تواريخ

محمد حسني

الثامن من مايو 1945.. حين توقفت آلة القتل النازية

2021.06.01

مصدر الصورة : AFP

الثامن من مايو 1945..  حين توقفت آلة القتل النازية

كانت الحرب العالمية الثانية أكبر جريمة شهدها التاريخ، إذ خلفت ما بـين ٥٠-٨٥ مليون قتيل، وتدمير ٧٠٪ من أوروبا وحدها.

وتتناول الدراسة التالية جرائم النظام النازي، الذي برغم هزيمته، ارتكب النصيب الأكبر من المجازر ضد عسكريين ومدنيين.

وبسبب التوظيف السياسي لجرائم النازية ضد اليهود، بشكل يكاد يكون حصري، تم تجاهل بقية جوانب الجريمة النازية. كما أن تعمد الصهيونية الترويج لهذا الخلط بين اليهودي والصهيوني، واستخدامها الدعائي للمحرقة، جعل البعض يقحمون أنفسهم مبررين جرائم النازية، أو مجادلين في أرقام الضحايا.

أن يكون اليهود من ضحايا النازية ليس مبررًا لأن ترتكب الصهيونية جرائمها العنصرية تجاه الفلسطينيين وهي الجرائم التي بدأتها بالفعل حتى قبل الحرب العالمية ولا تزال مستمرة فيها حتى كتابة هذه السطور.

والواقع أن النازيين لم يعادوا المشروع الصهيوني، بل تعاونوا في مرحلة مع الوكالة اليهودية، في تهجير أعداد من اليهود إلى فلسطين، وطرحوا أيضًا ترحيل كل يهود أوروبا قسرًا نحو فلسطين. لقد أعطت النازية الصهيونية دفعة قوية، حينما سدت كل السبل أمام ملايين اليهود المندمجين في أوروبا، كما أنها قدمت مبررًا لدعم الاستيطان من جانب الكثير من الدول، والاعتراف بـ"إسرائيل" في ١٩٤٨.

حتى لحظة سقوط النظام النازي، لم تكن آلته مستمرة في إخفاء آثار جريمته وحسب، بل وفي استكمالها وبأقصى سرعة وكثافة؛ جريمته التي بدأ تنفيذها منذ صعوده في ١٩٣٣، واكتسبت دفعة ببداية الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩. ارتكب النظام النازي جرائم التمييز والاضطهاد، التي تصاعدت إلى الإبعاد ثم إلى الاعتقال الجماعي ثم الإبادة الجماعية، وعلى الرغم من اقتران النازية بالضحايا اليهود، تشمل قائمة الضحايا: اليهود، الغجر، أسرى الحرب السوڤييت، الپولنديين، الصِرب، الرجال مثليي الجنس، المرضى النفسيين والعقليين والمعاقين، إلى جانب المعارضين للنظام. وقد اضطلعت المؤسسة النازية بكل عناصرها وبشكل منهجي صريح ومقنن، بكل الجرائم السابقة، إلى جانبها أنظمة موالية وتابعة، ومتعاونين من شعوب أخرى، ومتعاونين من بين المضطهَدين أنفسهم.

تاريخيًّا، تكررت حالات الترحيل والقتل الجماعي، وفي العصر الحديث صاحب التمدد الاستعماري عمليات مماثلة تجاه الشعوب المحتلة بهدف تغيير التركيبة السكانية لصالح المستعمِرين. وفي حالات أخرى مارست أنظمة جرائم ترحيل وإبادة تجاه جماعات تمثل جزءًا من مواطنيها أو رعاياها، مثل ترحيل، وإبادة، الإمبراطورية الروسية للشركس وقبائل مسلمة أخرى، في منتصف القرن التاسع عشر، وكذلك ترحيل، وإبادة، الدولة العثمانية للأرمن والسريان واليونانيين خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها.

التأسيس الأيديولوجي

شهدت ألمانيا مطلع القرن العشرين ازدهارًا تقنيًّا وعلميًّا، واكب سياسات الرفاه، جعل بالجماهير تتوقع مستقبلاً مريحًا ويوتوبيًّا، لكن في الوقت نفسه انتشرت أفكار الداروينية الاجتماعية- بتأويلاتها العنصرية، ونزعات تحسين النسل.[١] ظهرت حركة فولكيش Völkische Bewegung وهي حركة عنصرية ادعت الاستناد إلى أسس علمية بيولوجية في تقسيم البشر، وربطت الخصائص الشكلية بخصائص ذهنية ونفسيه، افترضتها بنفسها، لكل عرق. واعتبرت اليهود يمثلون عرقًا ينافس العرق الآري في السيطرة على العالم، فروجت الفولكيش لصورة نمطية سلبية لليهود. كما دعت لاستبعادهم من الحياة العامة والاقتصاد والإدارة.[٢]

وعلى الرغم من هزيمة الفولكيش في الانتخابات النيابية "الرايخستاج"، فإن أفكارهم ظلت بين أحزاب اليمين والوسط، وكانت الأساس الأيديولوجي للحزب النازي "الاشتراكية الوطنية" الذي تأسس ١٩٢٠، بقيادة أدولف هتلر ودعم إريك لودندورف رئيس أركان الجيش في الحرب العالمية الأولى.[٣] ووفقًا للطرح النازي في كتاب "كفاحي"، تمثل الأعراق مجموعة من الصفات البدنية والذهنية تنتقل بالوراثة وغير قابلة للتغيير، وهي:

-آريون: العرق الأسمى وهو شعوب غرب أوروبا وعلى قمته الألمان والنمساويين، وهم القادرون على خلق الحضارة والحفاظ عليها.

-سلاڤيون: پولندا وروسيا وأوكرانيا ويمكنهم التعايش مع الحضارة التي ينتجها الآريين ومن ثَم يجب أن يظلوا خاضعين لهم.

-الأعراق الدنيئة السود والغجر والآسيويون.

-العرق السامي (والمقصود به اليهود) وهو عرق مخرب للحضارة وعدو للجنس الآري. وحيث إن جزءًا من اليهود كانوا من المندمجين في الحياة المدنية كمواطنين ألمان، وضع في الاعتبار من كان نصف يهودي-نصف آري.

وامتدادًا للأيديولوجية العرقية، اعتبر النازيين أن فئات معينة من الآريين تؤثر على نقاء العرق، وهم المعاقون والمرضى والمثليون.

المرحلة الأولى- ١٩٣٣- ١٩٣٩

بعد فوز النازيين بالانتخابات احتلوا معظم مقاعد الرايخستاج، وشرعوا في إلغاء كل الحريات الديموقراطية من عصر جمهورية ڤايمار، وحلت جميع الأحزاب والنقابات المهنية، وأعيدت هيكلة الكنيسة لتصبح أداة في خدمة النظام النازي. وكما أعلن النازيون في برنامجهم دون خجل، عملوا على إزاحة اليهود من الحياة الاقتصادية؛ بمقاطعة منتجاتهم ومصادرة أملاكهم وفصلهم من الوظائف الحكومية، ومن إدارات الشركات والبنوك ومن السلك الأكاديمي. ظهر اقتراح بنقل اليهود إلى مدغشقر.[٤] وعلى الرغم من أن اضطهاد اليهود، وما تلاه من مصادرات وترحيل صب في جيوب الألمان، فقد تطلب تخصيص موارد مادية وبشرية لإدارة تلك العمليات على كل المستويات.[٥].

قوانين نيرنبرج

قوانين نيرنبرج Nürnberger Gesetze سُنَّت في مؤتمر الحزب النازي في ١٥ سبتمبر ١٩٣٥ بمدينة نيرنبرج وتحدد "من هو الألماني". انقسم سكان ألمانيا حسب قانون نيرنبرج إلى: مواطني الرايخ Reichsbürger ورعايا الرايخ Staatsangehörige والأجانب Ausländer. ونص القانون على إسقاط المواطنة عن كل من لا يعد "آريًّا"، وفي ١٤ نوفمبر فُسر القانون ليوجه بالأساس ضد اليهود، وفي ٣ يناير ١٩٣٦ عدل القانون ليشمل الغجر، مع أنهم آريين وفق الخريطة العرقية التي اعتمدها النازيين لشعوب العالم. وعقب انتقاد هيمار شاخت محافظ البنك المركزي "رايخسبانك" الذي اعتبر الإجراءات ضد اليهود سبب في إفشال جهوده لإنعاش الاقتصاد الألماني، أمر هتلر في ٨ أغسطس ١٩٣٥ بوقف ممارسات الأفراد ضد اليهود. [٦] وتضمنت قوانين نيرنبرج أيضًا حظر علاقات الزواج أو العلاقات خارج الزواج بغير الآريين، كما وُضع المختلطين في فئة خاصة تحصل على بعض الحقوق وكان عليهم استخراج وثيقة تثبت أصولهم، ولم يستثن من ذلك اليهود في الجيش الألماني التجمع القطري لجنود الجبهة اليهودية، والمشاركين في الحرب العالمية الأولى.[٧] 

* * *

إبادة المرضى والمعاقين (برنامج T٤)

من خلال برنامج T٤ تعرض ٩٠ ألف ألماني للقتل، ما بين المصابين بأمراض عقلية ونفسية وإعاقات حركية وأمراض مزمنة. كما أجريت عملية تعقيم لـ٣٠٠-٤٠٠ ألف شخص. قام على العملية طواقم طبية كاملة تتبع الـSS،[٨] أثارت عمليات قتل المرضى سخط المواطنين، الذين عزوا كل الإجراءات القمعية لمعاوني هتلر وليس له.[٩]

المـثــلــيـين

وتزامن إصدار أول قانون ضد المثلية مع تأسيس الإمبراطورية الألمانية ١٨٧١، لكنه لم يطبق بشكل صارم، وكان في برلين عدد كبير من نوادي المثليين. وفي ١٩٣٤ تشكلت وحدة في الجستابو [١٠] لملاحقة المثليين وأعدت قائمة بأسمائهم (القائمة الوردية) في ١٩٣٥ صدر البند ١٧٥ الذي منع أية تصرفات يشتبه في أنها "مثلية" التي أصبحت بدورها "جريمة"، وخلال سنتين اعتقل ٢٥ ألف مثلِي وأجريت لهم عمليات إخصاء وفي١٩٤٢ غُلظت العقوبة إلى الإعدام. وتعددت الأسباب التي ساقها النازيون لتبرير اضطهاد المثليين منها أن المثلية تمس كرامة الأمة وشموخها، أو أنهم لا يشاركون في عملية التزاوج المطلوبة لإكثار الجنس الآري. وفي ١٩٣٦ وقع الاختيار على هنريك هيملر لرئاسة مكتب الرايخ لمكافحة المثلية والإجهاض، وبعدها بعام صرح هيملر أن المثليين يخالفون قانون العرق ولذا يجب إبادتهم، كما جرت ملاحقة المثليين في صفوف الـSS والتنكيل العلني بمن يُضبط. وفي المقابل كان الموقف من المثليات متساهلاً؛ فلم يشملهم القانون. كانت المثليات مطالَبات بالقيام بواجباتهن الاجتماعية كأمهات وزوجات، وفيما عدا ذلك اقتصر اتهامهم بـ"عدم الاجتماعية". [١١]

ويقدر عدد الضحايا من جراء الاعتقال والإعدام علاوة على من أعدموا ضمن برنامج T٤ من ١٠-١٥ ألف. وبعد انتهاء الحرب وتصفية المعسكرات، أُرسل المثليون إلى السجون لاستكمال العقوبة، ورفضت ألمانيا الغربية تعويضهم أو حتى اعتبارهم ضحايا. في ألمانيا الشرقية أُلغي القانون ١٧٥ في الخمسينيات. في ٢٠٠٢ أعلنت ألمانيا العفو -بأثر رجعي- عن المثليين في معسكرات النازية، وبذلك اعترفت بالضحايا المثليين وطلبت منهم الصفح.[١٢]

طائفة شهود يهوه

خلال الحرب العالمية الأولى اتهم أعضاء الطائفة بأنهم بلاشفة وشيوعيون ويهود مستترون. وتعرض شهود يهوه منذ صعود النازية للاضطهاد بسبب رفضهم التوقيع على وثيقة بالتخلي عن عقيدتهم والولاء للدولة ومساندة الجيش الألماني وطردوا من أعمالهم وطرد أبناؤهم من مؤسسات التعليم، وأودعوا مؤسسات رعاية نازية. ظل شهود يهوه رافضين للمشاركة في مسيرات تأييد هتلر أو القيام بالتحية النازية. وفي ١٩٣٥ صدر أمر تجنيد إجباري لشهود يهوة الذين رفضوا الانصياع. وبينما بلغ تعدادها ٢٠ ألف نسمة اعتقل نصفهم وأعدم ١٢٠٠ منهم.

الـغــجـر

تراوحت أعداد الضحايا الغجر بين ٢٢٠ ألف ونصف المليون. وميزهم النازيون في المعتقل بمثلث بني اللون. في الثاني من أغسطس ١٩٤٤ صُفِّي الغجر في أوشڤيتس وهو اليوم العالمي لإبادة الغجر، بعد الاعتراف به مؤخرًا.[١٣] وأدى التطور الصناعي لإنقاص قيمة خدمات الغجر كحرفيين، ما قاد إلى انحلال مجتمعاتهم المحلية وتهميشهم اجتماعيًّا وتصويرهم في جميع أنحاء ألمانيا وأوروبا كمجرمين وجواسيس.[١٤] أُنشئ مكتب حكومي خاص بالغجر في ١٨٩٩، وفي ١٩٢٩ كان مسؤولاً عن تطبيق إجراءات تتعلق بالغجر شملت تشغيلهم قسرًا. وفي ٧ مارس ١٩٣٦ بدأ إرسالهم لمعسكرات الاعتقال، وحُشد أعداد منهم في جيتوهات. وبلغت نسبة الضحايا مقابل تعداد الغجر نسبة مقاربة للضحايا اليهود[١٥] خلافًا للمزاعم الأيديولوجية التي تعتبر الغجر الرحل أكثر نقاءً كانت معاملتهم أسوأ؛ وتصل للقتل الفوري بأيدي كتائب الأينزتسجروفن، كما جُنِّد أعداد كبيرة في المجهود الحربي خصوصًا في المهام الخطرة على خط النار مثل حفر الخنادق وتطهير الألغام.[١٦]

الأسرى السوڤيت

بين يونيو١٩٤١- يناير ١٩٤٢، أباد النازيون ٣.٣-٣.٥ مليون أسير سوڤيتي، بالقتل المباشر أو بسبب الجوع والأمراض. وقد أمر هتلر بالاحتفاظ بالأسرى أحياءً لاستغلالهم في العمل القسري، في مناجم الفحم وصناعة المعادن.

الـصِــرب

قامت في كرواتيا حركة فاشية موالية للنازيين باسم "الأوستاشا"، بادرت بإقامة معسكرات اعتقال أهمها في ياسنوڤاتس. وخطط الأوستاشا لتقسيم الصرب لثلاثة أقسام يحوَّل ثلثهم للكاثوليكية وهجِّر الثلث ويباد الثلث الأخير. تجاوز عدد ضحايا الأوستاشا المليون، ٧٥٠ ألف صربي ٦٠ ألف يهودي ٢٦ ألف غجري. ولا يوجد اعتراف دولي بضحايا تلك الجرائم. وقد استخدم القتلة أساليب شديدة الوحشية بالسيوف والفؤوس وتراهنوا فيما بينهم على قتل أكبر عدد من الضحايا، وأحرق الكثيرون أحياء، أغلقت المعسكرات في ١٩٤٢ بينما بقي ياسنوڤاتس حتى نهاية الحرب. [١٧]

* * *

الـيــهـود:

قبل صعود النازية انقسم يهود ألمانيا إلى تيارات أساسية أرثوذكسية وليبالية مندمجين وصهاينة، والتي تجمعت كرد فعل لصعود النازية في ممثلية يهود ألمانيا حاولت التخفيف من آثار الإجراءات النازية، على سبيل المثال بتأسيس مؤسسات تعليمية وثقافية بديلة. وفي مارس ١٩٣٨ احتلت ألمانيا النمسا وجرت ملاحقة اليهود البالغ عددهم ١٨٥ ألف نسمة، وفي أغسطس من العام نفسه أصدر النازيون قانونًا يجبر كل يهودي على إضافة اسم إسرائيل لاسمه، وكل امرأة على إضافة اسم سارة، وتشكلت هيئة لتهجير يهود النمسا رأسها أدولف أيخمان. وفي ٢٨ أكتوبر١٩٣٨ رُّحل ١٧ ألف يهودي يحمل الجنسية الپولندية نحو الحدود ورفضت السلطات الپولندية قبولهم، فكدسوا في أحياء على مدن الحدود. أما الحركة الصهيونية بالذات، فشهدت ازدهارًا عقب صعود النازية في ألمانيا، فزادت عضوياتها، وانتشرت صحيفتها "ييديش روندشاو"، وقد طرحت "حلولاً" تتناسب مع الأيديولوجية الصهيونية ولا تقف في مواجهة مع النازية بتنظيم عمليات هجرة للفتيان نحو فلسطين، والتفاوض على نقل جزء من أموال اليهود خارج ألمانيا ١٥ أكتوبر ١٩٣٣.

المعازل (الجيتوهات)

خلال ١٩٣٩-١٩٤١ سوَّر النازيون أحياء اليهود ومحيطها وكدسوا المرحلين مع سكانها في پولندا ومناطق من الاتحاد السوڤيتي، جيتو وراسو ٤٤٥ ألف وجيتو لودز ١٦٤ ألف وغيرها، وحظروا الخروج منها. وشهدت الجيتوهات عمليات مقاومة مسلحة. ازدادت حالة الجيتوهات سوءًا وتعرض سكانها للتجويع والأمراض وارتفع معدل الوفيات علاوة على القتل والانتحار.[١٨]

معسكرات الاعتقال

أنشئ أول معسكر اعتقال في ١٩٣٤ من أجل معارضي النظام، من شيوعيين واشتراكيين وليبراليين. وفي أول سبتمبر ١٩٣٩، اندلعت الحرب، اجتاحت ألمانيا پولندا، وقتل القصف المكثف للعاصمة الآلاف، وقُسمت پولندا باتفاق ريبنتروف، مولوتوڤ لثلاثة أجزاء؛ الشرق ضُم للاتحاد السوڤييتي، والغرب لألمانيا، وخضع الوسط لحكم عسكري ألماني. وبينما لم تتجاوز نسبة يهود ألمانيا ١٪، كانوا يشكلون ١٠٪ من سكان پولندا، قامت قوات الأينزتسجروفن، التي رافقت الجيش الألماني "ڤرماخت" بمذابح عشوائية بين اليهود وقيادات المجتمع الپولندي. وأجبر الضحايا على العمل القسري في المصانع النازية، والأشغال العسكرية على خط النار.

معسكرات الإبادة

في ٢١ سبتمبر ١٩٣٩- أرسل راينهارد هيدريك برقية إلى قيادة الآينزتسيجروفن تتعلق بالتدابير الخاصة باليهود تمهيدًا لما أسماه "الهدف النهائي":

-تطهير الأراضي من اليهود وتجميعهم في عدد من المدن الكبرى قريبًا من السكك الحديدية.

- تشكيل مجالس شيوخ اليهود "يودنرات" لتولي مسؤولية التجمعات أمام السلطات.

-نقل المصانع والشركات المملوكة لليهود الألمان مع مراعاة احتياجات الجيش.

- خلافًا للإجراءت الآنية يظل "الهدف النهائي" سريًّا [١٩]

وتضمنت الإجراءات تصفية المؤسسات اليهودية، وفرض علامة صفراء على ملابس اليهود، وتجنيدهم في العمل القسري، خاصة على خطوط النار. وعانى المعتقلون من الأمراض وسوء التغذية ونسبة وفيات مرتفعة. وفي ١٩٤٠ زادت كثافة المرحلين لمعسكرات العمل.[٢٠] وفي يونيو ١٩٤١ اجتاحت ألمانيا أراضي الاتحاد السوڤيتي وقامت قوات الأينزتسجروفن بمذبحة بين اليهود والنشطاء الشيوعيين، وبمساعدة الجيش الألماني "الڤيرماخت" أبادت أكثر من مليوني إنسان في جمهوريات أوكرانيا وليتوانيا ولتڤيا وروسيا البيضاء، بمساعدة عملاء محليين، وشمل الضحايا يهودًا وغجرًا وسوڤيت.[٢١] وبينما أمست طريقة المقابر الجماعية غير مجدية، طرح رجال الـSS فكرة القتل بالغاز، ثم دفن الجثث أو حرقها، وجرت بالفعل مبادرات من قادة معسكرات عديدة لإجراء تجارب لتنال إعجاب الـSS. فابتكر ڤولتر راوف من الـSS فكرة شاحنات الغاز، حيث كان المعتقلون يوضعون في صناديق الشاحنات المغلقة، التي توصل ماسورة العادم إليها، وجربت الطريقة في قتل يهود هولنديين في معسكر ماتهاوزن ١٩٤٢.[٢٢] لكن النتيجة في النهاية لم تكن مرضية لطموحات الـSS من حيث السرعة والتكلفة، ومن هنا جاءت فكرة عنابر الإبادة.

خـبرات بـرنـامج T٤

جاءت الخبرات الأولى في الإبادة من برنامج T٤ الذي أدى لقتل المرضى والمعاقين، وكان القتل بالغاز السام أحد الوسائل المستخدمة. جُربت الطريقة في معسكر أوشڤيتس على مجموعة من الأسرى السوڤيت، ثم اعتُمد القتل بغاز CYCLON B (السيانيد) في سائر المعسكرات. ولم تتبق وثائق تشير بشكل صريح لأمر القتل لكن رسالة هرمان جرينج أحد معاوني هتلر إلى رينهارد هيدريك رئيس العمليات في الـSS بضرورة التوصل إلى حل شامل لمشكلة اليهود. في ٢٠يناير ١٩٤٢ عُقد مؤتمر ڤازنر الذي قرر تنفيذ "الحل النهائي للمسألة اليهودي" ولأن عمليات الإبادة كانت تتم فعليًّا منذ ٦ أشهر كان المؤتمر لبلورة خطة تنسيقية تدعم فيها كل الوزارات والمؤسسات الحكومية الـSS المسؤول عن تنفيذ "الحل النهائي" حسب تعليمات الفوهرر. أصبح أوشڤيتس رمزًا للـ"حل النهائي" حيث أبيد ١.٥مليون إنسان من اليهود والغجر والأسرى الحرب السوڤيت وسجناء سياسيين من پولندا وغيرها، وأُجبرت مجموعات من الضحايا على المشاركة في إدارة عمليات القتل والحرق. وكانت السنوات ١٩٤٣-١٩٤٥ مرحلة تراجع وتداعي الرايخ الثالث. ومع ذلك استمرت عمليات الإبادة، في مايو- يوليو١٩٤٤ فرحِّل ٤٥٠ألف يهودي مجري مجمل يهود المجر خارج بودابست- إلى أوشڤيتس. ومع تقدم الجيش السوڤيتي غربًا هرع النازيون لتصفية معسكرات الإبادة، وإزالة آثارها، وشكلوا وحدات خاصة لحرق القبور الجماعية، ودفعوا بعشرات الآلاف من اليهود في مسيرة الموت نحو ألمانيا، فسقط الآلاف من الإعياء أو برصاص الجستابو. واستمر تقدم قوات الحلفاء حتى حرروا من تبقى في معسكرات النازية.

يـهــود شمال أفريقيا

باحتلال النازيين لفرنسا ١٩٤٠ وتنصيبهم حكومة ڤيشي العميلة، أصبحت المستعمرات الفرنسية خاضعة بالتبعية. ففي الجزائر فرضت على اليهود القوانين النازية من مصادرة واستبعاد من الوظائف والمدارس وفي ١٩٤١ صودرت أملاكهم، وأمر اليودنرات بتجميع اليهود المعارضين وشحنهم لمعسكرات الإبادة. كما تعرض يهود تونس لإجراءات مشابهة. أما في المغرب، فكان الوضع أشد وطأة بينما لم يتعاون المواطنون المسلمون مع الاحتلال ضد اليهود.

فـئران تـجــارب

استغلت شركات الأدوية المعتقلين لإجراء تجاربها على المعاقين والمرضى النفسيين والمتوحدين والتوائم من أبناء المعتقلين. وحسب المؤرخ راؤول هيلبرج، كانت نسبة كبيرة من الأطباء أعضاءً في الحزب النازي، مقارنة بالمهن الأخرى؛ وأشهر هؤلاء الأطباء يوزف منجلِه الذي أجرى تجاربه على معتقلي أوشفيتس، وشملت وضع المعتقل في غرف ضغط، تجربة أدوية، تجميد، محاولة تغيير لون أعينهم بحقن مواد كيميائية ملونة في أعين الأطفال، وإجراء جراحات وبتر أعضاء، ثم قتل كل من نجا من التجارب، دمر منجلِه بنفسه كل ملفات التجارب التي أجراها. وكان منجلِه يقدم الحلوى لأطفال الغجر الذين ينادونه بالعم منجلِه، وبعد إجراء تجاربه كان يصحبهم نحو عنابر الغاز بنفسه. [٢٣] 

أعداد الضحايا

تظل أعداد ضحايا النازية موضع اختلاف، والسبب استحالة الحصول على أعداد دقيقة في مثل هذه الجريمة، وكذلك ما فعله النازيون من محو منهجي لآثارها. وهم جغرافيًّا؛ ثلاثة ملايين في پولندا وحدها، وأكثر من مليون في الاتحاد السوڤيتي، ومئات الآلاف في كل من هولندا وفرنسا وبلچيكا ويوغوسلاڤيا واليونان والمجر وشمال أفريقيا. ويتمسك اليهود بأن عدد ضحايهم ٦ ملايين. وتقدر أعداد الضحايا، بخلاف اليهود من ٩- ٢٠ قتيل شملت: الغجر، أسرى الحرب السوڤيت، المعتقلين السياسيين في پولندا وغيرها، والمعاقين والمرضى العقليين، والمثليين في ألمانيا.[٢٤] وترجع الفجوة في التقديرات للاختلاف في تعريف جريمة الحرب، وتقدير أسباب الوفاة المباشرة وغير المباشرة. وتدمير النازيين للوثائق، سواء في البلدان المحتلة أو وثائق الحرب النازية قبل الاستسلام.

مواجهة النازية

في يوليو ١٩٣٨، انعقد مؤتمر إڤيان بمبادرة أمريكية، وأعربت الدول المشاركة عن تعاطفها مع يهود ألمانيا، وأبدت استعدادًا لاستقبالهم. لكن يوجد تجاهل محلي لما يتعرض له اليهود وتجنب نشره إعلاميًّا، حتى١٩٤١. وحاولت معظم الدول التنصل من تقديم المساعدة بأعذار مختلفة من بينها ضغوط الإنفاق الحربي، وأن ما سيوقف المذابح حقًّا هو الانتصار على الألمان. ١٩ أبريل ١٩٤٣- انعقد مؤتمر برمودا ولم يسفر عن نتائج ملموسة، فقد خشيت كل من بريطانيا والولايات المتحدة تحمل أعباء إيواء مئات الآلاف من اللاجئين. وفي الدانمارك قامت المقاومة المنظمة بحماية اليهود، وفي بلدان أخرى وجد اليهود حماية غير منظمة في بعض الأديرة، ومن مواطنين عرَّضوا أنفسهم للخطر بإيوائهم أو تهريبهم، كما اختفى بعضهم في الغابات وفي الكهوف.

محاكمات مجـرمي الـحــرب

أسفرت محاكمات نيرنبرج ١٩٤٥-١٩٤٩ عن إدانة ٥٠٢٥ مجرم حرب صدرت ضدهم أحكام بالإعدام والسجن المؤبد، بينما صدرت أحكام مخففة عن آخرين بزعم تنفيذ الأوامر. ووضع اللاجئون اليهود في معسكرات، لحين توطينهم مجددًا، حاول بعضهم العودة إلى مواطنهم، ومن بين ٢٥٠ ألف لاجئ هاجر ١٣٦ ألف إلى فلسطين، بينما توزع الباقون على الولايات المتحدة وكندا وشمال أفريقيا وغيرها. وكانت العلاقة بين جرائم النازية وإقامة دولة إسرائيل مثار خلاف نظري، فبينما حفزت النازية من الاستيطان وأعطته دول الغرب مبررًا ودعمًا، يوجد من رأوا أن النازية صفَّت منبع محتمل للاستيطان اليهودي.[٢٥]

[١] Peukert, Detlev (١٩٩٤). "The Genesis of the 'Final Solution". In David F. Crew. Nazism and German Society, ١٩٣٣-١٩٤٥. London: Routledge. pp. ٢٧٤-٢٩٩

[٢] Evans, Richard J. (١٩٨٩). In Hitler's Shadow. New York, NY: Pantheon p.٦٩.

[٣] Fischer, Conan (٢٠٠٢). The Rise of the Nazis. Manchester: Manchester University Press, p.٤٧-٥١.

שמואל אטינגר, תולדות עם ישראל בעת החדשה, עמ' ٢٩٨-٢٩٧.

[٤] על תוכנית מדגסקר, ראו: תוכנית מדגסקר, באתר יד ושם.

[٥] HYPERLINK "https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/d/db/De-Sturmabteilung.ogg" Sturmabteilung (SA) سرايا الصاعقة النازية (القمصان البنية) تشكلت من آلاف البلطجية والعاطلين، وعملت على إثارة الذعر، في ٣٠ يونيو ١٩٣٤ أصدر هتلر أوامره للـSS بتصفيتها وقتل قياداتها.

[٦] גיטו יהודי בגרמניה "לטובת היהודים",דבר, ١٧ בספטמבר١٩٣٥

 שאול פרידלנדר, גרמניה הנאצית והיהודים: שנות הרדיפות, ١٩٣٩-١٩٣٣; ספרית אפקים, הוצאת עם עובד,תל-אביב ١٩٩٧;עמ'١٦٨-١٦٧.

[٧] رابطة جنود الجبهة اليهود المرتبطة بحزب الشعب الألماني Reichsbund jüdischer Frontsoldaten (RjF): وضمت ٣٠-٤٠ ألف في ٣٦٠ فرع وأصدرت صحيفة الدرع Der Schild وكان نشاطها في محاربة الأفكار المعادية لليهود ومن بينها اسطورة "سكين في الظهر" Die Dolchstosslegende، التي روَّج لها پاول فون هيندنبورج وإريك لودندورف، قادة الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى تهربًا من الاعتراف بالهزيمة. وتزعم أن هزيمة الألمان جاءت بسبب مؤامرة يهودية شيوعية ماسونية. كانت رابطة RjF مؤيدة للاندماج وضد الصهيونية. Jews and the German State: The Political History of a Minority, ١٨٤٨-١٩٣٣, p ٢٣٣-٢٣٤

[٨] HYPERLINK "https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/e/e٧/De-Schutzstaffel.ogg" Schutzstaffel (SS) سرايا الدرع الذراع الضاربة للحزب النازي

[٩] יפעת גדות, שרידי קרבנות הנאצים התגלו תחת בי"ח פסיכיאטרי באוסטריה, באתרNews١ מחלקה ראשונה‏, ٦/١/٢٠١١

[١٠] Gestapo Geheime Staatspolizei الشرطة السرية الألمانية

[١١] Hannah Elizabeth Crowder, Lesbians Under National Socialism, University of Saskatchewan Journal Volume ٤, Issue ٢

[١٢] עופר אדרת, לראשונה בישראל אנדרטה לגאים שנרדפו בשואה הוצבה בת"א, באתר הארץ, ١١ בדצמבר ٢٠١٣

אבנר שפירא, הומואים במבט לאחור, הארץ, ٣.٠٥.٢٠٠٥

[١٣] Genocide of European Roma (Gypsies), ١٩٣٩-١٩٤٥, www.ushmm.org

[١٤] Rom-Rymer, Symi. "Roma in the Holocaust". Moment Magazine (July-August ٢٠١١

[١٥] גלעד מרגלית, גרמניה הנאצית והצוענים, עמ' ١٠٠.

[١٦] Genocide of European Roma (Gypsies), ١٩٣٩-١٩٤٥, www.ushmm.org

[١٧] Genocide in Croatia ١٩٤١-١٩٤٥". Serbian National Defense Council of Canada; ١٩٧٦.

[١٨] לובלין, רזרוט ('תוכנית ניסקו ולובלין'), באתר יד ושם

[١٩] وردت ترجمة نص التعليمات للعبرية في موقع ياد ڤاشيم.

[٢٠] דיטר פוהל, מחנות עבודות הכפייה ליהודים בגנרלגוברנמן, באתר יד ושם

[٢١] -"ספר שחור" סוויטי על השמדת היהודים, דבר, ٢٨ בנובמבר ١٩٤٤.

-מאזן הדמים, דבר, ١٤ במרץ ١٩٤٥

-עופר אדרת, האיש שנקב לראשונה במספר שישה מיליון, באתר הארץ, ٢١ באפריל ٢٠٢٠

[٢٢] דינה פורת, הנהגה במילכוד, עם עובד תל אביב, עמ' ٥١٣.

[٢٣] -موقع ياد ڤا شيم Berenbaum, Michael (٢٠٠٥). The World Must Know: United States Holocaust Memorial Museum.

[٢٤] Documenting Numbers of Victims of the Holocaust and Nazi Persecution,

Estimated Number of Jews Killed in the Final Solution, www.jewishvirtuallibrary.org

[٢٥] יחיעם ויץ, שאלת הפליטים היהודים במדיניות הציונית

חגית לבסקי, שארית-הפליטה והקמת המדינה הזדמנות אשר נוצלה