصول زراعة الأصناف بالبيان بلد بلد، اسم باسم، بأجناس الأصناف على قدر البلاد المعد ورودها إلى الشون

أما محاسب الشونة فـ:

«يلزمه أن يحضر حساب الشونة إلى ديوان القسم بأوقاته، ويلاحظ أشغال الشونة، فإذا وجد بلدًا إيرادها قليل يخبر ناظر الشونة وناظر الشونة يخبر المأمور وأيضًا عند صرف التقاوي

أما الصرَّاف فهو شخصية مركزية، لذلك أوردنا الجزء المتعلق بمهامه في اللائحة كاملاً. فجميع عمليات التسجيل تصب في النهاية عنده وعند مسئول الشونة، للتأكد من تمام عمليات التسليم والاستحواذ على الفائض ومنع التسرُّب.

«عن عملية صيارف النواحي بوجه العموم: «أولا يحرر دفاتر بالضبط الشافي أصول وخصوم بأوقاتها، وكلما يورد له يسدده أول بأول، كذلك يعطي أورادًا إلى المزارعين أصولًا وخصومًا عن المطلوب منهم، من مال وفردة بالبيان والخصوم عن النقديات وخلافه، أما النقديات والأصناف باب والغلال باب والمشتروات باب، وكلما يورد له من المزارعين يقيده بأورادهم بوقته، ولم يؤخر شيئًا بغير قيد، وعليه حفظ حسابهم بالضبط الشافي بغير خلل ولا يكون عنده أغراض لأحد، أو يكون عنده قيد رفت وامت الأنفار عن الموجودين بأسمائهم والأموات بأسمائهم وأعمارهم وتواريخهم، والأنفار المتوجهة لجهات يكون عنده قيدهم وأيضًا لم يقبل من أحد نقدية خلاف صاحب الاسم، لأجل عدم تداخل المشايخ والمشادين وخلافهم مع المزارعين، لأن إذا كان أحد خلاف الصراف يتعاطى شيئًا من الأهالي فيصير خلل وشبهة، ودائم الأوقات يقيم بالديوان ويطلب المشايخ والقايمقام والغفرا، ويدعهم يحضرون الأسماء التي عليهم المطلوب، ويخبرهم عن المطلوب منهم أول بأول، شيخ وفلاح، لأجل عدم الانكسار، ويكون عنده بيان مساحة الأصناف بالأسماء، لأجل ملاحظة الوارد منهم، ويخبر عن الذي ما ورد وأن فيه أسماء تحضر رجعًا بالأصناف وليس لهم قيد بدفتر المساحة، فيحتاج التنبيه على المشايخ بوقت مساحة الأصناف يعرفون عن الاسم وشريكه، إذا كان بحق النصف والثلث، لأجل عدم تداخل الأسماء في بعضها وكلا منهم يأخذ استحقاقه، وإذا كان يوجد أحد المزارعين له ساقية وعليها مرابع، فيلزم بيانه في دفاتر المساحة ولم يخصم للمرابع شيء من الرجعة إلا بحضور صاحبها، لأن كل بلاد ولها كيفية، وأيضًا يلزم الصيارف إذا كان بعض من المزارعين عليه بقايا إلى الديوان من السنين التي مضت، وورد منه أشياء في فتوح المال الجديد، إن كان نقدية أو غلالًا أو أصنافًا فلا يخصم له كلما أورده إلا بعد إغلاق البقايا المطلوبة منه، ويشطب له ورده، وإذا كان يوجد بعض ناس لها فوايض من السنين الماضية فيخصم لهم من المال الجديد من مال وفردة وخلافه، وأيضًا عند إيراد الغلال والأصناف إلى الشون الذي بالمكيل والذي بالميزان يعمل أعلام بأسماء المزارعين ومقدار الذي متوجهين به من الأصناف، أو من الغلال فيتوجه صحبة واحد شيخ من الناحية أو صحبة الخولي خوفًا لئلا بعض أسماء يتصرفون في شيء من المتوجهين به إلى الشونة بالطريق، وكذلك يقيد الأعلام المذكورة بدفتره لأجل مقابلة الرجع التي تحضر من الشونة، وكذلك كاتب الشونة يكتب على ظهر الأعلام التي تورد من الناحية لأجل إذا حصل خلل ينظر حصوله من أي جهة، وأيضًا إذا ترتب على بلد زراعة كتان وتحتاج لصرف تقاوي من شِوَن الميري فيكون بصحبتهم قائمقام وصرَّاف الناحية ومشايخ الحصص بحضور مزارعين هذا الصنف على دور النفر، لأجل إذا استلم المزارع ما يخصه يتقيد عند الصراف اسم باسم، وكذلك كاتب الشونة يستلم من الصراف قايمة بالمزروع، لأجل في ورود الموجود إلى الشونة يستقطعها من أربابها، وكذلك كامل التقاوي التي تصرف من الأشوان تكون على هذه الكيفية، وكذلك عند جمع المسلى من الفلاحين يكون عند الصراف قايمة بالأسماء

ويوضح محمد حاكم أن التأخر في دفع الأموال الميرية كان مشكلة ملازمة لعصر محمد علي. ولعل هدف الباشا الأساسي من الفصل بين المراقبة والتحصيل والعقاب كان ضبط مال الميري ومنع تسرُّبه إلى أيدي المديرين والنُّظار والقائمقامات والمشايخ. ويرى حاكم أن التأخر في الدفع هو شكل من أشكال مقاومة الفلاحين الصامتة للباشا سعيًا إلى تغيير التشريعات. وقد تصاعد أثر هذا النوع من المقاومة، فجابهته الدولة بالعنف والسجن، وهو عنف لم ينجُ منه أحد، فقد طال العقاب الجميع؛ الفلاحين ومشايخ الحصص والنظار والقائمقامات، وهو ما يركز عليه الجزء الأخير من اللائحة.

ثالثًا: العقاب

 

تنوَّعت أشكال العقاب من الضرب بالكرباج والنَبُّوت إلى الحبس أو الإرسال إلى الجهادية. وتشرح اللائحة تفاصيل العقاب، مشددة على عدم تجاوزه. وكان من أهم ما ميَّز النظام الجديد أنه يحدد العقاب الواقع لا على الفلاحين وحدهم، ولكن أيضًا على أعضاء الجهاز الإداري كافة، وصولاً إلى كل من يتجنَّى على الفلاحين ويطلب منهم أو يحمِّلهم أكثر مما يطلب الباشا.

مثلًا يعاقب المشايخ والقائمقامات بالجلد بعد التحذير الأول:

«فإن وجد حصول إهمال من المشايخ وقائمقامات في تمام عمليتهم فيلزمهم أول مرة العتاب وترذيلهم بين أقرانهم، وإن صار منهم ذلك ثاني مرة يضرب كل واحد منهم مائة كرباج، وإذا صار ثالث مرة فيضرب كل واحد منهم مائتين كرباج، بطرف ناظر القسم، وأما إذا صار منهم رابع مرة يعزلون من وظيفتهم وينصب عوضهم من يكون كفؤًا للخدمة لأن بعضًا من الناس يزعمون أن عملية الزراعة ليست بجسيمة والبعض من الحكام يتهانون في التفاتهم لتلك العملية

أما الفلاح، وهو الطرف الأضعف في هذه العملية، فيعاقب من المرة الأولى في حال الإهمال، ويكون العقاب تصاعديًّا: «الغيطان التي يمرون عليها إذا وجدوا خدمتها ناقصة فبوقته يحضرون صاحب الغيط ويسألون منه عن السبب، فإذا لم يوجد له عذر فأول دفعة يضرب خمسة وعشرين كرباجًا... ثاني يوم أيضًا يتوجهون للغيط المذكور، وينظرون أشغاله... إذا توجه ووجد صاحب الغيط لم يحصل منه همة في خدمة أطيانه فيضرب خمسين كرباجًا... ثالث يوم كذلك يتوجهون الغيط المذكورة فإذا وجدوا وصاحب الغيط المذكور مهتمًا في خدمته لا بأس وإلا إذا وجد أنه مهمل كالأول فيضرب مائة كرباج، وإن كان له شركا في الغيط فيصير عليهم التنبيه بالعانة له، وأما إن كان ليس له شريك وصاحب الغيط ليس له قدرة لخدمة الغيط المذكور فيتشارك مع واحد مقتدر

الواقع أن محمد علي هدَفَ من تفصيل عمليات العقاب إلى إحكام السيطرة المركزية على الأطراف بكل مكوناتها ودرجاتها. فهو من ناحية أولى كان يرى أن العقاب –الجسدي– ضروري للضبط، لكنه كذلك كان يعي أن الإفراط في العقاب يؤدي إلى خسارة قوة العمل المعاقَبة، فهُم وفقًا للائحة «يحدث لهم تلف».

لم تشتمل سلسلة العقوبات على المسائل المرتبطة بتنفيذ التعليمات الواردة في اللائحة فقط، لكنها تعدتها لتنظيم العلاقات بين الفلاحين. فتورد اللائحة مسألة النزاع حول أراضي الأثر، سواء بأن يأخذ الفلاح أثر غيره بلا سبب، أو أن يوسّع أرضه مقتطعًا من أرض غيره. كما كانت هناك عقوبات لمن يسرق فواكه أو خضراوات أو غلالاً من مراكب الميري. فإن كانت السرقة قدر أكله فقط، يُضرَب عشرة كرابيج، أما إذا كان السرقة للبيع فيضرب خمسين كرباجًا. وتفصِّل اللائحة عدد الجلدات لكل نوع سرقة من الماشية والدجاج.

ولما كانت فكرة القومية لا وجود لها عند محمد علي، فإن تجنيد الفلاحين أو «الذهاب إلى الجهادية» كان شكلاً من أشكال عقاب للفلاحين ومشايخ البلد:

«إذا كان شيخ بلد أو فلاح كسر ساقية أحد أو حرقها ولا سرق شيئا من آلاتها، فالذي مثل ذلك إن كانوا شبابًا يرسلوا الجهادية، وأما إن كانوا اختارية يوضع في أرجلهم الحديد ويستخدمون في خدمة عمارة الميري الذي بالمأمورية، مدة سنة

ومن ناحية أخرى، فمن الواضح في اللائحة مركزية «الإرسال إلى الجهادية» كهدف يعاقب الناس على عدم تنفيذه عقوبات قاسية: «إذا طُلب من قرية أنفار إلى الجهادية فإذا حصل من مشايخ الحصص أو القائمقامات توقيف، وإلا حصل منهم فساد لعدم إعطاء الأنفار إذا كان لهم أخوة فيؤخذوا، إذا لم يكن لهم أخوة فيؤخذ أولادهم، وإذا لم يكن لهم أولاد يؤخذ أولاد أعمامهم، والحاصل أن يؤخذ أقاربهم، وأما إذا لم وجد لهم أقارب أو الموجود لم يوافق إلى الجهادية فيؤخذ من أنفار تلك الناحية مقدار ما هم مطلوب منها، ويضرب القائمقام أول مرة ثلثماية كرباج، وثاني دفعة إذا حصل منه ذلك يضرب خمسماية كرباج، كذلك إذا فعل ذلك يضرب كمثله، وشيخ الحصة أول دفعة مايتين، وثاني دفعة ثلثماية، وإذا حصل منه ثالث يضرب ثلثماية كرباج، وأما إذا كانوا المشايخ والقائمقامات لم هربوا والذي هرب منهم أهالي البلد فقط، فيؤخذ منهم يعني من أهالي البلد الطاق اثنين

هنا نجد ما يكشف العلاقة بين التجنيد الإجباري ومحاولة ضبط الريف، حيث تظهر أهمية المراقبة والمتابعة ليس فقط للعملية الزراعية، ولكن لتسليم المطلوبين الجهادية.

خاتمة

تكشف الوثيقة أن مشروع الباشا للتحكم والسيطرة لم يكن مقتصرًا فقط على «البشر»، ولكن أيضًا على العناصر «غير البشرية» للإنتاج. فمن اللافت أنه قد وضع الأرض والفلاحين داخل تصنيف واحد هو إما «قادر» أو «عيَّان»، وكأن «الأرض» و»الفلاحين» سواء؛ كل شيء مُسخّر لإنتاج ما يريده الباشا.

هنا تتحقق مقولة محمد علي «ولقد وضعت يدي على كل شيء، ولكن لأجعل كل شيء منتجًا، والمسألة مسألة إنتاج». فقد كان ما قام به في مجال الإنتاج الزراعي من اتجاه إلى تكثيف الزراعات، وتوحيد أساليب الإنتاج، وتنظيم المدخلات، وإدارة العملية الإنتاجية بطريقة حسابية، مكوِّنًا أساسي في بنية الرأسمالية الزراعية، التي أدى تركيز الباحثين على فهمها من زاوية تحليل علاقات الملكية فقط، إلى إهمال مشكلة «تنميط الإنتاج وتوحيد قواعده وتنظيم أدواته»؛ فتغيير العمليات الإنتاجية والعلاقات الإيكولوجية خطوة لا تقل أهمية بحال عن مسألة الملكية لفهم التطور الرأسمالي للزراعة المصرية.

 إن ما نسميه اليوم بالزراعة الرأسمالية، في مقابل الزراعة المعيشية، هو نمط من الإنتاج يقوم على التحكم في المدخلات والإنتاج والتسويق وفقًا لقوانين التكلفة والسعر كما تفرضها الأسواق. هنا ليس من الدقيق القول، مثلما يقول الباشا، إن الهدف الحقيقي هو «جعل كل شيء منتجًا». فبالإضافة إلى زيادة الإنتاج هناك أهداف لا تقل أهمية وهي: تحقيق أكبر قدر من التراكم والاستحواذ المركزي على كل شيء، وتفكيك الطابع الجماعي في عملية الإنتاج الزراعي.

لذلك فإن رؤية الباشا هي الأقرب إلى النموذج الرأسمالي. فتفكيك المجتمعات المائية المحلية، وإحكام السيطرة المركزية على تداول المحاصيل والتقاوي والمياه، أدى إلى فرض نمط من الفردية. كما أدى نظام التجسس والمراقبة إلى تعميم هذه الفردية وتجذرها في الريف. وهو ما أدى في النهاية إلى تغيير نمط العلاقات الاجتماعية في الريف، ليس فقط فيما خصَّ علاقة الفلاحين بالدولة، بل كذلك في علاقتهم بعضهم البعض.

تضمن مشروع محمد علي تحويل القرى إلى ثُكنات تشبه الثُكنات العسكرية التي كانت قد بدأت بالفعل تتأسس حول المدن والقرى لإيواء جيشه قبل أعوام قليلة من صدور اللائحة. وكانت الإجراءات التي اتُبعت لتأسيس جيش نظامي، والتي قامت على أساليب التدريب والانضباط واللوائح، تشبه إلى حد كبير تلك التي استخدمت لعسكرة الإنتاج الزراعي.

وتكشف اللائحة التي عرضناها هنا العلاقة الوثيقة بين التحكم في القرى والفلاحين من ناحية، وتمويل الجيش وبناء الجيش من ناحية ثانية، والتحكم في الري عبر تشييد القنوات بتنظيم الفلاحين في شكل عاملين في الفاعل من ناحية ثالثة. إذ كانت السجلات وإحصاء الأفراد والأعمار تستخدم كأدوات لتنظيم امتصاص فائض العمل لاستغلاله في بناء الجيش. وكان الفلاح مخيًّرا بين ثلاثة أشكال من العمل، كلها تحت سيطرة الدولة: الفلاحة في القرية، أو العمل في الفاعل، أو الجندية في الجيش. وكان يعيش في نوعين أو ثلاث من الثُكنات؛ الأول جديد وهو الثُكنات العسكرية، والثاني تمت عسكرته وهي القرى التي أصبحت خاضعة لنظام مراقبة صارم، هذا بالإضافة إلى المعيشة في معسكرات أعمال الري. باختصار، تحوَّل الفلاح إلى «نفر» في كتيبة الإنتاج الزراعي، التي هي جزء من بناء هرمي على قمَّته الباشا شخصيًّا. و«النفر» هو في الأصل آخر رُتب عساكر الجهادية: يوزباشي، جاويش، أونباشي، بلطجي، ثم نفر.

هنا كانت «لائحة الفلاح» إحدى أهم الوثائق المنظمة لعملية التحكم في الريف. فإذا كانت دراسة خالد فهمي «كل رجال الباشا» قد ركزت على عمليات الانضباط والتنظيم والتحكم والتأطير في الجيش، فإن المجتمع الزراعي قد شهد أشكالاً شبيهة، وهذا ما يجعلنا نرى مشروع محمد علي في مجمله مشروعًا «لعسكرة المجتمع المصري»، وتنظيمه بشكل يسهِّل مراقبته وتوجيهه، واستعمار أرضه الزراعية والتحكم فيها.

لكن وعلى الرغم من كل محاولات السيطرة والتحكم في البشر والطبيعة، فإن هذا النظام فشل في النهاية في تنفيذ مبتغاه، لأسباب تتعلق بطريقة التنفيذ نفسها. فمقاومة الفلاحين، بالإضافة إلى تعقد النظام البيروقراطي وضخامته، وكَمّ الأوراق والسجلات، والضعف التدريجي للسلطة المركزية نتيجة للاضطرابات الداخلية، وحروب الباشا المستمرة ومعاهدته مع السلطان العثماني، وضغوط الإنجليز، كانت كل هذه كانت أسبابًا أدت إلى الفشل.

ونتيجة لفشل المنظومة المعقدة في رفع إيرادات الأراضي وزيادة الانضباط في الريف، أعاد محمد علي عام 1840 العمل بنظام قديم يشبه نظام الالتزام، وهو نظام العُهدة، وقد أعطى هذا النظام سلطة أكبر للمتعهد مما كانت للملتزم، لينهي التحكم المباشر للدولة في ملايين الفلاحين، ويعيده مرة أخري إلى النخب الوسيطة، التي تشكلت من كبار الموظفين وأولاد الذوات وأفراد الأسرة العلوية.

لكن، وعلى الرغم من المقاومة الفلاحية المستمرة، لا يمكننا أن ننكر أن إجراءات الباشا قد تركت آثارها على الأرض والزرع والبشر وحتى النيل، خصوصًا بعد مجموعة من الإجراءات والممارسات الزراعية والسياسية الهيدروليكية، التي ترسخت مع الوقت، وحلت محل أشكال قديمة من الاستغلال وتنظيم التعامل مع الأرض والمياه.

وأخيرًا، فإذا كانت «لائحة الفلاح» وثيقة تم تناولها من قبل من منظور التاريخ الاجتماعي، فإنه من المهم إعادة طرحها الآن، لفتح النقاش حول التحولات في النظام الإيكولوجي-الزراعي، خصوصًا وأن التاريخ البيئي المعاصر هو فرع ناشئ من التاريخ الحديث كله، وهو يتطلب قراءة الوثائق والمخطوطات من منظور إيكولوجي من أجل فهم لديناميكيات العلاقة بين الإنسان والبيئة على مدى تاريخي طويل.



[1] عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد علي (القاهرة: دار المعارف، 2009).

 

[2] محمد حاكم، أيام محمد علي: التمايز الاجتماعي وتوزيع فرص الحياة (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2007).

 

[3] فتحي عبد الفتاح، القرية المصرية: دراسة في علاقات الملكية وعلاقات الإنتاج (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1971) ص 44.

 

[4] أحمد الحتَّة، تاريخ الزراعة المصرية، ص148-149.

 

[5] علي شافعي بك، أعمال المنافع العامة الكبرى في عهد محمد علي الكبير (القاهرة: دار المعارف، 1950).

 

[6] أحمد الحتَّة، تاريخ الزراعة المصرية.

 

[7] Alan Mikhail, Nature and Empire in Ottoman Egypt: An Environmental History (Cambridge: Cambridge University Press, 2011).

 

[8] خالد فهمي، كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة (القاهرة: دار الشروق، 2001).

 

[9] مصطفى بن محمد نجيب، خروج المصريين على الخلفاء والسلاطين، تحقيق ودراسة هشام عبد العزيز (القاهرة: دار صرح، 2010).

 

[10] Zeinab Abul-Magd, Rebellion in the Time of Cholera: Failed Empire and Unfinished Nation in Egypt, 1840-1920, Journal of World History, Vol.21, No.4, 2010.

 

[11] أحمد الحتَّة، تاريخ الزراعة المصرية، ص165.

 

[12] أحمد الحتَّة، تاريخ الزراعة المصرية، ص105.