هوامش

حنان حماد

العلاقة القديمة والمتكررة بين سوء أحوال العباد و"اشتغالات" الانحرافات الجنسية

2017.11.01

مصدر الصورة : ويكيبيديا

العلاقة القديمة والمتكررة بين سوء أحوال العباد و"اشتغالات" الانحرافات الجنسية

 

في ردها على العمال المضربين في سبتمبر 1947، زعمت شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، المملوكة لبنك مصر، أن 3000 عامل، يمثلون 15 % من قوة العمل بها، مصابون بأمراض جنسية بسبب علاقاتهم بالداعرات. إذ ادعت مجلة "عامل المحلة"، التى كانت بوقًا للإدارة، أن بيوت الدعارة السرية تملأ المدينة، وطالبت البوليس بإغلاقها حماية لصحة وأخلاق العمال وأمن المدينة. رئيس نقابة عمال الشركة، وكان أفنديًاوعميلًا للإدارة، ألقى باللوم على الشيوعيين والداعرات وتجار المخدرات في استغلال العمال وحثهم على الإضراب.

كان عمال الشركة قد دخلوا في إضراب كامل عن العمل في الثاني من سبتمبر 1947، واستمرالإضراب لأكثر من شهر، فيما عرف بأنه أكثر إضرابات العمال المصريين دموية في العهد الملكي. سبق هذا  الإضراب سلسلة إضرابات بدأت في 1938، عندما أضرب عمال أقسام النسيج مطالبين بتحديد يوم العمل بثمان ساعات.

أتى إضراب سبتمبر 1947 احتجاجًا على سياسة الشركة القائمة على فصل العمال واستبدالهم بماكينات أحدث وعلى مزيد من المعاملة القاسية للعمال وعلى الهجوم على أحوالهم المعيشية وإهانتهم المستمرة بالضرب والسب وعلى تجريم أبسط حقوقهم كاستعمال دورة المياه أثناء العمل.

فور أنقررت الشركة فصل 12 عاملًا وأعلنت لائحة جديدة بقائمة موانع جديدة، مثل منع العمال من الصلاة ومن ارتداء القبقاب أو الجلابية أو إحضار الصحف أثناء العمل، هتف العمال بشعارات ضد الشركة وعن أحوالهم المعيشية المتدهورة وظروف العمل القاسية.ثم قتلت رصاصات بوليس الشركة عاملًا ليتفجر الموقف ويفشل بوليس المدينة في إقناع العمال بإنهاء الإضراب.

وإزاء إصرار حرس الشركة على العنف ضد العمال، انسحب بوليس المدينة واضطرت الحكومة إلى إحضار قوات بوليس من كل أنحاء الدلتا. ولما عجزت هذه القوات عن استعادة الهدوء، نشرت الحكومة قوات الجيش بدباباته ومدرعاته في أنحاء المدينة. وانتهى الموقف إلى تدمير جزء من الشركة واحتراق مكتب العمل فيها تمامًا ومقتل عدد من العمال وأهالي المحلة. بعدها أغلقت مصانع الشركة أبوابها لمدة أسبوعين عاشهما العمال على الاستدانة لسد احتياجاتهم الأساسية. وعندما عاد العمال إلى العمل مرة أخرى، اكتشفوا أن الشركة لن تعوضهم عن أيام التوقف، فانفجروا في إضراب جديد، ورغم ذلك لم تبال الشركة وأغلقت أبوابها مرة ثانية لأجل غير مسمى،وظلت مغلقة لأكثر من شهر كامل.

أصاب الإضراب وتطوراته الدرامية البلاد بالذهول.فبعد أن كان الكل معتادًا على الاحتفاء بالشركة الوطنية التي أقامها زعيم الاقتصاد الوطني طلعت حرب،غاضين أبصارهم عما ترتكبه من جرائم في حق عمالها، تغير الوضع. اضطرت صحافة القاهرة أن تكشف الأحوال المعيشية البائسة لعمال المحلة، التي كان  الباحث الاقتصادي الدكتور علي الجريتلي قد وصفها وقتها في رسالته للدكتوراه بأنها مروعة نتيجة لانخفاض الأجور.

حظي عمال المحلة بتعاطف العمال في أنحاء البلاد. حيث تبرع بعض العمال لدعمهم، كما أضرب عمال شبرا الخيمة مناصرة لزملائهم في المحلة،وأرسل عمال الإسكندرية برقيات تعاطف. كانت الصورة المثالية التي بنتها الشركة لنفسها باعتبارها شركة وطنية لدعم الاستقلال الاقتصادي للبلاد، والتى رحب بها المصريون المتطلعون للاستقلال والتحديث، قد بدأت تتصدع. واضطرت الشركة من أجل تحسين صورتهاإلى شن حملة صحفيةمدفوعة ادعت فيهاأنها غير مسؤولة عن تردي صحة العمال وسوء تغذيتهم وشنت هجومًا ضد الدعارة. زعمت دعاية الشركة أن اقتلاع بيوت الدعارة وتشجيع العفة الجنسية بين العمال وأهل المدينة ضرورين لحماية الأمن العام وتحسين الصحة ومستوى المعيشة.

حاولت الشركة تبرير ظلمها للعمال بتزعمها خطابًا أخلاقيًا ضد عاملات الجنس وبوصفها للعمالبأنهم زبائن دائمون للداعرات. وقد تناغم خطاب الشركة الذي ادعى العفة والشرف مع خطابات الوطنية التى تزعمها المتعلمون الذين ازدروا ممارسات وأخلاقيات الطبقات الفقيرة. كذلك تناغمت الحملة الكلامية للشركة مع جهود الدولة المتزايدة لإخضاع الحياة الجنسية للأفراد للسيطرة.

اعتبر نشطاء الحركة الوطنية منذ نهايات القرن التاسع عشرأن البغاء المرخّص عارًا قوميًا.وألقت الدولة باللائمة على الطبقات الدنيا باعتبار المنتمين لها مسؤولون عن انتشار الأمراض الجنسية وتدهور الصحة العامة. تكاتف الخطاب القومي مع ممارسات الدولة، وتم حظر البغاء في الأقاليم عام 1943، ثم في أنحاء مصر عام 1949. لكن في الحقيقة فإن زعم الشركة أن كثرة من عمالها مصابون بأمراض ناتجة عن علاقاتهم الجنسية بالعاهرات كان زعمًا باطلًا تمامًا. فقد كشف مسح صحي على عمال الشركة البالغ عددهم 21 ألف أن 60 عاملًا فقط مصابون بأمراض سرية. أجرى المسح الإدارة الطبية التى أنشأتها الشركة عام 1948 كإحدى ثمار الإضراب الكبير.

الخطر الصحي الحقيقى الذى كان يعاني منه العمال وأهالي المحلة هو السل،الذي انتشر بشكل مرعب، خاصة بين عمال النسيج اليدوي، حتى قبل إنشاء الشركة عام 1927. كانت عنابر النسيج الرطبة سيئة التهوية بيئة مناسبة للمرض. وعندما استقدمت الشركة آلاف العمال من القرى المجاورة، ودفعت لهم أجورًا زهيدة، أدتالتغذية السيئة،والكثافة العالية للسكن في غرف غير صحية، وساعات العمل الطويلة في عنابر سيئة التهوية، واستنشاق الأتربة وغبار القطن،إلى جعل صدور عمال الشركة بيئة خصبة لفيروس السل الميئوس من علاجه وقتها. بصق العمال دمًا في الشوارع والعنابر وفي غرفهم المظلمة التي اشترك في سكناها عشرة أو أكثر.

عندما جاء آلاف الفلاحين من قراهم إلى مدينة المحلة للعمل بالشركة، كانت أحوالهم الصحية أصلًا سيئة. كانت أمراض الملارياوالدوسنتارياوسوء التغذية بالغة الانتشار في الريف المصري وقتها. وفي المدينة عاش العمال على الخبز الحاف وسكنوا جحورًا لا تليق بالبشر وساروا في برد الشتاء كيلومترات بين مساكنهم ومقر عملهم في الشركة، وناموا أحيانًا على حواف الترع وبالقرب من قضبان السكك الحديدية.

في زيارته إلى مدينة المحلة عام 1932، سجل هارولد باتلر ممثل مكتب العمال الدولي الحالة الصحية لعمال النسيج اليدوي وانتشار السل بينهم، لكنه لم يسجل شيئًا عن صحة عمال الشركة رغم أنه زعم أنه التقى بهم. قد يكون تجاهله لحالة هؤلاء العمال وشكاواهم ناتجًا عن ظروف الزيارة نفسها. فقد حضر باتلر  إلى المدينة بصحبة ر.م. جريفز مسؤول مكتب العمل بوزارة الداخلية المصرية واستضافهما عضو مجلس إدارة الشركة عبد الحي باشا خليل. باتلر وصحبه تناولوا الغداء وتمتعوا بكرم الضيافة المحلاوي في بيت الباشا المسؤول في إدارة الشركة.

على كل حال، فإن شهود عيان سجلوا انتشار السل كخطر حقيقى بين العمال وفي المدينة. كتبفكري الخولي، الذي التحق بالشركة طفلًا في بدايتها حتى تم فصله في بداية الأربعينات بسبب نشاطه العمالي،أن الإصابات تركزت أساسًا بين عمال قسم السحب والبرم بالشركة. كذلك قدّرت تقارير صحفية منشورة عام 1946 الإصابات بنحو 90% من عمال الشركة ومصانع النسيج الصغيرة، وهذا على الأرجح تقدير شديد المبالغة. إذ تثبت التقارير الرسمية انتشار السل والأمراض الصدرية، لكنها تقدرها بنحو 9600 مريض عام 1946. ووفقًا للعمال وأهالي المحلة، فإن الشركة مسؤولة عن الانتشار غير المسبوق للمرض في المدينة.

هذا وقد زادت الإصابات والوفيات المسجلة بسبب السل تبعًا لزيادة عدد سكان المدينةبعد إنشاء الصنع بمعدلات متسارعة غير مسبوقة بلغت 8% زيادة سنوية. فقد سجل عام 1926، قبيل إنشاء الشركة، 21 حالة وفاة بسبب السل، زادت إلى 35 حالة عام 1929 مع وصول أعداد كبيرة للإقامة بالمدينة والعمل بالشركة.والأخطر أن الأرقام المسجلة رسميًا تمثل 10%فقط من الأرقام الحقيقية، وذلك وفقًا لتقديرات الدكتور عبد الرءوف حسن كبير أطباء مصحة فاروق في حلوان وممثل مصر في الاتحاد الدولي لمكافحة السل وأمراض الرئة في باريس. فسر حسن الفارق الكبير بين الأرقام الحقيقية والمسجلة رسميًا بأن كثيرًا من الأطباء يخلطون أعراض السل المسبب للوفاة بأمراض أخرى، وبعضهم يتعمد عدم ذكر المرض في السجلات إكرامًا لأهل المتوفي أو خوفًا منهم. وفي حالة المحلة تحديدًا فإن الوفيات المسجلة لا تشتمل على كثير من العمال الذين أصابهم المرض في المدينة، لكنهم فضلوا العودة إلى قراهم عندما اشتد بهم المرض ليواجهوا مصيرهم هناك بين أهليهم.

في سنوات الثلاثينات والأربعينات كان مرض السل مصدر رعب للأغنياء والفقراء على حد سواء، فهو مرض لا شفاء منه على الرغم من تكاليف العلاج الباهظة التى تستهدف أساسًا، إن توفرت فرصة للعلاج، تحسين الحالة الصحية العامة للمريض. كانت الإقامة في مصحة فاروق بحلوان فوق طاقة المتيسرين، فما بالنا بالفقراء.إذ بلغت تكلفة الاقامة في المصحة ليوم واحد في قسم الدرجة الأولى 60 قرشًا وفي الدرجة الثانية 20 قرشًا.

كان السل سببًا في كراهية أهالي المحلة للشركة رغم تعاطفهم مع العمال المصابين، مما اضطر الشركة إلى اقامة عيادة للسل وأمراض الجهاز التنفسي بعد عقدين من الصراع. لكن "الخطوة الأهم" التياتخذتها الشركة مبكرًا لـ"مكافحة السل" هي إخضاع أي متقدم للعمل للفحص وعدم تعيينه إذا ما ثبتت إصابته، وكذلك الفصل الفوري لأي عامل تبدو عليه أعراض الإصابة!

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية استثمرت الشركة جزءًا من الأرباح الهائلة التى حققتها وقت الحرب في تجديد ماكيناتها، وبالتالي سعت إلى الاستغناء عن العمالة، وفي مقدمتهم العمال الذين يبدو عليهم اعتلال الصحة.فيما بين 1945 و1947 فصلت الشركة بقسوة كل العمال المصابين بالسل والأمراض الصدرية وضعف السمع بدون أي تعويض. وعندما لجأ المفصولون للقضاء طلبًا للتعويض باعتبار أن أمراضهم ناتجة عن العمل بالشركة، خسروا قضاياهم لأن القانون قصر إصابة العمل فقط على الإصابة المباشرة التى تحدث أثناء العمل ولم يعترف بأمراض المهنة. فصل العمال دون تعويض دفع العمال المرضى إلى محاولة العلاج بعيدًا عن عيادة الشركة أو اهمال طلب العلاج تمامًا تفاديا للفصل. أدت هذه الأوضاع إلى تفشي العدوى بين العمال أكثر. لجأ العمال أيضًا إلى الصحافة وإلى تقديم التماسات للملك وللحكومة ومسؤوليها. رسائل العمال للصحف تكشف عن تطور وعيهم بكونهم جزءًا من الأمة وربطهم بين تحسين أوضاعهم والصالح العام والمصالح القومية.  فرسائلهم هي لجوء للشعب، أو القراء الذين هم أفراد غير معلومة أسماؤهم أو مناصبهم، ولكن موثوق في تعاطفهم. استخدام العمال للصحف هو محاولة لكسب الرأي العام واستراتيجية متطورة اقتصر استخدامها سابقًا على إدارة الشركة ذات النفوذ.

وفي محاولة لاحتواء تداعي صورتها أمام الرأي العام بسبب اتهامات العمال لإدارتها بإهمال حقوقهم وصحتهم، أذاعت النقابة العمالية الموالية لإدارة الشركة أرقام العمال المسلولين الذين تم فصلهم. لم تقصد النقابة طبعًا فضح الممارسات اللا إنسانية للشركة، ولكنها أرادت تجميل وجههابإعلان المبالغ التى دفعتها للعمال المفصولين كإعانة. لكن الحقيقة أن هذه لم تكنإعانة خيرية، لكنها مجمل ما دفعه العمال من اشتراكات خلال مدة خدمتهم. المهم أن أرقام النقابة تبين أن الشركة فصلت خلال عام 1947 فقط 126 عاملًا بسبب المرض و12 عاملًا بسبب التقدم في السن و70 عاملًا بسبب العجز.

وكرد فعل على إضراب 1947، وكفرصة لتفادي دفع ضرائب عن الأرباح الوفيرة المتحققة، أقامت الشركة، بعد عقدين من تأسيسها، مستشفى فيه قسم كبير للأمراض الصدرية، وأضافت على نفقتها أسرة للمستشفى العام في المدينة مخصصة للأمراض المعدية. كذلك أنشأت جمعية مبرة محمد علي الخيرية، تحت رعاية أميرات الأسرة المالكة، مستشفىً جديدًا. ثم قادت الشركة حملة إعلامية مكثفة للدعاية لإنجازاتها الطبية، وأذاعت نتائج المسح الطبي الذي أخضعت عمالها له بين عامي 1949 و1950.خلصت نتائج المسح إلى أن 77, (أى اقل من 1%) فقط من عمالها مصابون بالسل. احتفت مجلة الجمعية الطبية المصرية بتلك النتيجة المفاجئة التي تدل على "اهتمام الشركة بصحة عمالها... وتستدعي إعادة النظر في مسلمات أن عمال النسيج معرضون لعدوى السل أكثر من غيرهم". لم تلتفت الجمعية الطبية في دعايتها للشركة إلى حقيقة أن تلك الأخيرة دأبت على فصل العمال المصدورين، وبالتالي جاء التقرير شبه خال من إصابات السل.

الأهم أن التقرير احتوى على معلومات مفزعة بشأن الصحة العامة للعمال. فقد بلغت إصابات البلهارسيا 9,707 عاملًا،وإصابات الإسكارس 15,556 حالة، وإصابات الديدان المعوية 504 حالة. 77,8% من العمال مصابون بالطفيليات و44% منهم تستدعي حالاتهم المرضية التدخل الجراحي و15,7% مصابون بأمراض جلدية و14,9% بأمراض عيون و10% أمراض أنف واذن و11,4% أمراض أسنان. خلاصة المسح أن كل عامل في الشركة مصاب في المتوسط بخمسة أمراض وأن أغلبية تلك الأمراض متعلقة بسوء التغذية والمعيشة والعمل في بيئة غير صحية يسهل فيها انتشار العدوى وتفتقد إلى النظافة. الأرقام الأخرى المثيرة للفزع كانت في الإصابات التي تحدث أثناء العمل وتتراوح بين إصابات حادة وخفيفة وتصل في مجموعها إلى ما يتراوح بين 2122 إصابة عام 1943 و1402 إصابة عام 1949. معظم الإصابات كانت تقع بسبب غياب إجراءات السلامة الصناعية وعيوب المكن التى تسبب في قفز المواكيك خارج مساراتها لتفقأ عيون العمال وتفلق رؤوسهم  مسببة الموت في التو أو بسبب انقطاع السيور مما يتسبب في قطع أذرع أو أقدام العمال.

لم تكن شركة المحلة وحيدة في غياب معايير السلامة والاستهانة بأرواح العمال وسلامة أجسادهم. فوفقًا لتقدير رسمي سنة 1954 بلغت معدلات الإصابات بين العمال المصريين 20%، أى أن عامل من بين كل خمسة عمال تعرض للإصابة أثناء العمل.

نتائج المسح الصحي الذي أجرته الشركة كان أقوى تكذيب لادعاءاتهاعام 1947 بأن سبب سوء صحة العمال هو علاقاتهم الجنسية مع العاهرات مما يعرضهم للإصابات بأمراض سرية خطيرة. فقد كشف المسح عن وجود 60 إصابة فقط بأمراض جنسية  كالسفلس والسيلان، من بينهم حالة واحدة بين العاملات وكانت حالة سفلس وراثية.

نتيجة هذا المسح هي الأقرب للواقع، فوفقًا لمعدي التقرير، العمال، وهم من أصول ريفية محافظة، لم يختبروا بيوت الدعارة في قراهم.كانت بيوت الدعارة المرخصة قاصرة على مناطق محددة في المدن منذ بداية القرن العشرين وحتى إلغائها في سنوات الأربعينات، وبالتالي فإن منطقة الدعارة المرخصة بالمحلة كانت في أغلب الأحوال مفاجأة للفلاحين الوافدين من القرى للأقامة بالمدينة والعمل بشركتها. قد يكون الفضول سببًا دفع بعض العمال إلى زيارة المنطقة، التي كانت بعيدة عن الشركة وقريبة من المقابر وفي قلب المنطقة التاريخية التي تحوي أقدم مساجد المدينة وأهم أضرحة مشايخها، وحتى المعبد اليهودي الوحيد بها. كانت الموالد حول تلك الأضرحة غير البعيدة عن الخبيزة، أى حي الداعرات، سببًا مهما في جذب المقيمين في المدينة وحولها.

على كل حال كان احتمال زيارة العمال للمنطقة ودخول بيوت الجنس ضعيف جدًا، بسبب خوف القلة التى قد يدفعها الفضول من أن يراها آخرون من زملائهم في العمل أو من القادمين من نفس قراهم.العامل فكري الخولي، الذي كتب رواية تاريخية عن المحلة ومصنعها الكبير، زار المنطقة طفلًا مع بعض زملائه الأكبر سنًا مدفوعًا بالفضول لأن يرى "ستات الواحد ممكن يحضنهم ويبوسهم و... بقرشين وأقل". رواية الخولي للزيارة تكشف أنها مرت بهدوء وأن المنطقة وسكانها مسالمون. حوارات الخولي مع زملائه تكشف أن العمال رأوا الداعرات أو "بنات الوعد" مثلهم... كلهم جاء بهم الوعد والفقر من قراهم إلى المدينة مدفوعين بالأمل في عمل يصون كرامتهن، ليجدن العمل لكن في ظروف تلد فقرهم  وتستنزف كرامتهم وصحتهم ثم تلومهم شركة مصر كذبًا بأنهم يفنون صحتهم وأموالهم في الجنس الحرام.