عدد 13-ملف: على الرصيف.. مع إبراهيم فتحي

إبراهيم فتحي

الماركسية وأزمة المنهج

2019.10.01

الماركسية وأزمة المنهج 

أزمة الماركسية

الآن نقف في أعقاب هزائم وإحباطات منيت بها الحركات الاشتراكية وحركات الطبقة العاملة في الغرب والشرق. كما نحس إحساسًا مريرًا بالغياب الفادح لنموذج مناسب يصلح لمواصلة النضال من أجل مجتمع اشتراكي مكتمل التحقق. والذين يسعون وراء مثل هذا النموذج المأمول يواجههم بدلاً منه نموذج «الاشتراكية الواقعية» التي بنيت بالفعل فيما كان يسمى المنظومة الاشتراكية، وسقطت نهائيًّا مع نظرياتها الرسمية المحتضرة. أما بقاياها التي ما تزال قائمة، فبعضها تتحول بوضوح نحو حلول تعتمد على السوق في مشكلاتها الاقتصادية، وبعضها يعاني من إخفاق وانعزال وليس أملاً لأحد. والطافي على السطح في عالم اليوم أن المبادرة الفكرية قد صارت بين يدي يمين هجومي. وذلك قد يجعل الماركسية تبدو في قلب أزمة يسلم بها أصدقاؤها مع أعدائها.

ولكن ما تسمى أزمة الماركسية ليست ظاهرة قريبة العهد كما يذكرنا ألتوسير. فقد مرت الماركسية في تاريخها عبر سلسلة طويلة من الأزمات والتحولات. وقد يساعدنا ذلك على وضع ما يحدث اليوم في منظوره الصحيح؛ أي في علاقاته الفعلية وأهميته النسبية، ولكنه لن يزيل شيئًا من خطورته أو متضمناته المنذرة بالسوء. فقد يرى أعداء التقليد الماركسي أن أزمته الراهنة هي أزمته النهائية المميتة، فهم لا ينظرون إلى الماركسية من خلال تطورها التاريخي وإمكاناتها المقبلة.

وفي تضاد مع ذلك نسأل كيف نظر ماركس نفسه إلى ما قدمه من فهم وصفه بأنه علمي للمجتمعات الإنسانية وخصوصًا المجتمع الحديث. لقد اعتبر ماركس هذا الفهم في المحل الأول فهمًا ثوريًّا. فهو يقدم نظرية التغيير الثوري للمجتمع. ويترتب على ذلك أن هذا العلم لا يقف عند علاقة الوصف والتفسير المعتادة في العلوم الطبيعية وموقفها من موضوع دراستها، بل يعتبر نفسه بحكم طبيعته قوة للتغيير بعد قيامه بالوصف والتفسير من هذا المنطلق. فهناك بعد تكاملي من الموقف العلمي.

ولفهم الماركسية إذن ينبغي الرجوع إلى المصائر المتغيرة لتراث ماركس الفكري، انتقالاً من فترة الأممية الثانية وما تلاها في بلاد الغرب المتقدمة، ثم إلى ما انشق عنها في الثورة الروسية وإلى الذين اهتدوا بهديها. ويؤدي بنا ذلك إلى أن أي فكرة عن تقليد ماركسي مرشد ثرى في إنجازاته المستمرة يجب التخلي عنها. فالتراث الماركسي يظهر منذ البداية منشقًا منقسمًا. وفكرة الأزمة ماثلة منذ البداية لا باعتبارها فكرة السقوط والموت، فقد انطلقت بواسطة الأزمة وفيها أفكار حيوية ومتحررة، ومثال ذلك الانتقال من ضرورة أن تكون الثورة ممكنه فقط في أعلى البلاد الرأسمالية تقدمًا أم أن تكون ممكنة في أضعف حلقات السلسلة الإمبريالية.

وتواجه الماركسية اليوم عالـمًا يحكمه رأس المال حكمًا راسخًا غير متزحزح في عصر لم تتحقق فيه وعود اشتراكية ولا توقعات طريق قيل إنه ثالث. ويبدو الوضع الراهن للأمور عند كثير من الناس غير قابل للتغير من ناحيته الأساسية. كما يبدو أن أي تفكير أو فعل عقلاني يجب أن يدور فحسب في خضوع لمتطلبات رأس المال العالمي الشامل. فالشعار المضمر المتكرر لدى أصحاب القرار ولدى الكثيرين هو لا يوجد بديل للرأسمالية. وهو شعار حتمي قدري مسلم به بطريقة عمياء قامت الماركسية بتفنيده وقامت على أنقاضه علميًّا.

لا يوجد بديل للرأسمالية:

ففي العالم الواقعي لا يمكن وجود بديل لنظام يصفه مفكروه بأنه طبيعي، أي متفق مع الطبيعة البشرية صالح إلى الأبد، يستحيل تغييره. لقد هُجر الوعد الاشتراكي الديموقراطي القديم الذي يؤسس برلمانيًّا ما يشبه الاشتراكية شيئًا فشيئًا بالتدريج داخل الرأسمالية، بعد أن انضمت حركة الاشتراكية الديمقراطية إلى الإجماع غير المقدس لشعار لا يوجد بديل للرأسمالية كحقيقة بديهية. فأبدية الرأسمالية هي الإطار العقلاني المزعوم للعالم الواقعي الذي لا يمكن تغييره، الناشئ عن الطبيعة البشرية. فعلينا أن نتظاهر لأنفسنا أن الطبقات والتناقضات الطبقية لم تعد موجودة أو لم تعد تهم. ولم يعد أيديولوجيو النظام القائم يدافعون حتى عن الفكرة التي كانت رائجة شعبيًّا عن تحسين نظامهم شيئًا فشيئًا تدريجيًّا، ما لم يكن في ذلك خروج على منطق وأسس وعلل النظام العقلاني القائم.

وذات صباح جميل فإن سكان كل بلاد العالم سيستمتعون بكل مزايا نظام المشروع الحر وتحديثه الجميل. أما حقيقية ما أثبتته الماركسية من أن الاستغلال المفترس النهّاب للموارد الإنسانية والمادية لكوكبنا لصالح حفنة بلاد رأسمالية، ضئيلة عدد السكان، تفرض وضعًا غير قابل للتعميم فيتم تجاهلها باستمرار. إن سكان الولايات المتحدة أقل من 5 % من سكان العالم ويستهلكون 25 % من كل مصادر الطاقة المتاحة في العالم. تخيل ماذا يحدث إذا تبنى 95 % من السكان نمط الاستهلاك الأمريكي نفسه محاولين اعتصار أضعاف أضعاف 25 % من 75 % المتبقية. فلا يمكن تحويل الشروط الاستثنائية للأقلية ذات الامتيازات إلى القاعدة الكلية الشاملة للعالم، فموارد العالم محدودة. فهناك كما تقول الماركسية اختلالات بنيوية (هيكلية) في صميم النظام الرأسمالي. وكذلك تناحرات متفجرة. وعلى عكس الميثولوجيا المغروسة بجهد كبير للنظام الحاكم، تذهب الماركسية ويذهب الواقع، إلى أن التناقضات المحفوفة بالمخاطر هي باطنة في النظام الرأسمالي الحاكم وليست خارجية. إن غبيًّا فقط هو الذي لا يدرك أننا لا نستطيع أن نسير دون إزعاج نحو المجتمع الألفي الليبرالي الرأسمالي العالمي، إلا أن التحدي التاريخي لتأسيس بديل قابل للحياة الذي بدأته الماركسية، يتطلب إعادة تقييم كبرى للإطار الاستراتيجي الاشتراكي وشروط تحقيقه في ضوء ما حدث في القرن العشرين من خيبات آمال.

التقليد الماركسي:

إنه إمكان مواجهه الأزمة البنيوية العميقة للنظام الرأسمالي. وذلك الإمكان يتحقق بواسطة محاولة إحداث تغيير«بنيوي جوهري يسير في اتجاه اشتراكي حقيقي». وهو لن يكون ممكنًا ومقنعًا إلا بلغة الديناميات التاريخية للنظام الرأسمالي الموجود بالفعل. وبديل هذا النظام هو النمط الاشتراكي للسيطرة الاقتصادية خلال الإدارة الذاتية للمنتجين المتشاركين، والنضال من أجل هذا البديل الاشتراكي أصعب من مجرد رفض النظام الرأسمالي. وهو بديل استراتيجي شامل للنظام القائم وليس علاجًا بطريقة يمكن دمجها في النظام القائم أو تكاملها معه بتقديم نظام هجين مثل المشروعات الاقتصادية الدينية المزعومة. فالمشروع السياسي للماركسية هو مشروع تغيير الحياة اليومية نفسها. إذن فإن أسئلة حول ما هي الماركسية ليست قابلة للتجنب. وبالإضافة إلى ما سبق فإن الأزمة المعاصرة للماركسية ناشئة جزئيًّا عن بروز حركات تقدمية، خطاباتها من خارج خطاب العمل، نسائية وبيئية ومعادية للعنصرية ولا تقتصر نظرتها على محل العمل. وثمة أفكار «تقصف» الماركسية عند فوكو ودريدا. ولكن الأزمات التي أصابت الماركسية متعددة، وكثيرة هي أشكالها داخل استمرار الماركسية المشكل.

ما الماركسية؟

فمنذ البداية هناك عدم التساوي الأصلي بين مكوناتها، الاشتراكية الخيالية الفرنسية الاقتصاد السياسي البريطاني، الديالكتيك الهيجلي الألماني. وقد عملت الماركسية على انصهارها معا وتجاوزها. وبعد موت ماركس بعقد، أصبحت الماركسية هي ما يمكن أن يسمى الأيديولوجية المسيطرة في الأممية الثانية وفي الاشتراكية الديمقراطية الألمانية. وهذه السرعة الرائعة في الانتشار من ناحية الأفكار العامة أخفت ضعف اختراق النظرية الماركسية العلمية للحركة وما صاحب ذلك من ابتذال أو تدهور. 

وقد عارض إنجلز العجوز شباب الحزب أصحاب الاتجاه الاقتصادي الأرثوذوكسي (خطاب إلى بلوخ في 21 سبتمبر 1890) وهذا يشكل بمعنى ما أول أزمة جنينية. وعبارة ماركس التي ذكرها إنجلز «كل ما أعرفه هو أنني لست ماركسيًّا» قد قيلت بالإشارة إلى جملة استعملها لافارج «شديد الأرثوذوكسية». ولا يستنتج منها أن ماركس رفض من حيث المبدأ فكرة أن نسقًا نظريًّا بدأ في النشوء انطلاقًا من أعماله. وقد كتب بليخانوف أن الماركسية نظرة مكتملة إلى العالم واستخدم مصطلح المادية الجدلية الجزئي لوصفها، أما كاوتسكى، الذي لم يوصف بعد بأنه مرتد، فقد ذهب إلى أن أعمال ماركس وإنجلز قد توصلت إلى نظرية متكاملة للتطور المتعلق بالطبيعة والمجتمع البشرى، وتشكل أخلاقيات ذات منزع طبيعي ونظرة مادية ذات منزع بيولوجي إلى العالم جزءًا منها. وكان ماركس ينظر إلى إنتاجه النظري فيما يبدو باعتباره، في المحل الأول، دون أن يكون حصريًّا مراجعة نقدية للاقتصاد السياسي الكلاسيكي من وجهة نظر الطبقة العاملة، وما يتضمنه ذلك بالضرورة من تصور مادي للتاريخ. ومادي هنا بمعنى أن الطريقة التي ينفذ بها الإنتاج المادي (تقنية الإنتاج) وفق شروط الملكية أي علاقات الإنتاج هي العامل المحدِّد في التنظيم السياسي وفي التمثيل الثقافي لفترة زمنية. كما أن نقد الاقتصاد السياسي في تطابق مع هذا التصور المادي للتاريخ لا يضم ببساطة نقدًا لتمثيلات زائفة، ولكن أيضًا نقدًا للشروط الموضوعية (مادية اجتماعية) التي تنتج بالضرورة هذه التمثيلات (للاقتصاد البورجوازي الكلاسيكي).

وإلى هذا المدى لا تكون النظرية الاقتصادية الكلاسيكية البرجوازية «زائفة» ببساطة، ولكنها انعكاس ملائم مناسب وإن لم يكن تامًا لظواهر نمط الإنتاج الرأسمالي وعلاقاته الداخلية. ولذلك فإن الطبقة الوحيدة التي تستطيع إمكانًا أن تتمثل نقد الاقتصاد السياسي الكلاسيكي دون إضرار بنفسها هي الطبقة العاملة. وفي الحقيقة إن تمثل هذا النقد هو الشرط المسبق الضروري لتحريرها. على حين أن أعضاء، أفرادًا، من البورجوازية مثل إنجلز يستطيعون تجاوز حدود وضعهم الطبقي. فليس من المتصور عند ماركس أن طبقة بأكملها يمكن أن تنتحر بهذه الطريقة.

والآن هل يوجد في أذهان الجماهير أي مثال منجز، أي إشارة حية إلى مرجع قائم للاشتراكية؛ هل الاتحاد السوفيتي ومنظومته سابقًا وحاليًا الصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا يصلح أي منها نموذجًا موحدًا للاشتراكية؛ وهل تكافح حركة الطبقة العاملة في البلاد الرأسمالية المتقدمة مثلاً من أجل أن تقيم في بلادها أنظمة كهذه؟

الأزمة: 

نشر تي جي مازاريك T.G.Mazayk وهو بروفيسور محترم من جامعة براج في مجلة Lazeit فبراير 1898 أعداد 177-179 فيينا سلسلة مقالات معنونة الأزمة العلمية والفلسفية للماركسية المعاصرة ناقدًا الأسس السوسيولوجية والفلسفية للماركسية. ونقد أ. لابريولا هذا النقد. وقد وقف مازاريك عند نقد مدرسي للماركسية، فقد رفض التفسير الاجتماعي الاقتصادي؛ أي نظرية الطبقتين المتناحرتين والنزعة التخطيطية لمراحل التطور التاريخي. ودعا إلى التخلي عن الأيديولوجية الماركسية والعودة إلى كانط، كما نقد التحليلات الوصفية الضخمة التي اتبعها الماركسيون، والتي أدت في رأيه إلى انتشار الماركسية المبكرة، ثم استمر في نقده إلى ما أسماه البدائية والتبسيطية المفرطتين فيما يخص محاولة إنجلز أن يتعقب في بضع كلمات المراحل الأساسية لتاريخ المدنية. ولم يكن مازاريك إلا مكررًا من الخارج لما كانت تقوله في داخل الماركسية النزعة المراجعة: فنحو ما بين 1896-1898 نشرت النيوتسايت مقالات «مشكلات الاشتراكية» بقلم الماركسي أي برنشتاين. فالصعوبات الحادة التي تواجه الماركسية عنده صعوبات ثلاث: ما لدى الرأسمالية من قدرة على التكيف وعلى الضم والإدماج والتجديد، مما يؤدي إلى رفض الطابع الحتمي لاضمحلال هذه الرأسمالية بعد تطور الكارتلات وأنظمة الائتمان والتركيز الصناعي واتساع وسائل الاتصال وادعاء نهاية الركود الدوري. وكل هذه المزاعم سمحت لبرنشتاين برؤية الانتقال إلى الاشتراكية كعملية للنمو مكتوبة في المنظور التدريجي لنزعة الإصلاح الاقتصادي والبرلمانية السياسية. أما الثورة وفقًا للنموذج الكلاسيكي الذي أسماه برنشتاين النموذج البلانكي فتعود إلى الماضي، ويظل هذا الزعم متكررًا اليوم عند أدعياء الليبرالية في العالم رغم تكذيب الوقائع المتعددة، فالثورات الجماهيرية لم تنقطع قط عن العالم.

ماركس في القرن العشرين

في نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، انتهت فترة الأنظمة الشيوعية الضخمة والأحزاب الشيوعية الجماهيرية، وما استمر منها قد تخلى في التطبيق عن المشروع القديم الذي كان يغتصب اسم الماركسية اللينينية. وقد حررت نهاية الماركسية الرسمية للاتحاد السوفيتي ماركس من التماهي معها ومع تطبيقها في أنظمة قد تكون مرفوضة عند الكثيرين، ومع ذلك خفت اسمه بعض الشيء عند الكثيرين. ولكن ما حدث بعد ذلك أدى إلى أن تكتب فينانشيال تايمز عنوانها الرئيسي في أكتوبر 2008 «الرأسمالية في اضطراب عنيف» أعاد ماركس إلى المسرح العمومي. فعلى حين تمر الرأسمالية المعولمة بأزمتها الكبرى يظل ماركس في المسرح العمومي ولكنه سيكون مختلفًا جدًا عن ماركس في القرن العشرين كما يقول إريك هوبسباوم.

فما الذي أخذه تفكير الناس عمومًا عن ماركس في القرن العشرين؟ كان تفكيرهم تسوده ثلاث مقولات؛ الأولى كانت انقسام البلاد إلى بلاد تكون الثورة فيها مطروحة وبلاد ليست كذلك. الأولى هي بلاد الرأسمالية المتطورة شمالي الأطلسي والهادي ثم البلاد الباقية. وقد تشعب تراث ماركس إلى تراث اشتراكي ديموقراطي إصلاحي وتراث ثوري تسيطر عليه الثورة الروسية التي وقعت في بلد متخلف، وهذه هي المقولة الثانية، والمقولة الثالثة هي تدهور الرأسمالية في عصر الكارثة بين 1914 و 1940، وبلغت أزمتها من الضراوة درجة جعلت الكثيرين يشكون في إمكان تعافي الرأسمالية ويتمنون أن يحل محلها اقتصاد اشتراكي، مثلما تنبأ جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter البعيد عن الماركسية في الأربعينيات. وفي الحقيقة لقد تعافت الرأسمالية ولكن ليست في شكلها القديم. 

وفي الوقت نفسه ظهر في الاتحاد السوفيتي بديل «اشتراكي» بدا حينئذ أنه منيع على التدهور، وبين 1929 و1960 لم يكن يبدو من غير المعقول حتى لكثير من غير الاشتراكيين الذين لم يوافقوا على الجانب السياسي من نظامه أن يعتقدوا أن الرأسمالية في الولايات المتحدة مثلاً منهوكة القوة، وأن الاتحاد السوفيتي على وشك أن يتفوق عليها في الإنتاج. وفي سنة القمر الصناعي لم يكن ذلك يبدو سخيفًا في السمع. وهذه الأحداث ومتضمناتها السياسية والنظرية تنتمى إلى فترة ما بعد وفاة ماركس وإنجلز، فهي تقع وراء نطاق تجربة ماركس وتقديراته، فالحكم على ماركسية القرن العشرين ليس مبنيًّا على تفكير ماركس نفسه بل على تفسيرات تجئ بعد وفاته أو على مراجعات لكتاباته.

وفى التسعينيات المتأخرة من القرن التاسع عشر، في أثناء أزمة المراجعة الفكرية الأولى للماركسية، بدأ الجيل الأول من الماركسيين بعد وفاة ماركس في مناقشة بعض القضايا التي صارت ذات دلالة في القرن العشرين؛ قضايا الإمبريالية والقومية. وأوسع المناقشات في الماركسية، في القرن العشرين، هي المجادلة حول ماذا يمكن أن يكون أو ينبغي أن يكون عليه اقتصاد اشتراكي لا سبيل لوجودها عند كارل ماركس. وهي مجادلة بزغت بقدر كبير من تجربة اقتصاد حرب 1914-1918.

وما قاله ماركس لم يكن أن الرأسمالية قد بلغت الحدود القصوى لطاقتها على تنمية قوى الإنتاج، بل كان إن الإيقاع الخشن للنمو الرأسمالي أنتج أزمات دورية للإنتاج الزائد الذي سيثبت الآن أو لاحقًا أنه سيكون طابع المستقبل ولا يتوافق مع طريقه رأسمالية لإدارة الإنتاج، ويولد نزاعات اجتماعية لا تستطيع مواصلة الحياة بعدها، فالرأسمالية بطبيعتها غير قادرة على تأطير الاقتصاد التالي للإنتاج الاجتماعي، ذلك الذي افترض ماركس أنه سيكون بالضرورة اشتراكيًّا. ومن ثم لم يكن مدهشًا أن الاشتراكية كانت في صميم مجادلات وتقديرات القرن العشرين حول كارل ماركس. ولم يكن ذلك بسبب أن مشروع اقتصاد اشتراكي هو ماركسي نوعيًّا وعلى وجه الخصوص فهو ليس كذلك، ولكن بسبب أن كل الأحزاب التي تستلهم الماركسية تشاركت في هذا المشروع، كما أن الأحزاب الشيوعية طالبت لنفسها بالفعل بحق التأسيس، ولكن هذا المشروع في شكله كما كان في القرن العشرين مشروع ميت. أي أن الاشتراكية كما طبقت في الاتحاد السوفيتي والاقتصادات الأخرى مركزية التخطيط أي الاقتصادات بلا سوق نظريًّا المملوكة للدولة؛ الاقتصادات الموجهة الأوامرية قد انتهت ولا سبيل لإعادتها إلى الحياة. كما أن الأماني الاشتراكية الديمقراطية لبناء اقتصادات اشتراكية كانت دائمًا مثلاً للمستقبل، ولكنها حتى كأمنيات شكلية قد تم التخلي عنها عند نهاية القرن العشرين.

ونتساءل كم من نموذج الاشتراكية في أذهان الاشتراكيين الديمقراطيين وكم من الاشتراكية التي أقامتها النظم الشيوعية كان ماركسيًّا؟

وهنا من الحاسم أن ماركس نفسه تعمد الامتناع عن كتابة تصريحات نوعية عن اقتصادات الاشتراكية وعن المؤسسات الاقتصادية للاشتراكية، ولم يقل شيئًا عن الشكل العياني للمجتمع الشيوعي، ما عدا أنه لا يمكن أن يشيد أو يبرمج فهو سينمو انطلاقًا من مجتمع اشتراكي. ومثل هذه الملاحظات العامة التي قدمها عن الموضوع، مثل التي قدمها في نقد برنامج جوتا الخاص بالاشتراكيين الديمقراطيين الألمان، لا يكاد يعطي خلفاءه  إرشادًا نوعيًّا ولا فكرًا يعتمد عليه عمليًا.

ومن المثير للاستغراب إن أول نظرية عن اقتصاد مؤمم ممركز لم يقم بابتكارها اشتراكيون، بل ابتكرها رجل اقتصاد إيطالي غير اشتراكي هو إنريكو باروني Enrico Barone في عام 1908. ولم يفكر أحد آخر في الموضوع قبل مسألة تأميم الصناعات الخاصة حين وضعت على جدول الأعمال السياسي، في أثناء نهاية الحرب العالمية الأولى، وعند هذه النقطة واجه الاشتراكيون مشكلاتهم دون أن يكونوا على استعداد، ودون إرشاد من الماضي أو من أي أستاذ. إلا أن التخطيط مضمر في أي نوع من الاقتصاد موجه اجتماعيًا. ولكن ماركس لم يقل أشياء عملية محددة عن التخطيط، وحينما جرب في روسيا السوفيتية بعد الثورة كان من الواجب ارتجاله بقدر كبير. ومن الناحية النظرية فعلت ذلك بابتكار وتصميم مفهومات مثل تحليل ليونتيف للمدخل والمخرج وتقديم الإحصاءات ذات الصلة. وظل النموذج الأساسي للاقتصاد المخطط السوفيتي هو اقتصاد حرب أي اقتصاد تكون فيه أهداف معينة محددة مسبقًا؛ مثل تصنيع فائق السرعة أو كسب حرب أو صناعة قنبلة ذرية أو إرسال رواد إلى الفضاء، ولا يوجد شيء اشتراكي على نحو استثنائي في هذا. وعلى الرغم من أن الاقتصاد السوفيتي حاول منذ 1960 لم يستطع أن يخرج من المأزق المستقر في محاولة جعل السوق متلائمة مع هيكل بيروقراطي أوامري.

وقد حدد أهم مراجع ماركسي «برنشتاين» المشكلة بإصراره على أن الحركة الإصلاحية هي كل شيء، أما الهدف النهائي الاشتراكي فليس له واقع  عملي. 

وفي الحقيقة لقد استقرت معظم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، التي صارت أحزابًا حاكمة بعد الحرب العالمية الأولى، على السياسة «المراجعة» التي تترك للاقتصاد الرأسمالي مطلق الحرية في العمل، خاضعًا فقط للاستجابة لبعض مطالب الطبقة العاملة، الموضع الكلاسيكي لهذا الموقف هو كتاب «مستقبل الاشتراكية» 1956 لأنتوني كروسلاند، الذي أكد أن رأسمالية بعد 1945 تحل مشكلة خلق مجتمع الوفرة، ولم يعد المشروع العام في الشكل المعتاد للتأميم ضروريًّا، وصارت المهمة الوحيدة للاشتراكيين هي كفالة توزيع عادل للثروة القومية. وكل ذلك كان بعيدًا جدًا عن ماركس وعن الرؤية الاشتراكية التقليدية باعتبارها أساسًا ليست مجتمعًا مرتكزًا على السوق، وهي رؤية ماركس أيضًا. لقد ذهب ماركس إلى أن محاولة تسليم المجتمع البشرى إلى السوق المفترض بأنها تحكم نفسها بنفسها، وتعظم الثروة أو الرفاهية ويسكنها فاعلون يتبعون بعقلانية مصالحهم ليس لها سابقة وجود فعلية في أي طور من تطور الرأسمالية في أي اقتصاد متطور ولا حتى في الولايات المتحدة. لقد كان ردًا حتى السخف في قراءة أيديولجيين تمكن تسميتهم بلاهوتيي السوق لآدم سميث. تمامًا مثلما قرأ بعض البلاشفة في الاتحاد السوفيتي كارل ماركس بالطريقة نفسها ووصل السخف بهم إلى المناداة بمئة في المئة من اقتصاد دولة مخطط أوامري وقد سخر ماركس من أشباههم في أيامه وقال كل ما أعرفه أنني لست ماركسيًّا.

وفى القرن العشرين فشل لاهوت السوق عمليًّا، كما اختفت اقتصادات الدولة المخططة مركزيًا، وأخفقت أمنيات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وفقدت مصداقيتها. وقد أدى ذلك إلى زوال الكثير من جدال القرن العشرين حول الاشتراكية. وهذا الجدال كان بعيدًا بعض الشيء عن ماركس على الرغم من أنه كان يقال إنه هو الملهم لهذا الصنف من الاشتراكية، وتمارس الاشتراكية باسمه. ولكن ما لم يفقد الدلالة ولا الأهمية المعاصرة في القرن الواحد والعشرين هو رؤية ماركس للرأسمالية كنمط إنتاج مؤقت تاريخيًّا، وتحليله لقدرتها على التوسع والتركيز وتوليد الأزمة وتجديد نفسها.

التركيب الماركسي:

كما سبق القول إن السياسة والاقتصاد والفلسفة، أي التجربة الفكرية الفرنسية والبريطانية والألمانية، الاشتراكية اليوتوبية والاقتصاد السياسي الكلاسيكي والديالكتيك الهيجلي، تم انصهارها وتحولها وتجاوزها في التركيب الماركسي في أثناء الأربعينيات من القرن التاسع عشر. وليس من المصادفة أن هذا التحول قد حدث في هذه اللحظة التاريخية. ففي وقت حول 1840 اكتسب التاريخ الأوروبي بعدًا جديدًا. فقد تم التعبير عن المشكلة الاجتماعية أو الثورة الاجتماعية الكامنة نموذجيًّا في ظاهرة البروليتاريا، وصار الكتاب البرجوازيون واعين بهذه البروليتاريا كمشكلة تجريبية وسياسية، فهي طبقة ذات حركة وقوة في التحليل الأخير لقلب المجتمع. ووجد هذا الوعى تعبيرًا في أبحاث نسقية مقارنة، وفي تعميمات تاريخية تذكر بالحجة الماركسية عن صراع طبقي بين البروليتاريا والبرجوازية، وظهرت في ذلك الوقت حركة ثورية وبروليتاريا واعية «شيوعية» في فرنسا توصف بكلمة شيوعية التي أصبحت متداولة حول 1850. وعلى صلة وثيقة بها لاحظ إنجلز حركة بروليتارية جماهيرية بلغت ذرتها في بريطانيا؛ حركة الميثاق chartism. وقبلها ظهرت أشكال مبكرة من الاشتراكية الطوباوية في غرب أوربا، ثم تراجعت في هوامش الحياة العامة؛ باستثناء طوباوية فوريية التي ازدهرت بتواضع ولكن بثبات في التربة البروليتارية. وكان ماركس قد أخذ من هيجل الديالكتيك وهو يرفض الطابع المطلق الذي يعلو على الزمان للفكر ويعتقد بتطوره التاريخي، وصارت فكرة السلب أو النفي والرفض هي الوسيلة الفكرية في الانتقال إلى اتخاذ موقف إيجابي من العالم. فالنفي هو النبض المحرك للفكر والواقع معًا، والنظر إلى الوضع الماثل في ضوء ما فيه من إمكانات لم تتحقق بعد وعدم الاكتفاء بالحالة الراهنة، النفي في الديالكتيك قوة ثورية يسعى دون توقف إلى الحركة الدينامية وينزع إلى التجاوز والعلو، وهو تجاوز مستمد من قلب ما هو موجود، وعلو منتزع من باطن الوضع القائم. وكان ماركس الديالكتيكي يبحث عن قوة يمكن أن تحول المجتمع، بنفيها للمجتمع الموجود، ووجدها في البروليتاريا التي لم يكن لديه معرفة عيانية بها إلا من خلال إنجلز. ولم يكن قد أعطى بعد للإجراءات الفعلية للاقتصاد الرأسمالي والسياسي الكثير من التفكير فبدأ فورًا في دراسة الاثنين. ومن الخطأ افتراض أنه لم يركز ذهنه في الاقتصاد قبل الخمسينيات المبكرة فقد بدأ دراساته الجادة في زمن لا يأتي بعد 1844. والذي أسرع بهذا الانصهار بين النظرية الاجتماعية والحركة الاجتماعية هو ترابط النصر والأزمة في المجتمعات المتطورة النموذجية فرنسا وبريطانيا في أثناء تلك الفترة. 

فسياسيًّا، أسست ثورات 1830 في فرنسا والاصلاحات البريطانية المناظرة 1832-1835 أنظمة خدمت بوضوح مصالح الجزء السائد من البرجوازية الليبرالية، ولكنها قصّرت على نحو مشهود عن تحقيق الديمقراطية السياسية. واقتصاديًّا، كان التصنيع المسيطر من قبل في بريطانيا يتقدم على نحو مرئي في أجزاء من القارة، ولكن في مناخ من الأزمة وعدم اليقين الذي ظهر للكثيرين كتساؤل حول المستقبل الكامل للرأسمالية كنظام. إن شبحًا كما سيقول ماركس وإنجلز بعد زمن قصير يجوس في أوروبا؛ شبح الشيوعية. ولم يكن التحويل الماركسي للاشتراكية ممكنًا تاريخيًّا قبل الأربعينات من القرن التاسع عشر في حدود البلاد البرجوازية الرئيسية نفسها، حيث كانت كل من الحركتين السياسية الراديكالية وحركة الطبقة العاملة والنظرية الاجتماعية الراديكالية والسياسة الراديكالية عميقتي الجذور في تاريخ طويل وتقليد وممارسة من الصعب التخلص منها. وكما أبان التاريخ اللاحق كان اليسار الفرنسي طويل المقاومة للماركسية، على الرغم أو بسبب قوة التقليد الصادر عن الأرض الفرنسية بثوريته وروابطه. كما بقيت الحركة العمالية البريطانية غير مستجيبة للماركسية زمنًا طويلاً ربما بسبب نجاحها النامي داخليًّا في تطوير حركة واعية طبقيًّا ذات مراجعه نقدية للاستغلال، ودون الإسهام الفرنسي والبريطاني كان التركيب الماركسي سيغدو مستحيلاً. فمشاركة ماركس لإنجلز طيلة الحياة بخبرة إنجلز الفذة ببريطانيا التي لم يكن أقل ما فيها أهمية ممارسته كرأسمالي في مانشستر. ودون تلك التجربة كان من الممكن أن تتم تنمية الطور الجديد من الاشتراكية لا في الأخذ في الاعتبار بتجربة مركز المجتمع البرجوازي في بريطانيا بل بتجربة الهامش الألماني وبواسطة إعادة بناء للمعمار الشامل التأملي للفلسفة الألمانية.

ومن الخطأ القول إن اشتراكية ما قبل الماركسية احتضرت في زمن ماركس، بل ظلت حيه وسط أنصار برودون وباكونين والفوضويين وبعض النقابيين الثوريين، حتى حينما استعاروا الكثير من التحليل الماركسي. ولكن ابتداءً من أواسط الأربعينيات فصاعدًا لا يمكن القول إن ماركس استمد أي شيء من التراث الاشتراكي السابق للماركسية، فقد بدأ في إرساء أسس الاشتراكية العلمية. وحينما نشر ماركس مع إنجلز في 1848 البيان الشيوعي لقي ما يقرب من ترجمة إلى مائة لغة. فماركس قد رسم خريطة تشريح الرأسمالية واقتصادها السلعي بطريقة أدت إلى أنه مهما تكن الهجمات على نظريته بواسطة مفكرين آخرين، فإن جاذبيته لأناس وجماهير يريدون تغير عالمهم لم تمت قط. وذلك على الرغم من أن موته أعلن مرارًا. والآن يشاع من جانب أنصار الرأسمالية دون سند أنه صار أكثر موتًا مما حدث له قبلاً. فإعلان موته لازمة متكررة طوال سنين كثيرة على الرغم من أن أصدقاءه كانوا قد توقعوا أن يقرع كتابه الموعود رأس المال جرس وفاة الرأسمالية نفسها. وعلى الرغم من أنه كان غزير الإنتاج في صورة مقالات صحفية ومسودات ودراسات وخطابات ومخطوطات نشرت بعد وفاته. لم ينشر قبل وفاته في 1883عملاً كبيرًا باستثناء المجلد الأول من رأس المال. وقد تغلغل فكريًّا إلى أعماق الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، الذي كان يقسم بنظرياته التي اعتقد ماركس أنهم أخطأوا فهمها، وكان هذا الحزب أكبر أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية، واعتبر الماركسية أساس نظريته وكان ليبكنخت وكاوتسكي وبيبل يسلكون كالمفسرين الرسميين للماركسية التي كثر المنشقون عنها، كما كانت عرضه للمجادلة في الجامعات فقد نقدها بويم باورك Bohm Bawerk وزومبارت Sombrt وفيبر Weber وقدمت أفكار تقول إن نظرية ماركس غير متسقة وأنها تقادمت ولا جديد فيها.

مصائر مختلفة لأفكار ماركس:

أرسى المجلد الأول من رأس المال الخطوط الرئيسية للهجوم على الرأسمالية، في القسم الثامن فصل نظرية دورات الربحية والبطالة في الرأسمالية. ولكن كان هناك منظور أطول، فالرأسمالية ليست إلا حلقة في سلسلة أنماط الإنتاج، فلماركس نظرية في المراحل التاريخية، ولكن عنده مثل هيجل وبخلافه مرحلة أعلى تتجاوز الرأسمالية. وكانت قوة أسلوب ماركس في البيان وفي أقسام من المجلد الأول من رأس المال في مهاجمة الرأسمالية وإبراز تناقضاتها جعلت كثيرًا من أتباعه يظنون أن تجاوز الرأسمالية وشيك. ولكن هذا الأمل الجامح انحسر بعد 1871 وهزيمة كميونة باريس. وبعد نشر المجلد الثاني من رأس المال في 1885 ظهر أن نظريته يمكن أن تستعمل لتفسر إمكان زمن طويل جدًا من التوسع الرأسمالي دون أزمات قاتلة. وأدى ذلك إلى مجادلات عنيفة. أما المجلد الثالث المنشور عام 1894، فقد ذكر اتجاه معدل الربح إلى الهبوط مما أسعد محترفي القول بهلاك الرأسمالية. وكتب بويم باورك أستاذ كرسي الاقتصاد في جامعة فيينا هجومًا قويًّا على عدم الاتساق كما يدعى بين الحجة البسيطة في المجلد الأول والحساب التفصيلي لكيف يترجم استغلال العمال نفسه إلى أرباح رأسمالية في المجلد الثالث. أما إدوارد برنشتاين بعد قضائه عدة سنوات في بريطانيا، فقد اقتنع بأن الرأسمالية تغيرت وأن أفكار ماركس لم تعد قابلة للتطبيق. وكتبت روزا لوكسمبورج كتابًا مسهبًا محاولة مصالحة الصيغ الثلاثة لدينامية قصة الرأسمالية ضامة إليها مسألة المستعمرات. وظلت تأمل في أن العمال في البلاد الرأسمالية المتقدمة قد يستطيعون عبر الإضراب العام أو أداة مماثلة أن يسرعوا بموت الرأسمالية. كما أكد كاوتسكي التقدم الثابت لقوة العمال من خلال الحزب والطريق البرلماني إلى الاشتراكية.

وقد غيرت الحرب العالمية الأولى التي نشبت أغسطس 1914 الكثير من صورة العالم في الأذهان عن قوى اللاعقلانية والتعصب القومي والعنف والعنصرية بدلاً من المدنية والعقلانية.

ولكن الصدمة الهائلة كانت من نصيب الماركسيين. فالعمال بدلاً من أن يتحدوا أمميًّا كما كانوا يتوقعون نظرًا للوضع الخاص والطبيعة الخاصة المفترضة نظريًّا لهذه الطبقة قد أظهروا أسوأ ملامح التعصب القومي، كما صوت الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي ادعى أنه يسترشد بالماركسية إلى جانب اعتمادات الحرب. وخلافًا لمعظم التوقعات استولى لينين والبلاشفة على السلطة في روسيا المتخلفة اقتصاديًّا في ثورة تذكر بثورات باريس. وأصبح ماركس وأفكاره الملكية الخاصة للحزب الذي يعرف الجميع أنه وصل إلى السلطة باستخدام الماركسية والإخلاص لها، مما جعل تفسير البلاشفة للماركسية هو الصيغة المعتمدة لها. وتوالت المصائب فلم تنتصر الثورة المأمولة في الغرب ولم تنتصر الأحزاب الشيوعية في الانتخابات بل انتصرت الفاشية في ألمانيا وإيطاليا، وحققت العسكرية اليابانية أكبر نفوذ. ولم تهزم الأحزاب السياسية الفاشية بل هزمتها الحرب التي اشترك فيها الاتحاد السوفيتي، ثم تلت ذلك الحرب الباردة حينما حقق الاتحاد السوفيتي تصنيعًا باهرًا، فقد أنجز في عشرين سنه ما استغرق مئة سنة في البلاد الرأسمالية، وأثر مثاله في البلاد المتحررة حديثًا في آسيا وأفريقيا بعد حركات وطنية عميقة الجذور. وأضافت الثورات في الصين وفيتنام مجدًا للصيغة اللينينية للماركسية.

ورغم الحرب الباردة أصبحت الماركسية قوة بارزة في الجامعات وفي أحزاب سياسية، وفي 1956 حدثت عاصفة غزو الاتحاد السوفيتي للمجر لإخماد الانتفاضة هناك، كما حدثت إدانة لستالين في مؤتمر سري للحزب الشيوعي السوفيتي، وظهرت مسودات كتبها ماركس ولم تكن قد نشرت، وولد اليسار الجديد في الغرب. وصارت الماركسية الغربية مشروعًا مهمًا جادًا داخل وخارج الجامعات. وأخيرًا سقطت المنظومة الاشتراكية وواصلت الرأسمالية الحياة بل صارت ظاهرة عالمية دينامية قادرة على التقدم التكنولوجي لا يكاد أحد يصدق التنبؤ بموتها. فنظرية ماركس قصد بها دراسة ديناميات الرأسمالية، نواحي قوتها وحدودها، وهو يؤكد أنه لا يختفى نظام اجتماعي على النطاق العالمي قبل أن تتطور قواه المنتجة المتاح لها مساحة فيه، ولا تظهر أبدًا علاقات إنتاج جديدة أعلى قبل أن تنضج الشروط المادية لوجودها في رحم المجتمع القديم نفسه. فالاشتراكية على النطاق العالمي ليست في مرحلة النضج لأن الرأسمالية لم تستنفذ بعد طاقتها على التطور. وهي ليست متصورة دون مشروعات هندسية رأسمالية كبيرة مبنية على آخر اكتشافات العلم الحديث. ويرى لينين أنها غير متصورة دون تنظيم دولة مخطط، إذ يراعي عشرات الملايين من العمال بدقة مقياسًا موحدًا في الإنتاج والتوزيع. وفي روسيا رأي لينين أن من المهم الانتقال إلى رأسمالية الدولة والسماح برأس مال خاص محلي وأجنبي للخروج من الوضع المتميز باقتصاد المالك الصغير إلى توسيع المشروع الرأسمالي الكبير. فالرأسمالية أفضل من الإقطاع والرأسمالية الكبيرة المنظمة أفضل من الإنتاج السلعي الصغير بالنسبة للانتقال إلى البناء الاشتراكي الذي هو هدف تحرير الطبقة العاملة. لقد أكد لينين في غياب ثورة في ألمانيا على رأسمالية الدولة في روسيا، فهو الذي طعم الاقتصاد الروسي بالصيغة المعتمدة على الدولة للرأسمالية الألمانية، واحتفل بفضائل رأسمالية الدولة. على العكس من الأممية الثالثة أيام ستالين التي اعتبرت الرأسمالية -بخلاف لينين- تحتضر في أزمة الموت والثورة الاشتراكية وشيكة، فالرأسمالية لا مستقبل لها مهما يكن محدودًا. ولكن الستالينية اعتمدت على اقتصاد الدولة الممركز واعتبرته اشتراكيًّا. وقد أصابت عدوى الستالينية بعض الليبراليين فكتبوا عن «الاشتراكية» وأنهم «رأوا المستقبل في روسيا ورأوه يعمل بنجاح».

وقد هيأت الحرب العالمية الأولى دافعًا ضخمًا لإزالة الأرستقراطية من موقعها الحاكم في كل مكان من أوروبا، فحلت محل الإمبراطورية النمساوية جمهورية كان رئيسها أحد قادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني فريدريك إيبرت. أما اليسار الثوري للحزب فقد شكِّل عصبة سبارتاكوس، واحترق في انتفاضة ثورية قرب نهاية 1918 وبداية 1919، واستعادت القيادة اليمينية النقابية سيطرتها وأصلحت الموقف لحسابها، واغتيلت روزا لوكسمبورج التي اعتبرها السوفييت وجميع الثوريين شهيدة عظيمة. واستمرت الرأسمالية ولكنها انتقلت من المنافسة الحرة إلى الاحتكار. وبزغت رؤيتان للاشتراكية تتنازعان الأرضية السياسة.

رؤية الأممية الثانية عن الاشتراكية ضمن الرأسمالية، فالهدف فرض الطابع الإنساني على الرأسمالية، تحسين أوضاع العاملين وخلق خدمات عامة أفضل من صحة وتعليم، ونقل وحماية كبار السن والعاطلين ببناء دولة رفاهية دون تحد لنظام الربح. وأشد الخطوات راديكالية كانت تأميم بعض الصناعات المتدهورة غالبًا وكان التوسع المتزايد لملكية الدولة وإشرافها عند يساريي الأممية الثانية طريقة للتغلب على الرأسمالية سطوًا.

وقد التزم حزب العمال البريطاني بالاستيلاء على وسائل الإنتاج من جانب الملكية العامة في دستور 1917 المادة 4 الشهيرة. ومشكلة الاشتراكية في أحضان الرأسمالية أن نجاحها معتمد على رأسمالية لا بد أن تكون ذات رخاء تعمل جيدًا بتشغيل جيد واقتصاد ناجح، وهي الأوقات التي تربح فيها الأحزاب اليمينية الانتخابات، وقد أراد السوفييت وأرادت الأممية الثالثة اشتراكية خارج الرأسمالية. ولكن الرأسمالية كانت متخلفة في روسيا وكانت سلطة الطبقة العاملة من الواجب عليها مهمة الإسراع بالتطور الرأسمالي. ولكن ليست هذه هي الاشتراكية كما تصورها البيان الشيوعى أو نقد برنامج جوتا. إن رأسمالية الدولة، كانت مخلوقًا لزجًا بديلاً للرأسمالية لا يأتى بعد نضج الرأسمالية بل يسابقها بحذائها، يستعمل التخطيط على نطاق مجمل الاقتصاد. وبالنسبة للتراكم البدائى؛ يستعمل الريف من خلال التبادل أو المصادرة وبناء اقتصاد الدولة متطور ذي وتيرة متسارعة باستعمال تقنيات مماثلة لما استعمل في تاريخ الرأسمالية ولكن دون رأسماليين.

وهذا ما كانته الاشتراكية خارج الرأسمالية وكان هناك بطبيعة الحال صيغة ثالثة لم تأخذ قط أي فرصة أو لم تأخذ بعد وهي الرؤية الكلاسيكية الماركسية للاشتراكية التي تأتي بعد الرأسمالية المتطورة متجاوزة إياها. مجتمع واع بذاته يفطن الآن إلى أن الرأسمالية كنظام ملكية خاصة تربح من التقسيم الاجتماعى للعمل، لا تستطيع أن تقدم أي تحسين يمكن أن يتحول نحو أن يسيطر ويتحكم في الاقتصاد، هذا التحسين يتطلب ملكية المجتمع وليست ملكية الدولة؛ فالمجتمع هو الذي يسيطر بوعي ذاتي على الاقتصاد وليست الدولة. هناك عند ماركس مرحلة انتقالية حينما تستولي الطبقة العاملة على السلطة وتلغي التمايزات الطبقية، فهناك في رأى هوبسباوم ما يقرب من خيط يشبه اتجاه إلغاء الدولة في رؤية ماركس للاشتراكية بمجرد أن يستوعب الشعب بوعي تبادل أفراده الاعتماد، بمجرد أن تصير يد آدم سميت غير المنظورة منظوره لكل إنسان، حينئذ سينطلقون نحو تنظيم المسائل الاقتصادية بحيث تأتى حاجات كل فرد أولاً، وسيستمر الناس في العمل لا بيع قوة عملهم، ولكن سيكونون جزءًا من تبادل اجتماعي معمم. وسيشترك كل فرد في أخذ القرار الواعي بالنسبة لكيف يدار الاقتصاد، وسيعمل كل فرد لنفسه وهو يعمل للمجتمع. وهذه رؤية تشبه أن تكون طوباوية بمعنى مزدوج فهي ليست تفصيلية ولم تواجه قط الواقع الخشن للحياة من يوم ليوم. فكيف يمارس الإشراف الواعي بواسطة «المجتمع» وكيف يتم توصيل حاجات الناس وما يريدون، كيف لمثل هذا المجتمع أن يقرر الادخار والاستثمار، كلها مسائل تركت دون استكشاف. ولم يكن هناك حتى مشروع افتراضي أو سيناريو لبناء تلك الرؤية.

ولكن إذا فهمت الماركسية الكلاسيكية بأن على المرء أن ينتظر حتى النضج الكامل للرأسمالية، حتى استنفاد طاقتها على التطور، فهل يعني ذلك أن على الرأسمالية أن تتطور في آخر البلاد تطورًا أي البلد الأكثر تأخرًا قبل إمكان التغلب عليها؟ هذه المجادلات بين 1883 و1913 لها منظور أوروبي غربي وبدا أن أكثر البلاد تطورًا «بريطانيا العظمى» أو أسرعها تطورًا «ألمانيا» سيصل إلى الاشتراكية أولاً، ثم تأتى البلاد الأقل تطورًا وهذه النقاط لم يوضحها ماركس في أي كتابة. وكان البلاشفة الروس يسيطرون على الأممية الثالثة وهم أمميون في أفكارهم، فروَّجوا لفكرة أن الثورة ستنشب في الوقت نفسه في عدة بلاد. وقد حدثت بالفعل ثورات متواقتة في ألمانيا والنمسا والمجر وشمال إيطاليا وروسيا، ولكن أقلها تطورًا اقتصاديًّا وهى روسيا التي استمرت وحدها في ثورة منتصرة. وقد قدم تروتسكي بالاشتراك مع بارفوس Parvus ألكسندر هلبهاند Alexander Helphand فكرة أن أضعف حلقة في سلسلة البلاد الرأسمالية هي الأولى التي تتحطم ثم تنتشر الثورة. ولكن الاشتراكية في بلد واحد لم تكن مسألة اختيار بل مسألة واقع مفروض.

وكان برنشتاين كما سبق القول؛ أول مراجع تخلى عن الماركسية في كتابه «مشكلات الاشتراكية»، شكك في تفاقم أزمات الرأسمالية (كذبه الواقع حتى الآن) وتزايد بؤس الطبقة العاملة ( جاء في كتاب فخ العولمة سلسلة عالم المعرفة رقم 238 أنه في القرن الواحد والعشرين سيكون هناك فقط 20 % من السكان الذين يمكنهم العمل والحصول على دخل أما السكان الفائضون 80 % لن يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان ص 9.) وقد فكر برنشتاين في إمكان وجود طريق ارتقائي إصلاحي إلى الاشتراكية كبديل. ويقال إنه مرتد عن الكنيسة الجديدة للماركسية التي أقامها الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني بعد موت ماركس. أما ماركس فلم يكن مُصرًّا على الصدق الحرفي لكل كتاباته، ويتأكد ذلك في مراسلاته مع الماركسية الروسية ڤيرا زاسوليتش vera Zasulic فقد كان شديد التواضع عن نطاق نظريته في التاريخ بالقياس إلى ادعاء وتصور تلاميذه. ففي نهاية التسعينيات 1890 من القرن التاسع عشر كان أنصار قادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني،  SPD كارل كاوتسكي وأوجست بيبل Bebel وقبلهم ليبكنخت Liebknecht، يبدون كأنهم قرروا أن نظرية ماركس تضم كل الحقيقة. وكان هذا المذهب في ترويجه الشعبي مبنيًّا على فقرة مفردة في الفصل 32 من المجلد الأول من رأس المال، عن البؤس واتساع الهوة بين المالكين والعاملين وزيادة الجيش الاحتياطي من العمال وحِدَّة التضاد بين المستغِلين والمستغَلين، وازدياد الهوة بين المالكين والذين بلا ملكية اتساعًا بواسطة الأزمات الصناعية.. إلخ. وهذه هي الماركسية المنتشرة في صفوف الشعب كما قدمت للملايين من الاشتراكيين باتساع العالم. وهذه الصورة للرأسمالية لا تسندها نظرية الأزمات كما لخصت في المجلد الأول من رأس المال القسم السابع، أو في نظرية هبوط معدل الربح في المجلد الثالث. وأعلن برنشتاين أنه ضد نظرية انهيار الاقتصاد البورجوازي في المستقبل القريب، ورد عليه بابا الكنيسة «كاوتسكى» -كما يطلق عليه أعداء الماركسية- بأن الرأسمالية التي صارت عالمية تفاوتت بشدة ولم تعد مستوية. أما كتابات ماركس نفسه فلا تنص بدقه على سقوط وشيك للرأسمالية، وكل ما تقوله إن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية سيستغرق زمنًا أقل من الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، أي يعني ذلك أى وقت بين أربعة وستة قرون! ولا يستطيع أي حزب سياسي أن يعيش على مثل هذا الوعد عند أتباعه، فلقد كان على الحزب أن يقلل من جدولة زمنه. وكانت هناك مسألة ما عند ماركس من مخططات   Scheme   إعادة الإنتاج آخر المجلد الثاني من رأس المال. هل هي مخططات تقدم فعلي أو ممكن للرأسمالية متحرر من الأزمة في نمو ثابت دائم، أو هل هي برهنة على استحالة مثل هذه النتيجة علمًا بأنها تفترض سلوكًا استثماريًّا متناسقًا Coordinated وسط الرأسمالية. وعلى أي حال كيف يستطيع الماركسيون الاعتقاد أن إنتاج السلع المتسع دومًا لقيم استعمالية سيجد سوقًا؟  فالعمال المستغَلون سيفشلون في تهيئة سوق تستطيع استهلاك الإنتاج.