فنون
دينا قابيلالفن التشكيلي هل يثبت أركان المدينة من جديد؟
2021.01.01
تصوير آخرون
وسط البلد: أنا لا أكذب ولكني أتجمل
الفن التشكيلي هل يثبت أركان المدينة من جديد؟
في لحظة تتبدل فيها ملامح المدينة شيئًا فشيئًا بوتيرة سريعة ومربكة وتسحب الحياة من قلبها النابض، أي وسط المدينة، بادرت مجموعة من أصحاب قاعات الفن التشكيلي بوسط البلد بتنظيم معارض افتتحت في اليوم نفسه، في 31 أكتوبر الماضي.
تنطلق الفكرة من العمل بشكل جماعي من أجل توفير مسار للزائر ليتجول بين المعارض المختلفة، ويشاهد معرض للنحات والمصور ماجد ميخائيل في جاليري كريم فرنسيس، ثم يعرج إلى معرض «أشيائي المفضلة» في جاليري مشربية، ليشاهد مجموعة من الفنانين الشباب، ثم ينتهي بمعرض «الضوء الخالد» في «الفاكتوري» في مكان جاليري تاون هاوس الشهير، والذي نظمه «أرت ديجيبت» حول الفن المصري القديم.
بهذه المبادرة، أراد كل من كريم فرنسيس وستيفانيا إنجارانو أن يبادرا بأولى خطواتهم في تحريك المياه الراكدة بعد فترة طويلة من الخمول، وهما اللذان شهدا زمنًا كانت فيه وسط البلد تضج بالنشاط، وكانت ملتقى ثقافيًّا بحق، ليس فقط على صعيد الفن التشكيلي، ولكن في السينما والموسيقى والأدب وتبادل الأفكار؛ حيث مقاهي المثقفين وأماكن الثقافة الأثيرة، مثل ريش وأتيلييه القاهرة والجريون، ودور السينما المتمركزة فيها، وقاعات العرض السينمائي في جمعية النقاد الشهيرة بـ36 ش شريف، أو قاعة النيل، ونوادي السينما التي كانت تنظمها الجامعة الأمريكية في التحرير، وقاعات الفنون التي أغلقت أبوابها مثل تاون هاوس الذي أسسها وليم ويلز، أو تلك التي هجرها الزائرون مع كل التغيرات الديموغرافية والسياسية الاجتماعية التي حلت بوسط البلد.
هل لا زال ممكنًا استعادة هذه الحركة الصاخبة، وهذا الزخم الثقافي الذي تشكل من طبقات عديدة عبر سنوات بعيدة ثم خفت نجمه؟ صحيح أن سنوات ما بعد ثورة يناير شهدت إغلاقًا للمجال العام وكل الروافد والمنابر الثقافية، وصحيح أن وسط المدينة شهد محاولات لإحياء القاهرة الخديوية وتحويلها إلى أماكن متحفية وسياحية، مثلها مثل سائر العواصم الكبرى، لكنها ظلت في معظم الأحوال مشاريع استثمارية تتعامل مع الثقافية كحلية لتزيين مشروعاتها، وصارت قاعدة البيانات التي رصدت البيوت التي سكنها نجوم ومشاهير الفن والأدب والفكر لا تتجاوز مجرد لوحة ارشادية أسفل المبنى هي غاية المُنى.
لا بد وأن مبادرة اليوم تحاول استعادة مهرجان نطاق الذي شهد نجاحًا باهرًا في أولى دوراته، ذلك الذي أقيم في بداية الألفية واستمر لدورتين على عامين متتاليين، ونجح في أن يجمع الاتجاهات الجديدة في الفن المعاصر بجميع أشكاله حيث اعتمد على عرض الفن التشكيلي والموسيقى والرقص والمسرح والسينما والشعر داخل «نطاق» وسط البلد، واتخذ من شكل النطاق شعارًا له، أي شكل أشبه بخريطة تمثل قلب العاصمة وتتفرع منها شرايين مختلفة تسير بالزائر في جولة بين الفنون المختلفة يجمع بينها جميعا روح وثابة ومتمردة، روح ترنو إلى المعاصرة وترفض الأشكال الكلاسيكية القائمة. فنذكر كيف تبلورت آنذاك العديد من السجالات الفنية حول «شرعية» أعمال الفيديو آرت والعمل المركب، هل ينتمي الفيديو آرت إلى الفن السابع أم إلى الفن التشكيلي، وهل يمكن اعتبار التكوين في الفراغ والأعمال ثلاثية الأبعاد أعمالاً فنية، حتى وإن كانت بعيدة كل البعد عن الصورة التقليدية للفن كلوحة أو قطعة نحتية تُقتنى.
هل يمكننا اليوم استعادة مهرجان «نطاق»؟ لا يملك كريم فرنسيس سوى فضيلة التفاؤل، إذ يعتبر أن ما تم اليوم من دعوة الأطراف الفنية المختلفة وجمعها في قائمة واحدة مصحوبة برابط إلكتروني خاص بكل جهة هو أولى الخطوات والنواة الأولى لما يمكن أن يسمى «مهرجان» أو «نطاق» جديد. حيث من المفترض أن يتم الاتفاق بين كل الفاعلين الثقافيين في وسط البلد، فبالإضافة إلى قاعات الفن، يتسع هذا الدليل ليشمل مركز التحرير التابع للجامعة الأمريكية، وورشة حسن الجريتلي وسينما زاوية، ولم لا مسارح ومكتبات ومطاعم؟ نقطة البدء بالنسبة إلى كريم فرنسيس هي تجاوز حالة الجزر المنعزلة التي صار عليها وسط البلد اليوم، إذ يرى فرنسيس أن المرحلة الأولى هي تكوين منصة للفن المعاصر تقدم أنشطتها الفنية المتنوعة بصورة شهرية في وسط البلد ويتجمع من خلالها الأماكن الجغرافية المتقاربة. «المرحلة الثانية ستكون توسيع دائرة العارضين أو المشاركين شهريًّا، لنصل إلى المرحة الثالثة وهي تنظيم مهرجان أو حدث فني جماعي تشاركي».
كانت أولى محطات الجولة وأكثرها إدهاشًا هي زيارة جاليري كريم فرنسيس، حيث تعرض أعمال الفنان ماجد ميخائيل، إذ بمجرد دخول القاعة تنقلك الأعمال إلى عالم من الصفاء تذكرك -دون أن تعي- بأجواء فيلم المومياء والمشاهد الفنية التي صممها شادي عبد السلام. إذ ربما تكمن هذه العلاقة في البناء المعماري للوحات-المشاهد والخطوط الانسيابية الخالصة التي تميل نحو التجريد والنقاء، أو ربما بسبب تيمة الموت التي تسيطر على الأعمال ولكنها مع ذلك تدعوك إلى عالم بعيد عن القتامة، عالم شديد الرحابة يجمع بين براءة الطفولة وعمق جدلية الموت-الحياة.
أما تيمة الموت والحياة فلا بد أنها تنتقل إلى الزائر من خلال موضوعات الأعمال مثل المقابر والأعمدة والبناء المعماري الذي يستوحى خطوطه من الفن المصري القديم.
لكنه في أعماله جميعها لا يشبه ماجد ميخائيل سوى نفسه حتى وإن ذكرنا بأجواء الفن المصري القديم، وحتى وإن كان تتلمذ على يد النحات الأكبر آدم حنين الذي تدرب في مرسمه بالحرانية لمدة 6 سنوات وتعلق به تعلقًا شديدًا جعله يهديه إحدى أعماله التي يصور فيها مقبرة يرقد فيها الجثمان في سلام وقد كتب أعلى اللوحة «مدفن الفنان آدم حنين» وفوق قبة المدفن نقشت الآية «إنا لله وإن إليه راجعون»، لكنا لا نجد مع ذلك أي علامات نقل أو تأثر ولو من بعيد بأعمال معلمه الفنية. بل يمكن القول إنه في ولعه بالفن المصري القديم استطاع أن يلمس جوهر هذا الفن من حيث الأجواء الروحانية وحالة الصفاء المهيمنة على المكان، وذلك دون أن يعيد انتاج القديم، وإن كان هناك من ملامح غير مباشرة يتقاسمها مع الفن المصري القديم فقد نجدها في السيمترية والخطوط التجريدية التي لا زخرفة بها، تلك التي تبحث عن النقاء. وقد نجد في بعض الأعمال موتيفة فرعونية هنا أوهناك مثل زهرة اللوتس، أو الإله هابو أو المنحوتات الصغيرة لأجساد اشبه بالمومياوات، لكنها تتخذ ملمحًا شديد المعاصرة في أعماله، فتختفي تفاصيل الوجه والجسد لتكون أكثر تجريدية، وتتحول الخطوط الهندسية الحادة إلى انحناءات واستدارات تستلهم من الفن الشعبي، إذ يجمع شكل المقبرة بين المقابر الفرعونية والأضرحة والمدافن المعاصرة.
أما الجانب الطفولي الذي نطلق عليه البراءة الأولى فيتأسس من مجموعات الألوان الباستيل الرائقة الهادئة التي تبعد تمامًا عن الألوان المعروفة في الفن المصري القديم مثل درجات خاصة من الأزرق والأخضر والطوبي، هذه الطفولة المنعكسة أيضًا في الخطوط تتأكد من عنوان المعرض نفسه «الحياة الأولى».
ومن خلال العمل المركب الذي يعرضه ميخائيل في قاعة الفاكتوري، تتأكد جدلية الموت والحياة، الموت ليس كنهاية بل كبداية أولى، الموت كما في الحضارة المصرية القديمة كمرادف للبعث والحياة الجديد. يسكن العمل المركب «الحياة الأولى» جنبًا إلى جنب مع أعمال تسعة فنانين آخرين مثل محمد عبلة وعادل السيوي ونهال وهبي وإبراهيم الدسوقي وثروت البحر وإبراهيم خطاب ومجموعة أعمال فوتوغرافيا من جاليري تينترا. سعت مجموعة آرت ديجيبت التي نظمت هذا المعرض لإلقاء الضوء بدورها على الفن المصري القديم ولكن بصورة شديدة المعاصرة، واتخذت منظور خاص في تناول تراث الأقدمين وهو الضوء، إذ حمل المعرض عنوان: «الضوء الخالد». هذه المهارة في التحكم في الضوء والظل عبر المنحوتات الجرانيتية الصلبة هي ما لفت النحات الأشهر رودان وخطف لبه، إذ يروي في مذكراته ما حدث له حين كان بعد فتى غر يذهب إلى متحف اللوفر ويتأمل المنحوتات الرومانية الإغريقية، ثم ما إن وقعت عينيه على قطع الفن المصري القديم حتى قال متعجبًا: «تأملوا هذا التوزيع العبقري للضوء والظل».
تتمثل فكرة الإضاءة بوضوح في عمل الفنان محمد عبلة الذي يقدم فكرة الجدارية في صورة معاصرة، حيث تتعدد الرسوم المستوحاة من النقوش الفرعونية على مسطح مستطيل، ولكن بدلاً من الجدارية المسمطة المعروفة تتحول إلى وحدات مفرغة مثل قطعة الدانتيلا التي تسمح بمرور الضوء من خلفها وتكوين ظلال لا متناهية من الأشكال المصممة.
أما عادل السيوي، فيُعرض له عمل واحد من مجموعة أعماله عن الحيوانات، وهو الإيبس، هذا الحيوان الأسطوري الذي يرجع للحضارة الفرعونية أيضًا والذي يحتل مساحة لوحة ضخمة تصل إلى مترين، متصدرًا برقبته الطويلة في شموخ، يذكرنا بالتاريخ البعيد ولكنه في خطوط وتناول معاصر يفرض حضورًا طاغيًا.
بينما استخدم هاني راشد مفهوم الجدارية كركيزة ليقدم من خلالها مجموعة من الصور عبر تقنية الكولاج، وهي صور متنوعة اقتطعها من مجلات الموضة وقد أضاف الرتوش هنا وهناك ومحى ملامح الوجه باللون الأبيض لتتراص صور الملابس على أجساد مجهولة جنبًا إلى جنب مثل جدارية ضخمة. لكنها فيما عدا هذه الفكرة لا تبدو متماشية مع محيطها من أعمال فنية وهي اللوحة التي كانت سبق وعُرضت في معرض «الاستغراب».
وتنتهي الجولة بقاعة المشربية التي تقدم معرضًا بعنوان «أشيائي المفضلة» وهي الدورة الخامسة لهذا المشروع الذي تسعى ستيفانيا أنجارانو من خلاله لتأسيس منصة مصرية تركز على تقديم الفنانات المصريات للعالم، من خلال معرض جماعي سنوي يسلط الضوء على أعمال فنية يبدعها الجيل الجديد. يضم المعرض 19 فنانة تقدم كل منهن عمل أو عملين، وتظهر فكرة المعرض أو «أشيائي المفضلة» من خلال أعمال الفنانات التي تسعى لتقديم المدينة كل من زاويته الخاصة كما لو كان هذا الفضاء الواسع والمستغرب يروض و»امتلاكه» إذا جاز التعبير عن طريق الأشكال الفنية المختلفة. فتضع المصورة سارة يونس بالونة زرقاء تصاحب كادراتها المختارة للمدينة، وسط الأبنية الضخمة وأجهزة الإنشاءات العملاقة والمدن الجديدة الفاقدة للروح، تضع الفنانة البالونة داخل الكادر كما لو كانت تستدعى عنصر إنساني رهيف رهافة البالون قبل أن يتم إغفاله.
بينما يتأسس عمل مركب لأمينة قدوس عن مدينة المحلة الكبرى على صور في حجم الكروت السياحية كتب عليها «أجمل التهاني من المحلة الكبرى»؛ جمعت الفنانة بعضها من أوراق جدها الذي ينتمي للمدينة الصناعية، وأبدعت البعض الآخر من خلال صور حديثة التقطتها الفنانة للتكوين المعماري لمدخل المدينة ولصورة ميدان التحرير التي تحتل أحد جدران مدخل المدينة، ونفذتها على الكروت التي تحمل علامات القدم. جعلت الفنانة من تاريخ المدينة مساحة تخصها وحدها، من أشيائها المفضلة حيث تحيل الصورة إلى فعل التذكر، وتدعو زائر المعرض إلى مشاركتها هذه اللحظة من الحنين التي صار فيها شعار «المحلة الكبرى قلعة الصناعة» مرادفًا للنضال وللحركة الوطنية الناصعة ولحظات التغيير الكبرى.