دراسات

مجدي جرجس

القبط الهنود وجيش الرب.. التصورات الغربية عن القبط في العصور الوسطى

2020.04.01

الهيئة العامة للإستعلامات

القبط الهنود وجيش الرب..  التصورات الغربية عن القبط في العصور الوسطى

(فكرة هذه المقالة مستوحاة من العمل الفذ لأليستر هاملتون حول القبط والغرب، وقد أخذت عنه الكثير من التفاصيل التي وردت في المصادر الغربية)*

التفكير في الشرق

بعد تاريخ حافل بالسيطرة والهيمنة على أوروبا، بدأت كنيسة روما تواجه مشكلات كثيرة منذ أوائل القرن الخامس عشر، وحاق بها الخصوم من كل ناحية، من الداخل ومن الخارج. في الداخل، بدأ الأوروبيون يتململون من سطوة كنيسة روما، ويراجعون شرعية هذه السطوة، خصوصًا بعد تفجر الصراعات السياسية بين الممالك والأسر الحاكمة في غرب أوروبا. وظهر من بين رجال الكنيسة نفسها من يتساءل حول مصدر هذه الهيمنة وشرعيتها، وجاءت الضربة الافتتاحية من بعض الباحثين من رجال الكنيسة؛ الذين أخذوا ينقضون الأسس التي يدعيها الكرسي البابوي لشرعية سلطاته السياسية، وأخذوا يشككون في شرعية ولاية الكرسي البابوي على المشهد السياسي في أوروبا، وظهرت دراسات تنقض الأسس القانونية والوثائقية التي منحت بابا روما الحق في هذه الهيمنة؛ أهمها دراسة لورنزو فالا حول وثيقة "هبة قسطنطين" المزعومة، التي كانت الأساس الذي يعتمد عليه بابا روما في سلطاته السياسية.

وعلى الطرف الآخر من أوروبا، بات التمدد العثماني يتسارع ويقترب من حدود ولايات بابوية، وتوغل في أوروبا الشرقية، حتى صار على مقربة من تخوم كنيسة القسطنطينية. ودرءًا لهذه المخاطر، بدأ التفكير جديًّا في عقد وحدة بين الكنيستين، كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية، وبالفعل عُقد مجمع فلورنسا في الفترة من 1438 إلى 1445م، وتم إعلان الوحدة بين كنيستي روما والقسطنطينية في عام 1439م.

كان هذا الانتصار لكنيسة روما ونجاحها في ضم كنيسة القسطنطينية تحت لوائها حافزًا للتفكير في باقي الكنائس الشرقية، وخصوصًا الكنيسة القبطية، تحت إدعاء بوحدة العالم المسيحي. وبالفعل أرسل بابا روما رسالة إلى البطريرك القبطي البابا يوأنس الحادي عشر (1427 - 1452م) يدعوه فيها إلى حضور المجمع، وأبدى أسفه على كل تلك القرون الماضية التي شهدت انقسام العالم المسيحي.

على أن تلك القرون الماضية، التي تحدث عنها بابا روما، والتي فرقت الكنائس، كانت كافية لاتخاذ كل كنيسة مسارها التاريخي الخاص، وإعادة تشكل هويتها على أسس مغايرة. كان مجتمع فلورنسا هو نقطة البداية لكي تتجه كنيسة روما إلى مصر، وتستكشف أهلها، وتحاول التعرف إلى القبط وكنيستهم، بعد غيبة طويلة وانقطاع دام لقرون. وتحاول هذه المداخلة الوقوف عند بعض المحطات في تاريخ علاقة الغرب بالكنيسة القبطية، وكيفية تشكُّل صور معينة عن القبط في مخيلة الغربيين خلال قرون العزلة، قبل القدوم الكثيف للغرب في شكل بعثات تبشيرية في نهاية القرن السادس عشر، للتعرف إلى القبط عن قرب.

شهرة عالمية

يُنسب إلى القديس مرقس تأسيس كنيسة الإسكندرية في القرن الأول الميلادي، وبحلول منتصف القرن الثاني شكلت كنيسة الإسكندرية أحد أهم المراكز الأربعة للمسيحية في العالم.

وبدأت ملامح الكنيسة ومؤسساتها تتضح وتتبلور على يد البابا ديمتريوس الأول (188-230م)، وبادر هذا البطريرك بوضع يده على مؤسسات التعليم، وخصوصًا مدرسة الإسكندرية، والتي صارت منذ ذلك الحين منصة للكنيسة. وربما كانت هذه المدرسة أحد الأسباب المباشرة لشهرة مصر في العالم المسيحي الوليد. استقطبت مصر، وكنيستها كذلك اهتمام العالم المسيحي خلال القرن الثالث الميلادي، وهو القرن الذي شهد نوبات من الاضطهاد والتضييق على المسيحيين في الدولة الرومانية وخصوصًا في مصر، وذاعت شهرة الكنيسة المصرية بأنها أكثر كنيسة قدمت شهداءً، وأصبح "الشهداء" علامة للكنيسة القبطية: من خلال عنوانها "كنيسة الشهداء"، وكذلك التقويم المصري الذي أحيته الكنيسة، وصار يسمى "تقويم الشهداء".

في أوائل القرن الرابع الميلادي تغيَّرت أوضاع العالم المسيحي كلية بعد اعتراف الدولة الرومانية بالمسيحية دينًا رسميًّا، ثم حدث التحول الكبير بإعلان الإمبراطور قسطنطين رعاية واحتضان المسيحية. ومنذ ذلك التاريخ ارتفعت مكانة الكنيسة المصرية وذاع صيتها، وصارت محط أنظار، وقبلة للعالم المسيحي آنذاك. ولعبت الكنيسة القبطية أدوارًا مهمة في إدارة دفة العالم المسيحي، وصار العالم ينتظر سنويًّا رسالة من كنيسة الإسكندرية لتحديد مواعيد الأعياد.

ولعل أبلغ دليل على مكانة الكنيسة المصرية ومتابعة العالم المسيحي لأخبارها هو أن النزاعات الداخلية بمصر كانت تتحول إلى شأن مسكوني يشغل العالم بأسره. فما أن اندلع جدال لاهوتي بمصر بين القس السكندري آريوس والبطريرك القبطي ألكسندروس، حتى صار هذا الخلاف والجدال حديث العالم المسيحي، وتدخل الإمبراطور الروماني بنفسه ليجد مخرجًا لهذه الأزمة المصرية التي سرعان ما صارت أزمة على الصعيد العالمي. وفي عام 325م، دعا الإمبراطور جميع كنائس العالم إلى الاجتماع في مدينة نيقية 325م، لحسم هذا النزاع. وأخذ العالم المسيحي يشاهد بإعجاب هذا النزال بين عضوين من الكنيسة المصرية، وبرز في هذا المجمع اسم القديس أثناسيوس، بطل هذا المجمع، الذي صار اسمه علمًا على المسيحية بأسرها.

ومنذ ذلك الحين، صارت مصر وكنيستها مركز الثقل اللاهوتي والعلمي في العالم المسيحي، وتولى رجالها إدارة الأمور العقائدية والفكرية، بل وصاغوا الأسس التي لا زالت تقوم المسيحية عليها حتى الآن. وتولى أساقفة الكنيسة المصرية قيادة المجامع المسكونية اللاحقة، وتوجيه نتائجها وقراراتها. كل هذه الأمور جعلت العالم المسيحي يتابع عن كثب الكنيسة المصرية وشؤونها.

لم تقف شهرة الكنيسة القبطية عند هذا الحد، بل قدمت الكنيسة القبطية نظامًا نسكيًا جديدًا استرعى انتباه العالم بأسره، وحاز إعجابه وفضوله، وهو نظام الرهبنة. وتأسس هذا النظام في مصر على يد القديس أنطونيوس، وسرعان ما انتشر في أرجاء مصر وظهرت تجمعات رهبانية في مناطق عدة. وتوافد المسيحيون من سائر الأرجاء ليعاينوا بأنفسهم آباء البرية العظام. وذاعت شهرة الرهبنة القبطية بالأكثر بعد أن كتب البابا القبطي أثناسيوس (328-373م) سيرة القديس أنطونيوس؛ مؤسس الرهبنة القبطية، وتلقف العالم المسيحي هذه السيرة، وانتشرت على نطاق واسع، ليعرف العالم من خلالها المزيد عن تقاليد ونظام الكنيسة القبطية. ثم كتب جيروم (ت.420م)، أحد الآباء الغربيين، سيرة القديس بولا الطيبي؛ أحد أهم النساك القبط، والمعاصر للقديس أنطونيوس. وساهمت هاتان السيرتان في زيادة الشغف لمعرفة الكنيسة القبطية، خصوصًا وأن الكاتبين، وعلى وجه التحديد القديس أثناسيوس، كانت لهما شهرة كبيرة في العالم المسيحي. وستمثل هاتان السيرتان، فيما بعد، عنصرًا مهمًا لتصور المسيحية في مصر في أذهان الغربيين. وعلى الرغم من أن كاتبي السيرتين مشهود لهما بمعارفهما الواسعة في المنطق والفلسفة، فإن السير تميزت بسرديات ركزت على العجائب والغرائب، والقوى الخارقة لكلا القديسين، وصوَّرت عوالمهما في شكل أسطوري، يعج بالأشباح والكائنات الغريبة والوحوش الضارية.

تحتل حروب الشياطين ضد القديس أنطونيوس مساحة واسعة في سيرته، ويتمثل الشيطان في صور عديدة ليوقع بالقديس؛ مرة جاءه على شكل شخص هندي أسود، ومرة أخرى في شكل رجل عملاق. ويظهر الشيطان وهو يحدث جنوده وفمه ينفث سحابات من الدخان، واجتمعت الشياطين مرة على هيئة أسود وذئاب وثيران وأفاعٍ ليرهبوا القديس. وكذلك سيرة القديس بولا التي تتميز بوجود كائنات أسطورية عديدة: يظهر كائن القنطور الأسطوري في القصة ليدل القديس أنطونيوس على الطريق إلى القديس بولا، ثم ما لبث أن قابل كائن الساتيروس، وهو كائن له ساقا ماعز ورأس إنسان ولكن بقرنين، وتحدث معه القديس قليلًا. وعندما اقترب من مكان القديس بولا قادته ضبعة إلى مغارة القديس. وعندما اجتمع القديسان جاءهما غراب بطعامهما، وأسقط أمامهما رغيفًا من الخبز. كما نجد الأسود تصاحب القديس بولا، وتتملق القديس أنطونيوس طمعًا في بركاته. انتشرت هاتان السيرتان في العالم المسيحي بأسره، وراجت رواجًا كبيرًا في الغرب، ووفد الكثيرون إلى مصر لمشاهدة ومعايشة هذه الحياة النسكية، ومن قرأ السير تشكلت لديه تصورات أسطورية عن الحياة في الشرق، حيث بشر خارقون، ومخلوقات غريبة، سحر وغموض.

عزلة القبط

توالت المجامع المسكونية في القرنين الرابع والخامس الميلادي، ومثلت الكنيسة القبطية الدور الأكبر في إدارة الجدال اللاهوتي، ووضع صياغات العقيدة المسيحية على مستوى العالم. على أن استمرار الخلافات حول طبيعة شخصية السيد المسيح وصل إلى نقطة ملتهبة في منتصف القرن الخامس الميلادي، ومن ثم، تقرر عقد مجمع مسكوني في مدينة خلقيدونية عام 451م لحسم هذه الخلافات.

شارك في هذا المجمع ممثلون عن معظم كنائس العالم آنذاك، وتربص الكثيرون بالبطريرك القبطي ديسقورس. وانتهى هذا المجمع إلى رفض وشجب تصورات القبط عن شخصية السيد المسيح، ولعن كل من يتبنى هذه التعاليم. وأصر البطريرك القبطي البابا ديسقورس على موقفه، وتبعه في ذلك جموع الشعب القبطي، وانحاز السريان والأرمن إلى القبط وشاركوهم الرأي والعقيدة. ومن ثم، صارت هذه الكنائس الثلاث مغضوبًا عليها، ومرفوضة من قبل الغرب، واعتبرت كنائس مارقة خارجة عن الإيمان القويم. ولما كان للكنيسة القبطية الدور الأكبر في هذه المجادلات والسجالات العقائدية، نالها القسم الأكبر من الشجب واللعن، وصار ينُظر إلى القبط على أنهم هراطقة ضالون. وكان هذا المجمع هو آخر المجامع المسكونية التي تشارك فيها الكنيسة القبطية. ولم يقف الأمر عند الشجب فقط، بل جرت محاولات عنيفة لإجبار القبط على الامتثال لقرارات هذا المجمع، ونال القبط عذابات ومطاردات من قبل الدولة وكنيستها، وسقط شهداء كثر من القبط على أيدي المسيحيين البيزنطيين.

شكل هذا التاريخ نقطة فاصلة في تاريخ القبط؛ إذ انقطعت صلاتهم بعدها بالعالم المسيحي، وانكبوا على أمورهم الداخلية، وأعادوا تأسيس كنيستهم على أسس وطنية، وظهرت في جوانب كثيرة، من أهمها الطقوس والألحان. على أن الأمر الأكثر خطورة هو قرار التخلي عن اللغة اليونانية؛ إذ قررت الكنيسة المصرية لفظ لغة الدولة وكنيستها، وأخذت تطور لغة خاصة بها، وهي المعروفة باللغة القبطية. وعلى الرغم من استمرار آباء الكنيسة في الكتابة باليونانية، إلا أنها تراجعت رويدًا رويدًا، وانزوت وحلَّت محلها اللغة القبطية كلغة للكنيسة وللحياة اليومية. وتغيير اللغة زاد من اتساع هوة القطيعة؛ إذ صار القبط يمارسون حياتهم وعباداتهم بلغة أخرى يصعُب تتبعها أو معرفة ما يدور بها. ومن ثم لا يعرف الغرب شيئًا عن القبط بعد عام 451م.

سياج جديد من العزلة

لم يمض قرنان من الزمان بعد مجمع خلقيدونية عام 451م حتى دخل القبط في طور جديد وتحول آخر مهم. وهو دخول العرب مصر في عام 641م، وانعزلت مصر تمامًا عن العالم البيزنطي والغرب عمومًا. وكان تأثير دخول العرب والإسلام مصر بالغ العمق، وترك نتائج بعيدة المدى على الثقافة القبطية، وتخطاها إلى تصورات القبط العقائدية. ولا يمكن فهم هذه التحولات دون تحليل التغييرات الرئيسة في بنية الطائفة القبطية وعلاقتها بالدولة، وتقلص الموارد المالية للكنيسة، وهذا أمر شرحه يطول ولا يتسع المقام لتناوله هنا. خلاصة الأمر، أنه بعد أقل من ثلاثة قرون، سيطرت اللغة العربية على القبط، وانزوت اللغة القبطية داخل الكنيسة فقط. وفي الوقت الذي يتعرب فيه المجتمع ظلت الكنيسة تستخدم اللغة القبطية، وظلت كل الكتابات العقائدية، بل والإنجيل نفسه باللغة القبطية، وهي اللغة التي صارت غير مفهومة لمعظم القبط. ومثَّل ذلك انقطاعًا عن معرفة القبط بأمورهم الدينية والعقيدية إلا بالممارسة، وترك ذلك تأثيرًا على كثير من القبط في فهمهم للأمور الدينية من خلال ما يسمعونه باللغة العربية من المسلمين. وعندما تهيأت للكنيسة ظروف مواتية لاستعادة سلطاتها في أواخر القرن العاشر الميلادي، اكتشفت أن رعيتها تحوَّلت إلى مجتمع عربي اللغة إسلامي الثقافة، ولا سبيل لها ولا مقدرة على استعادة اللغة القبطية كلغة للحوار وللتعليم، لذا اضطرت الكنيسة إلى تبني مشروع تعريب، حتى ترمم الصدع في التواصل مع القبط. ولكن هذه القرون الثلاثة كانت قد شكَّلت هوية ثقافية جديدة للقبط، أزعم أنها هوية عربية إسلامية في مناحٍ شتى. والمتأمل لتشريعات الكنيسة وقوانينها ونظمها بدءًا من القرن العاشر، يدرك عمق التغير الذي لحق بالقبط وثقافتهم وعاداتهم الاجتماعية، فجميع التشريعات تعالج قضايا مجتمع عربي مسلم بكل تفاصيله: الاختلاط، التسري، تعدد الزوجات، وضع المرأة، والكثير من الممارسات الاجتماعية العربية الإسلامية. هذا السياج الجديد من العزلة زاد من القطيعة مع الغرب المسيحي، وصار الغموض يغلِّف أوضاع القبط، إلى درجة أن المراقبين لن يستطيعوا أن يفرقوا بين المسلم والمسيحي من خلال مظهره وعاداته الاجتماعية. كل ما كان يعرفه الغرب عن القبط، أنهم طائفة من الهراطقة يعيشون في الشرق.

وعلى الرغم من هذه القطيعة بين الكنيسة القبطية والغرب، إلا أن زيارات الحجاج الغربيين للأراضي المقدسة لم تنقطع، إذ كانوا يمرون بمصر في طريقهم. ومنذ القرن الرابع الميلادي، صارت مصر محطة مهمة في طريق الحجاج الغربيين إلى القدس، حيث كانت مصر مسرحًا لبعض أحداث الكتاب المقدس، وخصوصًا رحلة العائلة المقدسة. كذلك حظي دير سانت كاترين في سيناء بمكانة مهمة في رحلة الحجاج. وكانت كتابات بعض هؤلاء الحجاج، على الرغم من قلتها قبل القرن الثاني عشر، تمثِّل القوام الرئيسي لمعارف الغرب حول القبط، ولكنها معرفة غائمة غير دقيقة. زاد عدد الحجاج الغربيين إلى مصر في القرن الثاني عشر، حيث ساد في ذلك القرن اعتقاد في الغرب بأن زيارة بعض الأماكن المقدسة تكفر عن الذنوب، وهو ما شكَّل حافزًا إضافيًّا لزيارة كنائس القاهرة التي ارتبطت بالعائلة المقدسة. وترسخ اعتقاد لدى الحجاج بأن زيارة كنيسة القديسة بربارة بمصر القديمة تكفر عن سبع سنوات، في حين أن زيارة الكنيسة المعلقة في مصر القديمة تكفر عن ذنوب سبع سنوات وسبعة أيام.

كان اهتمام الحجاج منصبًا على الأماكن المقدسة، لا على القبط، لم يكن القبط سوى حراس لهذه الأماكن. لذا لم يهتم الحجاج بمعرفة القبط، أو حتى بالحديث عنهم. وازدادت ضبابية الصورة حول القبط في المخيلة الغربية. كل ما يعرفونه عن القبط هو تاريخهم قبل عام 451م، وكذلك سير آباء الكنيسة القبطية الكبار، وبالطبع سير الرهبان، وما تتضمنه من حياة عجائبية، وأسرار وأساطير.

الحروب الصليبية وتذوق المسيحية الغربية

شهدت نهايات القرن الحادي عشر بدايات هجمات الصليبيين على الشرق، وصاحبت هذه الحملات حملات دعائية موازية تستحث الأوربيين على دعم هذه الحملات نصرة للمسيحيين ضد أعدائهم المسلمين الذين يحتلون أقدس الأماكن المسيحية، واندلعت الحروب الصليبية في عام 1096م. وسبَّبت هذه الحروب معاناة للقبط أكثر من غيرهم من باقي المسيحيين في القدس، تذوقوا خلالها المسيحية الغربية عن قرب، وتركت في حلوقهم مرارة، ورسخت فيهم عدم الثقة بالغربيين. في عام 1099م، قام البطريرك الجديد لمملكة الفرنج بالقدس بطرد كل المسيحيين الشرقيين من كنيسة القيامة بالقدس. وتمادى خليفته، وقام بطرد كل طوائف المسيحيين الشرقيين من القدس كلها، ومُنع القبط من زيارة القدس في موسم الحج. لم يقف الأمر عند القدس، بل أتيح للقبط أن يختبروا عن قرب المسيحية الغربية، بعدما قرر أمارليك، ملك بيت المقدس الصليبي، أن يشن حملة على مصر في عام 1168م، وطالت مذابح الفرنج أعدادًا كبيرة من القبط. لم يقف تأثير الحملات الصليبية عند هذا الحد، بل صار القبط موضع شبهات، وبدأ النظر إلى جميع المسيحيين في المنطقة على أنهم خلايا نائمة للغرب، وتمثل رد الفعل على هذا التوجس والاتهام في صورة إجراءات تعسفية تمييزية: تمثلت في فرض ضرائب جديدة، وهدم ونهب للكنائس. وتكرر هذا الأمر بعد حملة بطرس الأول عام 1365م، والمعروفة بآخر الحملات الصليبية، وعانى القبط من جراء هذه الحملات؛ إذ هدم الفرنج كنائسهم ونهبوا ممتلكاتهم بعد دخولهم الإسكندرية. وعلى الرغم من ذلك، ارتاب الحكام المسلمون في القبط، واهتزت ثقتهم فيهم.

ربما تعامُل الصليبيين مع القبط على هذا النحو يُرد إلى عدم التمييز بينهم وبين المسلمين في الملبس والمسلك، أو عدم اعتبارهم مسيحيين بالأساس. فبعد قرون عدة من الفرقة بين الغرب والشرق، صار الشرق مجهولًا للغربيين، يتمثلونه في شكل قصص وأساطير. وفي خلال الحروب الصليبية، جاء الغربيون إلى الشرق مباشرة، وصار الغرب يتابع عن كثب أخبار الشرق، وزاد الاهتمام في الغرب بمعرفة الشرق، كذلك بدأ التفكير في كيفية الحصول على تعضيد معنوي، على الأقل، للحملات الصليبية من الشرق، وانتشرت قصص دعائية صاحبت حملات جنود الرب، تروِّج لأساطير بشأن المعونة الإلهية، وجيوش أخرى للرب في الشرق، تنتظر إخوانهم مؤمني الغرب لنصرتهم ومساعدتهم في مساعيهم لدحر الإسلام والمسلمين. وفي هذا السبيل اختلقوا، أو توهموا، صورًا عن مسيحي الشرق، غير هؤلاء الذين قابلوهم وحاربوهم.

الملك الكاهن ومملكة الله على الأرض

ومن بين أشهر هذه القصص التي ارتبطت بالحروب الصليبية، نص عجيب، تسبب في تثبيت التمثيلات الأسطورية للشرق في مخيلة الغربيين، وكان للقبط مكانًا في هذه الرواية. أساس هذه القصة رسالة قيل إنها أٌرسلت إلى الإمبراطور البيزنطي مانويل في عام 1165م، في خضم الحروب الصليبية وسيطرة الصليبيين على مدينة القدس، من شخص يسمي نفسه "يوحنا الكاهن حاكم بلاد الهند الثلاثة"، ولاقت هذه الرسالة رواجًا وذيوعًا في الغرب، واستمرت تُنسخ وتُنشر في القرنين التاليين، حتى توفر لدينا أكثر من مئة نشرة لها، وفي نسخ أخرى قيل بأن الرسالة كانت موجهة إلى بابا روما، وقيل مرات إنها كانت موجهة إلى ملك فرنسا.

يشرح يوحنا الكاهن في رسالته أمورًا كثيرة حول مملكته وثرواته وشعبه وجيوشه وخططه. فيقول بأنه يسيطر على مساحة شاسعة من البلاد تمتد من بلاد الرافدين إلى الهند، "تفيض أرضه لبنًا وعسلًا"، وأنهارًا من الذهب، وتتمتع بلاده بالثروات الطبيعية وبكنوز من الجواهر والمعادن النفيسة، وأن لديه مقتنيات سحرية هائلة؛ إذ يراقب ويحمي كل شبر في ممالكه الواسعة عن طريق مرآة ضخمة، ولديه جواهر سحرية تجعله يتحكم في الحرارة، وفي بلاده عجائب أخرى كثيرة، منها "نافورة الشباب"، وأحجار تعيد الأبصار لمن فقدوها. وتعج بلاده بأعراق وأجناس بشرية عجيبة، ورد ذكرهم في أخبار الأولين. كما توجد في أراضيه كل الوحوش البرية، والتي تنصاع لأوامره ورغباته، منها نوع من النمل المتوحش، ودودة السمندل التي لا تحرقها النار، ويصنع يوحنا لنفسه رداءً من جلدها لا يحترق!

وتحيا رعيته في ظل الفضائل المسيحية الكاملة، عبادة وتقوى وأمانة، يعيشون في رغد ونعيم، لا يعرفون الفقر أو العوز، يتسمون بالصدق والصراحة والشفافية، تنعدم بينهم الرذائل، وتسود بينهم المحبة والأخوة. ولديه كنيسة عجيبة تتسع إذا أمتها أعداد كبيرة من المصلين، وتتقلص وتضيق إذا قل عدد المصلين. ويدين له بالولاء والطاعة أكثر من اثنين وسبعين ملكًا، يؤدون له الجزية. ولديه جيش جرار من المؤمنين، يتألف من فرق عظيمة، تتضمن كل فرقة عشرة آلاف فارس ومئة ألف من المشاة، يتقدم كل فرقة صليب ذهبي كبير مرصع بكل أنواع الجواهر النفيسة. يتشكل مجلس حكمه من الأساقفة والرهبان، لذلك فهو لا يسمي نفسه ملكًا، بل هو خادم وراهب. الجانب المهم في هذه الرسالة، أنه يخبر الإمبراطور البيزنطي بأنه محاط بالكفار من كل جانب، وأنه يطمع لتحالف مع جيوش الغرب المسيحية للقضاء على الكفار، وأنه يرتب لزيارة مدينة القدس، ويعد جيوشه الضخمة للقضاء على المسلمين وهو في طريقه إلى القدس. ويوقع الرسالة في النهاية "يوحنا الكاهن حاكم بلاد الهند الثلاثة".

على الرغم من أسطورية القصة، فإن حاجة الغرب إلى دعم معنوي من الشرق أعطت لهذه الرسالة أهمية كبرى، وظهرت في السجلات الرسمية، وراجت رواجًا كبيرًا، كجانب داعم للحملات الصليبية، وأن في الشرق جيوشًا من المؤمنين تنتظر الإشارة لمد يد العون. ولعل أبلغ دليل على أثر هذه القصة، وقبولها على نطاق واسع، هو قيام البابا الروماني ألكسندر الثالث بإرسال مبعوث من أجل العثور على هذا الملك، ولكنه لم يعثر عليه قط.

وفي الوقت الذي لم نجد لهذه القصة أي صدى في الشرق، استقرت هذه الأسطورة في وجدان الغرب، وأنتجت منها نسخًا عديدة لاحقة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وأضيفت شروحات وتفسيرات رسمية وشعبية لهذه القصة. لسنا بصدد تحليل مصدر هذه القصة، واستلهامها لبعض الشخصيات الحقيقية التي ظهرت بالشرق. وقد تناثرت التفسيرات حول شخصية يوحنا الكاهن وكذلك موقع مملكته. على أن توقيعه للرسالة واصفًا نفسه "حاكم بلاد الهند الثلاثة"، جعل الأنظار تتجه إلى هذه البقعة الغامضة غير المعروفة. وكان تصور المعاصرين في القرن الثاني عشر عن بلاد الهند تصورًا مشوشًا. إذ كانوا يعتقدون بأن بلاد الهند الثلاثة هي ما يعُرف الآن بشبه القارة الهندية، والهند الشرقية، وبلاد الحبشة. فاعتبروا أن ما يُسمى بالحبشة هو جزء من بلاد الهند، وتصف خرائط القرن الثاني عشر بلاد الحبشة بأنها الشريط الممتد شرقًا من أفريقيا بمحاذاة بلاد الرافدين وفارس. وبعد نحو مئتي عام، بدأ الاعتقاد بأن يوحنا الكاهن هذا كان نسطوريًا، وربما كان عدوًا أو حليفًا لجنكيز خان، ثم أرجعت خرائط القرن الرابع عشر بلاد الحبشة إلى موضعها الحالي في شرق أفريقيا. وصار اسم يوحنا الكاهن يشير إلى إمبراطور إثيوبيا، ورعاياه المسيحيين يبجلون ويخضعون لبطريرك الإسكندرية القبطي. جاء القبط في قلب القصة عن طريق الخلط ما بين الهند وإثيوبيا، وهو أمر كان كثير الحدوث في المصادر الغربية حتى القرن السادس عشر. لدرجة أن الروايات الغربية حول القبط تواترت على الزعم بأنهم يعيشون في الهند.

القبط الهنود، القبط الملبار

هذا الخلط ما بين الهند والحبشة أفضى إلى وضع القبط تاريخيًّا وجغرافيًّا خارج مصر، ونزع عنهم صفة المصريين. وكان مبعث هذا الخلط والتشويش رواية الكاهن يوحنا، واستقرارها في تشكيل معارف الغربيين عن الشرق، وعن القبط. ويعطي هاملتون في دراسته المهمة بشأن القبط والغرب نماذج كثيرة لهذا الخلط: يذكر برايدن باخ في رحلته إلى القدس (نُشرت عان 1486م) أن القبط يعيشون في النوبة والحبشة ومنطقة تمتد عبر الهند، ولكنهم ليسوا في مصر. والحال نفسه مع برنارد من لوكسمبورج في كتابه قاموس الهراطقة (1524م)؛ إذ يصف القبط بأنهم "مسيحيون هراطقة" يعيشون في أجزاء من الهند. وفي عام 1569م، يكرر اللاهوتي الفرنسي جابرييل دو برو الوصف نفسه، ولكنه يضيف بأن في الهند عدد كبير من الطوائف والمذاهب المسيحية.

على أن ربط القبط بالهند قد أفضى إلى سياق جديد لتعريف القبط! فمن المعروف أن اسم القديس مرقس يرتبط بالكنيسة القبطية وتأسيسها، في حين أن التقاليد المسيحية تنسب إلى القديس توما، أحد تلاميذ المسيح، التبشير بالمسيحية في الهند. ولكن الخلط ما بين الحبشة والهند، ووضع القبط في قلب القصة حدا بالغربيين أن يتمادوا في ربط القبط بالهند، ويقولون عنهم إنهم أهل ملبار، وهي الموطن الأول للمسيحية في الهند، والغريب أن هذا الوصف جاء في تقرير اثنين من الرحالة الذين زارا مصر بالفعل في عام 1384م؛ وهما ليوناردو فريسكوبالدي Leonardo Frescobaldi ورفيقه جورجيو جوتشي Giorgio Gucci؛ إذ وصفا القبط بأنهم "المسيحيين الملبار" الذين بشرهم القديس توما، وأن عقيدتهم تعتمد على فكر النساطرة.

هذا الخلط وسوء فهم المصطلحات واستخداماتها، لم يقتصر على الذين مروا بمصر أو قضوا بها فترات قصيرة، ولكنه يظهر أيضًا بشكل جلي في عمل أحد التجار الذين تعرفوا على مصر عن قرب وعاش فيها فترة طويلة وهو إيمانويل بيلوطي Emmanuel Piloti وهو تاجر من كريت وأصله من البندقية، قضى إيمانويل معظم الفترة م عام 1396 إلى عام 1438م في مصر، وكتب في عام 1422م تقريرًا إلى بابا روما يوصيه فيه باحتلال مصر، وقدم له في هذا التقرير معلومات تفصيلية حول البلد، وتجارتها، وتحصيناتها الدفاعية، وسكانها. وتحدث في التقرير عن القبط وذكر بعض من كنائسهم، ولكنه استخدم على الدوام مصطلح "اليعاقبة" للإشارة إلى القبط، وأن بطريركهم هو "بطريرك بلاد الكاهن يوحنا، حاكم الهند". وإمعانًا في تحفيز البابا وإثارة اهتمامه ذكر بأن الكاهن يوحنا هذا هو مسيحي تقي يؤمن تقريبًا بكل العقائد والأسرار المقدسة الكاثوليكية، وأنه سيسعد ويبتهج في حالة احتلال اللاتين للإسكندرية، بل وسيكون في عونهم.

مسيحيو الزنار

استخدم الحجاج والرحالة الغربيون أيضًا مصطلح "مسيحيو الزنار" لوصف القبط، وجاء هذا الوصف عن طريق الرحالة الذين مروا بمصر وشاهدوا ارتداء القبط للزنار؛ وهو حزام تمييزي لغير المسلمين كان يُفرض عليهم أحيانًا، ولم يكن خاصًا بالقبط وحدهم. كما استخدم هذا المصطلح لوصف القبط الراهب الإيرلندي سيمون فيتسيمونز Simon Fitzsimons عندما مر بمصر وهو في طريقه إلى القدس عام 1322م، وكذلك جون ماندفيل في وصفه للشرق في العام نفسه. وهناك عدد من الرحالة، مثل الإسباني بيرو طافور Pero Tafur الذي زار مصر عام 1436م، كان يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى مذهب بعينه، أو إلى القبط عمومًا. ووضع الحاجان الإيطاليين فريسكوبالدي وجوتشي، صاحبا الخيال الواسع، لمساتهما في هذه المباراة لسوء فهم المصطلحات والمفاهيم، وهم اللذان قالا مسبقًا بأن القبط هم الملبار الذين بشَّرهم القديس توما، وإمعانًا في التجويد ذهبا في تفسير مصطلح "مسيحيو الزنار" مذهبًا جديدًا يرتبط أيضًا بقصة القديس توما، وصاغا نظرية مؤداها أن "مسيحيي الزنار" هم المسيحيون الذين بشرهم القديس توما، وفسرا مصطلح الزنار بطريقة أخرى. إذ ترد في قصة توما حادثة مع السيدة العذراء؛ إذ أن توما لم يشهد نياحة القديسة مريم مع باقي التلاميذ، ولكنه شهد صعود جسدها إلى السماء، فأخذ يتضرع إليها أن تباركه، فسقط زنارها عليه، فتلقفه بالفرح والتهليل، ومن ثم جاء اسم القبط الذين بشَّرهم القديس توما من هذه الحادثة، وهو الزنار الذي أعطته السيدة العذراء للقديس توما. وهناك تقاليد كثيرة حول هذا الزنار؛ أكثرها شهرة أنه لا يزال محفوظًا بكنيسة "أم الزنار" بمدينة حمص لدى السريان الأرثوذكس. ومزج هذا الحاجان تلك التقاليد والقصص ليخرجوا بوصف جديد للقبط.

معمودية النار

الربط ما بين القبط واليعاقبة والأحباش، أدى إلى مغالطة أخرى؛ وهي نسبة بعض التقاليد والعادات الحبشية الخالصة إلى قبط مصر ويعاقبة سوريا. وأحد هذه التقاليد هي المعمودية بالنار، حيث يقوم الأحباش بوسم وجوههم بالنار، كطريقة لفهم الآية الواردة في إنجيل لوقا (3: 16) "هو سيعمدكم بالروح القدس والنار". وتتابع الرحالة على وصف القبط بأنهم يمارسون هذه العادة، وعلى الرغم من أن هذا التأكيد على هذه العادة قد توارد سماعيًّا دون مشاهدة حقيقة، إلا أنه ورد أيضًا في مصدرين من القرن السادس عشر يُعتد بهما: وهو وصف قبرص لإيترين اللوسياني، ووصف القدس الذي كتبه بيير بيلون Pierre Belon.

البحث عن العجائب

ظلت قوة الأساطير حول الأديرة المصرية ماثلة في أذهان الغربيين عبر القرون. تعتبر رحلة برنارد فون برايدن باخ Bernhard von Breydenbach من بين أوائل الرحلات إلى القدس التي نُشرت في الغرب، وقد نشرت للمرة الأولى في ماينز عام 1486م، وحازت شعبية كبيرة، وتُرجمت إلى لغات أوروبية أخرى، وبلغ عدد طبعاتها حتى 1522م نحو 12 طبعة. وقد اهتم الرحالة برصد الحيوانات التي شاهدها في رحلاته إلى الشرق، مثل وصفه للحصان وحيد القرن. وبعد نحو سبعين عامًا من هذا العمل، كان عالم النباتات الفرنسي الشهير بيير بيلون Pierre Belon، يقوم بدراسة حول الإمبراطورية العثمانية، ووصف ورسم في عمله، الذي ظهر للمرة الأولى عام 1555م، التنين الطائر، وقال بأنه موجود في شبه الجزيرة العربية. تشَّكلت صورة هؤلاء القديسين في مخيلة الغربيين وحظيت سيرهم بشعبية واسعة في أوساطهم، وخصوصًا بعد كتاب يعقوب الفراجيني Jacob of Voragine "الأسطورة الذهبية" والذي ألفه في القرن الثالث عشر.

يتضح أن المعلومات الضئيلة التي قدمها الزوار الغربيون حول القبط تعتبر انعكاسًا لبعض أساطير العصور الوسطى، ومن ناحية أخرى تبرز اللغط الشديد حول المصطلحات أو الوعي بدلالاتها. وعلى سبيل المثال استخدم عدد قليل من الرحالة أو الباحثين مصطلح "القبط" قبل منتصف القرن السادس عشر. وما قبل هذا التاريخ لم يستخدم أحد هذا المصطلح لوصف المسيحيين المصريين، باسثناء وحيد وهو جون من فيلزبيرج John of Wlirzburg الحاج الألماني الذي زار الأراضي المقدسة في نحو عام 1170م، إذ ذكر أن من بين المسيحيين بالقدس يوجد "قبط".

أين القبط

على أن الخلط بين تلك الأعراق والطوائف المتنوعة في الشرق يظهر أيضًا في كتاب عالم الطبيعة الألماني ليونارد رولف Leonhard Rauwolff، والذي قام برحلة في عام 1573م إلى الخليج الفارسي ومر في طريقه بالأراضي المقدسة وسوريا وبلاد الرافدين، وظهر كتابه حول هذه الرحلة بعد عشر سنوات. يذكر أن القبط "Gofty" يقيمون بمصر (على الرغم من أنه قابلهم في القدس)، ويؤكد بأنهم اعتنقوا المسيحية على يد القديس توما، وأنهم يمارسون المعمودية بالنار. والمثير في الأمر أن هذا الكتاب ظل يحظى بمكانة مهمة حتى القرن الثامن عشر، باعتباره مصدرًا مهمًا للطلاب الألمان حول القبط.

تعقدت الأمور بالأكثر حول موطن القبط! على الرغم من أنهم يعيشون أساسًا في مصر، ووصفهم الرحالة الذين زاروا مصر، إلا أنه كان هناك قبط أيضًا في القدس وفي قبرص. وتوجد حالات عديدة للرحالة الذين جاءوا إلى مصر، لم يكونوا على وعي بأن هؤلاء الناس الذين عاينوهم في مصر هم القبط، ولكنهم اكتشفوهم ووصفوهم عندما شاهدوهم في

القدس!

نجد هذا الأمر عند الباحثين الذين صاحبوا السفير الفرنسي جابرييل دي ارامون Gabriel d’Aramon إلى إسطنبول. وعلى سبيل المثال، وصل عالم الطبيعة أندري ثيفت Andre Thevet إلى الشرق في عام 1549م، ووضع كتابًا حول وصف الشرق، ظهر في عام 1556م. وفي هذا الكتاب وصف لمصر دون أن يأتي على ذكر للقبط، وكذلك وصف للقدس، يشير فيه إلى اليونانيين والأرمن والسريان والنساطرة والهنود والإثيوبيين، ثم يمعن في وصف "اليعاقبة" الغارقين في ظلام الجهل والخطية، والذين يعتقدون في تعاليم بطريركهم، ذلك المضلل الكاذب، الذي يعيش في الإسكندرية في مصر، ويمضي في حديثه عن اليعاقبة فيقول إن هذا المذهب منتشر عبر إثيوبيا والهند الشرقية. أما بيير بيلون، فعمله الأساسي هو المراقبة الدقيقة عن كثب للنباتات والحيوانات والعادت المحلية، لذا كان يتحرى الدقة في عمله. ولكن يبدو أنه لم يكن لديه أي اهتمام بمسيحي الشرق. وكما رأينا سابقًا، أنه في الفترة التي قضاها في مصر جمع أطياف مختلفة في سلة واحدة، واعتبر أن اليونانيين والقبط والأرمن والموارنة هم أعضاء كنيسة واحدة. وذكر القبط فقط عندما زار القدس، وقال بأنه اسم أطلق على مسيحيي الزنار الذين اعتنقوا المسيحية على يد القديس توما.

ربما كانت من أكثر المشكلات التي سببت ارتباكًا للحجاج الغربيين، هو العدد الكبير للمذاهب والمعتقدات المسيحية التي وجدوها في مصر وفي الأراضي المقدسة، وهذا التنوع أربك هؤلاء الحجاج الذين تربوا وتعودوا على كنيسة واحدة وعقيدة واحدة. كتب بعض هؤلاء الحجاج عن فئات من المسيحيين وجدوهم بمصر: اللاتين (أو الفرنج)، واليونانيين، والنوبيين، والجورجيين، والإثيوبيين، والأرمن، واليعاقبة. لذلك ليس من المستغرب هذا الارتباك والخلط بين المذاهب المختلفة، أو معرفة أصول كل فئة. سيظهر ذلك لاحقًا عند مجئ البعثات التبشيرية إلى مصر، وسيشكل عائقًا أمام الغربيين لفهم حقائق الأمور، حتى أنهم سيقولون عن الأبجدية القبطية بأنها خاصة بالجورجيين، وأن القبط واليونانيين والأرمن والمارونيين، جميعهم أعضاء لكنيسة واحدة يقيمون في مختلف الأديرة المصرية، مثل دير سانت كاترين ودير القديس أنطونيوس ودير أبو مقار. تخبط أيضًا كل الرحالة والزوار في أمر مؤسس الكنيسة القبطية، ولم يتوصل أي منهم إلى ربط الكنيسة القبطية بالقديس مرقس. كل هذه الأخطاء تدفعنا إلى الاعتقاد بأن الرحالة، وحتى الذين أقاموا منهم في مصر، لم يكن لهم أي علاقة مباشرة مع القبط، أو لم يكن لديهم أي شغف لمعرفة القبط. لذا لم يكن من المستغرب هذا الجهل البَيٍن المتفشي بين الغربيين، في العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، حول القبط، إلى درجة عدم المقدرة على تحديد موطنهم وبلدهم، أو أبجديتهم، أو حتى عقيدتهم.

سيأتي الغربيون مُحملون بكل هذه الضبابية حول القبط، للتحاور معهم في محاولات مستميتة لجذبهم نحو الكثلكة والخضوع لكنيسة روما، والتخلي عن أوهامهم وهرطقاتهم. ولكن ما حدث قصة أخرى مثيرة، محملة بالمغامرات والمناورات والأوهام.