هوامش

أحمد سمير

الشيخ جراح.. القضية الفلسطينية في صورتها الأولى

2021.12.01

مصدر الصورة : aljazeera

كتب أحمد سمير

الشيخ جراح.. القضية الفلسطينية في صورتها الأولى

هناك اختلاف بين الباحثين حول تحديد اللحظة التاريخية التي يبدأ بها القرن العشرون الميلادي، إلا أنه يكاد يكون هناك اتفاق على الفترة التاريخية التي مثلت إرهاصات ومقدمات له

"فوت على أي دار في الشيخ جراح راح تلاقي قصة محزنة" هكذا عبر محمد الكرد طفلاً عن شعوره، كان يقف فوق أحد الأسطح وينظر إلى منازل الحي. قصة محمد وعائلته أيضًا من القصص المحزنة في الشيخ جراح.
بعد انتهاء حرب 1948 في فلسطين، تقطعت أوصالها وتبعثرت. قامت الدولة الجديدة "إسرائيل" على ما استطاعت احتلاله من أراض، ودخل قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، وانضمت الضفة الغربية والقدس إلى الأردن ولم يبقى من فلسطين إلا ذكرى في قلوب أهلها.

كانت مناطق الضفة مليئة بالنازحين الذين طُردوا من مدنهم وقراهم الأصلية التي أصبحت الآن جزءا من الكيان الجديد "إسرائيل". تقول رفيقة الكرد (جدة محمد) التي نزحت من حيفا إلى القدس بعد حرب 1948: "الوكالة قالت فيه مشروع بناء، فقدمنا طلب وخصص لنا هذا البيت وسكنته مع زوجي وابني، ولم نر يهوديا هنا وقتها". 
في هذا الوقت، عام 1956 طُرح برنامج إسكان برعاية وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) على أرض قدمتها الحكومة الأردنية لمن تقدموا للبرنامج (حتى هذا الوقت كانت القدس والضفة الغربية تحت السيادة الأردنية)، وهم 28 عائلة فلسطينية، بشرط التنازل عن حقهم في المساعدات الغذائية التي تقدمها الأونروا. وبموجب الاتفاقية ستدفع العائلات إيجارات رمزية لمدة ثلاث سنوات، ستنقل لهم بعدها ملكية الأرض والعقارات، إلا أن هذا لم يحدث قط. 

ما حدث بعدها كان مدويا وهز تأثيره كل الدول العربية تقريبًا، حرب يونيو 1967. خسرت مصر قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، وخسرت سوريا مرتفعات الجولان، وخسر الأردن الضفة الغربية والقدس. ومن هذه النقطة وصاعدا أصبحت القدس الشرقية مدينة محتلة وفقا للقانون الدولي.

 من هنا نخطو سريعًا للأمام، في صباح يوم 2 أغسطس عام 2009 هاجمت الشرطة الإسرائيلية وقت الفجر منازل عائلات الغاوي وحانون في حي الشيخ جراح وقت الفجر، وطردت كل سكان منزلي عائلتي الغاوي وحانون بملابس النوم ومكنت المستوطنين من دخول المنزلين والاستيلاء عليهما، بعدها بأربعة أشهر اقتحم المستوطنون منزل عائلة الكرد واحتلوا نصفه، النصف الذي بُني لاحقا كإضافة إلى المنزل واعتبرته المحكمة الإسرائيلية غير قانوني.

منذ عام 1967وجمعيات وأفراد من المستوطنين يحاولون طرد وإزاحة السكان الفلسطينيين من داخل إسرائيل وخاصة القدس، والمنظومة القانونية الإسرائيلية تعمل على توفير غطاء قانوني لهذه الأهداف. فقانون أملاك الغائبين الذي أقر بعد عامين من قيام دولة إسرائيل يسمح للدولة بإدارة أملاك السكان الفلسطينيين الذين نزحوا من مناطقهم بسبب حرب 48 واستغلالها باعتبارها مبان عامة أو تأجيرها للمستوطنين، ثم عدل القانون لاحقًا ليطبق أيضا على القدس والضفة الغربية وهي المناطق التي لم تكن تحت السيطرة الإسرائيلية قبل عام 67. إلا أن وجود الـ 28 عائلة الذين يسكنون حي الشيخ جراح في منازلهم، والعائلات التي تسكن أحياء أخرى من القدس مثلت عقبة أمام هذه الأهداف، فأقامت جمعيات المستوطنين دعوات قضائية أمام القضاء الإسرائيلي تدعي فيها ملكية أرض حي الشيخ جراح لأفراد يهود قبل عام 48، وقدموا ورقة ملكية مكتوبة باللغة العثمانية القديمة تثبت ملكية أرض الحي لشخص يهودي، وقبلت المحكمة الإسرائيلية العليا هذا الادعاء وحكمت لهم بملكية الأرض رغم أن محامين الأسر الفلسطينية وبعض أفرادها سافروا إلى تركيا وبحثوا في الأرشيف العثماني عن أصل هذا العقد ولم يجدوا له أثرًا. ولاحقًا نقل أصحاب هذه الدعاوى القضائية حقوق ملكيتهم في الأرض إلى المنظمة الاستيطانية "نحلات شمعون" التي تعمل منذ سنوات على إخلاء الفلسطينيين من الحي. 

ظهرت القضية على قمة الأحداث عندما قررت المحكمة المركزية الإسرائيلية بالقدس إخلاء عائلات القاسم والجاعوني والكرد وإسكافي من منازلهم في حي الشيخ جراح في بداية شهر مايو الجاري. ونظم سكان المنازل المتضررة من الحكم نشاطات للتعريف بقضيتهم، واتسع التضامن معهم في القدس بعد نشر منى الكرد فيديو لحديث مع مستوطن يعيش في نصف منزلها ويقول إنه إذا لم يسرق منزلها فسيأتي غيره ويسرقه. وتلا ذلك تنظيم إفطار تضامني مع العائلات الفلسطينية في الحي، لكن المستوطنين في الحي هاجموا الإفطار وقت أذان المغرب بالزجاجات الفارغة ورذاذ الفلفل ما أدى إلى اشتباكات بين الجانبين. هذه الأحداث أدت إلى اشتعال تظاهرات في مناطق من القدس وقرب المسجد الأقصى واجهتها الشرطة الإسرائيلية بقنابل الصوت والقذائف المطاطية. واتسعت رقعة الاشتباكات وتجددت الأيام التالية وانتقلت إلى مناطق مختلفة في مدن الداخل (داخل إسرائيل) خاصة بعد اقتحام الشرطة الإسرائيلية بأعداد كبيرة الحرم القدسي واستخدام قنابل الصوت وإفراغ المسجد من المصلين والصحفيين بالقوة. 

على ضوء هذه التطورات قررت المحكمة العليا الإسرائيلية في 9 مايو بناء على طلب المدعي العام الإسرائيلي تأجيل جلستها المقرر عقدها اليوم التالي للنظر في عمليات إخلاء فلسطينيين، على أن تعقد خلال 30 يومًا. وفي تلك التظاهرات التضامنية التي تعاملت معها الشرطة الإسرائيلية بعنف مفرط، تردد هتاف "مشان الله يا غزة يلا"، وهو نداء للأذرع المسلحة للفصائل الفلسطينية في غزة للتدخل بالسلاح. وهتف أحد المحاصرين داخل المسجد القبلي في الأقصى بنبرة استغاثة خلال اقتحام الشرطة الإسرائيلية في المايكروفون "يا كتائب القسام، يا محمد ضيف" (الضيف هو القائد العام لكتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس). حتى هذه اللحظة لم تتدخل الفصائل الفلسطينية عسكريًّا على خط الأزمة واقتصر التضامن مع سكان حي الشيخ جراح بتظاهرات في مناطق عدة داخل القطاع. وفي عصر اليوم التالي أصدر أبو عبيدة الناطق العسكري باسم كتائب القسام إنذارا للسلطات الإسرائيلية بضرورة الانسحاب من المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح والإفراج عن المعتقلين في تظاهرات التضامن قبل الساعة السادسة مساء. وكان هذا الإنذار بداية معركة بين الجانبين لا تزال مستمرة حتى لحظة كتابة هذه السطور. 
إلى هنا ويبدو أن الأمور ستسير في مسار سبق وشاهدناه، قصف صاروخي من غزة باتجاه المستوطنات والمدن الإسرائيلية وقصف جوي إسرائيلي على القطاع، وتختفي قضية حي الشيخ جراح ويتحول التركيز إلى غزة حتى وقف إطلاق النار. لكن لماذا يشعر البعض أن هذه المرة هناك شيئًا مختلفًا؟ 

المختلف هنا حدث داخل إسرائيل نفسها، فقد استيقظت مدن الداخل.
المدن التي تقع فيما داخل الكيان الصهيوني، بعضها ما زال يضم سكانًا فلسطينيين ممن بقوا في منازلهم بعد حرب 48 وقيام الدولة الجديدة، هذه المدن المختلطة من السكان الفلسطينيين واليهود تبدو في أخر 20 سنة وكأنه أهلها اندمجوا تماما داخل إسرائيل. فهم يتحدثون العبرية ويحملون هويات إسرائيلية وأمام القانون هم مواطنون إسرائيليون. لم تزد تظاهرات التضامن مع غزة خلال الحروب السابقة عن بضعة أفراد يحاصرهم عشرات الأفراد من الشرطة الإسرائيلية. 

هذه المرة انتفضت مدن الداخل بشكل غير مسبوق، تظاهرات ثم اشتباكات مع الشرطة كان أشدها في مدينة اللد، على إثرها أخلت الشرطة الإسرائيلية الكثير من السكان اليهود، وقال عمدة المدينة إنه لم يعد باستطاعته السيطرة على الشارع وطالب الحكومة بالتدخل. 

 وقد نشر الإعلام العبري عن خلافات بين رئيس الوزراء نتنياهو الذي يطالب بدخول الجيش للمدن المختلطة للسيطرة على الاحتجاجات، وبين وزير دفاعه بيني جانتس الذي يرى أن الجيش ليس مدربا على التعامل مع "الشغب" وأن مهمة استعادة السيطرة على الشوارع موكلة للشرطة بالدرجة الأولى. رضخ رئيس الوزراء نتنياهو وأعلن حالة الطوارئ وحظر التجوال في مدينة اللد ونشر قوات من حرس الحدود. شهدت المدينة بعدها عودة للسكان اليهود لكن مع تسليح وشراسة، وبدأوا في الهجوم على منازل الفلسطينيين في المدينة في حراسة وبدعم من شرطة حرس الحدود.

وقد شهدت مدن أخرى وقائع هجوم على الفلسطينيين، كان أبرزها إحراق منزل عائلة فلسطينية في يافا وسكانه بداخله، عندما رمى أحد المتطرفين زجاجة مولوتوف داخل المنزل من النافذة، فاشتعلت النيران في الطفل محمد فذهبت أخته لتساعده فاحترق شعرها أيضا، في جريمة تذكر بإحراق منازل عائلة دوابشة قبل أعوام والذي لم ينجو منه إلا الطفل الصغير مع بعض الحروق في جسده ووجهه. هذا المشهد الذي وصفه البعض بأنه يقترب من حرب أهلية داخل المدن الإسرائيلية نفسها، وليس في المدن التي مازالت فلسطينية خالصة كمدن الضفة الغربية وقطاع غزة، هو أحد الأسباب التي تجعل هذه الأزمة مختلفة. فكأن أزمة الشيخ جراح أعادت إنتاج القضية الفلسطينية من البداية. سكان فلسطينيون غير مسلحين وسلميين يحاولون الحفاظ على منازلهم والاستماتة في عدم الخروج منها والطرف الآخر مدجج بالسلاح تحميه الدولة بأجهزتها الرسمية المسلحة كالشرطة والجيش والمدنية كالقضاء. هذا المشهد يشبه فلسطين قبل 48، عندما كان الفلسطينيون غير المسلحين، في الغالب، يواجهون هجمات استيطانية من المهاجرين اليهود الذين سلحوا ونظموا أنفسهم في تشكيلات عسكرية كالهاجاناه وشتيرن وغيرها. وكانت السلطة البريطانية تحمي هؤلاء المهاجرين بجيشها وأجهزتها المدنية. أدى ذلك إلى حدوث عدة انتفاضات وصلت إلى ثورة 1936 في فلسطين، والتي شهدت تنظيم الفلسطينيين لأنفسهم وشراء سلاح بسيط بإمكانيات ضعيفة، لكنه حقق الكثير أمام الجيش البريطاني والعصابات اليهودية المسلحة، حتى وصلت إلى سيطرة الثوار الفلسطينيين على مدن كاملة ولم يستطع الجيش البريطاني استعادتها إلا باستخدام الطيران.

وعلى الرغم من أن إسرائيل حاربت سابقًا على أكثر من جبهة، مثل حروب 67 و73، فإنها كانت دائمًا لأسباب استراتيجية تنقل معاركها إلى خارج حدودها وإلى أرض الطرف الأخر. اليوم تواجه مدن إسرائيل الداخلية هجوما من جبهتين، الجبهة الأولى هي الاشتباك بين سكانها الفلسطينيين واليهود في المدن المختلطة، والثانية هي صواريخ تطلق عليها من غزة؛ التي كانت تخبئ في جعبتها مفاجآت. رغم حصار يدخل عامه الرابع عشر، شنت خلاله إسرائيل حروبا عنيفة في 2008 و2012 و2014 فإن المقاومة لم تتراجع على المستوى العسكري بل تطورت. يمكننا أن نقول إن المقاومة الفلسطينية بدأت معركتها في غزة اليوم من النقطة التي انتهت عندها حرب 2014، فراكمت مخزونا من الصواريخ عوضت به ما فقدته خلال الحرب السابقة، وطورت -وفقًا لإمكاناتها المحدودة- على ما تملكه بالفعل، واستخدمت تكتيكات جديدة استخلصتها من مواجهاتها السابقة مع التكنولوجيا الإسرائيلية والتي تظهر بقوة في مواجهتها لمنظومة الدفاع ضد الصواريخ "القبة الحديدية". 

المعركة ما زالت قائمة، وفي اللحظة الحالية لا يمكن التنبؤ بما ستنتهي إليه، لكن المؤكد أن إسرائيل تشهد ما لم تره من قبل: شروخ عميقة فيما حققته من دمج فلسطيني الداخل بالمجتمع الإسرائيلي وتدجينهم وفصلهم عن الهوية الفلسطينية. بالإضافة إلى صواريخ من غزة تطال مدنها كافة، ونزول الجمهور الإسرائيلي إلى الملاجئ في مدن بعيدة نسبيا عن غزة كتل أبيب والخضيرة ومثلث الجليل. كل هذا يضاف إلى الأزمة السياسية التي تشهدها، فمرة أخرى يفشل نتنياهو في تشكيل حكومة، والرئيس الإسرائيلي يكلف منافسه يائير لابيد بتشكيلها بعد 4 جولات من الانتخابات وحل الكنيست وعدم الاستقرار السياسي. اليوم القضية الفلسطينية تظهر دون رتوش وفي صورتها الأكثر بساطة، قضية شعب يحاول الحفاظ على منزله ألا يسرقه متطرفون مدعومون بآلة عسكرية جبارة.