نظر

خالد يوسف

الملصق السياسي من باريس 68 حتى فيس بوك الصرخات القادمة من ماكينة الزيروكس

2018.05.01

الملصق السياسي من باريس 68 حتى فيس بوك الصرخات القادمة من ماكينة الزيروكس

أولى نفحات الصباح في حي ميراسييرا المدريدي مع شتاء 2008 تحمل رائحة ذات خليط متنافر؛ مزيج لافت من رائحة العشب الأخضر للحدائق المتناثرة ورائحة الأسمنت التي تعكس حالة البناء المستعرة في ذلك الحي الحديث نسبيًّا والمزدهر مؤخرًا ضمن الطفرة العقارية التي عرفتها العاصمة الإسبانية على مدار أكثر من عقد. إلا أن رائحة الأسمنت كانت مختلطة بشعور كبير بالإحباط في تلك الصبيحة من مارس 2008 عقب المتابعة الواسعة التي حظيت بها المناظرة التليفزيونية بين رئيس الوزراء الساعي للتجديد خوسيه رودريجيز ثاباتايرو ومنافسه ماريانو راخوي زعيم الحزب الشعبي اليميني

صباح اليوم التالي للمناظرة عثر الناس في طريقهم إلى طريق إيريرا أوريا الرئيسي على الكلمات والمشاعر المناسبة تمامًا كأنهم عثروا على ضالتهم التي عجزوا عن إيجادها، ربما منذ التحول الديمقراطي عقب موت فرانكو في 1975.

استيقظ سكان ميراسييرا على جرافيتي بطول 25 مترًا يحتل الجدار الملاصق لمدرسة الحي؛ جدارية تقع تحت تصنيف الاحتجاج السياسي، ولكنها كان فيها كل ما لم تذكره نشرات أخبار الإعلام الرسمي. كانت نشرة أخبار مشاعر من يمكن تسميتهم بالناخبين الإسبان؛ جدارية تكتظ بالأجواء الجحيمية باللون الأحمر يتوسطها كلبان؛ الكلب على اليسار يحمل رأس ثاباتيرو، والذي يقع على يمينه يحمل رأس راخوي، كل يحيط بعنقه طوق بلون الحزب الذي ينتمي إليه، مع عنوان بالبنط العريض «أطواق مختلفة... والكلاب نفسها». 

 

تصميم الاحتجاج

تروي المقدمة التي كتبها الكاتب المسرحي الأمريكي توني كوشنر لكتاب «تصميم الاحتجاج»، والذي تم إصدار طبعة جديدة منه مطلع هذا العام بمناسبة الذكري الخمسين لاحتجاجات مايو 1968 في باريس، قصة ما يعتقد أنه أول شكل للملصق السياسي الاحتجاجي المتعارف عليه حاليًا، في مفارقة حقيقية كون مصممه هو جندي غازي باسم أنطوان جان جروس من أفراد قوات نابليون المقتحمة للأراضي الإيطالية. ترك جروس  ملصقًا من رسمه عام 1796 في أحد مقاهي مدينة ميلانو، مهاجمًا أحد أمراء الأسرة الإمبراطورية المعروفين بقمعهم الشديد لتجار الحبوب المحليين. أصبح ذلك الأمير بطلاً للملصق الفرنسي، هذه المرة على شكل طاووس ممتلئ على نحو مقزز، تخرج الحبوب من فمه في نهم، في رسم يجمع بشكل عفوي مثير للاهتمام بين خطاب ثوري يثير خيال السكان المحليين من أبناء البلد، وفي الوقت نفسه هو ملصق من البروباجاندا الخالصة للمحتل الجديد، والساعي لترسيخ قواعد جديدة للعبة السياسية حسب مفهومه الخاص.

يصنع كوشنر ثلاث عوامل مشتركة في تاريخ الملصقات السياسية منذ «شخابيط» أنطوان جان جروس حتى اللحظة الراهنة. أول هذه العوامل أن الملصقات السياسية صادمة؛ ثانيها أنها تحمل سخرية لا ينقصها الذكاء؛ وثالثها هو تحويل الأفكار النظرية غير الملموسة إلى مادة يمكن لمسها ورؤيتها وتداولها والنقاش حولها.

تناول كوشنر في قسم كبير من مقدمته الطفرة الهائلة التي عرفها ذلك الفن مع مطلع القرن العشرين، خصوصًا عقب الحرب العالمية الأولى، مع دخول المدرسة الفنية الدادية والتحامها مع فن التصوير الفوتوغرافي، وتطور تقنيات الطباعة، ثم جماليات مدارس التصميم السوفيتية، والتي أسهمت في تكوين هوية مجلات ساخرة مثل مجلتي سيمبلي سموس، ودي بلايتي الألمانيتين، أو نيبزاسفا «صوت الشعب» المجرية، والتي حملت أغفلتها الخارجية أول التحذيرات من سقوط وسط أوروبا بجمهورية فايمر في فخ الخطاب الشعبوي لما تم التعارف عليه لاحقًا بالحزب النازي.

 

التحذير نفسه الذي خصصت له مجلة  AIZ بقيادة فنانها الأشهر جون هيتفيلد قسطًا وافرًا من حقبة العشرينات، حين وضعت هتلر موضوعًا أساسيًّا على غلافها الرئيسي، ضمن حملتها ذات الطابع اليساري المناهض للتيار النازي الصاعد بسرعة الصاروخ. وهو ما لم يستطع معه النازيون الاحتمال كثيرًا، ليسارعوا بملاحقة صناع المجلة. ولا يخفى على أحد السر؛ حيث يظهر على الغلاف هيتفيلد نفسه وهو يقوم بدور حلاق هتلر الخاص، ليبادر بوضع لحية ماركس على وجه الزعيم النازي بدلاً عن تهذيب ذقنه قبل مواجهة الجماهير الغفيرة.

 

ثورة على جدران باريس

باريس 68 كانت نقطة تحول مفصلية في علاقة الجماهير بالملصق الاحتجاجي السياسي، كنقطة ذروة لعقد كامل تمازجت فيه ثقافة البوب مع الخطاب السياسي، خصوصًا في أوساط الشباب في الجامعات والقوى العمالية. لم يكن الأمر مقتصرًا على النخبة أو المتمرسين في العمل السياسي أو النقابي؛ أغنية الروك؛ الفيلم الـ 16 مم أو ربما الـ8 مم؛ العرض المسرحي، كلها بإمكانها أن تصبح عملاً احتجاجيًّا نجحت ثقافة البوب في دمقرطته بحيث يصل إلى شرائح أكبر من صغار السن على مستوى المصممين أو على مستوى الجمهور المستهدف

ملصقات باريس 68 تبدو وكأنها بروفات على مختلف فنون الجرافيتي المعقدة والأكثر نضجًا فيما بعد. رجل مكافحة الشغب هو الخصم في معظم هذه الملصقات؛ هو الوغد في سردية الاحتجاج الباريسي، ببندقيته في وجهك، أو قبضة يده العاصفة أمام القوى الطلابية والعمالية، أو هو من يقف بين تلك القوتين التقدميين.

وسائل الإعلام هي الخصم المشترك التالي، هي اللعبة الأساسية للتحكم واحتكار مشاعر الجماهير. الميكروفون لا يختلف كثيرًا في وجوده على الملصق عن هراوة رجل الشرطة. وسائل الإعلام هي الأداة المسئولة عن تواجد قطعان الخراف التي تسير إلى مصيرها المحتوم في الملصق، مع جملة «العودة إلى الحياة الطبيعية».

الجمل الخاطفة تشكل جزءًا مهمًا من ثقافة ملصقات باريس 68، تحمل بين طياتها السمات الثلاث التي أشار لها توني كوشنر، فهي صادمة، وساخرة، ويمكن للمتلقي لمس أفكارها ورسالتها على الفور. تحمل باريس 68 مجموعة من أكثر جمل التاجلاين السياسي براءة وصدامية مثل «هل أنت مستعد؟» في مواجهة رجل مكافحة الشغب ببندقيته الجاهزة للإطلاق، و«الحذر …الراديو يكذب!»، و«يا عمال فرنسا والمهاجرين اتحدوا!»، و«من أجل إعلام حر».

 

صرخات ما بعد باريس

كتاب «تصميم الاحتجاج» يعرض تأثيرات باريس 68 على عالم الملصق السياسي خلال السنوات الخمسين الماضية، مُقسم إلى 20 قسمًا. واحدة من الأقسام المركزية للكتاب هي القضية الفلسطينية والتي عرفت استخدامًا مطردًا للملصق والصورة الدعائية منذ ثلاثينات القرن الماضي. ومن العوالم المثيرة التي تتيح الملصقات للقارئ المهتم بالقضية الاطلاع عليها هي الخاصة بما يسمى بالخطاب اليساري الإسرائيلي واستخدامه لمفردات بصرية ولغوية قد تعتبر راديكالية، خصوصًا من مصممين كانت لهم تجارب كمجندين في الجيش الإسرائيلي، ليتحول موقفهم إلى خطاب مناصر للقضية الفلسطينية بشكل درامي. كان هذا هو الحال مع المصمم ميشا كريشنر وديفيد تارتاكوفر، حيث استخدما صورًا لأطفال فلسطينيين من ضحايا الانتفاضة الأولى، خصوصًا في حالة تاتراتكوفر الذي وضع عام 1998 تصريحًا من الجيش الإسرائيلي بأن عملية قتل الأطفال تتم طبقًا للقواعد المتعارف عليها دوليًّا، وذلك على صورة الطفل الشهيد على محمد جوارويش ذي الأعوام الستة.

يخصص الكتاب قسطًا لا بأس به للأعمال القادمة من المصممين الإيرانيين، والذين يحظون بتقدير عالمي بين أقرانهم، دون أن يعيرهم أحد اهتمامًا كبيرًا في الأوساط المصرية، مثلما هو الحال مع تصميمات بيدرام حربي من العام 2004، ومنها قطعة الورق القادمة للتو من سلة المهملات التي تشكل خريطة أرض فلسطين بتضاريسها مع جملة «انظر يا عالمنا.. نحن كلنا متساوون»، في إشارة ساخرة إلى أننا متساوون في عدم اكتراثنا لتلك الورقة المهملة، التي يتلاصق فيها لونها البني الفاتح مع لون الخلفية الباهت.

الكتاب يوفر فرصة ذهبية للتعرف على تطور الملصق السياسي الاحتجاجي من كونه قطعة ورق لفظتها ماكينة الطابعة الزيروكس، إلى قطعة أساسية من الحياة اليومية لرواد مواقع التواصل الاجتماعي، وكيف تأقلم المصممون مع ذلك التطور الذي يسير بمتوالية هندسية متسارعة. ولعل الفارق واضح بين عمليات تهريب الرقيق العابرة للقارات التي عبر عنها المصمم الأمريكي إنريكي إيبانييث عام 2004، بوضع تذكرة سفر على هيئة حبل على معصم رجل، وبين التصميمات التي قام بها فريق التصميم الأوروبي المكون من مايتيه كا إيرا ولاورا مايكوفسكي عن اللاجئين السوريين في عام 2016، حيث يضع المصمم صورة «الآخر» أو موضوع الملصق في مواجهة المتلقي مباشرة، مع رسالة مباشرة لا تضيع وقتًا في إرسال الاستغاثة، وبشكل يسهل تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يستغرق وقتًا طويلاً في فك شفراته.

 لا يتوقف الكتاب لحظة عن تخصيص مساحات عريضة للملصقات المناهضة لكل ما يمثله الرئيس الحالي دونالد ترامب، منها لافتة طريق مكتوبة باللغة العربية بالحجم العريض في ولاية ميتشيجن، المعروفة بجاليتها العربية الواسعة، في تلميح صريح لنزعة الزينوفوبيا التي عرفت انتعاشًا كبيرًا في أوساط اليمين الأمريكي.

 

نبوءات من عالم الفوتوشوب

راقصو باليه على سور وول ستريت، أو عملية تجريف أرض فلسطينية توازي مساحة سنترال بارك في نيويورك نفسها؛ ولعب أطفال بلاستيكية أبطالها ضحايا الحروب من المصابين والمقعدين؛ وجهاز الآي بود الجديد المعدد خصيصًا لتعذيب السجناء العراقيين؛ وكروت البوستال لجثامين الجنود الأمريكيين القادمة من العراق. كلها نماذج عابرة من عقود كاملة من ملصق الاحتجاج السياسي، التي تتلاصق فيها الطباع الثلاثة من لعبة الخطاب السياسي نفسها، بين كون الملصق وسيلة تعبير فنية، وبين حرفية التعامل مع فكرة التقنية، واستخدام الأسلوب التسويقي في التصميم والترويج لفكرته.

 كلها يمكن أن نعثر عليها في التصميم البارع للكرواتي فلادان سرديتش من عام 2003، ردًا على حملات الدعاية للحرب على العراق، من خلال الغسالة الأوتوماتيكية التي تقوم بغسل الأدمغة والعقول، مستعينة ببرامج غسيل مختلفة، واحدة تحمل اسم إن بي سي، الأخرى سي إن إن، وسي بي إس، إلى بقية الشبكات الإعلامية السائدة، فيما يشبه النبوءة فيما يتعلق بعصر قادم من الإعلام البديل، وفقدان الثقة في الإعلام الرسمي، أو تايكونات تجارة المعلومات والأخبار، وصولاً إلى سطو اليمين التقليدي على تلك الشعارات، ليرسم الوشم الجديد فائق النجاح بعنوان «الأخبار الكاذبة»، أحد الزوارق المطاطية التي أوصلت السيد ترامب إلى سدة الحكم في انتخابات خريف 2016 الماضية.

منذ ملصق الجندي أنطوان جروس قبل 220 عام وحتى لحظتنا هذه، كانت ملصقات الاحتجاج السياسي الصرخة التي نقلت صوت المضطهدين والمظلومين ولعبت دور إعلامهم البديل