هوامش

يحيى وجدي

الثورة وموكب المومياوات الملكية.. ميدان التحرير بين مشهدين

2021.06.01

الثورة وموكب المومياوات الملكية..  ميدان التحرير بين مشهدين

فيما كانت احتفالية نقل المومياوات الملكية من المتحف المصري بالتحرير إلى متحف الحضارة الجديد بمنطقة الفسطاط، لا زالت فقراتها تُعرض على الهواء وسط احتفاء ملحوظ على السوشيال ميديا بـ"الشياكة" والفخامة اللذين لونا الحدث، نشر اثنان من الفنانين المعروفين بعدائهما الأصيل لثورة يناير، كل على حسابه الشخصي على موقع تويتر، صورة مقسومة، نصفها الأول لموكب المومياوات، والنصف الثاني لخيام محترقة تحيطها فوضى عارمة في ميدان التحرير في أثناء ثورة يناير، وكتب الاثنان (دون ترتيب!) ما معناه: كنا هنا وأصبحنا هنا!

 ولم تكد تمضي ساعات قليلة على انتهاء الاحتفالية "المهيبة" حتى انتشرت نفس الصورة بتناغم مدهش، على العديد من الحسابات في مختلف منصات السوشيال ميديا، لتقول بشكل مباشر ما أرادت الجهات المنظمة للحدث، والجهات التي تشرف على الجهات المنظمة للحدث، والجهات التي تدير الجهات المشرفة على الجهات المنظمة للحدث، أن تقوله مواربة، لكنها وكما يبدو تشككت في أن الرسالة قد وصلت بالفعل، فعمدت إلى إيصالها من خلال الصورتين على فجاجة المباشرة والطرح. والرسالة: أن ميدان الثورة قد استُرد للأبد، وأن صورة الجماهير الثائرة قد استبدلت بصورة فخمة إمبراطورية تليق وتناسب العهد الجديد.. صورة أبطالها مومياوات الطبقة الفرعونية الحاكمة، تدور داخل عربات مصفحة، حول "الصينية" الشهيرة للميدان، وقد توسطتها مسلة فرعونية حولها كباش نقلت من أماكنها لتوضع في وسط الميدان الذي لا يناسبها ولا تناسبه تاريخيًّا أو معماريًّا، كأنه مجرد صالة عرض محمية على مدار الساعة بشركة أمن خاصة، لا يسمح أفرادها للمواطنين بالجلوس أو حتى التوقف لالتقاط صورة تذكارية!

وبعد أسابيع من الاحتفالية المهيبة بنقل المومياوات، جرى تصوير "أوبريت" غنائي في نفس المكان، وبنفس ظروف الاحتفالية، حيث أغلق الميدان بالكامل أمام حركة المواطنين والسيارات لعدة ساعات، لتصوير أوبريت "ملحق" بمسلسل عن بطولات الشرطة في مواجهة الإرهاب والإرهابيين، ومرة ثانية كانت الصورة المُصدرة، لميدان جديد تنطق فخامته، وتتوسطه آثار فرعونية ملكية، ولا يمت بصلة إلى الثورة وميدانها التي عرفه العالم في السنوات العشر الماضية، فأي الصورتين سيبقى في الذاكرة، وأي الأثرين هو الراسخ؟ صورة الجماهير المحتشدة المطالبة بالحرية والتغيير والتطلع إلى مستقبل جديد إنساني دفعت ثمنه، أم صورة "اللوكيشن" الفرعوني الثابت، وحوله سيارات تحمل حكام مصر القديمة؟

رغبة متجددة

الواقع أن الرغبة في تغيير معالم ميدان التحرير، ومحاولات نزع صورة الثورة عنه، وكأنها لم تكن هناك قط، وتحويل الميدان إلى "كارت بوستال" ليست وليدة هذه الأيام، بل هي محاولات بدأت وتواصلت مع كل مرة اعتقد فيها النظام الحكام أنه أرسى قواعده بالكامل، وحرق كل الجسور بين اللحظة التي هو فيها، ومصر في ٢٥ يناير قبل عشر سنوات، هذه المحاولات بدأت فعليًّا على يد المجلس العسكري نفسه في ٢٠١١ والثورة لم تضع أوزارها بعد، لكنها محاولات لم تكتمل، وبالمناسبة والشيء بالشيء يذكر، فالصورة التي تداولها الفرحون باحتفالية نقل المومياوات الملكية والمحتفلون باستعادة ميدان التحرير، هي صورة لنهاية يوم دامٍ لفض أحد الاعتصامات بالتحرير في يوم ١ أغسطس ٢٠١١ ووافق أول أيام شهر رمضان، والخيام المحترقة والفوضى العارمة، وما يبدو أنه مخلفات لثوار الميدان، كان بيد القوات التي داهمت المعتصمين ودمرت كل شيء في طريقها.. صورة تقول عكس ما أريد لها، لكن نزعها من سياقها ونشرها كنصف عين لصورة أخرى جعلها رسالة مختلفة.

أقول، إنه ومنذ عهد المجلس العسكري رفضت كل الحكومات المتتالية، إقامة نصب تذكاري لأحداث ثورة يناير في ميدان التحرير، بل على العكس سارعت إلى إزالة آثار الثورة حتى وإن خالف ذلك القوانين، فقامت على سبيل المثال بإصدار قرار بهدم مبنى الحزب الوطني وآثار الحريق لا تزال على واجهته، على الرغم من أن المبنى مسجل ضمن قوائم المباني ذات الطراز المعماري المتميز ويحظر هدمه، وعلى الرغم من مطالبة العديد من الجمعيات المعمارية والمجموعات المهتمة بالآثار بتحويله إلى متحف للثورة، وقدم بعضها تصورات شاملة لذلك تتضمن كيفية التمويل، لكن أحدًا في تلك الحكومات لم يستمع، وهُدِم بالفعل،  على الرغم من أن كانت هناك دعوى قضائية مرفوعة لمنع ذلك كانت لاتزال منظورة أمام القضاء، وبعد هدم المبنى من أجل اللا شيء، حيث لا زالت الأرض فضاءً حتى الآن بلا أي مشروع، وركزت الحكومة جهودها في الانتهاء من سطح جراج التحرير وهو المشروع المتعثر أصلاً منذ عام ١٩٩٧، وتحويله إلى لاند سكيب غير مناسب للتجمع، ولا حتى لاستراحة المشاة والمارة بالميدان!

الثورة الدفترية!

لا يتجاوز حضور ثورة ٢٥ يناير لدى الحكم الحالي، إلا في التذكير بها كسبب لأي مشكلات تمر بها البلاد، من البطالة وإلغاء الدعم مرورًا بالزيادة السكانية وصولاً إلى أزمة النهضة! كذلك لا تحضر كحدث سياسي مؤسس ومركزي إلا في الأوراق الرسمية والدفاتر الحكومية، مثل ديباجة الدستور وبعض نصوص القوانين. هي ثورة يعتبرها الحكم إذا مصيبة حلت بالبلاد لكنه لا يفتأ يشير إليها في أوراق تأسيسه، فلولاها ما كان هنا وإن كرهها وعاداها، وفي بحثه عن مرجعية تاريخية، تؤصل لمفاعيل طريقة الحكم والتوجه، لم يجد ثورة يوليو ٥٢ مناسبة بالطبع، ولا العبور في أكتوبر ٧٣ فذلك حدث استهلكه حسني مبارك ومن قبله أنو السادات، ولم يعد أمامه سوى الارتباط بما هو أبعد تاريخيًّا بكثير؛ ملوك الفراعنة ومنشآتهم وآثارهم، بعد أن جرَّب عصر أسرة محمد علي قليلاً. ولم يكن التاريخ متقاطعًا مع حجم "الإنجازات" العمرانية الحالية التي تسير بممحاة على الأثر المعماري لقاهرة الخديو إسماعيل، وهكذا اختير ميدان التحرير ليكون "فاترينة عرض" للآثار الفرعونية، ومسرحًا لنقل مومياوات ملوكها وملكاتها، وتكرس معها صورة حديثة/ تاريخية للميدان، غير أنه ميدان الثورة..

لكن، هل ستستمر هذه الصورة في المخيال الشعبي والعالمي؟ هل تلغي لقطة نهائية ثابتة صورة ملايين المصريين المنتصرين بأحلامهم في ثورة ٢٥ يناير؟ لا أظن!

فما هو مخلد لصورة فرنسا لوحة فتاة الثورة الفرنسية المطالبة بالحرية وليس ميدان الكونكورد أو برج إيفل، وصورة الشاب الذي يستوقف الدبابة في الميدان السماوي بالصين، وصور نضالات رموز الثورة الروسية وخطاباتهم وسط الملايين في عام ١٩١٧.

 إن الدول والشعوب تعبر عنها في صور لحظاتها الكفاحية المفعمة بالحياة والأمل، وليس الصور التذكارية مهما كانت جمالياتها، وستبقى الصور التي التقطها كل مشارك في ثورة يناير على هاتفه المحمول صورته التي يفاخر بها، ويحتفظ بها مهما كانت صورة مُطاردة وتسبب المشكلات.

في عام ٢٠١٩، كنت في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، وزرت مع المجموعة التي رافقتها أكثر من خمس ولايات ومدن كبرى، وفي كل الأماكن المعنية بتراث وثقافات الشعوب ذهبنا إليها، حتى في أبعد الولايات عن المركز، كانت مصر حاضرة في مشهدين، عبر آثار الحضارة القديمة؛ الأهرامات ومعابد الأقصر، وصور ثورة ٢٥ يناير في ميدان التحرير، والأخيرة كانت محور أسئلة كل من التقيتهم في أي محفل أو اجتماع، سواء كان خاصًا أو رسميًّا.

لقد أُنفق الكثير على إخراج الصورة الإمبراطورية لميدان التحرير بعد موكب نقل المومياوات بلا شك، لكن لن تعيش كصورة ثابتة، وستزيحها في كل مرة صورة أقل جودة لثائر يرفع علمًا، أو فتاة تبكي فرحة، بما اعتقدت إنه حلمها وقد تحقق، حتى وإن لم يتحقق فعلاً.


- الصورة التي يراد لها أن تكون صورة الميدان، ليست صورة الثوار المفعمين بالحياة والأمل في مستقبل جديد أفضل، بل صورة إمبراطورية مثل "كارت البوستال".

- الصورة الراسخة لفرنسا ليست ميدان الكونكورد أو برج إيفل، بل لوحة فتاة الثورة الفرنسية بفستان ممزق ترفع علم البلاد وسط الدماء والبارود.

 
- عزز الازدهار التجاري بين البلدين على مدار السنوات الماضية، من احتمالية المصالحة، بفضل تحييد الاقتصاد، إذ بلغ قيمة التبادل نهاية عام ٢٠١٩، أكثر من ٥ مليارات دولار..