دراسات

ماتسبان

الطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي

2018.11.01

مصدر الصورة :  wikimedia-commons

الطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي

يحتوي المجتمع اﻹسرائيلي، مثل كل المجتمعات الطبقية اﻷخرى، مصالح اجتماعية ومصالح طبقية متناقضة تُولّد صراعا طبقيًا داخليًا. ومع ذلك فهو انخرط ككل، طوال الخمسين عامًا اﻷخيرة، في صراع خارجي مستمر: الصراع بين الصهيونية والعالم العربي، والفلسطينيون بوجه خاص. فأي من هذين الصراعين هو المهيمن وأيهما هو التابع؟ وما هي طبيعة هذه التبعية وديناميكيتها؟ هذه تساؤلات ينبغي لكل معني بالمجتمع والسياسة الإسرائيليين أن يجيب عليها.

ليست هذه التساؤلات أكاديمية بالنسبة للثوريين داخل إسرائيل. فاﻹجابات المعطاة لها تحدد استراتيجية النضال الثوري. يركز هؤلاء الذين يعتبرون الصراع الطبقي الداخلي هو المهيمن، جهودهم على الطبقة العاملة اﻹسرائيلية، ويعطون أهمية ثانوية للنضال ضد الطبيعة الاستعمارية والقومجية والتمييزية للدولة الصهيونية. ويرى هذا الموقف الصراع الخارجي كمنتج للصراع الداخلي. أكثر من ذلك، في هذا المنظور، سوف تقود الديناميكيات الداخلية للمجتمع الإسرائيلي إلى الثورة، دون أن يعتمد ذلك بالضرورة على ثورة اجتماعية في العالم العربي.
أظهرت خبرة البلدان الرأسمالية دائمًا أن الصراعات الطبقية والمصالح الداخلية هيمنت على الصراعات والمصالح الخارجية. ولكن هذه النظرية تخفق في حالات محددة بعينها. ففي بلد مستعمَر تحت الحكم المباشر لقوة أجنبية، على سبيل المثال، لا يمكن استنتاج ديناميكيات المجتمع المُستَعمَر ببساطة من الصراعات الداخلية له، إذ يكون الصراع ضد القوة الاستعمارية مهيمنًا. وليست إسرائيل بلدًا رأسماليًا كلاسيكيًا، ولا هي مستعمرة كلاسيكية. فملامحها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية فريدة إلى حد أن أي محاولة لتحليلها من خلال تطبيق النظريات والتمثيلات المطوّرة لمجتمعات مختلفة ستكون هزلية. بدلًا عن ذلك ينبغي ﻷي تحليل أن يتأسس على الخصائص المحددة والتاريخ الخاص للمجتمع اﻹسرائيلي.

مجتمع من المهاجرين

أولى الخصائص الفارقة للمجتمع اﻹسرائيلي هي أن غالبية السكان من المهاجرين أو من أبنائهم. في عام 1968 بلغ عدد سكان إسرائيل من اليهود البالغين (بمعنى أنهم فوق سن الخامسة عشر) 1689286 نسمة، 24% منهم ولدوا في إسرائيل، و4% منهم فقط ولد أباؤهم فيها.1 ولا يزال المجتمع اﻹسرائيلي اليوم مجتمع مهاجرين وله عديد من الملامح المميزة لمثل هذا المجتمع. فلا تزال الطبقات نفسها في طور التشكيل، ناهيك عن الوعي الطبقي. إذ تنتج الهجرة خبرة وعقلية أن المرء قد "فتح صفحة جديدة في حياته". وكقاعدة، يغير المهاجر مجال عمله، ودوره الاجتماعي، وطبقته. وقد أتى غالبية المهاجرين، في حالة إسرائيل، من البرجوازية الصغيرة، سواء كانوا من المدن في وسط وشرق أوروبا، أو من بلدات ومدن العالم العربي. ويتطلع المهاجر الجديد إلى تغيير مكانه في المجتمع. وأكثر من ذلك يرى أن كل المواقع المميزة في المجتمع الجديد مشغولة بالمهاجرين السابقين، ويحفز هذا طموحه إلى تسلق السلم الاجتماعي من خلال العمل الجاد والطويل. ويعتبر المهاجر الموقع الاجتماعي الفعلي الذي يشغله انتقاليًا. وهذا ينطبق على العامل الإسرائيلي أيضًا. فنادرًا ما يكون والد العامل الإسرائيلي عاملًا، وهو نفسه يعيش بأمل أنه أيًضا سوف يصبح مستقلًا يوًما ما، أو على اﻷقل أن ابنه سيكون قادرًا على ذلك. إن الوعي الطبقي والفخر الموجودان لدى الطبقتين العاملتين البريطانية والفرنسية، لا وجود لهما في إسرائيل، ويبدوان غريبين لكثير من العمال اﻹسرائيليين. فإذا سئل العامل الانجليزي عن أصوله فسيجيب بشكل يكاد يكون آليًا:أنا من الطبقة العاملة، وسيعرّف سلوكه تجاه الآخرين بمصطلحات ومفاهيم طبقية مشابهة؛ وعلى عكس ذلك سيستخدم العامل اﻹسرائيلي تصنيفات إثنية، وسيقيّم نقسه واﻵخرين وفق كونه "بولنديًا" أو "مشرقيًا"، إلخ. فأغلب الناس في إسرائيل لا يزالون يقيّمون موقعهم الاجتماعي وفق أصولهم الإثنية والجغرافية، ومثل هذا الوعي الاجتماعي هو، بوضوح، حاجز يعيق لعب الطبقة العاملة لدور مستقل، ناهيك عن أن تلعب دورًا ثوريًا يهدف إلى تحول شامل للمجتمع.

لا يمكن لطبقة عاملة أن تلعب دورًا ثوريًا في مجتمع ما بينما يرغب غالبية أعضائها في تحسين أوضاعهم بشكل منفرد في إطار المجتمع القائم، وذلك بمغادرة صفوف طبقتهم. تتعزز هذه الحقيقة عندما لا ترى البروليتاريا نفسها كطبقة اجتماعية مستقرة لها مصالحها الجماعية ومنظومتها القيمية الخاصين بها والمتناقضين مع نظيريهما الخاصين بالنظام الاجتماعي القائم. فالدافع إلى تغيير شامل للمجتمع لا ينشأ بسهولة في مجتمع من المهاجرين، الذين قد غيروا للتو مكانتهم الاجتماعية والسياسية، والذين لا يزالون في ظروف من السيولة الاجتماعية العالية. ولا يعني هذا أن الطبقة العاملة اﻹسرائيلية لا يمكنها أن تصبح قوة ثورية في المستقبل، ولكنه ينطوي ضمنًا على أن النشاط السياسي اليوم داخل هذه الطبقة لا يمكنه الانطلاق من تلك الافتراضات والتوقعات التي تنطبق على بلد رأسمالي كلاسيكي.

مجتمع من المستوطنين

إذا ما اُعتبر أن فرادة الطبقة العاملة الإسرائيلية تكمن فقط في حقيقة أنها تشكلت باﻷساس من المهاجرين، فسيظل باﻹمكان افتراض أنها عبر مرور الزمن ومن خلال الدعاية الاشتراكية الصبورة ستبدأ في لعب دور مستقل وربما ثوري. في مثل هذا الموقف لن يختلف العمل التعليمي الصبور كثيرًا عن مثيله في أي مكان. ولكن المجتمع اﻹسرائيلي ليس مجرد مجتمع من المهاجرين وإنما هو مجتمع من المستوطنين. هذا المجتمع، بما في ذلك الطبقة العاملة، تشكّل من خلال عملية استيطان. هذه العملية، التي استمرت طوال 80 عامًا، لم تنفذ في فراغ وإنما في بلد مأهول بشعب آخر. الصراع الدائم بين المجتمع الاستيطاني والسكان اﻷصليين والعرب الفلسطينيين المهجرين، لم يتوقف مطلقًا، وقد شكّل بنية الاجتماع والسياسة والاقتصاد اﻹسرائيليين أنفسهم. والجيل الثاني من القادة اﻹسرائيليين واعون تمامًا بذلك. ففي خطاب شهير في جنازة روي روتبرج، وهو عضو كيبوتز قتلته ميليشيا فلسطينية في عام 1956، أعلن الجنرال ديان، "نحن جيل مستوطنين، وبدون الخوذة الحديدية والمدفع، لا يمكننا أن نغرز شجرة أو أن نبني بيتًا. فدعونا لا نغفل الكراهية التي يلتهب بها مئات اﻵلاف من العرب من حولنا. دعونا لا ندير رؤوسنا بعيدًا وإلا ارتعشت أيدينا. إنه قدر جيلنا، وبديل الحياة الخاص بنا، أن نكون مستعدين ومسلحين، أقوياء وقساة، وإلا سقط السيف من قبضتنا، وانتهت حياتنا." 2 هذا التقييم الواضح يقف في تناقض حاد مع اﻷسطورة الصهيونية حول "جعل الصحراء تزهر"، ويفصح ديان عن ذلك بالاستمرار قائلًا إن لدى الفلسطينيين قضية جيدة جدًا حيث "أننا قد زرعنا حقولهم أمام أعينهم".

عندما قال ماركس أن "الشعب الذي يقمع شعبا آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حرا"*، لم يعن هذا كمجرد حكم أخلاقي. لقد عنى أيضًا أنه في مجتمع يقهر حكامه شعبًا آخر، تصبح الطبقة المستغَلة التي لا تعارض بالفعل هذا القهر حتمًا شريكة فيه. حتى عندما لا تجني أي شيء بشكل مباشر نتيجة له، فهي تبقى عرضة لوهم تقاسمها مصلحة مشتركة مع حكامها في استمراره. وتميل مثل هذه الطبقة إلى تذيل حكامها بدلا من تحدي حكمهم. وهذا، إضافة إلى ذلك، حقيقي أكثر عندما لا يمارَس القهر في بلد بعيد، وإنما “بالداخل”، وعندما يشكل قهر وطن ومصادرته هو من شروط نشأة ووجود المجتمع القامع. لقد عملت المنظمات الثورية في داخل المجتمع اليهودي في فلسطين منذ عشرينات القرن الماضي، وقد راكمت خبرة يعتد بها جراء هذا النشاط العملي، وتمدنا هذه الخبرة بإثبات واضح لمبدأ أن “شعبًا يقهر شعبًا آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حرًا”. ويعني هذا في سياق المجتمع الإسرائيلي أنه طالما هيمنت الصهيونية سياسيًا وأيديولوجيًا في هذا المجتمع، وطالما شكلت الإطار المقبول للسياسة، فليس ثمة فرصة على اﻹطلاق ﻷن تصبح الطبقة العاملة اﻹسرائيلية طبقة ثورية. فلا تحتوي خبرة 50 عاما مثالًا واحدًا لحشد العمال اﻹسرائيليين لقضايا مادية أو متعلقة باتحادات العمال في تحد للنظام اﻹسرائيلي نفسه، فمن المستحيل حشد حتى أقلية من البروليتاريا بهذه الطريقة. وعلى العكس، يكاد العمال اﻹسرائيليون يضعون ولائاتهم القومية دائما قبل ولائاتهم الطبقية. وعلى الرغم من أن ذلك قد يتغير في المستقبل، فإنه لا يلغي حاجتنا إلى تحليل سبب كون الحال هكذا طوال الخمسين عامًا اﻷخيرة.

التنوع العرقي

الطابع العرقي للبروليتاريا الإسرائيلية هو العامل الفارق الثالث. فغالبية الشرائح اﻷكثر عرضة للاستغلال في إطار الطبقة العاملة اﻹسرائيلية هم المهاجرون من آسيا وإفريقيا.3 وقد يبدو للوهلة اﻷولى كما لو أن مضاعفة التقسيم الطبقي بالتقسيم العرقي قد يجعل الصراعات الطبقية الداخلية أكثر حدة في المجتمع اﻹسرائيلي. وقد كان ثمة ميل بعينه في هذا الاتجاه. ولكن العامل العرقي قد عمل باﻷساس في الاتجاه المضاد، خلال العشرين عامًا الماضية. وثمة عدد من اﻷسباب لذلك. أولًا، كثير من المهاجرين من آسيا وإفريقيا قد حسنوا من مستوى معيشتهم بأن أصبحوا من البروليتاريا في مجتمع رأسمالي حديث. وعدم رضاهم لم يكن موجهًا ضد وضعهم كبروليتاريا وإنما ضد وضعهم كمشرقيين، أي ضد حقيقة أنهم محتقرون، بل وأحيانًا مميز ضدهم من قبل من هم من أصول أوروبية. وقد أخذ الحكام الصهاينة إجراءات لمحاولة دمج المجموعتين معًا. ولكن، برغم ذلك، ظلت الفروقات واضحة: ففي منتصف الستينات كان ثلثي من يؤدون أعمالًا لا تحتاج إلى مهارة من المشرقيين، وعاش 38 في المائة من المشرقيين بمعدل ثلاثة أشخاص أو أكثر بالغرفة الواحدة، في حين عاش 7 بالمائة من ذوي اﻷصول اﻷوروبية في نفس الظروف، وفي الكنيست كان 16 من بين 120 عضوًا من المشرقيين قبل عام 1965، و21 فقط بعده. ولكن المشرقيين يفسرون هذه الفروقات الاجتماعية على أساس عرقي، فلا يقول أحدهم "أنا مستغل، ويتم التمييز ضدي ﻷنني عامل"، ولكنه يقول "أنا مستغل، ويتم التمييز ضدي ﻷنني مشرقي". ثانيًا، في السياق الحالي للمجتمع الاستعماري اﻹسرائيلي، يتشابه وضع العمال المشرقيين في إسرائيل مع وضع "الفقراء البيض" في الولايات المتحدة أو "اﻷقدام السود"* في الجزائر. هذه المجموعات الثلاثة تستنكف أن تساوى بالعرب أو السود أو المحليين من أي نوع، الذين يعتبرهم هؤلاء المستوطنون “أدنى مرتبة”. ورد فعلهم هو الانحياز إلى العناصر اﻷكثر شوفينية، وعنصرية، وتمييزًا في المؤسسة الحاكمة، فأغلب مؤيدي حزب “حيروت” شبه الفاشي هم من المهاجرين اليهود من آسيا وإفريقيا، ينبغي أن يؤخذ ذلك في الاعتبار من قبل الثوريين الذين تقوم استراتيجيتهم على تحالف مستقبلي بين الفلسطينيين العرب واليهود المشرقيين، سواء على أساس وضعهم المستغَل المشترك أو على أساس تقارب ثقافي مفترض نتيجة أن اليهود المشرقيين قد أتوا من بلدان عربية. ولا يعني ما سبق أن هذه الشرائح من البروليتاريا اﻹسرائيلية رجعية “بطبيعتها في حد ذاتها”، ولكن طابعها الرجعي الحالي هو مجرد منتج لحكم الصهيونية السياسية. وقد تصبح هذه الشرائح من عوامل العمليات الثورية الاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي إذا ما مُزقت المؤسسة الصهيونية، ولكن من المشكوك فيه أن تتقدم هذه الشرائح الحركة لتمزيق هذه المؤسسة.

مجتمع ذو امتياز: تدفق رأس المال

ليس المجتمع الإسرائيلي فقط مجتمع مستوطنين شكلته عملية استيطان بلد مأهول بالفعل، بل هو أيضًا مجتمع مستفيد من امتيازات فريدة. فهو يتمتع بتدفق للموارد المادية من الخارج لا يضاهى بغيره من حيث الكم أو النوع، وقد تم فعلًا حساب أن إسرائيل قد تسلمت في عام 1968، 10 بالمائة من كل المعونات التي تلقتها الدول النامية.4 إن إسرائيل هي حالة فريدة في الشرق اﻷوسط، فاﻹمبريالية تمولها دون أن تستغلها اقتصاديًا. وقد كان هذه هو الحال دائما في الماضي، فقد استخدمت اﻹمبريالية إسرائيل ﻷغراضها السياسية وقدمت لها في مقابل ذلك الدعم الاقتصادي. وقد كتب أوسكار جاس، وهو عالم اقتصاد أمريكي عمل لوقت ما كمستشار اقتصادي للحكومة اﻹسرائيلية:5

"ما هو فريد في عملية التنمية هذه... هو عامل تدفق رأس المال... ففي 17 عاما من 1949 وحتى 1965 تلقت إسرائيل واردات من السلع والخدمات تزيد قيمتها بما قدره 6 مليارات من الدولارات عن قيمة صادراتها. وفي فترة  21 عامًا، من 1948 وحتى 1968، يزيد فائض الواردات عن 7 مليارات ونصف المليار دولار. هذا يعني فائض واردات قيمته حوالي 2650 دولارًا (خلال 21 عامًا) لكل فرد عاش في إسرائيل (داخل حدود ما قبل 1967) حتى عام 1968. وقد أتى 30 بالمائة فقط من هذه اﻹمدادات إلى إسرائيل بشروط تستدعي تدفقا عكسيًا لعائدات أو فوائد أو رأس مال. وهذا وضع لا مثيل له في مكان آخر، ويحد بشدة من صلاحية التنمية الاقتصادية بإسرائيل ﻷن تكون نموذجًا لدول أخرى."

تم تغطية 70 بالمائة من هذا الرقم -المقدر بستة مليارات دولار- بواسطة "تحويلات رأسمالية من طرف واحد" لم تخضع لشروط تحكم المردود على رأس المال أو سداد للعوائد. وتمثلت هذه النسبة في تبرعات جمعتها منظمة النداء اليهودي الموحد*، وتعويضات من الحكومة اﻷلمانية**، ومنح من الحكومة اﻷمريكية. وأتى 30 بالمائة من “تحويلات رأسمالية طويلة اﻷجل” تمثلت في سندات حكومية إسرائيلية، وقروض من حكومات أجنبية، واستثمارات رأسمالية. وتستفيد هذه اﻷخيرة في إسرائيل من إعفاءات ضريبية وأرباح مضمونة بفعل “قانون تحفيز الاستثمارات الرأسمالية”6، ورغم ذلك فإن هذا المورد شبه الرأسمالي هذا يأتي في مرتبة متأخرة كثيرًا خلف المنح والقروض طويلة اﻷجل. فخلال الفترة من 1949 إلى 1965 بأكملها أتت التجويلات الرأسمالية (بنوعيها معًا) من المصادر التالية: 60 بالمائة من اليهود حول العالم، 28 بالمائة من الحكومة اﻷلمانية، و12 بالمائة من الحكومة اﻷمريكية. من "التحويلات من جانب واحد"، أتى 51.5 بالمائة من يهود العالم، 41 بالمائة من الحكومة اﻷلمانية، و7.4 من الحكومة اﻷمريكية. ومن "التحويلات الرأسمالية طويلة اﻷجل" أتى 68.7 بالمائة من يهود العالم، 20.5 بالمائة من الحكومة اﻷمريكية، و11 بالمائة من مصادر أخرى. وكان متوسط صافي الادخار للاقتصاد اﻹسرائيلي في الفترة من 1949 إلى 1965 صفر، حيث بلغ 1 بالمائة لبعض الوقت و-1 بالمائة في وقت آخر. ومع ذلك كان معدل الاستثمار في نفس الفترة حول 20 بالمائة من إجمالي الدخل القومي. ولا يمكن أن تكون هذه الاستثمارات قد أتت من الداخل ﻷنه لم تكن ثمة مدخرات داخلية بالاقتصاد الإسرائيلي، إذن فهي أتت بالكامل من الخارج في صورة استثمارات رأسمالية من جانب واحد أو طويلة اﻷجل. فنمو الاقتصاد اﻹسرائيلي، بعبارة أخرى، قد تأسس بكامله على تدفق رأس المال من الخارج.7

تزايد هذا الاعتماد على رأس المال اﻷجنبي منذ عام 1967. فنتيجة للوضع المتغير بالشرق اﻷوسط، ارتفع معدل اﻹنفاق العسكري. ووفق وزارة المالية اﻹسرائيلية، قدر اﻹنفاق العسكري في يناير من عام 1970 بـ24 بالمائة من الدخل القومي للعام نفسه، وهو ضعف معدل اﻹنفاق العسكري للولايات المتحدة في عام 1966، وثلاثة أضعاف المعدل البريطاني وأربعة أضعاف المعدل الفرنسي.8 وقد مثل هذا عبئًا إضافيًا على المصادر الداخلية للأموال المستثمرة وعلى ميزان المدفوعات، واستدعى أن يقابله ارتفاع مكافئ في تدفق رأس المال. ودعي في العام 1967-68 إلى ثلاث "مؤتمرات" في إسرائيل ﻷصحاب الملايين، ودعي الرأسماليون اﻷجانب إلى الاشتراك في زيادة تدفق رأس المال وزيادة المشاركة اﻷجنبية في المشروعات الصناعية والزراعية.

وفي سبتمبر 1970، عاد وزير المالية اﻹسرائيلي، بنحاس سابير، من جولة لجمع اﻷموال استمرت لثلاثة أسابيع في الولايات المتحدة، وقد لخص الوضع حينها بقوله: "لقد وضعنا ﻷنفسنا هدفًا هو جمع 1000 مليون دولار من يهود العالم في العام المقبل، بواسطة النداء اليهودي الموحد وحملة سندات تنمية إسرائيل التي تدعمها الوكالة اليهودية. وهذا المبلغ يزيد بـ400 مليون دولار عن الرقم القياسي الذي تم جمعه في عام 1967... وقد أوضحنا خلال الزيارة اﻷخيرة لفريق البحوث المالية اﻷمريكي إلى إسرائيل، أنه حتى وإن نجحنا في جمع كل ذلك الذي نتوقعه من النداء اليهودي الموحد ومن حملة سندات تنمية إسرائيل، فإننا سنظل متأخرين بما قدره ملايين من الدولارات عن احتياجاتنا. وبعد تقدير احتياجاتنا من السلاح أبلغنا الولايات المتحدة أننا سنحتاج ما يتراوح بين 400 إلى 500 مليون دولار في السنة".9 من ثم يظهر أن اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة قد تغير بشكل كبير منذ حرب 1967. حيث لم يعد جمع التمويل من اليهود حول العالم (باستغلال مشاعرهم ومخاوفهم) كافيًا لدعم الميزانية العسكرية المتزايدة بشكل ضخم. فلقد تضاعف متوسط الـ500 مليون دولار التقريبي المتحصل من جمع التمويلات اﻵن، وفوق ذلك طُلب من الحكومة اﻷمريكية أن تقدم بشكل مباشر 500 مليون دولار إضافية. ومن الواضح أن استعداد حكومة الولايات المتحدة لدفع هذه المبالغ يعتمد على ما تحصل عليه في المقابل. في هذه الحالة الخاصة بإسرائيل ليس هذا المقابل عائدًا اقتصاديًا.10

طور رأس المال البريطاني بدوره صلات وثيقة بإسرائيل.11 فقد أتت 20 بالمائة من واردات إسرائيل من بريطانيا، وتضاعف التبادل التجاري معها تقريبا منذ حرب يونيو. وتشارك ليلاند البريطانية مع الهستدروت* (الذي يملك 34 في المائة من اﻷسهم) في إنتاج الباصات، ومع رأسمال إسرائيلي خاص في إنتاج سيارات عادية وجيب. وتشتري متاجر ماركس أند سبنسر سلعًا قيمتها 2 إلى 3 ملايين جنيه استرليني من إسرائيل كل عام، ثلثها من المنسوجات والبقية من البرتقال والخضروات وعصائر الفاكهة. والمصالح المالية البريطانية التي يقودها كل من سير إيزاك وولفسون وتشارلز كلور هي أيضا شريك رئيسي. فوولفسون هو العضو المنتدب لجريت يونيفرسال ستورز في بريطانيا التي تملك حصة قدرها 30 بالمائة من جي يو إس إنداستريز (إسرائيل). ويتعاون وولفسون وكلور مع مائير إخوان، المجموعة الرأسمالية المحلية اﻷكبر في إسرائيل، في مجال العقارات في إسرائيل وإفريقيا، وقد بنوا ناطحة السحاب الوحيدة بالبلاد، وهي برج شالوم في تل أبيب. ويتحكم وولفسون أيضا في 30 بالمائة من سلسلة باز للمنتجات البترولية، التي باعتها شل نتيجة لضغوط عربية في عام 1959. وولفسون هو أيضا أحد داعمي شركة إسرائيل، وهي شركة قيمتها 30 مليون دولار بحد أدنى للاكتتاب قدره 100 ألف دولار، وقد أنشئت عقب حرب يونيو لتمويل التنمية الصناعية في إسرائيل.

أدى تزايد مشاركة رأس المال اﻷجنبي في إسرائيل إلى تغييرات بعينها في الاقتصاد نفسه، وهي تغييرات تمت تحت الضغوط المتزايدة التي أحدثها بشكل مباشر مستوى اﻹنفاق العسكري. فارتفعت كفاءة الاقتصاد بواسطة المعايير الرأسمالية اﻷمريكية: أُصلحت الضرائب، و"حررت" شروط الاستثمار، وبعث جنرالات الجيش إلى مدارس الاقتصاد اﻷمريكية، ثم سُلموا مسؤولية المشروعات الصناعية. وفي الفترة 1968-1969 فُرض تجميد قسري للأجور، بل وبيعت بعض المشروعات العامة للرأسمال الخاص- على سبيل المثال ملكية الدولة البالغ قدرها 25 بالمائة من أسهم معامل تكرير حيفا. ولم يشمل هذا التدفق للموارد من الخارج الملكيات التي انتزعتها المؤسسة الصهيونية الحاكمة في إسرائيل من اللاجئين الفلسطينيين بوصفها "ملكيات مهجورة"، ويشمل ذلك أراض مزروعة وغير مزروعة، فقط 10 بالمائة من اﻷراضي التي سيطرت عليها كيانات صهيونية قبل 1967 قد تم شراؤها قبل 1948. وتشمل هذه الملكيات أيضًا كثيرا من المنازل، ومدنًا هجرت بالكامل مثل يافا واللد والرملة، حيث صودرت معظم الملكيات بعد حرب 1948.

توزيع المنح الأجنبية

لم يصل التدفق الهائل لرأس المال إلى أيدي البرجوازية الإسرائيلية الصغيرة وإنما إلى أيدي الدولة، أي المؤسسة الصهيونية12، التي كانت تحت سيطرة بيروقراطيات أحزاب العمل منذ عشرينات القرن الماضي. وقد حدد هذا الطريقة التي وُظف بها رأس المال الوارد وكذلك الملكيات المصادرة. وجهت المنح المجمعة بالخارج عبر الوكالة اليهودية* التي شكلت، مع الهستدروت والحكومة، أضلاع مثلث المؤسسات الحاكمة. فجميع اﻷحزاب الصهيونية، من مابام إلى حيروت، ممثلة في الوكالة اليهودية. وهي تمول قطاعات من الاقتصاد اﻹسرائيلي، بصفة خاصة الأجزاء غير الهادفة للربح من النشاط الزراعي مثل الكيبوتزات،** وهي أيضا توزع المنح على الأحزاب الصهيونية، لتمكنهم من تشغيل صحفهم ومشروعاتهم الاقتصادية. وتقسم المنح وفق الأصوات التي حصلت عليها اﻷحزاب في الانتخابات السابقة، وتمكن منظومة الدعم هذه اﻷحزاب الصهيونية من البقاء على قيد الحياة لفترة طويلة بعد اختفاء القوى الاجتماعية التي خلقتها13.

تاريخيًا، كان الغرض من هذه المنظومة هو دعم عملية الاستعمار، وفق أفكار أحزاب العمال الصهيونية، ودعم القبضة التي أحكمتها البيروقراطية نفسها على المجتمع الإسرائيلي. وأثبت هذا نجاحه، فليست الطبقة العاملة اﻹسرائيلية وحدها خاضعة للسيطرة الكاملة لبيروقراطية العمل*** تنظيميًا واقتصاديًا وإنما البرجوازية اﻹسرائيلية كذلك. فتاريخيًا شكلت البيروقراطية معظم مؤسسات وقيم وممارسات المجتمع اﻹسرائيلي دون أية معارضة ناجحة من الداخل، وكانت عرضة فقط للمحددات التي فرضتها اﻹمبريالية ومقاومة العرب. ذهب معظم هذا التدفق الضخم للموارد إلى مشروعات الهجرة وإلى مشروعات اﻹسكان والتوظيف الضروريين لمواجهة تدفق المهاجرين الذي رفع تعداد السكان اليهود من 0.6 مليون نسمة في 1948 إلى 2.4 مليون نسمة في 1968. رافق هذه العملية فساد شخصي ضئيل نسبيًا، ولكن رافقها الكثير من الفساد السياسي والاجتماعي. وكان لتدفق الموارد أثر حاسم في ديناميكيات المجتمع الإسرائيلي، حيث شاركت الطبقة العاملة اﻹسرائيلية، بشكل مباشر وغير مباشر، في عملية نقل رأس المال هذه. فليست إسرائيل بلد تصب فيها المساعدات اﻷجنبية بشكل كامل في جيوب القطاع الخاص، وإنما هي بلد تدعم فيه المساعدات المجتمع كله. ولا يحصل العامل اليهودي في إسرائيل على نصيبه نقدًا، ولكن يحصل عليه في صورة مساكن جديدة ورخيصة نسبيًا لم يكن باﻹمكان إنشاؤها بجمع رأس المال محليًا، وهو كذلك يحصل على نصيبه في صورة وظائف صناعية لم يكن باﻹمكان توفيرها أو الحفاظ على استمرارها دون دعم خارجي، وهو يحصل على نصيبه من خلال مستوى عام للمعيشة لا يتوافق مع منتج هذا المجتمع. وينطبق اﻷمر ذاته بوضوح على أرباح البرجوازية الإسرائيلية، الذي تنظم البيروقراطية نشاطها الاقتصادي وتربّحها من خلال الدعم، وتراخيص الاستيراد والإعفاءات الضريبية. وبهذه الطريقة فإن الصراع بين الطبقة العاملة اﻹسرائيلية وبين أصحاب اﻷعمال، سواء البيروقراطيين أو الرأسماليين، لا يدور حول فائض القيمة وإنما حول الحصة التي تحصل عليها كل مجموعة من هذا المصدر الخارجي للدعم.

إسرائيل واﻹمبريالية

أي ظروف سياسية مكنّت إسرائيل من تلقي مساعدات خارجية بمثل هذا الحجم وبمثل هذه الشروط التي لا مثيل لها؟ أجاب محرر جريدة هآرتس اليومية هذا السؤال مبكرًا في عام 1951: "لقد أعطيت إسرائيل دورًا لا يختلف عن دور كلب الحراسة. فليس على المرء أن يخشى أن تمارس سياسة عدوانية تجاه الدول العربية إذا ما تناقض هذا مع مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا. ولكن إذا ما فضل الغرب لسبب أو ﻵخر أن يغمض عينيه، فيمكن الاعتماد على أن إسرائيل سوف تعاقب بقسوة أي من دول الجوار ممن يتخطى سوء سلوكه تجاه الغرب حدود اللياقة"14. هذا التقييم لدور إسرائيل في الشرق اﻷوسط تم تأكيده مرات عديدة، ومن الواضح أن سياسات إسرائيل الخارجية والعسكرية لا يمكن استنتاجها من ديناميكيات الصراعات الاجتماعية الداخلية وحدها. الاقتصاد اﻹسرائيلي بأكمله مؤسس على الدور السياسي والعسكري الخاص الذي تؤديه الصهيونية ومجتمع المستوطنين في الشرق اﻷوسط ككل. وإذا نظر إلى إسرائيل بمعزل عن بقية الشرق اﻷوسط فلن يكون ثمة تفسير لحقيقة أن 70 بالمائة من تدفق رأس المال ليس مخصصًا لتحصيل مكسب اقتصادي وليس خاضعًا لاعتبارات الربحية. ولكن إذا ما نظر إلى إسرائيل كأحد مكونات الشرق اﻷوسط، فإن اﻹشكالية تُحل فورا. ولا تغير حقيقة أن جزءًا له أهميته من المال يأتي من تبرعات يجمعها الصهاينة من اليهود حول العالم، من كونه دعم من الإمبريالية. ما يهم هو حقيقة أن وزارة الخزانة بالولايات المتحدة راغبة في اعتبار هذه المنح، المجموعة في الولايات المتحدة بغرض تحويلها إلى بلد آخر، "تبرعات خيرية" مؤهلة للإعفاءات الضريبية. تعتمد هذه التبرعات على النوايا الحسنة لوزارة الخزانة اﻷمريكية، ومن المنطقي افتراض أن هذه النوايا الحسنة لن تستمر إذا ما اتبعت إسرائيل سياسة مبدأية ومعادية للإمبريالية. وهذا يعني أنه برغم وجود الصراعات الطبقية في المجتمع الإسرائيلي فهي مقيدة بحقيقة أن المجتمع ككل مدعوم من الخارج. هذا الوضع المميز يتعلق بدور إسرائيل في المنطقة، وطالما استمر هذا الدور سيظل احتمال أن تكتسب الصراعات الاجتماعية الداخلية طابعًا ثوريًا ضئيلا. على جانب آخر، قد يغير اختراق ثوري في العالم العربي هذا الوضع. فبتحرير فعل الجماهير عبر العالم العربي يمكن تعديل ميزان القوى، وهذا يجعل دور إسرائيل السياسي العسكري التقليدي منتهي الصلاحية، ويمكن من ثم أن يحجم نفعها للإمبريالية. في البداية، يمكن ربما استخدام إسرائيل في محاولة لسحق مثل هذا الاختراق الثوري في العالم العربي، ولكن بمجرد أن تفشل هذه المحاولة سينتهي دور إسرائيل السياسي والعسكري في مواجهة العالم العربي. وبنهاية هذا الدور والمزايا المتصلة به، يصبح النظام الصهيوني، كونه معتمدًا على هذه المزايا، عرضة للتحدي من داخل إسرائيل نفسها.

لا يعني هذا أنه ليس ثمة ما يمكن أن يفعله الثوريون داخل إسرائيل سوى القعود في انتظار ظهور ظروف خارجية موضوعية ليس لهم القدرة على التأثير فيها. ولكنه يعني فقط أن عليهم أن يؤسسوا حراكهم على استراتيجية تعترف بالملامح الفريدة للمجتمع اﻹسرائيلي، بدلًا من استراتيجية تعيد إنتاج تعميمات تحليل الرأسمالية الكلاسيكية. والمهمة الرئيسية للثوريين الذين سيقبلون هذا التكليف هي توجيه عملهم نحو تلك الشرائح من السكان اﻹسرائيليين المتأثرة مباشرة بالنتائج السياسية للصهيونية والتي عليها تحمل تكاليفها. وتضم هذه الشرائح الشباب اﻹسرائيلي المدعو لشن "حرب أبدية فرضها القدر"، والعرب الفلسطينيين الذين يعيشون تحت حكم إسرائيل.15 تتشارك هذه الشرائح في ميل معاد للصهيونية مما يجعلهم حلفاء ممكنون في الصراع الثوري داخل إسرائيل والصراع الثوري عبر الشرق اﻷوسط كله. وسيدرك كل من يتابع عن كثب الصراعات الثورية في العالم العربي العلاقة الجدلية بين الصراع ضد الصهيونية داخل إسرائيل وبين الصراع في سبيل ثورة اجتماعية داخل العالم العربي. مثل هذه الاستراتيجية لا تنطوي ضمنًا على ضرورة إهمال الحراك داخل الطبقة العمالية اﻹسرائيلية، وإنما تنطوي على أن هذا الحراك ينبغي إخضاعه لاستراتيجية عامة للصراع ضد الصهيونية.

دور إسرائيل في إفريقيا وآسيا

العلاقة الرئيسية ﻹسرائيل بالإمبريالية هي ككلب حراسة في الشرق اﻷوسط، يُمول ويُميز لخدمة هذا الغرض. ولكن بينهما علاقة ثانوية أخرى، وهي العمل كقناة يوجه من خلالها المال والأيديولوجية إلى البلدان النيوكولونيالية* في آسيا وإفريقيا. ومن الواضح أنه من مصلحة إسرائيل أن تبني صلات اقتصادية وسياسية مع الدول اﻷفريقية والآسيوية غير العربية وأن تعزز النفوذ المناصر لها  هناك، وفي نفس الوقت تجد اﻹمبريالية اﻷمريكية أن تمرير مساعداتها من خلال تكنيك “الطرف الثالث” ملائمًا أكثر من الكشف عن نفسها بتنظيم المساعدات مباشرة. يتحقق هذا المشروع بثلاثة طرق مختلفة: 1. يوضع "خبراء" إسرائيليون ذوو مستو عال من التدريب تحت تصرف الدول الأفريقية، وغالبًا في مواقع هامة استراتيجيًا. 2. يتلقى أفراد فئات مختلفة، تشمل الطلبة، الموظفون المدنيون، القادة العماليون، العسكريون اﻷفارقة تدريبًا متخصصا في إسرائيل نفسها، ويقدم هذا التدريب عادة بسرعة وبكفاءة. 3. أنشأ رجال اﻷعمال اﻹسرائيليون وحكومتهم مشروعات اقتصادية مشتركة مع الدول اﻹفريقية والقطاع الخاص بها.16

نما برنامج المعونة اﻹسرائيلي لأفريقيا منذ عام 1950، وخدم أثناء نموه كلًا من المصالح اﻹسرائيلية المحددة والمصالح الواسعة للإمبريالية العالمية. فقد حُشدت قطاعات مختلفة من الدولة اﻹسرائيلية لتنفيذ هذه السياسة، وكان اثنان من هذه القطاعات هما اتحاد العمال (الهستدروت)، والجيش (تساحال). وسهلت الطبيعة الخاصة للهستدروت، كونه صاحب عمل واتحاد عمال محلي في الوقت نفسه، التغلغل اﻹسرائيلي داخل العالم الثالث، حيث يجد المرء عادة بنية تقوم على حزب حكومي واحد واتحاد عمال واحد. ويتخذ هذا التغلغل مكانه كوظيفة لمصالح إسرائيل بخاصة ولتعزيز دمج مصالحها بمصالح اﻹمبريالية. وتقول مجلة فورين أفيرز اﻷمريكية في عام 1959: "باﻹمكان أن تكون إسرائيل نموذجًا يُقدم "كقوة اقتصادية ثالثة". فإسرائيل بديل يختلف عن النموذج الغربي، ولكنه بالتأكيد أكثر قابلية للتوافق مع مصالح العالم الحر من النموذج الشيوعي". السيد أرنولد ريفكين، كاتب هذا المقال كان مديرًا لمشروع البحث الأفريقي في "مركز الدراسات الدولية"، الذي نظمته وكالة المخابرات اﻷمريكية في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا. ولاحقًا في كتاب نشر في عام 1961، كان ريفكين أكثر تحديدًا حول الدور الذي تلعبه إسرائيل في التغلغل الأوروبي في إفريقيا: "دور إسرائيل كقوة ثالثة يمكن أيضًا تعزيزه باستخدام مبدع لتكنيك الطرف الثالث. فيمكن لدولة من العالم الحر ترغب في توسيع تدفق دعمها لأفريقيا أن تمرر جزءًا منه من خلال إسرائيل بسبب مقوماتها الخاصة ونفاذها الواضح إلى عديد من البلدان اﻹفريقية". 17

المعروف في إسرائيل عن هذا الجانب من نشاط الهستدروت قليل، فهو يفضل الدعاية لمعهده الأفريقي الآسيوي. لخص مدير الإدارة السياسية للهستدروت (وهو بمثابة وزير خارجية الهستدروت الذي يعمل في تعاون وثيق مع وزير الخارجية الحقيقي) أنشطة المعهد الأفريقي الآسيوي على النحو الآتي: "المعهد الذي أقامه الهستدروت في 1960... هو صلة هامة في نشاطه العالمي، خاصة في الدول منخفضة التنمية في إفريقيا وآسيا. ولكن نشاطه وشهرته العالمية يسهمان في تعزيز صلات الهستدروت مع البلدان والمنظمات اﻷخرى. وحتى تاريخه، درّب الهستدروت 1848 مندوبًا من الاتحادات العمالية والتعاونيات، من معاهد التربية المتقدمة، وكذا مسؤولون رفيعون من 85 بلدًا في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية... وقد دُعي المعهد إلى تنظيم ندوات في دول أفريقية وآسيوية مختلفة... وكان دارسو المعهد السابقون، الذين يشغلون اليوم مناصب رفيعة في دولهم ومنظماتهم، هم من أخذوا زمام المبادرة لعقد مثل هذه الندوات في الدول التالية: نيجيريا (مرتان)، داهومي، توجو، ساحل العاج، ليبيريا، سنغافورة، كوريا (مرتان)، سيلان، الهند، ونيبال. وشارك في هذه اﻷنشطة حوالي 500 شخص. وسوف يتم تنظيم ثلاث ندوات قصيرة للناشطين من اتحاد العمال القبرصي في الشهر القادم. كما يحتوي برنامج عام 1970 الدول التالية: سوازيلاند، ليسوتو، بوتسوانا، زامبيا، سنغافورة، هونج كونج، كوريا... وغيرها تباعًا". 18

أكد جورج ميني رئيس الفيدرالية اﻷمريكية للعمال ومجلس المنظمات الصناعية AFL-CIO التي تمول المعهد الأفريقي اﻵسيوي، بوضوح:  “إن الهستدروت هو مركز قومي يعمل من أجل الديموقراطية والحرية في العالم الحر، وبصفة خاصة في آسيا وأفريقيا، بوساطة المعهد اﻹفريقي اﻵسيوي التابع له”.19

وقد بدأ الدعم إسرائيل العسكري المباشر للدول الأفريقية في عام 1960، وهو يشمل الدعم العام للحكومات النيوكولونيالية، إلى جانب مساندة تلك القوى القابعة على اﻷطراف الجنوبية للعالم العربي والتي يمكنها أن تعزز المصالح اﻹمبريالية. وشمل النوع اﻷخير، إمداد حملة حكومة تشاد المضادة للمليشيات بخبراء عسكريين، وعون حركة المليشيات في جنوب السودان. وقدمت إسرائيل أيضا الدعم لحملة إثيوبيا ضد حركة التحرير الإريترية. وفي دول أخرى، منها تنزانيا والكونغو، دربت إسرائيل أفراد بالقوات الجوية والبحرية والجيش، وقدمت إمدادات بالسلاح والمشورة ﻹنشاء مستوطنات زراعية شبه عسكرية على غرار المستوطنات اﻷولى في إسرائيل نفسها. نُفذ كثير من هذه المشروعات بالتعاون مع برامج المعونة اﻷمريكية أو مع منح أمريكية مررت من خلال إسرائيل.20 وكانت إسرائيل أقل نجاحا في تنفيذ مثل هذا البرنامج في آسيا، مع استثناء ملحوظ في سنغافورة، حيث تساعد في دعم استراتيجية بريطانيا شرق السويس. ومنذ عام 1966 كان خبراء إسرائيليون، قدموا على أنهم "خبراء زراعيون مكسيكيون"، قد دربوا الجيش السنغافوري، وأمدوه بالدبابات والمعدات اﻹلكترونية.21

أي الطبقات هي الحاكمة؟

ميز إخضاع الاقتصاد بأكمله للاعتبارات السياسية الاستعمار الصهيوني منذ بدايته الأولى، وهو مفتاح فك شفرة الطبيعة الفريدة للطبقة الحاكمة اﻹسرائيلية. فلم يتقدم الاستعمار الصهيوني كعملية استعمارية رأسمالية عادية تدفعها اعتبارات الربح. فمثلًا فضلت العناصر البرجوازية في هذا الاستعمار دائمًا توظيف العمالة العربية. ولكن بيروقراطية العمل الصهيونية صارعت ضد هذا وطالبت بسياسة "عمالة يهودية فقط". كان ذلك صراعًا مريرا تم خوضه طوال العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، وشكّل الصراع الرئيسي داخل المجتمع الصهيوني في فلسطين. وقد انتصرت بيروقراطية العمل الصهيونية في هذا الصراع في النهاية، وذلك إلى حد كبير بسبب الدعم الذي تلقته من الحركة الصهيونية العالمية. تأسس هذا الدعم على اعتبارات سياسية، ﻷن غرض الصهيونية السياسية قد كان منذ البداية اﻷولى، هو إنشاء دولة قومية يهودية خالصة في فلسطين وإزاحة السكان الأصليين. وقد كتب ثيودور هيرتزوج مبكرًا في عام 1895 في يومياته: "ينبغي أن ننتزع الأراضي ذات الملكية الخاصة في المناطق المخصصة لنا من أيدي ملاكها بالتدريج. وسنحاول نقل اﻷفقر بين السكان بهدوء خارج الحدود بأن نمدهم بعمل في البلدان الانتقالية، ولكننا سنحرمهم من أي فرصة للعمل في بلدنا. أما أصحاب الملكيات فسينضمون إلينا. وينبغي أن يتم نقل ملكية اﻷراضي وتهجير الفقراء بلطف وعناية. لندع ملاك اﻷراضي يعتقدون أنهم يستغلوننا بحصولهم على أسعار مبالغ فيها. ولكن لن يتم بيع أي أراض مرة أخرى إلى ملاكها". 22

كان هذا الاعتبار، متجسدًا في الحركة الصهيونية العالمية، هو ما رجح كفة الميزان لصالح بيروقراطية العمل الصهيونية في فلسطين ولسياستها: "عمالة يهودية فقط". وأنشأت هزيمة العناصر البرجوازية نمطًا من الحكم المشترك لعبت فيه بيروقراطية العمل الدور اﻷعلى بينما لعبت البرجوازية الدور اﻷدنى، مندمجين لتشكيل طبقة حاكمة جنينية جديدة. هذه التركيبة الخاصة داخل المؤسسة الحاكمة بقيت دون تغيير منذ الأربعينات وحتى اليوم، وهي تشكل ملمحًا فريدًا للمجتمع اﻹسرائيلي. وإذا كانت اﻷيديولوجية المهيمنة في مجتمع ما هي أيديولوجية الطبقة الحاكمة، وإذا كانت هوية الطبقة المهيمنة غير واضحة، يمكن للمرء أن يحاول تحليل الأيديولوجية المهيمنة نفسها ليستنتج منها هوية الطبقة الحاكمة. وفي إسرائيل لم تكن اﻷيديولوجية المهيمنة رأسمالية على اﻹطلاق، بل كانت خليطًا من العناصر البرجوازية مندمجة مع أنماط وأفكار مهيمنة خاصة بحركة العمل الصهيونية، وهي أفكار مستمدة من الحركة الاشتراكية في شرق أوروبا، ولكنها تحولت لتعبر عن أهداف الصهيونية السياسية.

هذا التوازن بين القطاعات المختلفة من الطبقة الحاكمة ليس ثابتًا، ومؤخرًا مال هذا التوازن لصالح الشريك البرجوازي. أحد أعراض ذلك هو الانقسام بين السيدة مائير* وبن جوريون** من جانب وبين تلميذهم ديان*** من جانب آخر. وكانت المسألة هي تلك المشكلة القديمة ذاتها: توظيف الفلسطينيين من اﻷراضي المحتلة للعمل في الاقتصاد اﻹسرائيلي. كانت مائير معارضة بقوة لهذه السياسة، في حين دعمها ديان ودعمت هآرتس الجريدة البرجوازية ديان. ولكن أيًا ما كانت التوجهات السائدة في أية لحظة، تظل بيروقراطية العمل مهيمنة من خلال مراكزها الثلاثة: الحكومة، الوكالة اليهودية، والهستدروت. فهي باستخدام الجهاز الضخم للدولة والاتحادات العمالية تظل مهمينة على المجتمع اﻹسرائيلي ومعظم الاقتصاد. ففي عام 1960 أنتج القطاع الخاص 58.5 في المائة فقط من مجمل منتج الاقتصاد اﻹسرائيلي،23 ومن غير المرجح أن تكون هذه النسبة قد تغيرت كثيرا في العقود التالية.

ولكن السلطة الاقتصادية لبيروقراطية العمل الصهيونية أكبر كثيرًا مما يشير إليه هذا الرقم. فبعيدًا عن سيطرتها المباشرة على الدولة والهستدروت، فإن لها سيطرة بيروقراطية غير مباشرة على القطاع الخاص. وتتخطى هذه السيطرة التدخل العادي للدولة في الاقتصاد من النوع الحادث في معظم البلدان الرأسمالية. فالاقتصاد اﻹسرائيلي بأكمله، بما في ذلك القطاع الخاص، يعتمد على الدعم الخارجي المتدفق في معظمه من خلال قنوات تسيطر عليها الدولة. وتوجه بيروقراطية العمل تدفق الدعم من خلال سياسات وزارة المالية والوكالة اليهودية. ويمنحها ذلك أيضًا قبضة مفيدة على الشريك الرأسمالي. إن إسرائيل هي شكل فريد من الرأسمالية، يحكمها شراكة طبقية فريدة. فتحكّم البيروقراطية في تدفق المنح من الخارج يمكّنها من ممارسة تحكمًا بعيد المدى في قطاعات واسعة من السكان، ليس فقط في اﻷمور السياسية والاقتصادية، ولكن حتى في جوانب الحياة اليومية. فغالبية سكان إسرائيل يعتمدون مباشرة وبصفة يومية على النوايا الحسنة للبيروقراطية، للحصول على وظائفهم، وسكنهم، وتأمينهم الصحي. وبعض العمال الذين تمردوا ضد البيروقراطية، مثل البحارة في إضراب ديسمبر عام 1951، قد حرموا من التوظيف، وبعض الذين رفضوا الانصياع أجبروا في النهاية على الهجرة إلى الخارج. وفي نفس الوقت، ليس ثمة خدمة صحية في إسرائيل، بخلاف تلك التي يقدمها الهستدروت، ومن يرفضون الانضمام إليه ويقاومونه يحرمون من التأمين الصحي. إن مفتاح القبضة التي تحكمها البيروقراطية على البروليتاريا هو حقًا الاتحاد العمالي، الهستدروت.

الهستدروت: المصلحة القومية قبل الطبقية

قد يبدو العمال اﻹسرائيليون في موقع يحسدون عليه، حيث يُعطي اتحاد العمال، المعروف ببساطة باسم "الاتحاد" (هستدروت)، الانطباع بكونه اتحاد عمالي متقدم وقوي. ومن وجهة بعينها، الهستدروت ومؤسساته حقًا استثنائيين: فهو يضم 1.1 مليون عضو، من بين إجمالي سكان يبلغ حوالي 3 ملايين نسمة، ويعمل ربع العاملين بأجر اﻹسرائيليين في جهات تخص الهستدروت، وهو طوال أعوام كان مسؤولًا عن حوالي 22 إلى 25 بالمائة من صافي الدخل القومي اﻹسرائيلي. أسس الهستدروت عام 1920 أثناء مؤتمر عام للعمال اليهود، وعرف حتى عام 1966 باسم "الكونفدرالية العامة للعمال العبريين في أرض إسرائيل". ووفق مؤرخ صهيوني، كان عدد العمال اليهود في فلسطين عام 1920 حوالي 5000 عامل، في حين كان ثمة 50 ألف عامل عربي.24 وقد قصر مؤسسو هذا الاتحاد "العام"، الذين ألهمتهم جميعا الأيديولوجية الصهيونية، ومعظمهم ينتمي إلى البرجوازية الصغيرة، عضوية الهستدروت على اليهود حصرًا، وتحديدًا على اليهود "الذين يعيشون على ثمار عملهم" – العمال، الحرفيون، التجار، وذوي اﻷعمال الحرة. وعندما وضعت المبادئ اﻷساسية للهستدروت، أوضح المؤسسون أن “المصلحة القومية” لها اﻷولوية على “المصلحة الاقتصادية والمصالح الثقافية”. ولم تٌثر المقاربة الأممية للطبيعة الطبقية للمجتمع في المؤتمر التأسيسي للهستدروت على اﻹطلاق، ولا حتى من قبل أقلية. وأنشأ الهستدروت بعد عام من تأسيسه أولى مشروعاته، وكانت تلك شركة كبرى تعمل في المرافق العامة هي “سوليل بونيه”، وبنك العمال، وتأسس اﻷخير بشراكة مع المنظمة الصهيونية العالمية. وقد انخرطت سوليل بونيه في أعمال إنشائية مختلفة في أنحاء عدة من العالم خلال اﻷعوام القليلة الماضية، فقامت على سبيل المثال ببناء فنادق فاخرة في دول أفريقية بعينها، وأنشأت طرقًا ومنشآت عسكرية مختلفة في عديد من الدول اﻵسيوية، بما في ذلك قواعد جوية أمريكية في تركيا. وقد أدت حقيقة أن الهستدروت جعل من المصالح الصهيونية منذ البداية همه اﻷول على حساب دوره كاتحاد عمال، إلى بنية تنظيمية هرمية إلى أقصى حد. فقد أقيمت آلية بيروقراطية بحيث أُخضع تنظيم اتحاد العمال بالكامل للإدارة و”الرؤساء” السياسيين – الذين كانوا دائما من أحزاب صهيونية. فلم يكن هناك حتى حدًا أدنى من الاستقلال في اتحاد العمال في الهستدروت على اﻹطلاق.25

لم يكن الهستدروت معنيًا فحسب بدوره في الحفاظ على العزلة القومية لليهود، الذين عاشوا في وسط عربي باﻷساس. لكنه كذلك، ومنذ إنشائه، كان في مقدمة الاستعمار الصهيوني لفلسطين. فقد جعل منه موقعه المختار بين مستعمري البلاد من الصهاينة، وتنظيمه القوي إلى أقصى حد، رائدًا في عملية الاستعمار الزراعي، وكسب مواقع العمل للعمال اليهود بطرد الفلاحين والعمال العرب. ووجدت الشعارات الصهيونية في العشرينات والثلاثينات "غزو العمل" و"غزو اﻷرض" مطبقيها الأساسيين في الهستدروت. وقد أوضح قائده بيرل كاتزنيلسون: "إن الهستدروت فريد بين اتحادات العمال، ﻷنه اتحاد يخطط وينفذ في نفس الوقت. وليس هذا بسبب حكمتنا وسرعة بديهتنا. لقد كانت هذه هي دائما رؤيتنا، في كل أفعالنا. منذ اللحظة التي يصل فيها المهاجر الشاب إلى شواطئ فلسطين ويبحث عن عمل في المزارع، يجد نفسه في مواجهة واقع صعب، وفي ذات الوقت، يجد نفسه في عالم صنعته رؤيتنا".26 وفي وقت لاحق، لخص بنحاس لافون، السكرتير العام للهستدروت حينها، الدور التاريخي للاتحاد: "تأسس  الاتحاد العام للعمال قبل أربعين عامًا على يد آلاف من الشباب الراغبين في العمل في بلد يفتقر إلى التنمية، حيث كان العمل رخيصًا، وهو بلد لفظ سكانه وكان عدائيًا ضد القادمين الجدد إليه. في ظل هذه الظروف كان تأسيس الهستدروت حدثًا مركزيًا في عملية إعادة ميلاد الشعب العبري في بلد اﻵباء. فالهستدروت هو منظمة عامة حتى النخاع. فهو ليس اتحاد عمال، وإن كان يلائم الحاجات الحقيقية للعمال على أكمل وجه".27 بكونه "عاما حتى النخاع"، أصبح الهستدروت عمليًا القوة المركزية للمجتمع اليهودي بأوجهه المتعددة. فقد نظم القوات المسلحة الصهيونية، أحيانا بالتآمر مع الاحتلال البريطاني، وفي أحيان أخرى سرًا، ضد رغبات هذا الاحتلال. وقد خلق منظومة للأمن الاجتماعي، هي الوحيدة القائمة في إسرائيل، والتي أصبحت سلاحًا هامًا للهيمنة على الجماهير من اليهود وعلى تنظيم العمال تحت سلطة الهستدروت. وقد فتح مكاتب التوظيف في كل مكان، معززًا بذلك هيمنته، ومنظمًا في الوقت نفسه الحق في العمل. وهو يملك شبكته الخاصة من المدارس، وجمعياته التنموية، وشركانه الإنتاجية والخدمية. وهو كمنظمة يهيمن بشكل كامل على الكيبوتزات والمزارع الجماعية في أنحاء البلاد. فليس من فراغ أن يعتبر الهستدروت العماد المركزي للمشروع الصهيوني منذ بدئه، أو كما يقول الصهاينة "الدولة في شكلها الجنيني".

وقد قررت قيادة الهستدروت الخط السياسي للمجتمع اليهودي، سواء في شؤون "المصلحة اليهودية"، أو في علاقته بالمحتل البريطاني أو الجماهير العربية. وأتى كل القادة السياسيين لدولة إسرائيل -دافيد بن جوريون، ليفي أشكول*، جولدا مائير- من بين صفوف الهستدروت.

أنشأ الهستدروت قسمًا خاصًا بالعمال العرب، فقط في نهاية فترة الانتداب البريطاني، عام 1943، كان الغرض منه تنظيمهم في إطار صوري وتابع، وذلك لصرفهم عن النضال السياسي، أي النضال المضاد للإمبريالية وللصهيونية. وقد لخص مؤرخ صهيوني متخصص في الشئون العربية وعضو بالهستدروت التجربة: "بينما يتطور الشعور القومي بين العمال (العرب) تصبح مقاومتهم لهؤلاء الراغبين في تنظيمهم من خارجهم أقوى. فاﻷكثر ذكاءً وديناميكية بينهم لم تتح له مطلقًا فرصة إظهار موهبتهم أو مبادرتهم. ويوضح منشور بالعربية (نشره الهستدروت)، أنه ينبغي العناية فقط بالمصالح الاقتصادية للعمال العرب، وينبغي استبعاد كل نشاط سياسي. وهذا شرط يصعب أن يقبله هؤلاء الواعون بالحياة العامة والقريبون منها. فمفهوما العمل وغزوه الذين يتمسك بهما الهستدروت، هما معوقين بنفس القدر، حيث يجعلان من الصعب إيضاح اﻷمور بشكل مقنع لعامل عربي. ويثير التمييز في اﻷجور بين العمال اليهود والعرب حفيظة اﻷخيرين، خاصة وأن ظروف العمل ومستويات اﻷسعار تميل إلى أن تكون متساوية. وفي ظل هذه الظروف، يسهل للمنظمات العربية أن تبعث أعضاءها إلينا ليطرحوا "أسئلة ساذجة" أثناء مسيرات يوم العمال، مثل "هل يتوافق التضامن البروليتاري مع الدعوة إلى غزو العمل، وإلى إنشاء دولة يهودية؟".28 لم يمكن لأي صهيوني إجابة هذا السؤال. ولا يمكنهم إجابته اليوم أكثر مما أمكنهم باﻷمس.

أزمة ثقة في الهستدروت

أصبح تكامل الهستدروت داخل المنظومة الصهيونية الحاكمة أكثر وضوحًا مع إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948. يشكل القطاع الاقتصادي للهستدروت، باهتماماته باﻷعمال وثروته الضخمة، جزءًا من القطاع العام، الذي كان على نموه أن يتسارع مع وصول المهاجرين الجدد، ومع تدفق رأس المال إلى الدولة الجديدة في الوقت ذاته. وجعل الهستدروت من الممكن تشكيل اقتصاد مؤمم. وقد انهارت مع الاستقلال النظرية التي روج لها قادة الهستدروت ﻷعوام، والتي وفقًا لها يشكل القطاع الاقتصادي للهستدروت اﻷساس الذي تنشأ عليه الاشتراكية. وثبت أيضًا خطأ حجة أخرى رددت دائما، وهي أن القطاع الاقتصادي للهستدروت يخص العمال. وقد كان على وزير الزراعة، حاييم جفاتي، وهو واحد من القادة الرئيسيين للهستدروت، أن يعترف خلال مؤتمر الهستدروت عام 1964: "لم ننجح في تحويل هذه الثروات الضخمة إلى خلايا اقتصادية اشتراكية. ولم ننجح في الحفاظ على الطبيعة الطبقية العمالية لقطاعنا الاقتصادي. وفي الواقع، ليس ثمة ملامح مميزة له عن بقية القطاع العام، وأحيانًا حتى عن القطاع الخاص. ولا يختلف المناخ ولا علاقات العمل ولا العلاقات اﻹنسانية في قطاعنا الاقتصادي بأي حال عن أي مشروع صناعي آخر". 29

ويمكن أن نجد استكمالًا وتجسيدًا لهذه الملاحظات في سلوك العمال اﻹسرائيليين تجاه الهستدروت. ويمكن اقتباس اﻷكثر إثارة للاهتمام بين كل اﻷدلة على هذه النقطة من الهستدروت نفسه، كما نشره في كتابه السنوي لعام 1966. "يلاحظ عدد كبير من العمال بالكاد أنشطة اتحاد العمال الخاصة بالهستدروت، ويعتبرون أن وضعهم لم يكن ليتغير إذا لم يكن ثمة اتحاد للعمال". ووفق تحقيق أجراه الهستدروت، ضُمنت نتائجه بالكتاب السنوي، اعتقد عدد متزايد من العمال أن اﻷفرع المحلية لاتحاد العمال في أماكن عملهم (وتسمى "لجان العمال" في إسرائيل) ينبغي أن تكون مستقلة عن الهستدروت. وأشار 20 بالمائة من أصحاب اﻷجور إلى أن الإضرابات قد نظمت في منشآتهم على عكس نصيحة الهستدروت. فيما اعتقد 47 بالمائة أن من اﻷفضل في حالات معينة أن يقوم العمال باﻹضراب دون تصديق من الهستدروت. ويمضي الكتاب السنوي قائلا: "بل إن استنتاجات التحقيق في لجان الحراك هي أكثر خطورة" (هذه لجان شكلت ضد موافقة الهستدروت وإما هدفت إلى تنظيم إضرابات متمردة أو حراك متمرد، أو في أثناء أي منهما). "في مقابل 8 بالمائة من أصحاب اﻷجور، الذين ذكروا أن اﻹضرابات التي وقعت كانت على عكس نصيحة الأفرع المحلية لاتحاد العمال، كان من رأي 29 بالمائة أن مثل هذه اﻹضرابات مبررة في حالات معينة. وباختصار، يزداد الميل إلى الخروج على النظام القائم قوة، فيما يخص علاقات العمل ...". ويظهر اﻹصدار نفسه أن غالبية أعضاء الهستدروت يعتبرون أن مؤتمر اتحاد العمال لا نفوذ له على عمل اللجنة المركزية. وبين اﻷقلية التي تعتقد أن اﻷعضاء العاديون يمكنهم ممارسة بعض النفوذ، لا يزال ثمة أغلبية تقدر أن هذا النفوذ غير كاف. ويقول المصدر الرسمي نفسه إن 70 بالمائة أجابوا على السؤال "لماذا أنت عضو بالهستدروت؟" بأن ذلك كان "أمرا آليًا"، أو "لأنهم أرغمونا"، أو "لأنه كان اﻷمر المعتاد"، أو "بسبب التأمين الاجتماعي". وذكر أقلية (16 بالمائة) أنهم ينتمون للهستدروت ﻷسباب أيديولوجية، في حين قال 15 بالمائة أنهم أعضاء ﻷن الهستدروت يدافع عن مصالح العمال. ويخلص الكتاب السنوي إلى أن "غالبية أعضاء الهستدروت، أي 55 بالمائة قد انضموا من تلقاء أنفسهم، وانضم الثلث (24 بالمائة) آليًا بمجرد هجرتهم إلى إسرائيل، والخُمس (20 بالمائة) وجدوا أنهم أصبحوا أعضاءً بشكل آلي لأنهم سُجلوا بهذه الصفة عند توظيفهم". ويعبر قادة الهستدروت والدوائر الصناعية وأعضاء الحكومة اﻵن علنًا عن قلقهم مما يسمونه  "أزمة ثقة" العمال تجاه الهستدروت. وتسوء هذه اﻷزمة عامًا بعد اﻵخر. وهي في الواقع السبب في تغيير القيادة العليا للهستدروت عام 1969، عندما تم استبدال السكرتير العام اﻷسبق، آهارون بيكر، بإسحاق بن آهارون، المعروف بطابعه الخطابي القوي، وعبارات الطبقة العاملة التي يستخدمها بشكل اعتيادي. وكل من السكرتير العام السابق والجديد، عضو بحزب العمال الحاكم.

اﻹضرابات المتمردة ولجان الحراك

وقعت بعض اﻹضرابات الهامة في التاريخ القصير للنضال العمالي في إسرائيل. وقع اﻷول في عام 1951، في وقت باكر نسبيًا بعد إنشاء دولة إسرائيل، وهو اﻹضراب الشهير للبحارة. تاليًا أتت سلسلة من اﻹضرابات في عام 1962 بعد تخفيض قيمة الليرة اﻹسرائيلية*، ووقعت الموجة الثالثة في عام 1969، بإضراب عمال البريد وعمال ميناء أشدود. وكان إضراب البحارة هو اﻷعنف في تاريخ اﻹضرابات في إسرائيل. كان ميدان المعركة هو ميناء حيفا والسفن اﻹسرائيلية فيه وفي الموانئ اﻷجنبية. وكان لهذا اﻹضراب خصوصيته ﻷنه كان إضرابًا قاده بحارة شباب بدون تقاليد نقابية، وﻷن الصراع كان حول وسائل انتخاب مندوبي الاتحاد العمالي من قبل قاعدة البحارة. ليس مفاجئًا لمن يعلمون طبيعة الهستدروت، أنه حشد فورًا كل القوى تحت تصرفه ضد اﻹضرابات. فقد اقتيد قادة اﻹضراب إلى محاكمة داخلية للهستدروت وجندوا في الجيش. وانخرطت قوات أمنية ضخمة في معارك ضارية ضد المضربين. وبالنسبة لموجة إضرابات عام 1962، فقد خلقت ﻷول مرة نوعًا من التنظيم يعرف اليوم بلجات الحراك. ومرة أخرى كانت الجبهتان محددتين بوضوح، فقد كان الهستدروت على جانب من المتاريس في حين كان العمال على الجانب اﻵخر. وخلال هذه الفترة اتخذت الخطوات اﻷولى لجمع لجان الحراك على مستوى قومي، أو إقليمي على اﻷقل – ولكن هذه المحاولة لم تكن ناجحة. في المقابل كانت إضرابات 1969 إنذارًا للحكومة وﻷصحاب اﻷعمال بأن اﻹضرابات ممكنة برغم وضع الحرب والوحدة الوطنية.وشهد إضراب عمال البريد إصدار الحكومة اﻹسرائيلية مجددًا أوامر الحشد، بموافقة الهستدروت، ضد المضربين ﻹجبارهم على العودة إلى العمل، كما تقتضي القوانين القائمة. وكسرت اﻹضرابات قوانين الدولة ومن ثم اقتيدت إلى المحاكم، ولكن المحاكمة لم تصل إلى نهايتها مطلقًا. وميز عامل آخر نضال عمال ميناء أشدود. فقد هدد الهستدروت باقتياد ناشطي الاتحاد العمالي المحلي أمام محكمة داخلية، ولكن هؤلاء ثبتوا على مواقفهم بدعم من العمال. وافتتحت المحاكمة في حضور كاميرات التليفزيون وحظيت بتغطية واسعة في البلاد. ونُدد بالعمال كعملاء لحركة فتح وكمخربين. وكانت تهديدات قيادة الهستدروت هي: “إذا ما أُدنتم فستطبق أقصى العقوبات، مما يعني أنكم ستستبعدون من الهستدروت، ومن ثم تفقدون كل مميزات التأمين الاجتماعي لكم ولأسركم”. ولكن العمال واصلوا نضالهم وانتقلوا من موقع المتهم إلى موقع المدعي. ونال الهستدروت دعاية سيئة، وسارع إلى إنهاء المشهد دون النطق بحكم.

ملحوظة: حتى عام 1959، تم فقط تضمين الإضرابات التي استمرت ﻷكثر من يوم واحد. منذ عام 1960، تم أيضًا تضمين اﻹضرابات التي استمرت ﻷكثر من ساعتين. وتشمل اﻷرقام أيضًا حالات إغلاق المنشآت، ولكنها نادرة ولا تؤثر على المقارنة بين أرقام اﻷعوام المختلفة.

أحزاب اليمين الصهيوني

تسيطر أحزاب اليسار الصهيوني على الهستدروت، فيما يعكس مركزا السلطة اﻵخرين وهما الحكومة والوكالة اليهودية طيفًا أوسع من الرأي الصهيوني. النظام الانتخابي هو بالقائمة النسبية، حيث يقدم كل حزب قائمة لكامل البلاد في الانتخابات، وتوزع مقاعد الكنيسيت (120 مقعدا) تبعًا لذلك على اﻷحزاب الحاصلة على أكثر من 1 بالمائة من أصوات الناخبين. 

تشكل اليمين الصهيوني في ثلاثينات القرن الماضي وحتى خمسينياته من حزبين هما الحزب العام للصهاينة وحيروت (الحرية). مثل الحزب العام رأس المال الخاص الصهيوني في فلسطين -ملاك مزارع البرتقال، وغيرهم من ملاك اﻷراضي، والصناعيين. وكان حزبًا رأسماليًا تقليديًا له نفس الشعارات المعتادة كما في الغرب، باستثناء أنه دعا إلى تحجيم سلطة الهستدروت، بدلًا من خصخصة الاقتصاد بالكامل. أما حزب حيروت فهو لم يؤسس على المصالح الاقتصادية بالطريقة التي أسس بها الحزب العام، وإنما أسس على الصهيونية الحركية والمتطرفة. وكانت شعاراته (منذ الثلاثينات وبعدها): "لنهر اﻷردن ضفتان، اﻷولى لنا، والثانية لنا أيضًا"، و"بالدم والنار سقطت يهوذا، وبالدم والنار ستنهض". وطالبوا بسياسة للغزو العسكري بدلًا من الاستعمار الاستيطاني، والذي كان سياسة اليسار الصهيوني. واستخدم حيروت تكتيكات فاشية في الثلاثينات، شملت القمصان البنية، والإرهاب المسلح، وأتى معظم المنخرطين فيه من بين اليهود المشرقيين الذين اجتذبتهم شعاراته القومجية الفجة. وقد اندمج هذان الحزبان في الستينات تحت قيادة بيجين*، زعيم حيروت، وشكلا كتلة حيروت الليبرالية -جاهال. (ليبرالي تعني “محافظ” في إسرائيل). وقبل حيروت في الحكومة ﻷول مرة في تاريخ إسرائيل عشية حرب يونيو ليشكل جزءًا مما سمي “حكومة الوحدة الوطنية”، ولكنه  غادر حكومة مائير في أغسطس 1970 بسبب قبولها خطة روجرز التي دعت لانسحاب إسرائيل من خطوط وقف إطلاق النار في 1967. ويتلقى الجاهال معظم دعمه المالي من الوكالة اليهودية، مثل اليسار الصهيوني.

مآزق اليسار الصهيوني

كان العمود الفقري للمشروع الصهيوني في فلسطين، منذ وقت باكر في بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا، هو اليسار الصهيوني، وبصفة خاصة المهاجرون القادمون من شرق أوروبا في اﻷعوام من 1904 إلى 1914. وقد كان هذا اليسار دائمًا إصلاحيًا قوميًا، ولكنه انقسم، حتى بهذه الصفة، مرة بعد مرة نتيجة للتناقضات الضمنية بين صهيونية واشتراكيته. ويمكن جمع التناقضات التي مر بها اليسار الصهيوني تحت العناوين الثلاث التالية:

1. السياسة الخارجية: ما الموقف الذي يمكن تبنيه في مواجهة اﻹمبريالية في الشرق اﻷوسط وغيره، وتجاه الحركة الاشتراكية حول العالم، خاصة عندما بتعارض النضال ضد اﻹمبريالية أو التعاون مع الحركات الاشتراكية مع الطموحات الصهيونية.
2. النضال الطبقي: أي سياسة تتبع تجاه أصحاب اﻷعمال في فلسطين وتجاه القطاع الرأسمالي في الصهيونية.
3. اﻷممية الاشتراكية: هل يخوض نضالًا مشترًكا أم منفصلًا عن الفلاحين والعمال الفلسطينيين ضد الرأسمالية في فلسطين، وهل يدعم الحركات الثورية اﻷخرى.

يظل كل من اختلفوا حول هذه القضايا صهاينة، أي أنهم يعتبرون هدفهم الرئيسي هو إقامة دولة قومية يهودية خالصة، يهاجر إليها اليهود من كل أنحاء العالم. وكان ثمة دائمًا مجموعات محدودة العدد خارج اليسار الصهيوني، تشكل اليسار المعادي للصهيونية. ولم يواجه هؤلاء المآزق السياسية المشار إليها هنا، وتدور خلافاتهم حول مسائل استراتيجية وتكتيك النضال ضد الصهيونية وتحقيق الاشتراكية في فلسطين. وسوف نتعرض لهم لاحقًا.

اﻷكثر أهمية بفارق كبير بين اﻷحزاب الصهيونية هو حزب العمل اﻹسرائيلي MAPAI، الذي تأسس في عام 1930 من خلال اندماج حزبين أصغر، وهو الحزب المهيمن في كل الحكومات الائتلافية في إسرائيل  منذ عام 1948. اتفق الحزبان المكونان لحزب العمل في اﻷصل على ضرورة أن يكون ليهودية الدولة اﻷولوية على التعاون مع العمال والفلاحين العرب في فلسطين. ولكنهما اختلفا حول درجة التعاون الطبقي مع أصحاب اﻷعمال الصهاينة، وقررا الاندماج فقط عندما توصلا إلى اتفاق. وكانت السياسة التي اتفقا عليها هي إخضاع المصالح الطبقية للمصالح الصهيونية داخل المجتمع اليهودي نفسه، وأصبح حزب العمل المدافع الرئيسي عن سياسة “عمال يهود فقط”. وعنت هذه السياسة الضغط على أصحاب اﻷعمال اليهود ليوظفوا فقط العمال اليهود، وتم ترهيب كل من أصحاب الأعمال اليهود، والعمال العرب، عادة باستخدام العنف، لفرض هذه السياسة. وكانت هذه هي القضية الرئيسية داخل المجتمع اليهودي في الثلاثينات، وانتصر فيها حزب العمل في النهاية، مؤمنًا بذلك دوره المهيمن.

بقي القادة مثل بن جوريون، وإشكول، وجولدا مائير مخلصين لهذه السياسة حتى اليوم ولا يزالون مهيمنين داخل إسرائيل. ولم يعتبر حزب العمل نفسه ماركسيًا أو ثوريًا في يوم من اﻷيام، ولكنه اشتراكي إصلاحي، ومع ذلك بالرغم من أن مائير تحدثت في عام 1950 عن "الاشتراكية اﻵن" فلا يدعي الحزب اليوم أي انتماء للاشتراكية. وقد تعاون هذه الحزب> بل وتآمر سرًا (كما في حرب السويس)، مع اﻹمبريالية في كل الصراعات بينها وبين القوى المعادية لها في الشرق اﻷوسط. وله مصلحة واضحة في استمرار النفوذ اﻹمبريالي في المنطقة. وقد اعتبر كل انتصار للقوى المعادية للإمبريالية تهديدًا ﻹسرائيل نفسها. وقد حدثت بعض التغييرات في الحزب بعد 22 عاما في السلطة، أهمها كان ظهور تكنوقراطية مكونة من ضباط الجيش الذين دخلوا الاقتصاد كمدراء ومتخصصين.30 وتنخرط هذه المجموعة في صراع ضد الحرس القديم، وتمثل النفوذ النامي للجيش في السياسة اﻹسرائيلية في العموم، وذلك بسبب كل من المهارات التقنية التي تضمها، والوزن المتزايد للجيش في الفترة ما بعد حرب يونيو. وقد انضم العديدون من هذه المجموعة إلى بن جوريون عندما أطيح به من السلطة في عام 1965 لتشكيل قائمة عمال إسرائيل RAFAI، ولكن عندما لاحظ هؤلاء التكنوقراط أن بن جوريون لم يعد بإمكانه العودة إلى السلطة سارعوا إلى العودة إلى الحزب الحاكم. ويسمى الحزب المعاد توحيده مجددًا حافودا (العمل)، ويمكن توقع أنه عندما يختفي الحرس القديم خلال اﻷعوام القليل القادمة ستكون هذه المجموعة الجديدة هي المهيمنة في السياسة الإسرائيلية.

ثاني أكبر أحزاب اليسار الصهيوني هو حزب العمال المتحد MAPAM، المشكل في نهايات اﻷربعينات، ومكونه الرئيسي هو هاشمور هاتزإير (الحرس الشاب)، ويعتبر حزب العمال المتحدون نفسه في اﻷصل ماركسي وثوري، وقد اقترح دولة ثنائية القومية في فلسطين، ولكن ينبغي ضمان أغلبية يهودية بدستورها، وحتى تتحقق هذه اﻷغلبية -من خلال الهجرة- تظل فلسطين تحت الوصاية الدولية. وقد تم التخلي عن الدولة ثنائية القومية في عام 1947 عندما قبلت اﻷمم المتحدة والاتحاد السوفيتي تقسيم فلسطين. وقد كان حزب العمال المتحد دائما على يسار حزب العمل في كثير من قضايا اتحاد العمال في إسرائيل، وعلى اﻷقل من حيث الخطاب فيما يخص شئون السياسة الخارجية كذلك. ولكنه بقي دائما مخلصًا للصهيونية، وقاده ذلك إلى التعاون مع الإمبريالية، كما هو الحال فيما يخص السويس. ويتذيل حزب العمال المتحد في السياسة اﻹسرائيلية حزب العمل، مع اعتراضاته عليه، ولكنه اﻷداة الرئيسية للدفاع عن الصهيونية  ضد انتقادات الاشتراكيين والماركسيين والثوريين في الداخل والخارج، ولا يزال يلعب هذا الدور، وإن كان بقدر أقل منذ عام 1967. ويشير حزب العمال المتحد دائما إلى كيبوتزاته على أنها حالة جديدة للحياة التشاركية، ولكنه لا يذكر مطلقًا أن كثيرًا منها أقيم على أراض طرد منها الفلاحون العرب، وأنه ليس ثمة كيبوتز عربي-يهودي واحد، وأنها جميعا مدعومة من المنح الصهيونية.31 ويتحدث حزب العمال المتحد عن "حق اليهود في تقرير المصير في فلسطين" ولكنه لا يعني بذلك حقوق السكان اليهود المقيمون حاليًا في إسرائيل، ولكن الحقوق السياسية ليهود العالم في فلسطين. ويصر حزب العمال المتحد، ككل الصهاينة، على الحفاظ على قانون الهجرة اﻹسرائيلي الذي يمنح حقوق هجرة تلقائية لليهود بينما يحرم منها أي أحد آخر. ومثل كل اﻷحزاب الصهيونية، تمول الوكالة اليهودية حزب العمال المتحد، ويمكنه ذلك من الحفاظ على جهاز حزبي وصحف يومية وشبكة دعاية بالخارج.

الصراع الدائم مع العالم العربي ومع التيارات المعادية للإمبريالية داخل الصهيونية، يرغمها على الاعتماد بشكل متزايد على اﻹمبريالية، وبخلق هذا ضغطًا دائما يزيح اليسار الصهيوني إلى اليمين. وفي طريقه الطويل منذ أصوله الأولى في روسيا عام 1905، تخلى اليسار الصهيوني، خطوة خطوة، عن شعاراته: عن الثورة، والاشتراكية ومعاداة الصهيونية. وتترك كل إزاحة إلى اليمين خلفها مجموعة منشقة مخلصة للشعار المتخلى عنه.

الوليد الجديد من هذا النوع هو حزب السياح (اليسار اﻹسرائيلي الجديد). وقد شكله بعد حرب عام 1967 أعضاء بحزب العمال المتحد المعارضون لتعاون حزبهم مع جبهة ديان-إشكول-بيجين، وهمهم اﻷكبر هو غياب مبادرة سلام في السياسة اﻹسرائيلية. لكن بالرغم من أنهم يعتبرون أنفسهم ماركسيين وثوريين، فإنهم يعلنون ولاءهم للصهيونية. وقد أكد محرر واحدة من منشوراتهم مؤخرا: "إن نضالنا لتغيير صورة المجتمع اﻹسرائيلي ولتعزيز سياسة سلمية ينبغي تأسيسه، بأي حال، على تأكيد مبدأي ومتسق لدولة إسرائيل ولمبادئ الصهيونية التي أسست عليها. وأي خروج عن ذلك سيقود السياح بعيدا عن الهدف الذي حدده لنفسه عندما تأسس".32 وكان السياح في الوقت نفسه قادرًا على اجتذاب الدعم من الشباب الإسرائيليين المعادين للخط الرسمي، وحضر مؤتمره الثاني (المنعقد في تل أبيب في نوفمبر 1970) 350 شخصًا -معظمهم أعضاء سابقون في حزب العمال المتحد والحزب الشيوعي اﻹسرائيلي MAKI- وأقر المؤتمر عدة قرارات دعت إلى السلام دون ضم اﻷراضي العربية، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، والمباحثات غير المشروطة مع العرب والفلسطينيين وقبول إسرائيل لمهمة جارينج*.

اليسار غير الصهيوني

وجدت قوتان خارج المعسكر الصهيوني هما الحزب الشيوعي الإسرائيلي RAKAH، ومجموعة ماتزبن. أسس الحزب الشيوعي اﻹسرائيلي في نهايات العشرينات، ويكاد يكون حزبًا ستالينيًا منذ بدايته، وبقي كذلك حتى اليوم. وتعرض الحزب لانشقاقات عديدة في تاريخه، كان معظمها حول سؤال: أي سياسة ينبغي تبنيها تجاه القومية العربية. وفي العموم اتبع الحزب دائمًا السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي. وكان الموقف اﻷحدث بين كثير من المواقف الشائنة التي أدت إليها هذه السياسة هو دعم الحزب لخطة روجرز* اﻷمريكية للسلام. الهدف من هذه الخطة هو إقرار التركيبة السياسية في المنطقة وتعزيز كل من النظام الصهيوني والأنظمة الرجعية العربية. وقد عرف الحزب الشيوعي هذه الخطة في اﻷصل كمحاولة من الولايات المتحدة “لإنقاذ نفوذها المتداعي في العالم العربي”. 33 ولكنه لاحقًا دعا إلى نضال مشترك لكل القوى المحبة للسلام في إسرائيل لتنفيذها. ومفتاح هذا الموقف الشائن هو سياسة الاتحاد السوفيتي، حيث أن خطة روجرز هي نتيجة اتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

في عام 1965 وقع انشقاق في الحزب، عندما طالبت قيادته المشكلة من ميكونيس وسنيه، والتي مالت دائمًا للصهيونية، بسياسة "بناءة أكثر" تجاه الصهيونية. وكانت هذه المجموعة قد دعمت حرب يونيو 1967 وتقدمت بطلب عضوية في المؤتمر الصهيوني. وبرغم استيلائها على الجريدة اليومية الرسمية للحزب واسمها "ماكي MAKI”، فقد كان لها بالكاد أي نفوذ في إسرائيل. المجموعة الثانية بقيادة فيلنر وتوبي، هي الحزب الستاليني القديم ذاته، ولها عدد متساو من اﻷعضاء العرب واليهود، وتظهر تحت اسم القائمة الشيوعية RAKAH. وفي الواقع لا شيء جديد فيه.

دافع الحزب الشيوعي دائمًا عن حقوق العرب الفلسطينيين، ليس حقهم في تقرير المصير فحسب، ولكن كثيرًا من حقوقهم اليومية داخل إسرائيل. وقد خاض نضالًا نقابًيا يوميًا شجاعًا للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، ولكنه تخلى عن نظرية الثورة وممارستها منذ زمن بعيد. وهو اﻵن مكرس لشعار "الطريق السلمي للاشتراكية"، ويعتبر أن الهدف الرئيسي هو "السلام والديموقراطية".

كان هذا الغياب للسياسة الثورية هو ما أجبر مجموعة من اﻷعضاء على مغادرة حزب MAKI في عام 1962 لتشكيل المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية، المعروفة على نحو أفضل باسم مجلتها، ماتزبن Matzpen (البوصلة). وقد قبلت هذه المجموعة مواقف الحزب الشيوعي من حق الشعب الفلسطيني وكذا الإسرائيلي في تقرير المصير. وهي تعطي للنضال ضد الصهيونية اﻷولوية وتخضع له كافة القضايا اﻷخرى، مثل نضال الطبقة العاملة الاقتصادي. وتعتبر أن الإطاحة بالصهيونية هي المهمة الأولى التي تواجه الثوريين في إسرائيل. في الوقت ذاته تعتقد المجموعة أن الشعب اﻹسرائيلي، على خلاف المجتمع اﻷبيض في جنوب إفريقيا، يمكن تثويره من الداخل، فقط إذا ما امكن إخضاع هذا التطور للتطورات الثورية في العالم العربي. وقد حازت ماتزبن، برغم صغر حجمها، نفوذًا بين الشباب في إسرائيل، خاصة بعد حرب يونيو 1967، التي عارضتها. وخاضت ماتزبن حوارًا مع التيارات اليسارية داخل حركة المقاومة الفلسطينية، وفي أنحاء العالم العربي. وهي تدعم النضال ضد الإمبريالية والنضال الفلسطيني ضد الهيمنة اﻹسرائيلية. ولكنها لا تدعم القومية العربية، أو الناصرية. وقد انشق مؤخرًا عن ماتزبن تياران حول هذه القضايا. أحدهما يعتبر النضال ضد الصهيونية غير ذي صلة ويدعو إلى “نضال الطبقة العاملة ضد السياسات البرجوازية”، بينما يعتبر الآخر القومية العربية قوة ثورية. كان مثل هذا الانشقاق متوقعًا، ولكن غالبية أعضاء ماتزبن قد اختاروا رفض هذين الخطين. وتعتقد ماتزبن أن الثوريين في إسرائيل لهم دور هام يلعبونه للمساهمة في اﻹطاحة بالصهيونية داخل المجتمع الإسرائيلي، وفي ذلك لا تختلف ماتزبن فقط عن السياح SIAH وعن الحزب الشيوعي، ولكنها تختلف كذلك عن المجموعات التي انشقت عنهما.

أوضح هذا التحليل البنية الطبقية الخاصة للمجتمع اﻹسرائيلي، والبنية الخاصة للطبقة الحاكمة. إنه مجتمع تشكل من خلال الهجرة والاستعمار لأرض مأهولة بالفعل. مجتمع تصان وحدته الداخلية من خلال الصراع ضد العدو الخارجي. وفي هذا المجتمع تتحالف الطبقة الحاكمة مع الإمبريالية وتعتمد عليها، ولكن هذه الطبقة لا تخدم اﻹمبريالية من خلال الاستغلال الاقتصادي للشعب الإسرائيلي. وتحكم هذه الطبقة من خلال مجموعة من المؤسسات البيروقراطية التي تطورت خلال عملية الاستيطان (الهستدروت، والوكالة اليهودية)، ويعمل جزء تابع منها فقط من خلال الملكية الخاصة لوسائل اﻹنتاج. لا يمكن تفسير هذه الملامح كمنتج للديناميكيات الداخلية للمجتمع اﻹسرائيلي، ومع ذلك يمكن فهمها بسهولة كمنتج لديناميكيات المشروع الصهيوني ككل. إن كل من خبرة الحراك السياسي في إسرائيل والاستنتاجات النظرية المقدمة هنا يؤدي إلى خلاصة حول استراتيجية النضال الثوري في إسرائيل: فينبغي، في المستقبل المباشر، أن يكون للنضال ضد الطبيعة الصهيونية للنظام اﻷولوية على أي شيء آخر. وينبغي أو يوجه هذا النضال إلى كسب دعم كل هؤلاء الذين يعانون مباشرة من الصهيونية. يشمل هذا كل هؤلاء الذين يُجرون في حياتهم اليومية إلى الصراع ضد النظام نفسه، مثل الشباب اﻹسرائيلي وعرب إسرائيل. إن تلك هي استراتيجية تشير إلى تمزيق الطبيعة الصهيونية للنظام.

الهوامش

1. الكتاب الإحصائي السنوي للحكومة اﻹسرائيلية، 1969.
2. موشيه دايان، في دافار، 2 مايو 1956.
3. الغالبية العظمى من هؤلاء الذين هاجروا قبل 1948 كانوا من أصول أوروبية، في الفترة بين 1948 و1951 أصبح المعدل متساويًا تقريبًا، ومنذ ذلك الحين أتت غالبية المهاجرين من خارج أوروبا. وبحلول عامل 1966 أصبح نصف سكان إسرائيل فقط من أصول أوروبية.
4. لوموند، 2 يوليو 1969.
5. مجلة اﻷدبيات الاقتصادية Journal of Economic Literature، ديسمبر 1969، ص 1177.
6. أقر هذا القانون في 1959.
7. أخذت هذه اﻷرقام من كتاب "التنمية الاقتصادية ﻹسرائيل"، بقلم كل من إن. هاليفي، وآر كلينوف-مالول. نشره بنك إسرائيل وفريدريك إيه براجر، 1968. حُذف التصنيف "مصادر أخرى"، تحت "التحويلات الرأسمالية طويلة الأجل" من اﻷرقام لكل من التحويلات طويلة اﻷجل واﻷحادية محتسبين معًا.
8. بروفسير دي. باتينكين في معاريف، 30 يناير 1970.
9. يديعوت أحرونوت، 30 سبتمبر 1970. من بين إجمالي قدره 1034 مليون دولار للمساعدات الأمريكية لدول أجنبية باستثناء فييتنام خلال عام 1970، تلقت إسرائيل 500 مليون دولار.
10. مبكرًا في ديسمبر 1970، قدمت سابير ميزانيتها لعام 1970-71، وفيها خصصت 40 بالمائة للأغراض العسكرية. شمل هذا شراء أسلحة، غطي جزئيًا بمبلغ 500 مليون دولار وعد به نيكسون، وشمل تطوير صناعة اﻷسلحة والبحوث العسكرية، والتكاليف اليومية لعمليات اﻷمن القومي.
11. أنظر "لماذا تشتري هذه اﻷمة المنتج البريطاني"، التايمز، 28 مارس 1969.
12. مصطلح "المؤسسة الصهيونية" هو المستخدم في إسرائيل تقليديا للإشارة إلى المجموعة الحاكمة الحاضرة في المجموعة المتداخلة من المؤسسات الصهيونية.
13. كان ثمة 10 صحف عبرية في يناير 1970 في إسرائيل، 7 منها هي صحف حزبية مدعومة، وضمت هذه صحف حزب العمل، دافار، ولاميرهي، وصحيفة حزب العمال الموحد "الهاميشمار". الصحف الثلاث الخاصة هي معاريف ويديعوت أحرونوت، وكلاهما صحف مسائية لها سياسات توسعية، وهآرتز، وهي صحيفة صباحية أكثر ليبرالية يديرها جريشوم شوكن. وثمة رقابة عسكرية مفعلة في إسرائيل.
14. شوكن في هآرتز، "نحن وعاهرة الموانئ. تأملات عشية العام الجديد"، 3 سبتمبر 1951.
15. نوقشت حركة المعارضة في إسرائيل، وبصفة خاصة بين طلبة المدارس الثانوية، في أكيفا أور، "إسرائيل: المعارضة تنمو"، القزم اﻷسود، 12 يونيو 1970.
16. “إسرائيل: المهمة الإمبريالية في إفريقيا”. ترايكونتيننتال 15.
17. إفريقيا والغرب، براجر 1961.
18. الهستدروت، الملحق الدولي.
19. المصدر السابق.
20. التفاصيل الكاملة للمعونة العسكرية اﻹسرائيلية ﻹفريقيا في الترايكونتننتال 15.
21. دير شبيجل، 3 نوفمبر 1969.
22. هرتزل، أعمال مختارة، طبعة نيومان، تل أبيب، المجلد السابع، الكتاب الأول، ص 86.
23. تقرير مؤسسة فولك، 1961-63. هذه البقية امتلكتها الدولة والهستدروت بنسب متساوية تقريبا.
24. العرب في فلسطين (بالعبرية)، بقلم جوزيف واشيتز، ص 151.
25. تحصّل مستحقات الاتحاد بواسطة مكاتب تحصيل خاصة أقامها الهستدروت في أنحاء إسرائيل، وتتلقي الأفرع المحلية تمويلها من المركز، وليس من أعضائها المحليين. ويحد هذا بشدة من استقلالها. وتوظف الهستدروت 30 ألف موظف دائم، ولبيروقرطيتها قبضة محكمة على أعضائها، فلا غرابة أن يعرف مبنى الهستدروت في تل أبيب بالكرملين.
26. الملحق الدولي في العيد السنوي للهستدروت، 1920-70.
27. مويد، نشره القسم الثقافي والتعليم للستدروت (بالعبرية)، 1960، ص 3.
28. العرب في فلسطين، ص 173.
29. أخبر السكرتير العام لمشروعات الهستدروت، الجناح الصناعي الذي يسيطر على 25 بالمائة من الاقتصاد، مجموعة من رجال اﻷعمال الصهاينة في لوس أنجلس في بداية 1969 أن "مشروعات الهستدروت" لم تكن مختلفة عن أي منظمة رأسمالية أخرى، برغم صلاتها باتحاد العمال، إذ من المتوقع أن تحقق ربحًا وأن تقدم عائدًا مقبولًا على رأس المال مثل أي شركة خاصة. (صنداي تايمز، 27 يوليو 1969).
30. أنظر إيلي لوبل، "التصعيد في داخل المجتمع اﻹسرائيلي"، بارتزان عدد رقم 52، مارس/إبريل 1970.
31. لم تضم الكيبوتزات مطلقًا أكثر من 5 بالمائة من السكان اليهود لفلسطين أو إسرائيل. ومن ثم، فأيًا كانت محدداته اﻷخرى، فلا يمكن القول أنها تكون المجتمع الإسرائيلي، أو أنها دليل على كون إسرائيل بلد اشتراكي.
32. جيه أميتال، محرر، في سياح عدد رقم 5، أغسطس 1970.
33. زو هادريخ، 2 سبتمبر 1970.