مراجعات

علاء بريك

التفكير مع ماركس في«رأسمالية الزومبي»

2018.01.01

التفكير مع ماركس  في«رأسمالية الزومبي»

 

عرض كتاب رأسمالية الأزمة الكاتب: كريس هارمان المترجم: غادة طنطاوى الناشر: دار المرايا للإنتاج الثقافى، 2018

لا عجب أن فرانكنشتين ودراكيولا قد ظهرا في فترات متقاربة من القرن التاسع عشر. فحسب تحليل فرانكو موريتي، يشكل هذان المَسخان رعب البرجوازية الحديثة. فهما يشيران بوضوح لما خلقته الرأسمالية بآلياتها من ثنائية العامل-المالك، المستغَل-المستغِل، التي قسَّمت المجتمع إلى طبقتين: رأسماليون أصحاب ملكية وعمال لا يملكون شيئًا. حيث يرى موريتي أن فرانكنشتين مثله مثل البروليتاريا بلا اسم، بل إنه حتى يحمل اسم مخترعه. فهو مسخ فرانكنشتين الأصلي؛ يشكله هذا الأخير من خلال إضافة أجزاء لآخرين يمكن القول إنهم بقايا المجتمع القديم المتفسخ، لينتج لدينا هذا المسخ الجديد. أما دراكيولا فهو المقتِّر، والمتقشِّف، ونصير الأخلاق البروتستانية، يمتص الدماء التي تبقيه حيًّا، وهو بتخليه عن كل هدر يجسد التراكم الرأسمالي أفضل تجسيد، وللمصادفة فإنه يقيم في لندن، حيث يمكنه لقرون قادمة أن يروي ما لديه لشهوة الدم، أي للتوسع الدائم، مدفوعًا لا بالرغبة فقط بل بلعنة القوة،  وكاضطرار لا سبيل إلى الفرار منه. هنا يحضر ماركس ليقول لنا «رأس المال عمل ميّت، وهو مثل مصاص الدماء، لا يحيا إلا بامتصاصه دماء المزيد والمزيد من العمل الحيّ».

في السياق نفسه يعرض كتاب «رأسمالية الأزمة: دراسة في الاقتصاد العالمي المعاصر» من تأليف كريس هارمان، والصادرة ترجمته العربية حديثًا، لهذه الثنائية. فعلى ما يبدو قصد هارمان من عنوان كتابه بالأصل الإنجليزي، Zombie Capitalism، أن العالم المرعب الذي نعيش فيه اليوم، والاضطراب والقلق والأزمات الدورية وما يصاحبها من محاولات لإعادة إحياء النظام، تشابه في ظروفها منطق شخصيات وعوالم الزومبي أكثر من مشابهتها للعالم الطبيعي الذي نحلم بأن يوجد يومًا ما.

في الترجمة العربية أتى العنوان من إحدى سمات الرأسمالية ومن التيمة السائدة على طول الكتاب الذي خطه هارمان: الأزمة. فهو قراءة اقتصادية وسياسية واجتماعية للعالم، قراءة سريعة لكن مكثفة بعينٍ ماركسية قد نختلف أو نتفق معها.

سار الكتاب على مدى أربعة عشر فصلاً بُوِّبَت في أربعةِ أقسامٍ أتت بترتيب سلس ومتتابع زمنيًّا ومنطقيًّا. وبالرغم من أنه يتناول الاقتصاد، فهو على عكس ما يتوقعه البعض ممن خبر قراءة الكتب الاقتصادية، ليس عبارة عن جداول وأرقام ورسوم بيانية، بل إنه وإن كان قد أورد بعضًا منها، إلا أنها لم تطغ على النص فتحيله إلى عرض إمبريقي إحصائي جامد يحتاج معه أي قارئ إلى راحة نفسية كل خمس دقائق!

في القسم الأول، الذي يمتد على مدى خمسة فصول، يقدم الكاتب المفاهيم الماركسية -مثل القيمة والنقود والعمل والاستغلال وفائض القيمة والتراكم ومعدل الربح- للقارئ الذي قد لا يكون متخصصًا.

يشكل الفصل الأول وقائمة المصطلحات زوّادة القارئ خلال رحلته بين صفحات الكتاب. ويتميزان بسلاسة العرض وتبسيطه. فكما نرى، يخاطب الكتاب شريحة عريضة من الجمهور، سواء من المهتمين أو المختصين على حد سواء.

كذلك يذكرنا الكتاب "إن الاكتفاء بالتوصل لفهم طبيعة المجتمع القائم يترك هذا المجتمع على حاله" (ص40). فالاكتفاء بفهم ديناميات النظام الرأسمالي لن تقود إلى تغييره.

بعد المفاهيم الأساسية يتطرق الكاتب إلى نقّاد ماركس، ويسوق التفنيدات المتتالية على ما أتوا به، مبينًا راهنية وصحة فكر ماركس، بالرغم مما رصده هارمان من تطور الرأسمالية وتمظهراتها واختلافها عما كانت عليه إبان فترة حياة ماركس ورفيقه إنجلز. ويغلب على هذا القسم الطابع الاستقصائي والتوثيقي وكثرة الاستشهاد بالآراء المؤيدة والمعارضة لنظرية ماركس في القيمة.

القسم الثاني يتناول الرأسمالية في القرن العشرين وأبرز سماتها، من ناحية تزايد التناحر العسكري وصراع الإمبرياليات وبروز دولة الرفاه وظهور أول دولة اشتراكية في العالم في روسيا وتبعات ذلك على الوضع العالمي. هنا يثير هارمان الجدل بطروحاته المتعلقة بالاتحاد السوفييتي الذي يصفه بأنه اقتصاد رأسمالي تحت عباءة اشتراكية. حيث يقول "لكن الوسائل التي استخدمتها -أي البيروقراطية السوفييتية- كانت في الأساس هي وسائل التصنيع الرأسمالية المطبقة في مناطق العالم الأخرى" (ص187).

يطرح هارمان تفسيرات للركود مرتكزة على مفاهيم ماركس للتوسع الذاتي لرأس المال والتراكم الرأسمالي ونسبة رأس المال العضوي وميل معدل الربح للانخفاض. ثم يشرح دور الحرب والإنفاقات العسكرية الهائلة والإنفاق الحكومي في تأخير حدوث الأزمة خلال الثلاثين سنة المجيدة في القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية.

هنا يمكن القول إن الرأسمالية طالما كان في وسعها التوسع والحفاظ على معدل الربح، فإن فترة الرواج يمكن أن تستمر. ولكن ما لا يمكن أن يدركة أتباع التيار الفكري السائد هو أن هذا الاستمرار ليس أبديًّا، حتى مع زوال الاتحاد السوفيتي وهيمنة الولايات المتحدة على العالم وسيادة القطب الواحد. لذا لا يمكن بالتالي المصادرة بأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ. مع تدخل الدولة أو بدون تدخل الدولة فإن الرأسمالية لا تزال تحافظ على تناقضاتها التي لا فكاك منها. وكما أورد هارمان فإن تجنب الأزمة الآن هو مقدمة لأزمة أكبر في المستقبل.

في القسم الثالث، وهو القسم الذي يتصل بقرننا الحالي، يعرض هارمان للعولمة التي تعتبر نتاج للنظام الرأسمالي وتناقضاته، ويشرح سعيها لامتصاص فائض القيمة بشكل قديم جديد. ويشير إلى تحطم الوهم الذي ساد بأننا نعيش الآن نهاية التاريخ، بعد الاستيقاظ على كابوس الواقع الذي يتمثل في أزمات عديدة في آسيا وأمريكا وأوروبا، مع نمو قوى جديدة كدول البريكس والنمور الآسيوية.

ثم يعرض هارمان للرأسمالية وأزمتها العالمية في الفترة بين 2007 - 2008، وكيف أن الأَمْوَلة (Financialization) أو التدخل الحكومي أو السلوك غير الرشيد للمضاربين أو كلها مجتمعة لن تفسر لنا الأزمة بشكل سليم. حيث إن الاقتصاديين في سعيهم لفهم ما حدث بحثوا في أصعب التفسيرات وأكثرها غموضًا ولا عقلانية، في حين أن السبب الواضح لم يجرؤ أحد على الإشارة إليه، وهو أن النظام يتنفس كما الإنسان بالشهيق والزفير، فالحرب شهيقه والأزمة زفيره.

هارمان هنا يؤكد على الدور البنيوي للأزمة في استمرار عمل النظام، وكيف أن المطالبات السابقة باستبعاد تدخل الدولة في الاقتصاد، والتي كانت تنادي بها مدرسة التيار السائد، قد شحبت وتراجعت وظهرت الأصوات التي تستجدي التدخل الحكومي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ويوضح هارمان عبر الجداول والأرقام والمخططات كيف أن الأزمة لم تكن مفاجِئة، بل كانت المؤشرات واضحة بأنها قادمة. فقد انخفض معدل الربح خلال الستة عقود السابقة عليها: في القطاع غير الصناعي بلغ الانخفاض ما مقداره حوالي النصف، وفي القطاع غير الزراعي انخفض الربح من 11 % في عام 1959 إلى 10 % في عام  2000، وبالنسبة للقطاع غير  المالي فقد انخفض الربح من 14 % إلى 9 % في نفس الفترة السابقة، حسب الجدول الأول الوارد في الصفحة (281). مرة أخرى عاد ماركس خلال هذه الفترة إلى الساحة ليثبت من جديد راهنية فكره وصحة تحليله.

وفي القسم الأخير يناقش هارمان وضع الطبقة العاملة حاليًا، مؤكدًا أن هذه الطبقة تعي بذاتها، ولكن إلى الآن لم تعِ لذاتها. وهي في ذلك لا تختلف في جوهرها عن الطبقة العاملة على طول الفترة التي سادت فيها الرأسمالية. وهذا ما يرتبط مع نقد هارمان لمفهوم المجتمع ما بعد الصناعي، الذي لا يعدو في رأيه أن يكون تزييفًا للواقع.

كذلك يركز هذا القسم على الأثر البيئي للرأسمالية، وما كان قد أشار إليه إنجلز بأن الرأسمالية لن تدمر فقط الإنسان، بل كذلك الطبيعة التي تشكل أهم مورد لهذا النظام. ويستنتج هارمان -بشكل نبوئي- أن المواضيع التي ستكون محل أهمية مستقبلاً تتعلق بالأمن الطاقي والتغيرات المناخية -نتذكر هنا إعلان ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ- والأمن الغذائي، ويخلُص إلى ما خَلُص إليه ماركس وإنجلز وما تؤكده الوقائع المشاهدة يوميًّا: «إما اشتراكية أو بربرية».